قراءات نقدية

قراءة في ديوان (مبكرا في صباح بعيد) للشاعر باسم فرات

ميثولوجيا المكان وخيالات الماقبل والمابعد الدوالية

توطئة: ان فعل التنقيب في حفريات الزمن الشعري في دلالات ومواجيد الإمكانيات الملفوظية في شعر ديوان (مبكرا في صباح بعيد) للشاعر باسم فرات تختزل لنا ذلك الشعوري بالتصويري، لخلق جملة إيحاءات بالحالة الوظائفية في مبنى شكلية ومضمونيه البناء الشعري، ويمكننا أن نعاين العناصر الموضوعية في قصيدة الديوان لنجدها عبارة عن متعايشات ذواتية في مقاربة وتحفيز العنصر المكاني في صفات مرجعية ذات واصلات متصلة بأحوال زمن الذات الواصفة تكيفا وتأثيرا نحو الانتقال أدائيا من التناول الوصفي إلى مخصوصية التعمق والتأمل في استقصاءات الوجود اللفظي لواقعة الملفوظ، وحتى آليات المخيلة وسياقاتها المحفوفة بتعديلات المشار إليه في الصلب والعلامة المرجعية من النص.

ـ المعين الرمزي والإيحاء بالملفوظ الأدائي.

يجسد الأداء الرمزي في حال مقتبسات المجال البنائي في بوح القصيدة، ذلك التعميد بالدال ألقصدي نحو مساحة ملغمة بالرؤى وحوارية التشكيل الدلالي في محدثات القول في النص:

الأرضُ بيضَاءُ

والسُّؤَالُ مُبَلَّلُ بِالكلِمَاتِ والْحَصَى

لا أبْوَابَ يَسْلُكُها الجوابُ إليه./ص9    قصيدة: أرض بيضاء

أن الدوال الشعرية من خلال هذه الممارسة الواصفة، تصبح وسيلة يحف بها الانفتاح بين (التورية ـ الإظهار) خلوصا نحو وسيلة اللغة التي راحت تجتاز حقيقة المسميات وآفاقها الأحوالية، لتؤشر لذاتها مبنى استعاريا متشكلا من طبيعة مرجعية المكان والرؤية المتحولة في إسقاطية خاصة من تواتر القصد الشعري، وهذا الأمر ما نجده في جملة العنوان المركزي للديوان من إزاحة أحوالية (مبكرا في صباح بعيد) إذ تبدو لنا متعينات هذه الدوال العنوانية، بمثابة العلاقة المزاحة في مدلول (الخارج ـ الداخل) المتني، حيث لا تكشف من خلالها تنويعات الرؤية إلا في مواطن علاقة تأويلية مستقرة داخل الشكل ألقصدي من المراد، لذا واجهتنا من جهة أخرى جملة عنونة القصيدة (أرض بيضاء) لتقدم لنا الذات الهوية الاستعارية التي يراد بها مجال ورقة كتابة النص: (الأرض .. والسؤال مبلل بالكلمات والحصى .. لا أبواب يسلكها الجواب إليه) المقتضى الدلالي ها هنا محجوبا بين السطور التي ترشدنا إلى علاقة المعنى عبروسائل استعارية محفوفة بالانعكاس والادغام في مواطن التدليل، ولكنها تعكس نتيجة بينة ترتبط بمردودية اللفظ في حيز المساحة القولية، وما يرافقها من تقارب عملية خط الحروف والكلمات والنقاط فوق بياض أرض الورقة .

ـ ميثولوجيا المكان بين موقعية المرجع وخصائص الفاعل.

على مستوى الأداء المرجعي، تحضرنا تشوفات اللغة الموصوفة بوصولاتها التراسلية، فالدال فيها تجسيدا لحقيقة العامل الذاتي المزروع روحا ميثولوجيا بالصورة التي لا تخلو من كينونة (الذات ـ الموضوع ـ دلالة الأفق) وصولا بهم إلى حركية تشكيلية لا تتجزأ من مرادها في المعطى الأحوالي الموصول بين ثنائية (الماقبل ـ المابعد) أو في علامة الطاقة الداخلية من ثنائية العنونة المركزية في قصيدة (السليل وأسلافه):

مدينةُ الكَهَنَةِ

الُمبْتَلَّةُ بِنَهْرِ الفُراتِ عَنْوَةً

على ضِفَّتِهَا بَيْدَاءُ

تُطِلُّ بِكَامِلِ غِزْلانِهَا وكَمَئِهَا

أَوْقَدَتْ تُرَعاً وجَداولَ على سَوَاحِلِ أسْوَاقِهَا

أَيْنَعَتْ بساتِينُ ينمُو فيها النَّخْلُ والزَّقْزَقَاتُ ./ص10

أن طبيعة الأفكار الوصفية هنا، جاءتنا مدغمة بحافزية الشد والضم والتشديد واللعب التشكيلي المفتوح نحو مجال درامية المشهد المرجعي الخاص من القلاع والمؤثثات الاستلهامية ـ مرجعا ـ في واقعة الواصف الشعري، فمثلا نواجه حدود هذه الجمل لنجد من خلالها شعرية لا تتخلى عن مؤطراتها المكانية تحقيقا، ولو كان الأمر بنصف محاولة في تحقيق حداثة شعرية ما في حيز معمارية الدال: (مدينة الكهنة ـ مبتلة بنهر الفرات عنوة ـ على ضفتها بيداء ـ أوقدت ترعا وجداول) أن ما تطرحه شواغل الدوال في هذه الجمل، نجدها استحضارية في ملحقات أوضاع مرجعية خالية من التفاعل الدلالي مع محيط والغرض الافتراضي في خطاب النص.فالشاعر فرات يصور الأشياء بحرفية ومهنية النحات، الذي لا تحكم مخيلته سوى مركبات المجسم الحرفية.غير أن الشاعر كذلك وجدناه ينقل لنا علاقات حرفية في الوصف دون إدخاله عليها نسمة هواء حركية من شأنها تفعيل الصورة المرجعية بإضافات آفاقية من الحس التوظيفي، الذي يتكفل بمنح هياكل الصورة أرواحا في علاقة دينامية متوثبة:

مُلوكٌ بَنَوْا مَدَافِنَهُمْ

يَتَوَسَّلُونَ القُربَ منها

على أسْيِجَةِ الأضرحةِ وفي الساحةِ الْمُضَرَّجَةِ بالأسَاطِيرِ

وفوقَ جُدْرانِ السُّطُوحِ

تَخْفُقُ أجنحَةُ الْحَمَام

إشراقةُ الصباحِ تَمْنَحُهَا طاقةً . /ص10

يمكننا أن نقول بأن ما ورد هنا من مقاطع شعرية، لعلها لا تحمل سوى الطاقة الواصفة دون إدخال عليها ذلك الحيز من العلاقة الشعرية التي من خلالها نشعر بمدى العلاقة بين (الذات ـ الموضوع) الشاعر هنا غدا يقدم لنا (صورة محنطة) بشتى حوامل التشكيل الحرفي للوصف، لذا ظل الشعر هنا وكأنه قطعة من مسلة بابلية ليس إلا، إذن أين هي القصيدة؟ أهي مجرد مجموعة أوصاف ميثولوجية لحكايا تماثيل ونصوب برونزية وأوسمة وجداول منحوتة بالحجر من دون حركة ما من شأنها تحفيز الدوال نحو ممارسة فاعلة من منظومة التخييل وليس التوصيف دون حركة دلالية خالقة بذاتها مجموعة محاورات نابضة باتصالات وعلاقات حية بين الذات والموضوع، يا ترى هل يمكننا أن نقرأ أحوال صورة متجمدة دون حياة فيها، وهنا نحن ليس في صدد لوحة تشكيلية بقدر ما نحن إزاء تجربة شعرية تحكمها ممارسات وشواغل وأبعاد ووظائف تنأى بذاتها عن نقل صور الأشياء نقلا حرفيا مأزوما؟.

ـ تجليات الفاعل السيرذاتي من محتملات القصيدة

بعيدا عن مأزومية الصور والأحوال المرجعية التي قام (باسم فرات) بنقلها لنا ضمن مشخصاتها الخارجية وعلاماتها المسبوغة بأسطرة التأريخ والملوك والميثولوجيا المنقولة لنا بعدة المعماري وريشة المؤرخ.نقول بعيدا عن ما قرأنا من قصائد المستهل الأولي من الديوان والتي تذكرنا بأفلام العصور الفكتورية والمسلات السومرية.من هنا تواجهنا تتابعا قصيدة (جدي) إذ نعاين في دلالاتها ذلك الطابع الدال من الخطاب ألذاكراتي المبطن بروائح السير ذاتية المكانية والزمانية ذات الرؤية الصافية والألوان المنغمة بظلال شعرية حلاوة الكون:

على شُرُفَاتِ الْمَدِينَةِ

شَمْسُ تَسْتَيْقِظُ علَى وَقْعِ أقدامِ جَدِّي

عائداً مِنْ صَلاتِهِ

حِينَها تَكْتَظُّ أعمدةُ الكهرباءِ بالزَّقزقات

النَّسِيمُ في صَبَاحَاتِ أواخِر آبَ وفي أَيْلُولَ

يدخُلُ أَزِقَّتَنَا مُعَبَّأ بِنَدَى الْبَسَاتِينِ

لقدْ زَفَّهُ سَعَفُ النَّخِيلِ عَرِيساً./ص15

أن خاصية الاستقدام الزمني ـ المكاني ـ الذاتي، بمعية حالات التوليد الممسرح بالأداء الشعري، تتطلب من أدوات الشاعر عدة وظائف دونها لا يكون ما يكتبه شعرا إطلاقا، فهناك في القصيدة (ذاكرة ـ طفولة ـ مكان) ناهيك عن صوغ الزمن بهالات فضاء الأفق ألذاكراتي، كل هذه العوامل متواجدة دون شك، ولكن هناك حالات تتعدى منطقة الصياغة الإطارية للشاعر في نصه.فخاصية خلق النصوص الشعرية ليست إعدادا رسوميا ولا من جهة ما مجرد ذكر مجموعة أوصاف عن الأشجار وزقزقات العصافير، لا أبدا، القصيدة حدودها الشعرية أكثر غورا من محض الوصف للراوي الذاتي قسرا، فما طبيعة القيمة الشعرية في هذه الجمل مثالا: (عائدا من صلاته، حينها تكتظ أعمدة الكهرباء بالزقزقات) أو على هذا القبيل من القول: (يدخل أزقتنا معبأ بندى البساتين، لقد زفه سعف النخيل عريسا) لا أظن من جهتي الشخصية بأن هناك ذائقة شعرية تدون الأشياء بمسمياتها الحرفية والإنشائية، فمهما كانت القصيدة جادة في موضوعاتها الأحوالية، فلا أعتقد إنها تنحدر إلى هذا المستوى من التمثيل الشفاهي المباشر لمحفوظات وقائع يومية خالية من الحركة الشعرية الفاعلة في مستوياتها الأدائية الناشطة بوظائف القصيدة الإيحائية والسيميائية والتشكيلية:

الكسَبَةُ يَرُشُّونَ الماءَ أمامَ دَكَاكِينِهِمْ

وبَهْجَةُ الصَّباح ترنِيمَةٌ تَمْلأُ الوُجُودَ

دَعْ مَشْرِقَ الأرِضِ أمامَكَ

وأدْخُلِ السُّوقَ

عن يَمِينِكَ شفيعُ الحيارَى ومِصباحُ نَجَاتِهِمُ

الطامِعينَ بِرَدِّ اعتبارٍ لِسَيْلِ الأسَى في القُلُوب./ص15

الأجزاء اللاحقة من القصيدة تسعى إلى الخوض في غمار حكايات تتصل اتصالا دالا بحياة طفولة الشاعر، وخصوصا في ما يتعلق برؤى هذه الجمل الواصفة: (الكسبة يرشون الماء أمام دكاكينهم/وبهجة الصباح ترنيمة تملأ الوجوه) .لست هنا في موضع مباحث قراءتنا على الضد مما قرأته من شعر ديوان الشاعر أبدا، بقدر ما أحاول أن أوضح للقارئ مدى الإشكالية في تجربة (باسم فرات) طبعا لدى الشاعر كل الحصيلة الواثقة من تجربته التي امتدت على مدى سلسلة كبيرة من الأعمال الشعرية، فلا أدري هل هي كلها ذات الطابع نفسه من الإشكالية التي تكمن وتوقع شاعرها في براثن الإنشائية والأوليات البديهية من الكتابة؟لا نبالغ إذا قلنا بأن للشاعر تلك الانشغالات الجميلة في مقادير الأفكار الملفتة، ولكنه للأسف لا يمتلك فن السبك والصياغة والإيحاء لقصيدته، لنقرأ ما جاءت بت قصيدة (عبد العزيز الهر) والتي أظنها تحمل حالات خاصة من السمة الدلالية الشعرية التي ترتبط بمراحل ذاكراتية من تجربة فرات:

حِينَ رَأَتْهُ القابِلَةُ

مُخَضَّباً بالغِرْيَنِ

ركَّزَتْ في الْوَشْمِ على كَتِفِهِ اليُمْنَى

تَبَسَّمَتْ في وَجْهِ أُمَّهِ وقالتْ:

هذا الطفلُ يحمِلُ غُصْنًا مِنْ شَجِرِة النُّبُوَّةِ

سَيُعْقِبُ كَثِيراً

وتَحْبُو إليْهِ الأشياءُ حَبْواً./ص17

1ـ اسطرة الآخر وحكاية المحاور المرجعية:

يأتي التأكيد في مباحث قراءتنا في ديوان الشاعر، على أهمية أوجه (المرجعي ـ الميثولوجيا) وتوكيدا على أن تجربة قصيدة الشاعر فيها من القص والحكائية ما يجعلها تبدو وكأنها شكلا سرديا بالاكتمال مع عاملية الخلفية الحكائية في مسار دوال موضوعة القصيدة، فعلى سبيل المثال تواجهنا ملامح جمل: (حين رأته ..مخضبا بالغرين ..ركزت في الوشم على كتفه اليمنى) الجمل ها هنا تضج بملامح الصورة الوصفية ـ الحكائية، وكأن مستهل القصيدة هو بداية تابعة إلى قصة قصيرة، ما جعلنا نوغل في السؤال هنا: هل بدايات الشاعر كانت تعتمد أسلوبا ما في فنون الكتابة السردية ؟ إن لم يكن هذا الاحتمال واردا، فلربما أن الشاعر مرجعية خاصة في كتابة القصيدة، وهذا الأمر ما جعلها في بعض الأوضاع الشعرية بعيدة عن آليات الشعرية في القصيدة، اقترابا إلى حد ما من فن الحكاية القصصية، وهذا الأمر بدوره ما جعلها ـ أي القصيدة ـ لدى باسم فرات بدت وكأنها تعتمد الحس المروي أكثر من اعتمادها على الحس التصويري في القصيدة: (تبسمت في وجه أمه وقالت: هذا الطفل يحمل غصنا من شجرة النبوة) تدفعنا مواصفات الذات الموصوفة في القصيدة إلى مجال الرؤى الملحمية والأساطير والحكايا الشعبية، حيث ابطالها ذوي الملامح المؤسطرة، لكن الزمن بمعناه في معاينة الخطاب الشعري على مستوى تجربة القصيدة، لايتحمل كل هذا العنفوان في الرسم الملحمي والتحنيطي في نحت دوال النص.القصيدة لا تحتمل أكثر من قيمة وظائف إشارية وإيحائية ورمزية، ولا سيما في حدود التمثيلات الأحوالية، ولا يمكننا من جهة تحويل القصيدة إلى حكاية قصصية في وظيفتها الشعرية أو ضربا من التواصيف أو مجرد لعبة فوتوغرافية لإثبات حقيقة مرجعية تختص بدلالات تأريخية .

ـ تعليق القراءة:

تطول بنا مراحل القول حول تجربة ديوان (مبكرا في صباح بعيد) ولكن أقوالنا هنا لا تكتفي بالإشارة حول ما قمنا بدراسته من قصائد الديوان، بل هناك من القصائد ما تحمل ذات الأدوات والطريقة التي يعتمدها الشاعر في كل منجزه الشعري .. ولا يسعني في خاتمة قراءتنا لبعض قصائد الديوان سوى هذا القول: الذات الشاعرة عندما تسعى إلى توكيد حضورها التخييلي والموضوعي، من خلال خصوصيتها في البوح، لا بد لها من أداة موجبة في عبورها إلى الضفة الأخرى من المعنى الشعري، أي بمعنى ما الرؤية والخطاب الشعري لا يكتسب شعريته من خلال مساحة تواصيف إلى مسلات وقلاع تأريخية ضمن حدود لغة جافة وبلا روح وصفة ما، من الممكن توظيف الحكايات المرجعية في متون القصائد، ولكن من الضروري لنا توظيفها بما يبقيها شعرا في كل أحوال الموضوعة المنتخبة للقصيدة، والخروج عن ذلك أي بما يعكس لتلك التجربة كل الحظوة في النجاح والسمو على أن تعلب القصيدة في ذاتها، ذلك الدور الوظائفي الذي يخولها إلى أن تكون قصيدة شعرية بأمتيازية مؤثرة.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم