قراءات نقدية

دراسة في عوالم روايات أحمد سعداوي.. رواية (باب الطباشير) أنموذجا

العتبات النصية تؤول إلى بنيات توالدات الحكي

الفصل الخامس ـ المبحث (1)

مهاد نظري:

إن فكرة تأسيس بنيات ذات سيرورة مشتركة ومبنية على جملة اشتغالات تصديرية ـ عتباتية، تحيلنا إلى علاقة متطورة من استدعاءات المساحة الدلالية الواصلة بين دليل العتبة وشروط المجمل من واقعة المدخلية في روابط وأواخر الإجرائية السردية الكامنة في ممارسة الأنا الراوية وما تتبعها من تلفظات في غاية النوعية الوقائعية المفتونة في الاستبعاد والتقريب في محددات هوية التماثل واللاتماثل في مواضعات المتخيل الروائي. أن حضور ثنائية (الوهم ـ التخييل) في مناصات المشروع العتباتي من مفتتح رواية (باب الطباشير) ما هي بدورها إلا حدودا في إحالات الممارسة السردية في المحتوى الروائي إلى علاقات مكملة في حقيقة وحدات ومرسلات السرد. فعندما نطالع نصيات الحركة والزمن والخطاب في حدوثات التقاطع بين عتبة وأخرى، تدلنا العلامة الانطولوجية للمناصات إلى إن هناك جملة وظائف تخص ملفوظات ذلك المحتوى في مواطن ووقائع المتن السردي.

ـ الراوي / الشاهد، يستأثر بأناه الجمعية كوحدة سردية.

يرى سعيد يقطين أن الرائي هو الذي يرى الحلم وهو في حالة نوم، أما الراوي فهو الذي يقوم بـ رواية مرئية وهو في اليقظة. /سيعد يقطين:السرد العربي مفاهيم الروائي ـ وتجليات، ص241. يتعرف القارىء إلى الشخصية الروائية عبر مؤثرات أفعال وأقوال ما يخبرنا به الفصل الأول الموسوم بـ (الميت الحي) من على لسان حال السارد الداخلي الذي ينشغل باستبطان الدوافع والنوازع التي هي بين (الرائي ـ الراوي) وقد يمزج في هذا الفصل بين ما هو فيزيقي ونفسي إلى جانب العلاقة الخارج المتن، تعلقا بدوافع إحالات العتبات الأولى من النص. عموما لا يبدو ما جاء في مسار هذا الفصل إلا كشفا عن دوافع وغايات (الراوي ـ التوالد الذهني ـ الاسترجاعية ـ المستذكر) إذ تظل علاقة هذا السارد في زنزانته الزمنية كبوصلة مرجحة في الكشف والبحث عن ذوات الآخرين من السجناء دون وجودا فعليا في ارتدادات صوته عبر أصداء المكان. غير أن عملية الوقوف حول مرويات هذه (الشخصية الساردة) قد لا تمنحنا سوى ذلك التحقيق في علاقة زمن النص بزمن الخطاب، كما هو الحال عليه في الصورة المنعقدة على الجدار التي تشكل بذاتها: (بابا مرسوما بالطباشير على الحائط، كان قد رسمه، كما بدا لي، سجين سابق مر من هنا قبل أن ينجح في فتحة. /ص7الرواية) إنها الصورة النمطية التي تكشف عن دلالة الإستحالة في تجاوز هذا السجن كحالة أنغلاقية مطلقة، سوف توضحها هذه الجملة من المباحث الآتية.

1ـ الأوضاع الفضائية في مسرود المحكي:

يشكل الفضاء المغلق حالة إشكالية مخالفة في مرويات السارد المشارك في حدود مجال إنتاجه إلى هيئة الجمع المرسل إليه غيابا، وإن يكن هذا الراوي يشكل جزءا من استرجاعية وقائع تم سردها من خلاله إلى مجموعة من السجناء عبر راصدة متصلة بالضمير الجمعي غيابا، أو هو ما يراه بمفرده كقيمة ملتقطة تستلزم في ذاتها المحجوبة، طرائقا وأشكالا عصية للكشف عن نفسه وعن عوالمه المتحققة في وجودها عبر ملكة التخيل واسترجاع الذاكرة: (كان ذلك قبل أن تأتوا وتتكدسوا هنا يا زملاء هذه الزنزانة العفنة: يا أصدقائي النشالين والمزورين والقتلة وسارقي اسطوانات الغاز المنزلية، وشاتمي الرئيس في غفلة وسورة انفعال، أو المروجين للنكات البذيئة عنه وعن عائلته وقيادته القطرية. /ص7 الرواية) أن المروي المتخيل هنا يحيل بالكشف عن عوالم مستودعة في التصورات والتخييل، لأنها جاءت ضمن (فضاء:مغلق ـ معزول ـ حياة معقودة ـ كوابيس وهذيانات ـ الذات واستيهاماتها) ليست الصلة ها هنا مباشرة بين كلمات الأنا المتكلمة و وجود تلك الحشود من السجناء تحديدا، بل تحقق وجودهم ضمن رؤية الضمير الآنوي إلى وجودهم اللامرئي واللامتعين تشخيصا، وهو ما يراه بمفرده الفاعل الذاتي كتفاعلا بينه وبين المعطى المتخيل في زمن ومرجعية الواقعة المغلقة.

2ـ الأواصر المتصلة بين فضاء الخارج ونص الروائي:

تتعدد أساليب الفضاء السردي في منحى رواية (باب الطباشير) عبر فصلها الأول، فتارة تنفتح على الخارج الواقعي، وتارة تنفتح نحو الحلم وفراديس القيمة الاسترجاعية ذات العلاقة المرجعية بواقع الأنا الساردة أو الناظمة، كما وهناك علاقة تربط الفضاء الروائي بفضاء التشخيص نحو لغة إيهامية بالواقع: (أنظروا لي كما لو أنني كاهن أو قس يقوم بغسل أرواحكم قبل مغادرتها هذا العالم. . بغسلكم بيده من أدران الحياة الطينية الثقيلة، حتى تذهبوا أنقياء خفيفي الأرواح. /ص9 الرواية) السارد هنا ضمن ضميري (المتكلم ـ الغائب) يستعيد لنفسه مميزات تجعله قادرا على منح الـ (فضاء المغلق) ذلك المعطى النابع من الروح والجسد. وهذه الوسيلة بذاتها تعبر عن أدران وعيوب الذات ـ الجسد، وتجعله طاهرا في زمن محمل بأستدراجات الحكي نحو نقطة الاستجابة للخط العام من موضوعة حكاية الشخصية الساردة واسترجاعاتها الحميمة من فضاءات خارجة عن المكان المغلق والفضاء المبأر في مفازات المتخيل المتوغل في المحكي الروائي خارج الفضاء المعزول.

ـ ذاكرة الفاعل الذاتي ومؤطرات الرؤية السردية

1ـ فضاء التأطير تحولا في الجزيئيات والمكونات:يبدأ المتكلم الفاعل بتأطير فضاء المستذكر الأساسي في منحى رؤياه ومكوناتها الجزئية والكلية: (علينا التنجيم والحفر في أرواحنا وذاكرتنا لاستخراج اللحظات الجيدة. . علينا أن نسترجع صورها بصبر ونجلوها لتكون لامعة وبراقة. /ص9 الرواية) وبدءا بتأطير مكونات السارد المشارك، نعاين صيغة الحكي تتحرك نحو (منزل الطفولة؟) بوصف معالم بيت الطفولة وصفا متنقلا نحو مجال المكان الذي تتحرك من خلاله الشخوص، وتبني كل واحد من جهة (المتكلم ـ المبئر) تكوينها الذاتي وكينونتها المستقلة، التي تكفل لها نوعا من المعايشة والتشكل في مجال الرؤية الخاصة بوصلات التأطير الفضائي: (كنت أعود من المدرسة، ولأن أمي متعبة أو مريضة أحيانا، أو لأنني كنت متحمسا لتجربة الأشياء والحصول على المديح بسبب اتقاني لها، كنت أركض إلى المطبخ لأقشر حبات البطاطا الكبيرة وأعد طعام الغداء لنفسي. /ص10 الرواية) الفاعل الذاتي ينقل لنا آلية الحكي عبر صيغة خاصة من المسرود المعتمد على الصوت المهيمن إلى صيغة الخطاب المعروض والأخباري والتقريري والممسرح، وبذلك يكون الفاعل ذاته قد مارس هيمنته المطلقة على باقي الشواهد من أحداث الرؤية السردية في الرواية عبر مشغل فصلها الأول، إذ إننا نعاين في الآن نفسه، مدى وضوح منقولات الفاعل على وفق رؤيته الشخصانية، حيث تدرك المشاهد والأحداث والأفضية المكانية من خلاله، كحال هذه الوحدات من المقتبس النصي نفسه: (أول مرة أنزل فيها إلى النهر/أول مرة أسمع فيها صوت ببغاء/ أتذكر القبلة الأولى، كانت من فتاة أكبر مني ببضع سنوات/نجلس عند فتحة باب الغرفة وصارت تقبلني قبلات عميقة/الفتاة تدرسني كتاب الرياضيات، وضعتني في حجرها ذات نهار/أما المرة الأولى التي ألمس فيها جسد امرأة عارية وأتحسسها بيدي، فجاءت متأخرة. /ص11 . ص12 . ص13 الرواية) ومن خلال هذه الوحدات المعروضة تنتقل صيغة الخطاب من حاضر المبأر (نقطة:الفضاء المغلق = الزنزانة) استرجاعا إلى أحداث الرؤية السردية التي اتخذت عبر مسار أزمنة النص سردا طرديا، فهو يرى معها وبها، ويصور من خلال تشوفاته للحكي مجالا بالشكل الإطاري كصوت سردي يقوم بدور السارد المشارك والمبئر.

ـ الراوي ومسافة التبئيير في المروي

تتراءى لنا حافزية الاسترجاع في مؤشرات الفصل الأول، كما أوضحنا لهذا سابقا، ضمن تفاقمات حياة السارد الشخصية (الناظم السردي) حيث المواقف والأفعال عبر حكي رحلة الانصياع لمحاكاة حياة البطل الشخصية المعززة بلمحات تذكي رمزية الخيبة تارة ولوعة الدواخل الحسية تارة من جراء استعصاء الزمن على الثبات، وتلاشيه بسرعة البرق، فتبدو المحصلة الأولى والأولية من حكي الرواية، تجميعا لمسات تجارب الحياة والنكوص العاطفي، لانتعاش الأملي في أحيان أخرى. فلو دققنا من جهة أخرى في وظيفة الناظم السردي لوجدناها ذات سمات (داخلية ـ خارجية) من الناحية التبئيرية، ولكن من جهة ما نقول ما قيمة المسافة الفاصلة بين السارد ومظاهر السلوك الخارجي لدى الشخوص، إن كانت الأداة المتاحة لدى السارد لا تتجاوز عرض الأحداث بطريقة المسرود؟أقول مجيبا تختص السمات الأولى من الرواية بالإلحاح على متابعة عرض الأحداث والأوصاف والأفعال، بما يقارب (التبئير المعدول) الذي هو بمثابة الرؤية من خلال المراوحة من سلطة المؤلف إلى هيمنة السارد المشارك. وقد عاينا كيفية مراحل الانتقال لدى السارد في مسروده، بدءا من الفضاء المغلق (التبئير الصفر) وحتى سمات علاقة المسافة الفاصلة بين السارد وبين عالمه المروي في استرجاع الأحداث وزمن الأفعال الأكثر اعتمادا على التبئير الداخلي تحديدا: (أحببت طالبات يقطعن الشارع أمام باب منزلي، فتاة رأيتها في متحف الفنون، أثناء زيارة مع أصدقاء، بنت جيران مراهقة، كنا نلتقي وجها لوجه للحظة وجيزة أثناء قدومها من السوق الشعبية، وأنا أسير اتجاه معاكس، نتبادل النظرات والابتسامات/كانت هذه المصادفات التي تشبه تجاور قطارين على سكتين بأتجاهين متعاكسين. /ص15 الرواية) .

1ـ الفاعل الذاتي وأدلجة مواقفه العاطفية:

تطالعنا في وظيفة (الناظم الداخلي) أحداثا قد جمعته مع حبه الأول الشخصية ليلى حميد، بعد أن كان عاشقا مهولا بشخصيات نجوم السينما من الممثلات العربيات، إذ نلاحظ سرعان ما تقوم علاقته مع ليلى حميد: (الحب الذي يمكن أن أصفه بأنه حبي الأول الحقيقي. /ص15الرواية) ومن خلال حوارية هذا الحب الذي وصل بالأحداث المروية إلى نقطة الذروة واللوعة، خصوصا وأن ليلى كانت تنافس السارد المشارك علي ناجي مكانته المتفوقة على أصدقائه ثقافيا وعلميا. في الحقيقة أنا شخصيا لا أحبذ الحديث عن التفاصيل في الرواية، ولكن أحببت أن أنوه إلى أن الشخصية ليلى حميد لها أثرا بالغا في حياة السارد المشارك علي ناجي، لا سيما وأن السارد ذاته، راح يسرف في حكي عالمه المتخيل المتعلق بعلاقة حبه الراسخ لهذه الشخصية.

ـ العلاقة الزمنية في مسار زمن الشخوص

إن حالات التنوع في وظائف أدوار الشخصية الروائية في مدونة (باب الطباشير) تتأرجح بين قطبي (المساعد ـ الضد) وهذان المحوران ما جعل علاقة مكونات الوجود الموقفي بين علي ناجي وليلى حميد بوصفهما دالان في موضوعة متصاعدة بالضد والائتلاف في مواجهة زمن أفعالهما في مجرى الحكاية.

1 ـ المتخيل الشخوصي مستأثرا بهواجس ذاتانية:

أن العناية في تحديد مواقف الشخصية علي ناجي إزاء ليلى، تشير لنا بالدليل القاطع أن الأثنان متحابان إلى بعضهما البعض، ولكن الواقع الظاهري في سلوك الشخصيتين لا يوح بأسباب هذا الحب، نظرا لوجود تلك الحالة من الحدية والتنافس في دخيلة كلاهما: (لم يكن سهلا عندي أن تجلس ليلى بينهم وتخبرهم بأن علي ناجي قد أعترف لها بحبه وأنها صدته. سينهار عرشي الأفتراضي وأغدو أضحوكة. /ص18 الرواية) . في هذا السياق من زمن صراعات الشخصية علي ناجي مع مأزوميته العاطفية في حب ليلى، نعاين مستوى الوسائط الزمنية التي جعلت من مادة المحكي في هذه الوحدات، بمثابة الحالة الملحة إلى حدوث أمرا ما من شأنه فك شيفرة الأثنان معا، لأجل أن تتوضح لكليهما كيفية التحول من كفة النقيض إلى كفة الانصهار في واقعة زمنية ـ عاطفية، تستغرق الدقائق من القيمة الاعتبارية لمثل هكذا متباينات. استطاعت رحلة مدينة الألعاب فك الشيفرات، خصوصا عندما صمم ناجي إلى صعود لعبة الأخطبوط الخطرة، ومن الملفت في الأمر أن ناجي كان مترددا في الصعود إلى كابينة هذه اللعبة التي كانت كابينتها الواحدة تتسع لحجم جسدين، كانت ليلى تجلس في واحدة من الكابينات بمفردها، فجأة لمحت وجود علي ناجي، فنادت عليه بالاقتراب من الكابينة التي كانت تجلس فيها بمفردها، فما كان من أمر ناجي سوى الانصياع لأمر ليلى: (فهذه أول مرة تكون ليلى على هذه المسافة من القرب مني. . كانا جسدانا يكادان يتماسان ويتلاصقان في أكثر من مكان الأمر كله يشبه حركة المجموعة الشمسيةـ كان وجهها أمامي حين تبادلنا القبل، لم أعرف بالضبط من تجرأ أولا لفعل ذلك، أنا الذي إنهارت دفاعاتي السابقة بسبب، الوضع الطارىء الخاص داخل كابينة الاخطبوط، أم هي سبب ما، أو ربما اندفاعات اللعبة وتحريكها لجسدينا هي التي أغرتنا. /ص20 . ص21 الرواية) إن لجوء سعداوي إلى السرد بضمير المشارك من أنجع الوسائل الفنية للتغلب على إشكالية الزمن، وبخاصة أن السارد يحكي ويسترجع زمن يبتعد عن زمن أجواء زنزانته، ومهما تكن درجة حضوره فيها، فإن السرد حينئذ تمهيدا إلى الاسترجاع والاستباق، ثم إلى استعادة السيرة الذاتية للراوي: (كانت أيام السجن القصير لعلي ناجي ـ من منتصف 2002 حتى إعلان العفو العام في 20/10/2002 ـ تمر عليه أحيانا مثل كابوس ثقيل، ولكن بعد سنوات صار تذكرها لا يستثير عنده مشاعر خاصة. /ص23 الرواية) .

1ـ حكاية الشخصية في كوميديا التهكم والسخرية اللاذعة:

إذا كان من الممكن علينا أن نغفل المحصلة الأخيرة من حياة علي ناجي في مسيرة إقامته مع سجناء هم من الفراغ والظلام واللإحصاء لعددهم وملامحهم وحقيقة قضاياهم، فلا يمكننا إغفال ذلك البرنامج الذي يبث من خلال إذاعة الموقف والذي يقوم على تقديم مادته المتكونة من اللغط والسب والعويل بالشتائم طيلة منتصف الليل. في الواقع أن طبيعة هذه الإذاعة كما تشير لنا الرواية : (هذه الإذاعة سوى واجهة لنشاطات أخرى لمالكها، وأنه ربما أخذ بسببها أموالا وتبرعات من منظمات أمريكية ودولية تدعم مشاريع التثقيف بالديمقراطية. /ص25 الرواية) لقد كان سبب اندلاع أوجه المساجلات بين علي ناجي والمخرج كانت على ما يبدو من بداهات هذه الكوميديا السوداء، وحتى تتحقق شروط ديمقراطية الدستور الضعيف للعراق الجديد، ظل علي ناجي ينقل وجهات نظره الضحلة بآراء حول ساسة ومسؤولين في التيارات السياسية الحاكمة، كما ولا يقتصر الأمر لدى ناجي في طرح الفضائح والفسادات الأدارية حول أولئك الحثالة من الطبقة السياسية، إنما كان يعززها بتذييلات مطعمة بأنواع متفردة من الشتائم والكلمات الرخيصة: (حتى أكثر الأشخاص احتراما في حياته وتأثيرا عليه، الدكتور واصف عبد المحي، عالم الآثار والسومريات المتقاعد، حينما كان يتصل به وينصحه، لم يكن ليؤثر عليه. . كان يقول له بأنها وسيلتي الوحيدة لعمل شيء، فيرد الدكتور واصف بأسف بأنه كان يعول عليه كثيرا. /ص26 الرواية) في الواقع تذكرنا وحدات فصول رواية سعداوي في أنماط وأساليب شخوصها بروايات (الميتافكشن) حيث مواقع الشخوص تبدو رازحة تحت أعباء مأزومية الأوضاع المادية والبطالة والتطفل إلى حد الابتذال أو العبثية المدقعة. لقد أصبحت روايات الميتافكشن إلى أقصى درجة في تصوير تعرية الفرد من كل شرائط وموضعات وجوده التي تتكلف بأن يكون انسانا واع، لذا أصبح الحال ذاته مع علي ناجي بوصفه بؤرة وعلامة إشكالية وتناقضية في وجوده المحاكي بأدوار من السلب والاستلاب لوجوده الحقيقي.

ـ الدفتر السومري المقدس: تعاويذ وطلاسم للخروج نحو عالم آخر

تتراوح محكيات السرد في الفصول الأولى من رواية (باب الطباشير) بما يلوح في أن تكون الوحدات السردية ذات أبعاد متخيلة بإفراط، أو امتدادا في الأبعاد النفسية الممكنة في واقع الأحوال الشخوصية في الرواية. وقبل الولوج إلى ملامح أبعاد السرد والإحالة بما هو حاصل من جراء إعطاء علي ناجي ذلك الدفتر السومري الموشح بغلاف أسمر، حيث اقنعه الدكتور واصف وهو على فراش الموت بأخذ هذا الدفتر ليكون له دليلا في حياته الروحانية والإعلامية، غير أن الأخير صار بدلا من بث الشتائم والتعليقات الساخرة في برنامجه، أضحى يقدم لمتابعيه مجموعة من الرقيات والطلاسم التنجيمية: (سخرت اتصالات المستمعين من كلامه، وقال أحدهم:أنت حولت البرنامج السياسي إلى برنامج للسحر والتنجيم، وفي اتصال آخر قالت سيدة ما بأنها مهتمة بهذه التعاويذ السحرية. /ص38 الرواية) .

1ـ البعد العجائبي في طلاسم العبور المفترض:

يتكفل السارد بنقل وجهات النظر من خلال دراية (المؤلف الضمني) المبثوثة في ثنايا المتن الحكائي، ومن حقيقة الأشياء التي اظهرتها هذه التعاويذ والطلاسم في حدوث اتصال جاء في اللحظات الأخيرة من برنامج الشخصية علي ناجي. كان الاتصال يحمل في نبرات صوته الأنثوي ما جاء هنا قاب قوسين: (: ـ صرت تبحث عن أبواب للعبور من هذا العالم. لماذا لا تحصل على فيزا وتفض السالفة؟ أترك هذا البلد وسافر. /ص38 الرواية) دون شك كانت هي ليلى حميد ذاتها، تلك الفتاة الحجاجية والمنافسة له في الأمس وظهورا لها في مستقبله حددته اللقاءات والمواعيد، وحتى سماعه خبر فصله من الاذاعة، بعد سخط مدير ومالك الاذاعة عليه بعد تحويل برنامجه من التعليق السياسي المتهكم إلى تعاويذ وطلاسم، ورغم عثوره الأخير على ليلى، إلا أنها غادرته مجددا، وحتى مرحلة أخيرة من الفصلان في الرواية التي يغتال فيها رميا بالرصاص من خلال شخص قام بتصويب فوهة مسدسه نحوه وبإطلاق رصاصة نحو موضع رأس علي ناجي نفسه: (ها هو يريد الموت الذي ظل، يقصد أو دون قصد ينتظره وينادي عليه ثلاثة عشر عاما يصل إليه الآن. /ص45 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

من خلال ما أطلعنا عليه عبر المواضع الأولى من الرواية، تحدد لدينا الحكي والحكاية والزمان والخطاب المسرود وكيفية تواصل الأحداث في الرواية بعد موت الشخصية ناجي. بإيجاز شديد أقول سوف يتولى السارد العليم مهام السرد، وزمام متواليات الأزمنة التي عاشها ناجي، لذا ستبدو زمنية القراءة لأحوال وحالات والمبئرات في المواقف الماقبل والمابعد إلى جانب توافر مستوى من اللعب السردي في تقانات زمن الحكاية والخطاب المعلن والضمني وبدرجة أو بأخرى من أحكام البناء الفني في محكيات وتوالدات المحاور المتماثلة واللامتماثلة .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم