قراءات نقدية

بنية الحوار في المعمار القصصي والروائي

لا أحد من النقاد والروائيين يستطيع إغفال مدى أهميّة بنيّة الحوار أو الإقلال منها في المتنين القصصي والروائي، لأنّ عنصر الحوار، عنصر هام في بناء المعمار الروائي والقصصي، إلى جانب السرد الذي نرسم لغته بوساطة الوصف.

فإذا كان الروائي والقصصي، غالبا، ما يعتمدان في إنجاز نصوصهما الإبداعيّة على لغة السرد في سيرورة أحداث الرواية أو القصة القصيرة، فبالمقابل، لا يمكنهما إهمال، أو بالأحرى التقليل من قيمة الحوار أو الاستغناء عنه كعنصر فعّال في شحن حركيّة النص الروائي والقصصي ومنحهما تفاعلا كيمائيا، وذلك من زاوية العلاقات بين الشخوص الرئيسة والثانوية الفاعلة، ذات الدوافع والغايات المتماثلة أو المتعاكسة.

ومن المسلّمات الفنيّة التي لا تقبل الريب أو التأويل، أنّ الرواية في بنيتها الأصلية نص سرديّ، لا لكونها خالية من عنصر الحوار، بل لغالبيّة عنصر السرد عليها. ولكن هل يستطيع الروائي أن يستغنيّ عن لغة الحوار، ويعتمد اعتمادا كليّا على لغة السرد؟ هل يمكن اعتبار عنصر الحوار في المتن الروائي، عنصرا ثانويّا، أو ثانيّا من حيث الكم والتوظيف؟ وهل يستقيم العمل الروائي دون لغة حوار قويّة الصياغة وهادفة؟ وأيهما أفضل أداء في بناء الحوار، هل الفصحى أم العاميّة؟ كيف تكون لغة الحوار معبّرة بقوّة وعمق عن شخصيتها ومرآة تعكس بصدق مشاعرها وأحلامها؟ لماذا يلجأ بعض الروائيين إلى توظيف اللغة العامية / المحكيّة في الحوار؟ أهو ادّعاء للواقعية أم هو خيار فنّي وسيكولوجيّ واجتماعيّ لملامسة شغف المتلقي ومشاعره؟

من المتعارف عليه لدى جهابدة الفنّ القصصي والنمط السردي، سواء منهم السابقون أو اللاحقون، المؤسّسون أو المقلّدون او المجدّدون، أنّ مستوى الحوار السردي ينبني على هويّة الشخصيّة وجنسها ونوعيّة سلوكياتها ومستواها العقلي والفكري ووعيها وتفاعلها العاطفي وعلاقاتها الاجتماعيّة. فالروائي شبيه بصائغ ماهر ونبيه، يُلبس كل شخصيّة لبوسها المناسب، ويراعي بيئتها التي تتحرّك فيها، وينطقها بلغتها الفطريّة دون تكلّف، إذ لا يمكن للروائي أن يقدّم للمتلقي - مهما كانت مكانته الاجتماعيّة والثقافيّة عاليّة أو متوسطة أو ضعيفة – حوارا لشخصيّة فنيّة مهزوزا غير مطابق لمستواها العقلي والنفسي والثقافي والاجتماعي. كأن يلجأ رهط من كتاب القصة والرواية إلى خلق حوار منتحل بين شخصيات لا يمتّ بصلة إلى قدراتها العقليّة. شخصيّات تتحاور بألسنة ليست لها صلة بها. فتبدو الشخصيّة العاديّة أو الأميّة أو الساذجة حكيمة ومتفلسفة وفذّة. والأمر كذلك إذا عكسنا الاحتمال السالف، فلو قدّم الكاتب القصصي أو الروائي شخصيته العالمة، المفكّرة، الواعيّة، الحكيمة، ساذجة في سلوكياتها، مجرّدة ّمن مزاياها الفكريّة والعقليّة والنفسيّة.

ويخضع فنّ الحوار القصصي والروائي إلى أحكام ومخرجات محكمة النسق. فقد يفلت هذا الخيط الزئبقي الرفيع من بين أنامل الكاتب في لحظة من لحظات الفيض الذهني والتوتر والتدفّق العاطفي لدى الكاتب.

و إذا كانت تقنيّة السرد في المتنين القصصي والروائي هو العمود الفقري في تحريك الشخصيّات من زاوية إلى أخرى وتوصيفها ونموّ الأحداث ورسم معالم الييئة (الزمان والمكان)، فإنّ عنصر الحوار فيهما هو – باعتباره عنصرا رئيسيّا – الذي يمنح الحدث أو الأحداث جرعة إضافيّة من الصراع التراجيدي أو يُلهب الحسّ الكوميدي، ويفضح العواطف الخجولة المستترة خلف منطقة الشعور، ويعرّي بعض المواقف النائمة في زوايا الطابوهات واللاشعور القسري.

و يجب ألّا يألو القاص أو الروائي جهدا في صياغة حوار لكل شخصيّة. إذ عليه أن يستهلّ الكاتب المبدع ذلك من نقطة البداية، وأعني بنقطة البداية، هي تصوّر نمط الشخصيّة المراد توظيفها في العمل القصصي أو الروائي. فلا بد للكاتب- إذن - أن يرسم شخصيته بدقّة متناهيّة شكلا ومضمونا، ويحدّد معالم البيئة التي نشأت في أحضانها ؛ الأسرة، موقع البيت والشارع والمدينة أو القرية أو الريف أو الحضر، الحالة الماديّة والنفسيّة، العلاقات الاجتماعيّة والعاطفيّة، التميّز، المستوى العلمي والثقافي، السلوك اليومي، المنحنى الأخلاقي، حالاتها المرضيّة إن وجدت...). لأن كل شخصيّة هي مولود شرعيّ لبيئتها المحليّة. وانطلاقا من كل هذه المعطيات السالفة الذكر وغيرها، يجسّد القاص أو الروائي ويبني لبنات الحوار، بل إنّ نمط الشخصيّة هو الذي يفرض نوعيّة الحوار ومستواه اللغوي والمجازي بدءا بصيغة الكلمة المفردة وصولا إلى الجمل المركبّة؛ الإسميّة أو الفعليّة، بالإضافة إلى كيفيّة توظيف الأسلوبين، الخبريّ والإنشائيّ، والغرض البلاغي منهما.

والأسئلة التي ما فتيء النقاد والقصّاصون والروائيّون يطرحونها، بل مازالت يؤرّق الساحة الإبداعيّة، خاصة السرديّة منها هي: كيف أبني حوارا صادقا ومناسبا بين شخصيات القصة أو الرواية؟ هل الأولويّة للغة أم الفكرة؟ أيّهما أفضل، اللفظ أم المعنى؟ الفصحى أم العاميّة المحكيّة؟ كيف أخرج للمتلقّي نصا سرديّا سالما من علل الحوار ومطبّاته؟ كيف يمكن صيانة النص السردي من عثرات الحوار، وأجعل هذا الأخير خادما للعمليّة السرديّة ومسخّرا لها؟ كيف أجعل الشخصيّة تتكلّم بلسانها، لا بلسان غيرها، كالكاتب مثلا؟ كيف يمكن للكاتب أن يقف محايدا، دون أن يتدخّل في سيرورة الحوار بين الشخصيّات الفنيّة؟

إنّ حيّاد القاص أو الروائي في صياغة الحوار وبنائه، وتوجيه مصير شخصياته أمران لا مفرّ منهما. لكنّ – للأسف – وُجد بعض كتاب السرد الروائي أو القصصي، أهملوا - بقصد أو دون قصد أو نتيجة نقص التجربة والخبرة والملكة الأدبيّة – عنصر الحوار، وأخلّوا بدوره في إذكاء احتدام روح الصراع وتعميقه وجعله عنصرا فاعلا وفعّالا في المتن القصصي أو الروائي. لقد نسيّ بعض الكتّاب أو تناسوا، أنّ الحوار في العمل القصصي أو الروائي، ليس عنصرا ثانويّا – قياسا على السرد - من حيث الكمّ اللفظي والتوظيف الفنّي و. لهذا السبب، لاحظنا أنّ كتاب القصّة والرواية يبذلون كل جهودهم المعرفيّة والفنيّة، وينفقون ما أتيحت لهم من قدرات لغويّة وأسلوبيّة في صياغة الأساليب السرديّة والوصفيّة، ظنّا منهم أنّها مفتاح نجاح الأعمال القصصية والروائيّة وتميّزها هو التمكّن من ناصيّة فنيّات الأسلوب السردي فقط، دون مراعاة بنية الحوار.

لكل قاص أو روائيّ ميزنه الخاصة في بناء لغة الحوار وإنطاق شخصياته القصصية أو الروائيّة، وصياغته حسب نمط المحاورة ومكانة المحاور وعلاقاته بغيره في كنف النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي والإنساني. ولغة الحوار هي مرآة صاحبها، تعكس للقاريء خصوصيّة الشخصيّة الرئيسة أو الثانويّة، الناميّة أو الجاهزة. كما يقوم ( الحوار على دعم الوصف وذلك حين يعكس الحوار سمات الشخصية النفسية وطريقتها في التعبير عن مواقفها وأحاسيسها). (1).

و تخضع لغة الحوار لسلوكيّات الشخصيّة وتفاعلاتها مع عناصر الطبيعة الطبيعيّة والطبيعة البشريّة، الفطريّة منها، والمكتسبة، لا العكس. وهكذا، فإنّ الكاتب الروائي أو القصصي المبدع والمُقنِع هو الذي يراعي سيرورة الحوار بدقة، ويبرز ثقافة الشخصيّة الفنيّة - المُحَاوِرَة والمُتَحَاوَرَة - وعواطفها وبيئتها الثقافيّة ومخيالها وعلاقاتها الدنيا والعليا في موقعها الاجتماعي، دون تصنّع أو تجاوز أو نقصان. وهو، (أي الكاتب الروائي أو القصصي) الذي يمتلك ناصيّة الملكة الحواريّة والإبداعيّة، ويجيد توظيفها في الزمكانية المناسبة.

و قد انحرف بعض الكتاب الروائيين والقصصيين - من الجيل القديم والجيل الجديد - عن قاعدة الحيّاديّة الفنّية في بنية الحوار، وسوّغوا لأنفسهم التدخّل في الحريّة الحواريّة لشخصيّاتهم الفنيّة، وأحرقوا المسافة الفاصلة بين الكاتب وشخوصه الفنيّة في السيّاق الفكري والعاطفي للحوار السردي، ممّا أدى إلى تشويه العمل الإبداعي تشويها فاضحا.

و مثال على ذلك، أن يلجأ كاتب روائيّ أو قصصي إلى إنطاق شخصيّة فنيّة، أميّة، تجهل القراءة والكتابة وقواعد النحو والصرف، بلغة فصحى، خاليّة من اللحن. وبالمقابل ينطق ـ في موضع آخرـ شخصيّة معيّنة، رئيسيّة أو ثانويّة، ذات علم ومعرفة وفصاحة بلغة الدهماء، لا يستقيم فيها نحو ولا صرف ولا معنى. وهو ما يعني تقديم شخصية فنيّة (قصصية أو روائيّة) مشوّهة الخَلق (بفتح الخاء) والخُلق (بضم الخاء)، فاقدة للإرادة والحريّة والمسؤوليّة والشرعيّة والانتماء، لا تعبّر عن واقعها المعيش بصدق، ولا عن عواطفها وخيالها وطموحاتها.

الغاية من الحوار هو نقل الفكرة بلغة سليمة ومباشرة وموجزة، في سياق صراع فكريّ وجدليّ، مأساوي أو فكاهي. وكلّما كانت لغة الحوار موجزة وسلسة وواضحة ومباشرة، وصلت رسالة المرسل (الكاتب) إلى المرسل إليه - أي القاريء والمتلقي - وبلغت غايتها، التي من أجلها وُضعت.

إذن، فالحوار هو أداة فنيّة، ووسيلة لا غاية. لا بد أن يراعي فيه كلّ من القاص والروائي معايير معيّنة، تتعلّق بالشكل والمضمون، أو بالمبنى والمحتوى.

***

بقلم: الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

.................

هامش:

(1) رهف السيد / موقع سطور

في المثقف اليوم