قراءات نقدية

انطولوجيا المتخيل يرسم شيفرات الغياب.. (نار القطرب) للشاعر حسين عبد اللطيف أنموذجا

دراسة في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر حسين عبد اللطيف

ديوان (نار القطرب ) أنموذجا

الفصل الثاني - المبحث (4): انطولوجيا المتخيل يرسم شيفرات الغياب

***

توطئة: مما تتميز به شعرية ديوان (نار القطرب) موجهات قصائد الديوان وهي تنحو في طبيعة صياغتها لعوالم حالات الأشياء والظواهر والأنا والآخر في حدود من مواضعات تحاورية، جعلت من الملفوظ الشعري علاقة جوهرية نحو تحقيق ذلك المعنى المتحول في محاور (الأداة ـ الأسلوب ـ الفعالية ـ الصورة الزمكانيةـ أيقونة المتخيل) ومن خلال هذه الثيمات الشكلية والنواتية والدلالية في صياغة بنية القصيدة، واجهتنا محاكاة إلى اللون الملحمي اقترابا مستلهما من الملاحم الهندية وتراجيديا الطقوس في معابد الكهنوت والسيخ.وتبعا لكل ما قرأناه في صدد هذا الديوان وكتبنا عنه، هناك أساليب هي من العمق والخصوصية والاعتبار القصدي.لقد صاغ الشاعر حسين عبد اللطيف أجدى ثمرات وتحصيلات قصيدة ديوان (نار القطرب) بما يتعلق وأفق (ثنائية المركز الدلالي) امتثالا إلى تحقيق الوازع الدلالي في أكثر من محتوى تكميلي من أوجه وسيلة الدال الإنتاجي الشعري، لذا وجدنا في أكثر من مواضعة شعرية في قصيدة الشاعر، لا تكتف بأحدية غرضها الدلالي المحدد، بل إنها توافق علاقة معززة بأنعكاسية دلالة محاذية إلى مجرى المراد من الأولى، وهذا الأمر وجدناه ظاهرا ـ باطنا، في عينات متشعبة من قصائد هذا الديوان، ما جعلها تبدو لنا في القراءة وكأنها (أيقونة تخييل) تسعى إلى إنتاج مجموعة لوحات متنوعة التفاصيل والوسائل الرابطة لجل الصفات الأنواعية في متغيرات الأسلوب الشعري.

ـ ثنائية الدلالة في تكوين تماثلات العلاقة الشعرية:

تتشكل بنية القصيدة كما أسلفنا من أفق مركزين في ثنائية المحمول الدلالي، كحركة مضاعفة في أحوال ومكونات وبناء مواقع الرؤية المنجدلة عبر وظيفة علاقة المشار إليه بدقة أخذت تتوخى معادلة قطبي (الأنا ـ الآخر ) وصولا إلى نقطة الترجيح في عوامل وصفات الأحوال في تفاصيل النص.نقرأ مثالا ما جاءت به قصيدة (أحوال) من حدود خاصة في إجرائية ثنائية الدال والدلالة ضمن وظيفة واحدة في التماثل الشعري في الاشتغال وليس المعنى:

أدخلي

أدخلي

لترَي:ما الذي كنت يوماً تُريدينَ رؤيتَهُ:

المغني القديم

في صداقة ركبتهِ

والكراسي

على حالها، في المطرْ

والنهارْ./ص91 :

أن فعل العملية الثنائية في توطين الدال هنا، لا يعني فحسب ذلك الإيراد في تكرارية الدال في مجال النمو، لا أبدا، بقدر ما نقصد أن هناك قدرات تجعل من الدال في دلالة إنتاج والمقاربة في الوظيفة الشعرية.فعلى سبيل المثال، تواجهنا في مستهل السطور الأولى تكرارية فعل (أدخلي ـ أدخلي) وهذا الحال المكرر فعلا استقداميا في الحث على التفاعل نحو وضع تصوري في سياق الفعل.أي أن التفكير فيه يقودنا نحو ثنائية دال مكرر نحو دلالة غير محققة كخفايا نبض القلب.ولكن الأمر يبقى أيضا في طور النظر إلى حين مجيء دال (لتري) إذن الدالان (أدخلي ـ لتري) بمثابة شفرة مروي معبر عنه بوسيلة تأخذ شكل الثنائية في عملية التراوح ذاته، وبقدوم جملة (ما الذي كنت يوما تريدين رؤيته) تتساوى لدينا مجالية الدلالة في محكم ثنائية الدال ذاته في الترقب والانعكاس والحال، وحتى حلول جملة (المغني القديم) أو جملة (في صداقة ركبته) فكل هذه الجمل لا تحقق في المعنى سوى حالات شعرية من أجواء ثنائية الدال المتحفظ في كشفه وبوحه وعلامته وتفعيله.

1ـ مساحة الذات الفاصلة في تشكيل ذاتها المتداعية:

كما قلنا سابقا أن وظيفة ثنائية الدال في الدلالة، ظاهرة في مستويات علاقة دوال تحمل ذات الوجه والوجهة من الأوضاع في خطاب النص، لذا يمكننا معاينة مكوناتها على إنها بما يقارب (الذات الفاصلة) في موضع (تشكيل ذاتها المتداعية) أي إنها الذات الواحدة مع اختلاف أوضاعها الدوالية في الوصول إلى المعنى المراد كحال هذه المقاطع:

على حاله، في المطرْ

والنهارْ

ـ النهارُ الجميلُ الذي كان يأتي بأزهارهِ

وشذاهْ..

ـ وهو يخفقُ خلف الزجاجْ

... مثلَ طيرٍ طليقْ ...

طافحاً بالألقْ./ص91

لا تدل الجمل الشعرية في معرض هذه الأحوال إلى نقطة تبئيرية ما، سوى إلى عائدية دال (المغني) ودال (صداقة) أما في ما يتعلق ودال (الكراسي) الذي هو بمثابة المضاف في جملة تمفصلات التعاقب الملفوظي في المتن، وما يشكله من علاقة تحفيز نحو حال دلالة (على حالها، في المطر.. والنهار) إذن من هو الدال المحور في جمل هذه القصيدة؟أهو المغني القديم؟أم المقصود به هو النهار الجميل؟طبعا هناك كما قلنا ثمة ثنائية في مرسلات الدال في دلالة الجمل، فهناك ما يعكس دال (المغني) كونه المبأر في محددات المشار إليه، ثم هناك النهار لكونه أيضا بوصفه (يخفق خلف الزجاج ـ مثل طير طليق) فهاتين الجملتن هما العلاقة في ثنائية الدال في موجهات الجمل الدلالية حالا وتحقيقا.

2ـ الذات الغيابية في مفصلية واقعة الدال:

ألفينا في محاور ودلالات قصيدة (أحوال) دأب الشاعر في وظائف أكوانه الدوالية، ذلك الملمح من الاستحالة في حضور الحالات على نحو ثابت من الاستقرار الوضعي في النص، لذا توافينا مثالا هذه المقتبسات من النص ذاته:

ـ وهو يخبو..رويداً

بصيصٌ ضئيلْ

يدخل الآن من فُرجة البابِ مُرتَجفاً..

بعدما الذكرياتْ

رحلتْ ـ وهي تحملُ صرتَها ـ

بعدما السنواتْ

أقفلت كلَّ أدراجِها../ ص91.ص92

قد نلمح من خلال هذه الجمل، علاقة الغياب في واقع (الذات ـ الصور ـ اللغة) وعلاقة الدوال ذاتها بذاتها في عوالم مفصولة عن الحياة، اقترانا بالغربة والرحيل والتخيل في محصلات غيابية للأشياء الزمكانية: (هو يخبو..رويدا) إن مجال طموح الذات الشعرية، لا تتسع إلا لضم الحضور الصفراوي في الوصف ورؤيا الموصوف، إيذانا بمرور رؤى ذات متاهة في صيغة طعم الأشياء: (يدخل الآن من فرجة الباب مرتجفا../ بعد ما الذكريات ـ رحلت وهي تحمل صرتها ـ ) لعلنا نلاحظ هنا كيفية حدوث ثنائية الدال، عندما يكون في مسار استئنافي لدال آخر بذات الدورة من الحركة في الوظيفة والقيمة والطلوع بزي ذات النغمة من واقعة الدلالة الكلية في مشهد النص.قد تكون الألفاظ مختلفة في نعوتها، إلا إنها تؤدي الدور ذاته في حيز الملائمة والحركة والأثر في العلاقة الشعرية.

ـ موتيفان ولوحات في محاور الغياب:

تتوالى مستويات التداخل والتقاطع والانتقال بين قصيدة وأخرى في نماذج من ديوان (نار القطرب) بما يلخص لنا تضاعيف حضور المحصلة الغيابية في ذوات وحالات الشاعر والأشياء، كممارسة دلالية في أغوار لغات وهويات الحلم على ضفاف زمن تلاقي (الماضي ـ الحاضر = جذور الغياب) وعلى هذا النحو تواجهنا تجارب شعرية في ديوان الشاعر، كأنها موتيفات علاقة آنية بين ذات المتكلم ووحدات العناصر الشعرية:

قدمايَ مفلطحتانْ

وفمي أعجفْ

ويدايَ، يدايْ

بحبال القنّب موثقتانْ

آدمْ ذا..

وسطَ عراء منبوذْ

غربانٌ

وملائكةٌ سودْ

تتضاحكُ

وتعابثُ

أعضاءَهْ.

ص93 قصيدة: الشخص خاصتي

1ـ التضاد بين غرائبية التعرف وإمكانية الكشف:

تتولد علامات التضاد بما يوازي احتمالات (القيد الذاتي/ رجحان الرفض الوجودي / عدمية اليقين) وهذه العوامل قد تكون متكفلة بدفع الذات الشاعرة إلى رسم معطيات وجودها رسما يذكرنا بأيقونة فن الموتيف، الذي من شأنه ضغط اللقطة الاعتيادية من الوجود إلى حالة قطعية من التضاد أو اللاتضاد، هنا حسين عبد اللطيف من خلال لوحاته الموتيفية التي لخصها في تقديم وجوده الذاتي بضرب من ضروب الإيحاء التضادي ، عاكسا بذلك مدى طاقة السلب في اغتراب الذات الكونية عبر مقابلاتها من حدود (الشاعر = اللغة) وربما أن جمل ودوال كـ (قدماي مفلطحتان ـ فمي أعجف) تتزامن مع زمن الاستبداد والقهر والاقصاء الذي تواجهه الذات الشعرية : (ويداي، يداي ـ بحبال القنطب موثقتان) وهنا نفهم بأن الذات قد عانت من قيود الواقع والويلات السياسية أو لربما أيضا من وجوده التكويني كإنسان مجرد من الوصول إلى صبغة الرخاء والتنعم في حياته اليومية (آدم ذا .. / وسط عراء منبوذ / غربان / وملائكة سود ) الراوي الشعري يقدم دواله ضمن حالة السوداوية أو المساءلة التي لم يظفر لها بأي تفاسير متصالحة.فهو يصف الجنس البشري عموما منذ مطلع التكون في مزيج من الخطوط والألوان والموضوعة التي تقارب خطاب اللوحة العدمية، غير إنها من جهة تأويلية خاصة، تقدم قيم إرهاصية معينة ببطش السلطات في مقدرات الإنسان : (وتعابث أعضاءه) أي أن المعادل الرمزي بـ (الملائكة سود) هنا جاء بصيغة الاستنكار لما عليه تلك السلطات من الاستخفاف بملكة شعوب المغلوبة على أمرها دائما.كذلك ذات الأمر واجهنا في قصيدة (طبيعة صامتة) ومثلها قصيدة (نوح) وقصيدة (موت):

ما أسهل السهولْ

وأعقد الجبالْ

وأصعبَ العُزلَةَ

من دون بابْ

قوارب المساءْ

تجيءَ بالذهبْ

وفي الصباحِ..الديكةْ

سترفع الأعرافَ

قبَعةً

لطلعة الصباحْ./96

غالبا ما نلمح بأن الشاعر يسعى إلى خلق كينونة شعرية لذوات الأشياء، فهو يجسد العلاقات الحميمة في إطارية لغة ظاهرة ومألوفة بدءا، ولكن عند خواتيم ملفوظات النص، نلاحظ مدى التحول في محاور الذات الرائية، كحال هذه الخاتمة للقصيدة ذاتها: (هذه المرآة، لا ترى، في عقدة العنق، سوى تفاحة مهشمة، وجثة هامدة) وعلى هذا النحو يتبين لنا بأن مجموع مقاطع النص كانت تشكل دورات حياتية للذات المجملة، وما هذه المرآة سوى آنوية الزمن المحقق دليلا ما بين ثنائية (الحياة ـ الموت) أو هو ذاته المحمول بمراد الغياب والرحيل في نهايات دلالات قصيدة (يكة القلب):

الليلةَ يا أصحابْ

سأهشِّم قلبي الكذّابْ

وأبيحُ عِنانَ دموُعي

وأقول وداعاً...

للأحبابْ

الليلة أرحلْ

أطوي حبلَ المرساةِ

وأرحلْ./ص99

ـ تعليق القراءة:

لا شك إن مدار مباحثنا الدراسية في عوالم شعر الكبير (حسين عبد اللطيف) تسعى إلى تأويل كل مستويات الممارسة لشعرية لدى الشاعر، خصوصا وأن طبيعة تجربة هذا الفذ ليس بالأمر الهين إطلاقا.في الواقع نحن لا نود في فصول ومباحث كتابنا تقديم أطروحة دكتورا أكاديمية مستقاة مصادرها وإحالاتها من هذا وذاك، لا أبدا، بل إننا نود تقديم دراسة كتابنا بما يليق أو يقارب ولو قليلا للجهد المبذول في عوالم هذا الشاعر الكبير.حاولنا في مبحث دراستنا في هذا الصدد، تقديم جملة مؤولات خاصة برؤية الناقد أو الدارس بموجب مقروئيتنا المدروسة لشعر ديوان (نار القطرب) هذا الانموذج الأدهى في تجربة حسين عبد اللطيف، فوجدنا فيه من التجارب الشعرية ما لا يمكننا الإحاطة بها من خلال عدة مباحث في فصل دراسي بسيط ، أن الصعوبة القصوى في عوالم شعر حسين عبد اللطيف، هي مستويات النص اللغوية والاسلوبية والدلالية، فهناك مواضعات في قصيدة الشاعر، تتعدى ظواهر الملفوظ الإيحائي والاستعاري والرمزي، بل إنها غالبا ما تكون بنيات في الميتاشعري امتدادا نحو أنطلوجيا القصيدة وشرائعها التأويلية المضاعفة في مقادير التحليل والمعانية النقدية المدربة على مقاربة النصوص الكبرى من شعرية الوجود الأنوي المكين .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم