قراءات نقدية

شتيفانه مافلي: ما هو أدب الهجرة؟

بقلم: شتيفانه مافلي

ترجمة عن اللغة الألمانية: رضوان ضاوي

***

ما هو أدب الهجرة؟

يشير مصطلح "الهجرة" في البداية إلى انتقال شخص أو مجموعة من الأشخاص، إما عبر حدود دولية (الهجرة الدولية) أو داخل دولة (الهجرة الداخلية). وهي هجرة سكانية تشمل جميع أنواع الانتقال مهما كانت مدته وتكوينه وأسبابه، كما تشمل انتقال اللاجئين والمطرودين والمهاجرين لأسباب اقتصادية والأشخاص الذين يهاجرون لأسباب أخرى، بما في ذلك لمّ شمل الأسرة.

على المستوى الفردي، تُحدث الهجرة تغييراً جذرياً في شبكة العلاقات الفردية، يؤدي إلى فقدان الروابط الاجتماعية وتطوير اتصالات جديدة. بالتوازي مع هذا التغيير الذي يحدث على المستوى الشخصي، يواجه المهاجر أو المهاجرة سلوكات اجتماعية جديدة: تعني الهجرة بالنهاية تغييراً ثقافياً وتحوّلاً اجتماعياً.

لذلك فإن مفهوم الثقافة مهمّ في أدب الهجرة، حيث يحدد هومي بهابها Bhabha ذلك بالإعتماد على كليفورد غيرتز، مشيرًا إلى أن "الثقافات [...] ليست أبدًا موحّدة في جوهرها، كما أنها ليست ثنائية في علاقتها مع الذات بالآخر".  في هذا الصدد، "لا يمكن فهم الثقافات على أنها كيانات مستقرة وثابتة تاريخياً". بدلاً من ذلك، تعتبر الثقافة سلوكاً ديناميكياً و"عمليات توليد للمعنى و [...] ممارسات" يمكن أن تتبلور فيها الموضوعات، لأن الشبكات الثقافية المتغيرة التي يعيش فيها الفرد تشيّد تطوره. ووفقًا لذلك، فإن الثقافات "ليست بناءات أصلية وموحدة وقائمة بذاتها، ولكنها هجينة بشكل أساسي". ومع ذلك، لا يغيّر المهاجرون من أنفسهم فحسب، بل يحدثون تغييراً في الثقافة التي يصلون إليها أيضاً"؛ فما نسميه "الثقافة " تعيد تنظيم نفسها بشكل لامركزي. ويتم التفاوض عليه في عملية لا تنتهي أبدًا [...] ".  يمكن معاينة عمليات التفاعل هذه بشكل نموذجي في أدب الهجرة.

إن فكرة الثقافة هذه تنأى بنفسها عن الاستخدام العامي للمصطلح، والذي يمكن إرجاعه إلى تأملات الفيلسوف يوهان جوتفريد هيردر الذي فهم القدرة الثقافية للإنسان على أنها قدرة موسعة على الكلام، وشيّد ما يسمى بنموذج المجال لمفهومه الخاصّ بالثقافة من خلال مقارنته الشهيرة التالية: "لكل أمّةٍ محورٌ لسعادتها الخاصّة بها، مثلما أن لكل سطح كروي مركز خاص لجاذبيته! ".

تعتبر هذه الفكرة عن "أمّة ثقافية متجانسة"، والتي كانت مركزية بشكل خاص في التاريخ الأوروبي في القرن التاسع عشر، صارمة للغاية إذا تعلّق الأمر بدراسة أدبية لأدب الهجرة، لأنها تفترض أن الثقافة والأمّة واللّغة تشكل وحدة يمكن وصفها مرة واحدة للجميع.

مفهوم عملي

بعد تحديد تعاريف واستخدامات مفاهيم "الهجرة" و"الثقافة"، سيتم الآن مناقشة استخدام مصطلح "أدب الهجرة" بالاستعانة بمقال كتبته هايدي روش Heidi Rösch ونشرته عام 1993.

لن يتم تشييد مفهوم "أدب الهجرة" هنا بوصفه تصوراً نظرياً، ولكن سيتم تعريفه على أنه أداة قابلة للممارسة والتطبيق وتقدم إطارًا منهجيًا لتحليل النص التأويلي. مثل هذه المناقشة ضرورية بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع سيرة المؤلف.

يعرّف "أدب الهجرة" ذاته من حيث المحتوى: وفقاً لتعريف هايدي روش الأساسي؛ "تعتبر رواية ما محسوبة على "أدب الهجرة" إذا كانت تهتم بموضوع الهجرة". هذا يعني أنه يتم سرد قصة يعيش فيها شخص واحد أو أكثر من شخص تجربة الهجرة؛ وهذا يلعب دورًا مهمًا في الحبكة. يتميز هذا التعريف الأساسي عن التعريفات التي تستند إلى تجربة هجرة المؤلّفين، بميزة أنها تنطلق من النصّ وحده في البداية. وهكذا يتم إلغاء التمييز بين المؤلفين الذين لديهم خلفية مهاجرة ومن لا يملكونها.

في التعريف الأول الذي اقترحته هايدي روش، تشير كلمة أدب الهجرة "Migrationsliteratur" إلى "الأدب الذي يتناول موضوع الهجرة". ومع ذلك، تنطلق روش أيضًا من كون أدب الهجرة كان "حزبيا أحادياً بامتياز، أي تم تناوله وصُمّم جمالياً من منظور الأقليات المضطهدة". هذا الشرط الثاني ليس إلزاميًا لفهم "أدب الهجرة". لقد صنفت روش مظاهر مختلفة من "أدب الهجرة" وميّزت بين السرد بوصفه وساطة ثقافية، والسرد باعتباره انعكاساً ثقافياً للذات، والسرد التعاطفي أو المناهض للعنصرية، والسرد الذي يتميز بمسودات يوتوبيا متعددة الثقافات. وبدت وكأنها تفترض مسبقاً مفهوم الثقافة، الذي ربما ينطلق من ثقافات موحدة ومتجانسة ومحددة. ويمكن تحديدها بوضوح في سياق المبدأ الأساسي لتعريف الأدب من حيث المحتوى وليس من حيث أصل المؤلف.

موضوعات أدب الهجرة

يتناول أدب الهجرة عادةً التوترات الاجتماعية وعلاقات القوة الثقافية. ما هو موضوع أدب الهجرة؟ كل نص أدبي يصف قصة الهجرة يخلق توتراً زمنياً ومكانياً بين "هنا والآن في بلد الهجرة" و"هناك وما قبل في بلد المنشأ". اعتماداً على العمل الأدبي، فإن الموضوعات أو المؤثرات الثقافية التالية هي التي تبني مجال التوتر الثقافي، وهي موجودة بشكل أو بآخر:

الغربة والاغتراب: طبع هذا المفهوم الأساسي الأدب الحديث بطريقة خاصة منذ البداية، وله أهمية كبيرة في أدب الهجرة؛ لأنه من ناحية يُنظر إلى المهاجرين على أنهم أجانب، ومن ناحية أخرى يتعيّن عليهم الانتقال إلى المجتمع الجديد؛ وهو مجتمع أجنبي بالنسبة لهم. وبالتالي، فإن الغرابة تتعلق بالطريقة التي يدرك بها الآخرون الأنا وبكيفية إدراك الأنا للآخرين. يمكن أن تشير الغرابة أيضًا إلى التمثلات التي يمتلكها الشخص عن نفسه، لأن بطل الرواية يتغير بمرور الوقت؛ على سبيل المثال من خلال التكيّف مع ثقافة الأغلبية.

غالبًا ما تصور روايات أدب الهجرة بحثًا عن الذات يصبح فيه تعامل الذات مع المجتمع مركزياً. من الناحية الموضوعية، يمكنها إظهار أوجه التشابه مع رواية التطور أو رواية التعلّم Bildungsroman، لأن البطل يجب أن يواجه متطلبات المجتمع.

الأسرة: باعتبارها أصغر وحدة اجتماعية ومكوّن مركزي في بناء الهوية، تشكل الأسرة دائمًا عنصراً مهماً في أدبيات الهجرة. هنا أيضًا يمكن ملاحظة جوانب مختلفة: فمن ناحية، تفترض الهجرة مسبقًا الانفصال عن جزء من عائلة البطل في البلد الأصلي. ومن ناحية أخرى، داخل العائلات المهاجرة، هناك اختلاف ثقافي يتطور بين جيل الآباء؛ أي الجيل الأول، وجيل الأبناء؛ أي الجيل الثاني. ويحدث التحول البارز منذ الجيل الثاني اجتماعياً في بلد الهجرة، فعادة ما يكون لديهم مهارات لغوية واجتماعية عالية فيما يتعلق ببلد الهجرة. هذا الاختلاف يمكن أن يخلق توترات داخل الأسرة، لأن الأجيال المختلفة تتبنى القيم الثقافية المختلفة. يتميز وضع الجيل الثاني أيضًا بحقيقة أنه لا يُنظر إلى عناصره على أنهم مواطنون ولا أجانب. وهكذا تتشكل تمثلاتهم لذواتهم من خلال ثنائية ثقافية، ويصبح وضعهم أكثر تعقيدًا على ضوء ما يمكن تسميته "الهوية الثقافية".

التقاليد وعمليات التنشئة الاجتماعية: يتم تناول الاختلافات الثقافية من خلال بواعث مثل الطعام والدين والتعامل مع الموت. وعلى وجه الخصوص، تلعب مسألة العلاقات الرومانسية للأطفال النامون من الجيل الثاني دوراً إشكالياً، لأن الآباء غالباً ما يستعينون بمعايير بلدهم الأصلي، بينما يتبنى أطفالهم بسرعة معايير بلد الهجرة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الرومانسية. الجوانب المذكورة هي السلوكيات التي تنتقل من جيل إلى جيل ويتم مناقشتها بسبب الهجرة.

كره الأجانب: في العديد من روايات أدب الهجرة، يواجه أبطال الرواية مواقف معادية للأجانب، تكون إما واضحة أو ضمنية، فهم يعانون من التمييز بسبب أصلهم. ولا يُظهر النص فقط السياقات التي يمكن أن تحدث فيها مثل هذه المواقف، ولكنه -وهذه هي القيمة المضافة لنصوص أدب الهجرة مقارنة بالدراسات الأخرى -يوضح أيضاً كيف يتفاعل المهاجرون داخليًا مع مثل هذه المواقف.

من المفترض أن بعض هذه النقاط المحورية الخمسة على الأقل موجودة في جميع روايات أدب الهجرة؛ وهي الغربة والأسرة والتنشئة الاجتماعية والتقاليد وكراهية الأجانب.

***

...............................

مصدر النص المترجم:

Stéphane Maffli, Migrationsliteratur aus der Schweiz  Beat Sterchi, Franco Supino, Aglaja Veteranyi, Melinda Nadj Abonji und Ilma Rakusa, Transcript, 2021, S. 37-41.

الكاتب: شتيفان مافلي، ولد عام 1987، درس تخصص الدراسات الألمانية والسلافية وعلوم التاريخ في لوزان بسويسرا، عمل أستاذاً مساعداً وضيفاً في كل من جامعة لوزان وفرانكفورت أودر. كما يعمل منذ 2015 ناقد أدبي ليوميتي الزمن le temps  والحرية la liberté .

 

في المثقف اليوم