قراءات نقدية

نبوءات زمن الاستبداد والحصار.. قراءة نقديّة

للمجموعة القصصية: أبي يركض وراء قطيع الأحلام، للقاص العراقي محمد الكريم

مازال فنّ القصة القصيرة والأقصوصة، منذ سرديّات غوغول وأنطون تشيكوف، حاضرا وصامدا في المشهد السردي العربي، رغم هيمنة الرواية واستيلائها عليه. فقد أحدثت عشرات الجوائز الأدبيّة الروائية، وأصدر النقاد مئات الدراسات النقدية حولها، حتى سُميّ هذا العصر (عصر الرواية). لكن، ولحسن الحظ - من حين إلى آخر تفرز الساحة الأدبيّة أقلاما شابة وواعدة في المشهد السردي، سواء في المشرق العربي أو مغربه الكبير.

المتصفّح للمجموعة القصصية " أبي يركض وراء قطيع الأحلام "، للقاص العراقي محمد الكريم، سيتوقف مليّا أمام عنوانها المدهش إلى حدّ الغرابة والتعجّب.

أب وركض وقطيع وأحلام. كلمات تنبض بالرمز، وتحيل القاريء إلى دائرة التأمل في مصير هذا الأب الذي يركض وراء قطيع الأحلام. لم تعد العناوين في العمل الإبداعي، مجرّد عناوين تظلّل النصوص النثريّة أو الشعريّة، بل تحوّلت إلى عتبات تسلب ذهن المتلقّي وعاطفته وتستفزّه وتغريه للولوج إلى مكمن النص. فالأب هنا يركض، وفي الركض إجهاد واستعجال وشوق ورغبة وإصرار وديمومة . أجل، يركض (بصيغة المضارع الدال على الاستمرار والديمومة) وراء قطيع (الكثرة)، والقطيع يُنسب إلى جنس الحيوان (غير العاقل)، وإذا وُظّف مجازا دلّ على الرعيّة الفاقدة للإرادة والحريّة والعقل النافذ. أمّا الأحلام، فهي ليست كالأوهام، بل قد تتحقّق دون تحديد زمان تحقّقها ومكانه. وهنا مزج الكاتب محمد الكريم في متن العنوان بين المتناقضات؛ بين العقل (الأب) واللاعقل (قطيع الأحلام). بين الممكن واللاممكن، بين الحقيقة والحلم. ولنتساءل، كمتلّقين، هل أراد الكاتب محمد الكريم أن يرسم صورة المواطن العربي في العراق والوطن العربي، الذي مازال يعيش عيشة الأوهام والترّهات، بعدما أوهن الاستدمار الغربي والقهر والاستبداد والذل إيمانه ويقينه ورسوخه؟ " أنتظر الليل لأراك في كابوس آخر.. هل ستبقى اللوحة أم ستركض وراء القطيع بعد أن فقدت أحفادك؟؟. " .

أجل تلك – إذن - هي الأحلام الهاربة من عيون الأطفال والنساء والكبار والعاجزين عن الإمساك بها، هي أحلام بنكهة السراب في بلاد تسيّد الموت الساحات والطرقات، واتّخذ أشكالا متعدّدة؛ الموت بالنسيان، الموت بالرصاص، الموت بالانفجار، الموت بفقدان الذاكرة والهويّة. وصار الموت – بجميع صوره البشعة - حقيقة يوميّة راسخة، بينما الحياة أمنيّة والسلام حلما وكابوسا. ورغم عمق المأساة واتّساعها في جسم الوطن، وتغوّلها، فإنّ الأب مازال متمسّكا بحلم البقاء، وما انفكّ صامدا، يقاوم بكل قواه، رافضا الاستسلام والخنوع والخضوع للواقع المرّ " لا يا ابـني حيـث أنـا مـا زلـت متمسـكا بأفكـاري ولن أبدلها مهما تبدل الدهر.. قم يا ولدي وافتح الباب ". " ادخل من حيث تهدّم الجدار، فقد ترك الانفجار فتحات ليستغلّها اللصوص.

و يفتح لنا القاص محمد الكريم نافذة على مأساة مجتمعنا العربي في قصّة " الراقص في المقبرة "، وهو عنوان مستفزّ للمتلقّي. فالمقبرة هي نهاية الحياة، وهي مثوى الأموات، وموضع خشوع ومبعث ورع، وهي أول باب من أبواب العالم الآخر، وهي آخر صلة بالحياة الدنيا. فمن الجنون وسخريّة الأقدار أن تتحوّل إلى ساحة للرقص والرقص بين القبور ضرب من اللامعقول. لكنّ القاص جعل بطله (المجنون) بحب الحريّة، الباحث عن الحريّة بين الأموات وهو يستنهض جدّه .

" خرج من بيتـه ليلـة جنونـه، أكلـت قدميـه الطرقـات.. ".

إنّها مأساة المثقف العربي، ومحنة العلم في زريبة الجهل المميت والسلطان الأعمى . ومنذ أن اضطُهد (بضم الطاء وكسر الهاء) ابن رشد الأندلسي وأحرقت كتبه الفلسفيّة، وتهافت أشباه المفكرين والفلاسفة والفقهاء على تسفيه العلماء وتكفيرهم، ساد الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني. ولبس الحاكم المستبّد لبوس القداسة الدينيّة. " ادفنوه بكتبه.. " " القانون حبل يتـدلى مـن دبـر السـلطة يلتـف حـول رقبـة الفقـير ليقـوده للانصياع وإلى الضياع ..... ". هكذا تتحوّل السلطة الغاشمة إلى مقصلة للأفكار النيّرة، وتحوّل المجتمع إلى مقبرة تئد فيها الأصوات الحرّة. إنّها ثنائية الصراع المحتدم منذ الأزل بين النور والظلام، وبين قوى الشرّ، الظالمة، المظلمة وقوى الحق والعدل..

و أبطال القاص محمد الكريم مأزومون اجتماعيا وسياسيا ونفسيّا. يحاولون تلمّس دروب الخلاص والنجاة من عالم محفوف بالمخاطر المميتة، وبيئة مشحونة بمغريات الإفناء. فحين يحاول بطل قصة " إعلان في جريدة " الخلاص من ضيق واقعه وقلقه " يحاول الخلاص من تلـك العتمـة والصـمت والوحـدة، يحاول الفرار من بين الجدران الأربعة، وملصـقاتها المخيفـة المرعبة هياكل عظمية، جمـاجم، حيوانـات وطيـور غرفـة أشبه بمدينة أشباح... ". يجد نفسه في آخر المطاف أسيرا للرعب والقلق. حاول الهروب خارج العراق، لكنّ قدره أرغمه أن يعود إلى بيته في انتظار موعد أجله. إنّها صورة قاتمة للمجتمع العراقي والعربي على السواء في زمن أفول الحريّة والعدالة، في زمن أصبح الرصاص لعبة، كلعب الأطفال، تلهو بها أيدي السلطة القذرة. في زمن أمسى فيه الاغتيال لدواع سياسيّة أو عقائديّة أو إيديولوجية أو إثنيّة وسيلة سهلة ومثلى في يد السلطة الحاكمة.

و حين يريد القاص محمد الكريم، تهريب أبطاله المأزومين والمقهورين من حاضرهم المرّ، ويفكّ أغلالهم، يستعين بالماضي الناصع البياض . فعلاقة البطل بالجدّة في قصة " لا نقوش على بساط جدتي " صورة لتواصل الأجيال وتفاعلها. فالبطل الفعليّ في هذه القصة هو الجدّة (الماضي والذاكرة) . أمّا (الأنا الحاضر )، فقد تحوّل إلى شخصيّة حاسمة، ارتبط مصيرها بالجدّة. " بساط جـدتي لا يـزال مفروشـا، رائحتــها تفــح البيــت العتيــق... "

و يتوغّل القاص بالقاريء إلى أعماق المأساة. ويتعدّى حدود الخيال، لكنّه خيال على حافة الجنون. حين يشعر الفرد المطحون والمسحوق بأنّه فقد كنه وجوده وإنسانيته وكرامته. فيرى نفسه تارة كلبا نابحا بلا جدوى " نباح كلب " و تارة أخرى حمارا ناهقا في الفراغ " أنا حمار ". هذا دليل على التدهور الشعوري السديمي والسقوط نحو الدونيّة والحيوانيّة، والوقوع في مطبّة اللاعقل. أليس ذلك ضرب من الرفض والجنون. " انبح، ما عاد لصوتي صدى، لا سامع يسمعني ولا فائدة مـن نبـاحي ولكـن انـبح "، " أنــا حمــار وأراهــم يبيعــونني بــثمن رخــيص.. وآخــر يذبحونه فائضاً عن الحاجة ولحمه غذاء لأسود الأغنياء.."

هذا هو مصير المواطن العربي تحت نير الاستدمار أو الاستبداد. لكيّ يكون مواطنا وطنيّا صالحا وخدوما ومطيعا ومفيدا، لا بد له أن ينتحل سلوك الكلاب التي تنبح ولا تعض، بل وبلا أنياب، والحمير التي تنهق، دون أن يكون صوتها منكرا (بفتح الكاف)، كما وصف في القرآن الكريم. ليمارس المواطن العربي غريزتي النباح والنهيق، ما شاء له ذلك، مادامت السلطة المستبدّة لا يزعجها ذلك السلوك. ولتخرج الجماهير العربيّة إلى الشوارع والساحات، وتمارس عادة الصراخ وتمطيط الحبال الصوتيّة، ما دامت السلطة المستبدّة بأسماعها صمم..

و يجد المواطن العربي نفسه معلّقا من عرقوبه، ولعبة في أيدي سارقي ماله وجهده وحياته. وضحيّة مراهنة حقيرة، طرفاها بعوضة وذبابة. لا خيار له؛ إما الموت قهرا أو صبرا. وهو عاجز على ردّ دمه الذي سلبته منه بعوضة الاستبداد، ولا ردّ راحته التي نغصتها عليه ذبابة التسلّط والقهر.

و من سوء حظ المواطن العراق الشقيق، مهد الأبجدية اللغويّة ومنبع الحضارة الإنسانيّة، أن يُبتلى بحروب متتاليّة بأبشع محتلّ متوحش في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. هذا الأخير سرق من عيون الأطفال والكبار الأمن والسلام.لكن العراق – كعادته- هو عنقاء العرب. يكبو كبوة الجواد، لا يموت أبدا، لأنّه يحمل في جيناته بذور الحياة. فالأرض " في قصة " عائد مع الريح " تضج بالصراخ، تهتز وتموج تحت أقدام الصمت، لأنّها تخفي أسرار الخلود. وهاهو البطل ينادي بأعلى صوته الأرض " أيتها الأرض أسكتي صراخ الأوراق فقد عثرت عليها في مجرّات مكتبتي بعد عودتي من المهجر " وهاهو يفتش عن مصير أصدقائه الذين فقدهم بعد اعتقالهم. و " ينبش التراب ـ شيء لا يقبلـه عقلـه ـ القصاصـات قـد تحولـت إلى رفـات بشـر قـد مضـى عليهـا دهـر. ملامحهـم ليسـت غريبـة ".

لكن المقاومة الشعبيّة لم تخمد نارها في قصة " حرز ". فقد انخرط فيها الأب والأم والأبناء. ورصاصة، الخلاص من المحتل الأمريكي الغاشم، مازات في جيب الأب " الرصاصة مازالت في جيبي... " وفي فم الطفل (الإبن) " فـتح فمـه وأخـرج لسـانه الملفـوف فـتح طياتـه وخرجت الرصاصة قلت لهم " في فم ابني ". " وهي إشارة ذكيّة من القاص إلى توارث روح المقاومة واستمرارها وديمومتها، وانتقالها من جيل الآباء إلى الأبناء والأحفاد. وستبقى تلك الروح سارية في نفوس الأجيال الصاعدة. إنّ الأمم الحيّة تصاب بالنكبات والنكسات والهزائم في أوقات عسيرة، ولكنّها لا تنكسر إلى الأبد، ولا تنعدم في أعماقها روح المقاومة واليقظة والتجدّد والانبعاث.

و حين يخيف الصغار المحتل الجبان، وتصرخ الأم في وجه الجندي المتغطرس " هذا يخيكم يا جبناء.. "، " لا تمد يدك القذرة..". يتحوّل الوطن إلى كومة من الوعي الملتهب. وتصبح الحريّة أولى وأغلى من الماء والخبز والهواء. وتسري في أوصال الشعب وأوردته وشرايينه دماء العزة والكرامة.

أراد القاص محمد الكريم أن يميط اللثام عن مأساة الشعب العراقي بعد سقوط البلاد في يد المغتصب الأجنبي، وسيطرته على دواليب الدولة . وهي مأساة شبيهة بمآس سابقة، كمأساة سقوط الأندلس في أيدي القشتاليين ومأساة سقوط بغداد في همجيّة قبائل التتار والمغول. ففي قصة " مذكراتي في الحرب ". حاول القاص رصد يوميّات الحصار وبداية الحرب القذرة. وأثرها الشنيع على الأفراد والأسر والمدن. وانتشار القلق والخوف بين السكان العزل، المسالمين، فقنابل العدو لا تميّز بين الضحايا، وكذلك رصاصه وحقده الدفين والمعلن. " بعد عشرة أيام من اندلاع الحـرب اشـتد الحصـار علـى بغـداد، بـدأ النـاس يهربـون مـن بغـداد بسـبب قلـة الغـذاء وانقطاع الماء والكهرباء حتى خلت العمارات السكنية من الناس وأغلب العمارات..."

لكنّ - لحسن الحظ – رغم الخوف والحصار والدمار بقيّ العراق، وسيبقى القلب النابض للأمة العربيّة والإسلاميّة، يعتّل، لكنّه لا يموت. لأنّ موت العراق خرافة غربيّة وأسطورة مجنونة.

و يحاول القاص محمد الكريم أن يلملم شتات السلام، ويرمّم ما أفسدته الحرب بلبنات الحب والموسيقى. أن يشعل قنديل الحب وسط عتمة البغضاء، لعلّ الحبّ والموسيقى يداويان جراح الحرب المجنونة. قد يوقظ العزف على أوتار القيثار سنفونيّة الحب في القلوب الجامدة والنفوس التائهة. وينتصر الحب والموسيقى على طبول الحرب وأزيز بنادقها ودويّ مدافعها وقنابلها. فمهما كانت الحرب قاسيّة، فإنّها لا تمحو عواطف الحب، ولا تخلو من بذور الأمل. " لكـن اليـوم اهـرب إلى القيثـار، اعـزف الشـعور الـذي يغمرنـي والموسـيقى الــتي تنسـاب وكـأني لم اعـزف أنـا. يولـد حـب في خافقي..فيّ رغبة جامحة..أؤلف قطعة موسيقية.. ثم ارتعاشة.. ".

و بين البطل وقلمه والصمت في قصتي " قيامة " و" هستيريا " صراع. يحاول البطل في تعاطيه مع قلمه أن يمسك بزمامه، لكنّه يتمرّد عليه، يحاول أن يورّطه في ما لا تُحمد عاقبته . " اقصد يكسـر قلمـي الـذي جعلـني ربـه. " . إن القلم أشدّ إيلاما من السلاح. وكم من كلمة نافذة أو قصيدة بليغة الحماسة أو مقالة رصينة الحكمة هزمت جيوشا جرّارة، مدجّجة بالأسلحة الفتاكة. وحين يفقد المرء لسانه وقلمه، فإنّ الصمت - وما أسوء الصمت في زمن وجوب الكلام – يلتهم الكلمات ويعتقل الصرخات ويمسي ملاذا شقيّا. " ابـدأ عزفـا علـى أوراقـي الـتي ظلـت محرقـة لأحلامــي البائســة وســط الســكينة كلؤلــؤة داخــل محــار تؤذيها ذرة رمل لا تقـدر علـى الصـراخ ولا اقـدر إلا علـى الصمت.. "

متى نتوب لنخرج من الحرب؟؟؟، متى نخرج من هذه المتاهة؟؟؟. هو تساؤل مشروع في قصة " أكوان بثقب... حوتي " . تاريخ العرب، من زمن داحس والغبراء وحرب البسوس، سلسلة من الحروب. حرب تلد حربا. وكأنّ الحرب وجدها ضالتها وتربتها الخصبة لتتناسل في بلاد القحطانيين والعدنانيين. الحرب الظالمة خطيئة إنسانيّة كبرى تستوجب التوبة النصوح . والعراق الأشم فُرضت عليه حروب قاسيّة وداميّة . أصابته لعنة الحروب الأهليّة والخارجيّة؛ حروب الردّة، حروب بين الأمويين وخصومهم من آل البيت، هجمات المغول والتتار، حرب ضد العثمانيين، ثم الانجليز، ثم التحالف الغربي وبعض الأعراب بقيادة الكوبوي الأمريكي. أجيال من الشعب العراقي، ولدت في زمن الحروب وعاشت في أجوائها، وماتت دون أن تنعم بالسلام والأمن. أكان العراق حبيب الحروب ومعشوقها؟؟ .

و العراق في سرديّات القاص محمد الكريم، في حاجة ماسة إلى الحب أكثر من الخبز. في حاجة إلى دفء الحبيب والعاشق الولهان في أمسيّات الصقيع العاطفي . في حاجة إلى قبلات فراتيّة ودجليّة. العراق لا تحرسه فوهات البنادق والمدافع فقط، بل تحرسه عيون الحب وشفاه العشق. العراق غير منقوص العدد والعدّة، بل منقوص الحب. لا بد للمواطن الصادق أن يتعلّم أبجدية العشق الوطني، قبل أبجدية اللغة، ويتقن فنون حب الوطن قبل حبّ الخبز والمال والبنين والجاه والسلطان. العراق في سرديّات القاص محمد الكريم مرآة غبشاء شوهتها أيدي العابثين والحاسدين والحاقدين...

و الفضاء القصصي لمحمد الكريم أسود الأديم كئيبه. يتحرك حول بؤرة الصراع المحتدم بين الموت والحياة. أبطاله المؤزومون يهرولون نحو الأمل والنجاة والسلام ويحاولون التعلّق بتلابيب الحياة، لكن اليأس يصدمهم، والموت قائم لهم بالمرصاد في كل زاوية من زوايا الحياة. أدارت لهم الحياة ظهرها، بصقت في وجوههم، ألقت بهم في دروب التسوّل للبحث عن قطعة خبز وشعاع كهرباء وشربة ماء غير آسنة. " امرأة ذات وجه شـاحب وطفلاهـا ينبشـون أكـوام النفايـات يبحثـون عـن قـوت يـوم واحـد.. الطفـلان تلمـع الشمس في عيونهما....يحملان كيساً مـن النـايلون محشـواً بمـا جمعتـه أيـديهما.". إنّها لوحة باكيّة ومبكيّة، تجسّد الجرح الغائر في جسد المجتمع العراقي بعد نكسة الغزو الصليبي الأمريكي . وهي صورة مشتركة بين كل شعوب الأرض، عندما يحكمها الطغاة ويغزوها الغزاة. هي صورة منتزعة وناطقة ومرسلة من اليمن (السعيد)، ومن سوريا وفلسطين ووو..

و الحياة في العراق الجريح، وكل البلاد المسلوبة الحريّة والكرامة " غرفة مظلمة يتدلى مـن سـقفها بنـدول.. " هذا ما تراءى لبطل قصة " البندول ". وهو شعور مأساويّ فظيع ومميت. وعندما تتقلّص مساحة الحياة إلى أمتار بين جدران سجن سيئ السمعة، تفقد كنهها ومعنى وجودها، كما اكتشف حقيقتها بطل " البندول " " هــل بقيــت حيــاة خلــف هــذا الجــدار الأســود ". ولمّا يبلغ سكين الألم العظم، تنسحب الأحلام الجميلة وتستسلم وتحترق، لتحلّ محلّها الكوابيس والظمأ الجنسي، وموت النشوة والشبق والمتعة ." ثلاثون عاماُ ولم يذق طعم الجنس " . وما يؤرق أبطال القاص محمد الكريم، هو البحث عن السلام، لأن بدونه يستأسد الخوف، و لا يتحقّق الأمن الجسدي والاستقرار الروحي. لقد زرع الطغاة والغزاة أرض العراق رعبا وفزعا، إلى درجة لم يسلم من طغيانهم الموتى. وهم يدّعون أنّهم حفظة سلام، ويتشدّقون ويتبجّحون بعبارات السلام والأمن، كما جاء على لسان بطل قصة " رسم خاطيء " " أي ســـلام وهـــي مـــلاذ للمـوتى، المـوتى فقـط يرقـدون بسـلام ! ولا يسـلمون مـن الســـحق مـــن قبـــل الطغـــاة والغـــزاة بغيـــة البحـــث عـــن المجرمين ". أجل السلام ليس كلمة تُلقى سبهللا في الأسماع، بل هو فعل مضارع ومثبت وصحيح ومتعدّ ومشتقّ وكريم النسب والحسب، منبعه الحب الإنسانيّ الصوفيّ، وله ثمار يانعة في النفس البشريّة الأبيّة .

أبطال القاص محمد الكريم، محرومون من نعمة الحياة الإنسانيّة. طحنتهم رحى الاستبداد والاحتلال والحروب المتناسلة . لم ينج منها صغير أو كبير أو كاتب أو شاعر أو أميّ أو مذنب أو بريء أو امرأة. طحنتهم دون تمييز. وصارت صور القتل والدماء المسفوحة على الأرصفة والطرقات والساحات والجثث المرميّة، المقطوعة الرؤوس صورا مألوفة.

" اسـتدار إلى الرصـيف لمحـت عينـاه أكـداس جرائـد تتجمـع فـوق جثـة رجل زاحها عنـه وجـده بـلا رأس. " هكذا هي يوميّات المواطن الرازح تحت وطأة الخوف. يأتيه الموت من حيث لا يشعر. حلمه أن يجد من يستره بقصاصات جرائد، لا تحمل في صفحاتها سوى أنباء الحرب والاغتيال والنعي .

" أطبقت الجريدة وزاد توتري من الأوهـام الـلا طعـم لهـا محــاولا الخــلاص منــها بحنق فلم أجد حاوية نفايات. غطيــت بهــا جثــة كانــت هامــدة علــى الطريــق مقطوعــة الرأس. "

و بعد.. فإنّ سرديات محمد الكريم رسمت لنا أبعاد الأزمة الإنسانيّة في العراق المجيد. وهي أزمة من مخرجات الاستبداد السياسي والثيوقراطي والتحريف الممنهج للتاريخ واستغلال العناصر السلبية من التراث. إنّ الغرب هو السبب المباشر في تغوّل الاستبداد وغياب الديمقراطيّة والحريّة في البلاد العربيّة، لأنه يعلم ما ستفعله الشعوب العربيّة في الحرية والديمقراطيّة .

و أسلوب القاص محمد الكريم – رغم ترهّله وتهلهله في بعض النصوص – غلب عليه الضمير المتكلّم (الأنا). وهو ما أضفى عليه صبغة التجربة الذاتيّة.

إنّ قصص القاص محمد الكريم وليدة بيئة كئيبة، سوداء، قلقة، لامس بها حدود المخيال - أحيانا - قصد اللجوء إليه، هروبا من مقصلة الواقع المرّ.

هي دفقات ألم غائر، نابعة من قلب الوطن الجريح . هي صرخة قلم حرّ، أبيّ، يأبى الصمت والخنوع، وتجليّات لما عاشه القاص وعايشه من يوميّات الاستبداد والحرب في وطنه الذي أهدى للإنسانيّة أبجديات القانون والحضارة الراقيّة، ومنحها قصائد السلام وخزائن العلوم والفنون.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي - الجزائر

 

في المثقف اليوم