قراءات نقدية

ملحمة عِشق أحوازية.. رواية واقعية تستنطق التاريخ وتعانق الأحلام الفردية

صدرت عن دار "أروقة للدراسات والترجمة والنشر" في القاهرة رواية جديدة للشاعر والروائي الأحوازي محمد عامر تحمل عنوان "ملحمة عِشق أحوازية" وهي الرواية الرابعة في رصيده الإبداعي الذي يتلاقح فيه الواقع بالخيال. فالرواية الأحوازية، أو العربستانية إن شئتم، هي رواية واقعية بامتياز وتستجيب لاشتراطات الواقع الذي لا يحتاج حتى الآن إلى التيارات الحداثية مثل السوريالية والمستقبلية أو ما بعد الحداثية، ولا حتى إلى النَفَس العجائبي أو الغرائبي الذي تفرزه المخيّلة المُجنّحة للروائي. فالأحواز بمدنها الكبيرة وبلداتها الصغيرة وقراها المتناثرة ضمن حدود الإقليم العربستاني هي أرض عذراء لم تتلوّث بمنظومة قيم المدينة وأخلاقياتها المتحررة التي تجرح ابن الريف ولا تنسجم معه تمام الانسجام ولعلها تُوخزه في كثير من المواضع الحسّاسة التي لا تحرّك ساكنًا في ابن المدن الكوزموبوليتانية الكبرى التي تتناغم مع نظيراتها من العواصم والمدن العالمية المبثوثة على سطح المعمورة. وربما يكون محمد عامر، وهو الشاعر الشعبي المجوِّد، والروائي الحصيف الذي يطوِّر عُدّته السردية في كل نص روائي جديد، ويتفوق على نفسه. وهذا ما لمستهُ شخصيًا من خلال قراءتي لرواياته الثلاث السابقة والكتابة النقدية عنها وهي على التوالي: "الاغتيال" و "طيور الأحواز تحلّق جنوبًا" و "سبعة أيام حُب"، بل أن هذه الرواية الجديدة هي الأنموذج الأفضل للرواية الأحوازية حتى الآن في الأقل لجهة حبكتها، وتطوّر أحداثها، ونموّ شخصاياتها، ورسم معالمها الزمكانية، وأكثر من ذلك فهي رواية مكانية بامتياز تحتفي بالمدن الكبيرة مثل الأحواز وعبادان والمحمرة والبسيتين، والقرى الصغيرة مثل المنيوحي وجميّان وشنّة وما سواها من القرى الأحوازية المبثوثة في عموم الإقليم، وتتجاوزها إلى البصرة والعمارة وبغداد والكويت ولندن. ورغم أهمية المدن العالمية الأخرى إلاّ أن المدن الأحوازية لها نكهتها الخاصة التي لا يمكن أن تنساها الشخصيتين الرئيستين وهما الدكتورة رباب علي دنياري والمهندس الكهربائي رحيم غديّر الباوي المُلقب بالملاّ لإلتزامه بأداء الفروض الدينية المتعارف عليها.

النَفَس التراجيدي في أدب المقاومة والسجون

تنطوي حبكة هذا النص الروائي على نَفَس تراجيدي لأسباب عدة من بينها حبس الطبيبة رباب في سجن السافاك في مدينة عبادان في زمن الشاه، وفقدانها المؤقت للبصر، واستشهاد  المهندس رحيم غديّر الباوي في خاتمة حياته النضالية من أجل تحقيق مطالب الشعب العربي في الأحواز. وبما أنّ الرواية بخلاف عنوانها المحدد الذي يتمحور على "ملحمة عِشق أحوازية" فإنها تنتمي بشكل أوسع إلى أدب المقاومة والسجون، فغالبية شخصيات الرواية إن لم أقل كلها باستثناء الشخصيات الفارسية التي تمثل السلطة وأجهزتها الأمنية وبعض الخونة الأحوازيين الذين غدروا بأمتهم ولم يراعوا عهدوها هم الذين يقعون خارج إطار المقاومة ويُحسبون على الجهة القامعة مهما كان شكلّها ومضمونها السياسي والفكري والديني. إنّ الحديث عن تطلعات الشعوب المقموعة في أي بلد قد بات أمرًا طبيعيًا وأن المطالبة بحق تقرير المصير لم يعد يثير حفيظة أحد، فاستقلال أسكتلندا في بريطانيا العظمى، تمثيلاً لا حصرًا، يُثار بين أونة وأخرى من دون أن يحدث زوبعة حتى في فنجان مكسور، وإنما يُترك للاستفتاء الجماهيري الذي يقول الكلمة الفصل وليس للحكومة البريطانية نفسها. وعلى وفق هذا المنطلق بدأت القوميات المقموعة في الشرق الأوسط بالمطالبة التدريجية بالحقوق القومية والتاريخية واللغوية، ثم صعّدت من سقف مطالبها إلى الحكم الذاتي، كما حصل في العراق، وذهبت أبعد من ذلك حينما أصبح العراق دولة فيدرالية، فلاغرابة أن تتطلع القوميات الأخرى مثل العرب والكورد والبلوش والأذربين في إيران إلى الحكم الذاتي كخطوة أولى في الأقل، ثم المطالبة بحق تقرير المصير، وهذا ما يحلم به غالبية أبطال رواية "ملحمة عِشق أحوازية" بشخصياتها الرئيسة والثانوية المتنوِّرة. لا تخلو الرواية من بعض اللمسات الرومانسية الحالمة عند رباب وخالتها سكينة التي تتحدث عن الموروثات الجينية التي تثور على الواقع القَبَلي وتتحداه في عقر داره مع الإشارة إلى أنّ هذه الشخصيات ليس هروبية ولا تميل إلى مُقاطعة الواقع ومغادرته نهائيًا. تحتفي هذه الرواية بالمدن والقرى الأحوازية وربما تتجاوزها إلى مدن إيرانية أخرى مثل شيراز وأصفهان وكيلان ومازندران حيث يتنقّل بعض الشخصيات سواء الهاربة منها أو التي تبحث عن الراحة والاستجمام فيها.

ينطوي الهيكل المعماري لهذه الرواية على قصص ثانوية أشبه بالينابيع الفرعية التي تغذّي النهر الكبير للرواية وتمدّه بالكثير من الرموز والإشارات والمُعطيات الدلالية التي تكشف عن الذهنية الأحوازية وطريقة تفكيرها ضمن هذا الخليط الاجتماعي الذي تتسيّد فيه القومية الفارسية على باقي القوميات، فالأولى هي المركز وبقية القوميات لا تمثل إلاّ الهوامش والأطراف.

ربما تكون الملحوظة الأهم في هذا المقال هي تطوّر الروائي محمد عامر بشكل واضح فيما يتعلّق بالسرد اللغوي الذي بدأ يتوهج في بعض المقاطع ويقدّم فيها رؤية سردية تتألق فيها اللغة والأفكار والصور الشعرية في آنٍ معًا، الأمر الذي يُخرج القارئ من الرتابة السردية التي لا تُضفي للمتلقي شيئًا وتحرمه من المتعة الإبداعية التي يجب أن تكون حاضرة على مدار النسق السردي المحصور بين الجملة الاستهلالية والجملة الختامية.

العاشق والمعشوق يتناصفان دور البطولة

ثمة شخصيتان تتناصفان دور البطولة في هذه الرواية وهما المهندس الكهربائي رحيم غديّر الباوي الجبوري، والطبيبة رباب علي دنياري اللذين درسا معًا في جامعة شيراز، وتعارفا هناك، وأحبّا بعضهما بعضًا حُبا جمًا ولم يفرِّقهما سوى الموت أو الاستشهاد في سبيل الوطن. دعونا نبدأ بشخصية رباب، وهي ابنة ميسورة الحال للمهندس علي دنياري الذي يعمل في مصفى عبّادان. وسنعرف لاحقًا أنه حاصل على الجنسية البريطانية بعد أن درس وعاش هناك، وردّد قَسَم الولاء للملكة، وتعمّق في معرفة المجتمع البريطاني، وآمن بقيمه الفكرية والأخلاقية والاجتماعية. وحينما تخرّجت رباب في كلية الطب في شيراز عقدت العزم على الزواج من حبيبها رحيم الذي يُلقّب بالملاّ لالتزامه بالفروض الدينية. حاول الوالد علي دنياري أن يجد لرباب عملاً في مستشفى شركة النفط في عبادان لكنها كانت تفضّل العمل في قرى عبادان ولم تجد ضيرًا حينما عُينت في قرية "المنيوحي" التي تبعد مسافة 30 كم غرب عبّادان. ثمة حكايات جانبية كثيرة سنتوقف عند بعضها الذي يسلّط الضوء على شخصية الطبيبة رباب ومنها شخصية المتمارض، راكب دراجة المنفوش الشعر الذي قال بوقاحة:"إنّ علاجي ليس وصفة تُكتب، ولا دواء يؤخذ . . . علاجي هو أنتِ التي سلبتِ منّي فؤادي، وسرقتِ النوم من عيوني، بصراحة أيتها الفاتنة أريد الارتباط بكِ". فردّت عليه بنبرة قاسية لا تخلو من نَفَس عنصري، وفظاظة وخشونة في التعبير حيث قالت بثقة كبيرة:"أنا فتاة عربية ولن أرتبط برجل فارسي حتى لو كان ملِكًا متوّجًا، أهلي بالمقابل لا يوافقون على ارتباطي بمن هو ليس من ملّتي، وليس قريبًا من ثقافتي.. " وأضافت بأنّ الفُرس يتنكّرون للعرب الأحوازيين ويمنعونهم من استعمال لغتهم الأم ومن أجل توضيح التباس القصد قال: "صحيح أنني أتكلّم الفارسية، ولكني عربي واسمي مهدي بن تميم، وهذه إجازة السياقة تطلّعي فيها". سيتعلّم مهدي بن تميم بمرور الزمن اللغة العربية، ويتخلى عن سلوكه المشاكس، ويتحول إلى أخ حميم لرباب يؤازرها في المواقف الصعبة.

على الرغم من أنّ الدكتورة رباب هي أنموذج لشخصية وطنية وثقافية بامتياز وهي تشبه إلى حدٍ كبير شخصية الملاّ في تعلّقه بالثقافة وحُبِّه للكتب والمطالعة الخارجية البعيدة عن تخصصه العلمي، فهي تذهب معه إلى السينما والمسرح وتتعاطى مع الفنون القولية وغير القولية وتتذوقها، وتجد فيها ضالتها المنشودة لكنها بالمقابل تفضل الريف على المدينة، وتحب العمل في القرى والبلدات النائية، وتتعاطف مع الناس البسطاء، وتحاول مساعدتهم قدر المستطاع. وحينما نتأمل هذه الشخصية المثقفة سنكتشف من دون لأي أنها تحب الطبيعة الأحوازية على وجه الخصوص وتتماهى في أشجارها ومائها وسمائها وهذا ما يفسِّر اختيار قرية "شنّة" مكانًا لموعدها العاطفي مع حبيبها المهندس أو الملاّ رحيم حيث يتسامق فيها النخل، وتتشابك فيها الأشجار المثقلَة بالثمار.

تصعيد النَفَس الدرامي

تُصعِّد شخصية رباب النَفَس الدرامي في الرواية فهي امرأة شجاعة وتتحمل نتيجة المواقف البطولية التي تتخذها. فذات مرة دخل سائق الإسعاف فارس الضاري وأخبرها بأنّ هناك رجلاً مُصابًا برصاصة في جانبه الأيمن وهو ينزف بشدة بصحبه رجل آخر يسندهُ فزرقتهُ بحقنة مُهدئة في الوريد لتسكين الألم وأمرت بنقله إلى المستشفى لكنّ الشخص المرافق له اعترض وقال مُحذرًا:"أن يموت هنا وحده أفضل من أن يموت بين أيدي الجلادين، وسيجرّ معه من لا يستحقون الموت بطريقة وحشية". فردّ المُصاب قائلاً:"دعها تفعل ما تراهُ مناسبًا يا قاسم، أنا موافق على ما تقررهُ". وفي خضمّ هذه اللحظة الإشكالية العصيبة بين أن يفقد المُصاب حياته أو يتهدّد مستقبلها الوظيفي قررت الذهاب إلى صيدلية "الهلال" في وسط المدينة بعد أن تعرفت على أنّ المصاب هو عبدالناصر، زميلها في الدراسة، وأنّ الصورة التي سقطت من جيبه هي صورة والدته سعدية، فتذكرت والده عبدالرزاق الذي يعمل في مصفى النفط في عبادان. وعندما طلبت شراء قائمة بالأدوية والأمصال وكل مستلزمات التعقيم والتضميد طلبت من السائق أن يتجه إلى بيتهم القديم وشرعت من فورها بمعالجته، وواظبت على تطبيبه لخمسة أيام متتالية لكنه اختفى مع مرافقه في اليوم السادس، وكم كانت صدمتها كبيرة حينما رأتهما على شاشة التلفاز مع مجرمين آخرين متهمين بتهديد أمن البلاد وسلامة العباد. ومع أنها أخفت هذه الورطة عن والدها لكنها ستبوح بها ذات يوم وتعتذر له عمّا سبّبته من قلق لبعض الوقت.

يقترح عليها الوالد أن تذهب إلى سينما "ركس" لمشاهدة فيلم جديد بعنوان "گوزنها" أي "الغزلان" للمخرج مسعود كيميايي لكنها لم تستطع إكماله فخرجت من القاعة وعادت إلى منزلها بتاكسي ولسوء حظها وقع انفجار ضخم في مبنى السينما وراح ضحية قرابة 400 مُشاهِد وتمّ توجيه التهمة إليها فأقتيدت إلى سجن السافاك حيث تعرضت للتعذيب وحينما سحبها أحد السجانين ارتطم رأسها بالباب الحديدي ففقدت بصرها الذي سيعود إليها بعد إجراء عملية جراحية في لندن. وحينما يطلب منها الوالد الجصول على الجنسية البريطانية والبقاء في المملكة المتحدة ترفض الفكرة جملة وتفصيلا وتقرر العودة إلى الأحواز حيث تقول بحسرة:"هناك أرضي وتاريخي وطفولتي وصباي. . . هناك يا أبي ذكرياتي ووجعي وحبي ومأساتي، هناك بقايا من رائحة آثار رحيم العالق في مخيلتي، هناك عالمنا الذي لا مفر منه إلاّ إليه".

ضحيّة النظام الشاهنشاهي

ترفض رباب العمل في مستشفيات شيراز لأنها أرادت أن تحقق رغبة رحيم في العمل في مستشفى عبادان وتقديم الخدمة لأبناء جلدتها وبما أنها من ضحايا النظام الشاهنشاهي السابق فإنها تطلب العمل في مخيمات متضرري الحرب بالتعاون مع بعض المتطوعات الأحوازيات. وهناك تطلب منها امرأة عجوز أن تعالج ابنها المريض الذي صادف أن يكون في العراق وهرب إلى الكويت ثم تسلل إلى إيران وتبيّن أنه يعرف الملا معرفة جيدة ونصحها بأن تبعث رسالة إلى السفارة العراقية في الكويت لكنها قررت الذهاب بنفسها وتأكدت بأن الملا رحيم غديّر قد استشهد وهو يقوم بواجبه القومي المقدس على أرض الأحواز. وقد أغمي عليها حينما سمعت الخبر الصادم وحينما استعادت وعيها قالت متسائلة:"لماذا لم تحقق لي هذه الحياة أمنية صغيرة بحجم القلب.. لماذا؟".

أمّا الشخصية الثانية التي تناصفت دور البطولة مع رباب فهو حبيبها المهندس الكهربائي رحيم غدّير الباوي الجبوري الذي ركّز على النشاط الثقافي والأدبي لأنه "باقٍ وعمره أطول، وفعلهُ أمضى وأكثرُ بلاغة". يتعرّف الملا على شخصيات أحوازية ثورية كثيرة لا يمكن الوقوف عندها جميعًا ولعلها تحتاج إلى دراسة نقدية منفصلة من بينها  أبو مطرود وحسن مويش وفلك الكنعاني وحبيب شمال وغيرهم الكثير. وهناك من يظهر إلى السطح لكنه سرعان ما يعانق الشهادة مثل ناصر محمد منصور الذي التحق بجيش تحرير الأحواز خلال الحرب العراقية- الإيرانية وأُصيب برصاصة قناص في رأسه واستشهد في الحال. أمّا شقيقه عادل فقد أرسله والده إلى عبادان ليتلقى تعليمه الثانوي وهناك لفت انتباه الملا بذكائه وحدّة بصيرته.

لجأت "الحركة الجماهيرية" في زمن الشاه إلى القيام ببعض الأعمال التعرّضية التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالعدو فالملا يريد أن يتبِّع "سياسة القتال من دون سلاح" مثل تفكيك بعض محطات الكهرباء الفرعية وإغراق المدينة في ظلام دامس، وملء الخزان الكبير المتهالك بالماء لينفجر من الجهة المتآكلة ويحرم المستوطنين والمرافق الحكومية والشركات الصناعية من الماء العذب، وحرق مخازن المواد الغذائية التابعة للأسواق الخاصة بشركة النفط، والقيام بعملية نوعية في مصفى النفط وحرق الشاحنات المعبأة بمختلف أنواع الوقود الذي يزوِّد المدن الإيرانية الأخرى. وسوف يتطور الأمر لاحقًا إلى أعمال المواجهة العسكرية بعد إندلاع الحرب العراقية - الإيرانية وانضمام الكثير من الأحوازيين إلى "جبهة تحرير الأحواز"، و "مجاهدي الشعب العربي المسلم"وغيرها من الجبهات التي تؤمن بالكفاح المسلّح.

كان الثوار الأحوازيون يصيخون السمع لخطابات الإمام الخميني التي يؤكد فيها على حقوق الشعوب الأخرى بالمواطنة، والعيش الكريم، والتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الأولى لكن الثورة الإسلامية لم تفِ بوعودها، وأعربت القوميات الأخرى عن خشيتها من مصطلح "المُستضعفين" الذي ينطوي على نبرة التوسع وبسط النفوذ على البلدان المجاورة. كما يتوقف السارد العليم عند موقف المرجع الديني محمد طاهر الخاقاني الذي ساند الإمام الخميني من المحمرة لأنه كان أستاذًا وصديقًا له غير أن حسابات الحقل تختلف عن حسابات البيدر دائمًا وتبيّن أن القادة الفرس وإن اختلفت تسمياتهم وعناوينهم فإنهم ينظرون إلى القوميات الأخرى المتعايشة معهم نظرة دونية لا تخلو من التكبّر والغطرسة والازدراء.

يتغيّر موقف الملا من رفض الاقتتال وإراقة الدماء إلى حمل السلاح ومواجهة الغزاة الذين احتلوا الأحواز في الربع الأول من القرن العشرين وغمطوا الشعب الأحوازي حقوقه القومية واللغوية والإدارية فلاغرابة أن تحدث عمليات تعرضية تستهدف شركة آريا للملاحة، وأنابيب النفط الممتدة من عبادان إلى بقية المحافظات الإيرانية، وبالمقابل شنّت الحكومة الإيرانية هجمات معاكسة على الثوار الأحوازيين وقتلت الكثير منهم، وزجت البعض الآخر منهم في السجون والمعتقلات المبثوثة في إقليم الأحواز وخارجه.

ينتقل الملا ومن معه إلى العراق لتطوي الحركة الجماهيرية صفحتها القديمة ويبدأوا عهدًا جديدًا يتناغم مع توجهات الحكومة العراقية التي ساندت المقاومة الأحوازية، ونظمت صفوفها، وزوّدتها بالأسلحة والذخائر. وقد استشهد الكثير منهم وعلى رأسهم المهندس رحيم غديّر الباوي الذي غادر جسده لكن روحه ظلت تحوم في السماء الأحوازية المستباحة التي تنتظر منذ قرن من الزمان إشراقة شمس الحرية.

تغطي رواية "ملحمة عَشق أحوازية" حقبتين زمنيتين طويلتين نسبيًا وهما حقبة الشاه الملكية، وحقبة الجمهورية الإسلامية التي مضى عليها أربعة عقود ونيّف. كما أن الرواية تمتد مكانيًا من إقليم الأحواز مرورًا ببعض المدن الإيرانية الكبيرة مثل شيراز وگيلان وطهران، وانتهاءًا بالبصرة والكويت ولندن إلاّ أنّ غزارة الأحداث، وكثرة الشخصيات وخروجهما عن الحدّ المعقول هو الذي يُربك القارئ المحترف فكيف بالقارئ العادي الذي يهتم بالهيكل العظمي للقصة السردية ولا يلتفت إلى التفاصيل كثيرًا.

الاحتفاء بتجليات اللغة الأدبية

كُنّا قد نوّهنا في بداية المقال إلى أهمية التوهج اللغوي الذي يُشعِر المتلقي بأنه يقرأ نصُا إبداعيًا يحتفي بتجليات اللغة المُطعّمة ببعض اللمسات الفنية والفكرية فمجرد الإشارة الإشارة إلى فيلم "گوزنها" لمسعود كيمياوي توحي لنا بأنّ الروائي محمد عامر يحاول ترصيع الرواية بالميتاسرد البصري، وأنّ ذكر أسماء الثوار  مثل جيفارا وزاباتا يعطي الانطباع بأن السارد العليم مطلّع على ثقافة أمريكا اللاتينية ويسعى لتوظيف بعض جوانبها في نصه الأدبي. كما أنّ نقاشات رباب مع مدرِّس التاريخ المتعصب أردشير غلامي تحرِّض المتلقي على البحث والقراءة والتقصي للتأكد المعلومات التاريخية التي يعتمد عليها الطرفان المتحاوِران.

وعودًا على تقنية الترصيع والتطعيم والتشذير نورد بعض الأمثلة المقتضبة التي تدلِّل على البراعة اللغوية للراوي العليم وهو يتحدث عن لغة الأصابع بعد أن فقدت رباب بصرها حيث يقول:"توحّد الكفّان في روح واحدة لتبدأ لُعبة الأصابع، فالأصابع التي لا تعرف الحب هي أصابع عمياء، أو لا تستحق الحب.. فالذي لا يعرف ملمس الأصابع لا يعرف نبض القلب". وفي موضع آخر يقول علي دنياري لابنته رباب التي كانت قلقة معتكرة المزاج:"تناولي طعامكِ ولا تفكِّري في الغد لأنه ليس مِلكنا، الغذ سيأتي حاملاً معه ما لا نعرفه أو نُدركهُ، وسيأتي اليوم الذي يليه حاملاً معه الحل لما مضى، فكل ما سيأتي يكون دائمًا الأفضل".

على الرغم من نبرة رباب العنصرية التي تكشّفت في حديثها مع المشاكس مهدي بن تميم الذي ظنّتهُ فارسيًا أول الأمر ثم تبيّن أنه عربي يتحدث بلغة عربية مهلهلة ومعطوبة إلاّ أنه بالمقابل هناك شخصيات إيرانية تعدّ أنموذجًا إنسانيًا راقيًا مثل سهراب كياني وزوجته الفاضلة زليخا، فسهراب الذي كان أحد المسؤولين الكبار في مدينة عبّادان لم يتأخر لحظة واحدة في تقديم يد العون والمساعدة إلى الحاج سالم الذي قدِم هو الآخر بطلبٍ من حبيب شمال لأنّ الملا كلّفه بذلك. ورغم أنه سهراب كياني لم يفلح في إخلاء سبيل رباب من سجن السافاك الشاهنشاهي إلاّ أنه عرف مكان احتجازها، والسبب الذي دفع السافاك للقبض عليها، والإصابة التي حدثت لها، وخشية الجهات الأمنية من إطلاق سراحها لأنها ستسبب لهم إحراجًا كبيرًا أمام الرأي العام محليًا ودوليًا. أمّا زوجته زليخا فلقد دهست شخصًا عربيًا بسيارتها وأصرّت على أن تتحمل نتائج خطئها. فهذا النمط من الشخصيات الإنسانية الراقية يدفعنا إلى التأمل قليلاً قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، فلا يؤخذ الجميع بجريرة البعض الذي قد يكون متوترًا وعنصريًا وعدائيًا.

كنت أتمنى على الروائي محمد عامر أن يقسّم هذه الرواية إلى عملين أدبيين ينتهي الأول بهروب الشاه محمد رضا بهلوي من إيران ولجوئه إلى القاهرة، ويبدأ الثاني من مجيء الإمام الخميني حتى عودة بصر رباب وعملها في مخيمات متضرري الحرب لمساعدة الناس الفقراء وتعليمهم اللغة الأم التي جُبلوا عليها. تجدر الإشارة إلى أنّ هناك روائيين أحوازيين قدّموا منجزًا ملموسًا مثل عدنان غريفي، وأحمد أغايي، ومسعود ميناوي، ومريم كعبي، وصادق حسن، وسعيد مقدّم أبو شروق، وعمّار تاسائي الأحوازي وغيرهم الكثير لكن يظل محمد عامر هو أغزرهم إنتاجًا، وأرهفهم لغةً، وأكثرهم استنطاقًا للتاريخ الأحوازي.

***

عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم