قراءات نقدية

"تَفُنست".. هرمنتيقا اللّغة وميتابنيوية النص

مَوْلود أدبي من المقامات الحمّادية، هي رواية الذّروة وبوابة العالم المخملي إنّها  "تَفُنسِت" رواية بقلم عرّابها الدكتور " عبد الله حمّادي"، فخامة المقام وثقل المنجز تجعل القارئ يُهيّئ نفسه لدخول عالم اللّغة المخملي من أوسع أبوابه فيتوغّل من حيث لا يشعر ويكتشف بذخا وثراء ينمّ عن عبقرية صاحبها.. ليس بالهيّن أن تقرأ للدكتور حمّادي وهو القائل عن روايته: " هذه رواية " تَفُنَسِتْ " بطلها الأساسي اللّغة.. .وفضاؤها التراث.. لذا ليس من السّهل الاقتراب منها، وها أنا كمن سبقوني أخوض غمار التجربة وأقترب منها ومن كتاباته، بل وأتماهى في منتوجه الأدبي، فأجدني أخلع نعلي، وأتطهّر، وأنهِض عباءتي، كي أدنو من ذلك العالم الغارق في الغرابة اللّذيذة المتفرّدة..

إنّ الرواية جنس أدبي مادته اللّغة الّتي هي أساس الجمال في الإبداع الأدبي، بصفة عامة،و قد أصبحت اليوم هي الأساس المتين الذي تقوم عليه الرواية الحديثة، بعد أن فقدت الشخصية(Personnage) دور البطولة المطلق في الرواية فيكاد لا يبقى لها غير جمال لغتها وأناقة نسجها، فالكتابة الابداعية تعتمد على الكلمة وهذه الأخيرة هي التشكيل الأوّل في البناء اللّغوي، وهذا الملمح هو الذي يجعلنا نقف عند رواية " تفنست "التي تعتبر حقلا خصبا للّغة بصفتها بطلا أساسيا ومستويات اشتغالها أحد عناصر التجديد ومتحكمة في طرائق السرد والوصف لدى الكاتب.إن بروز اللّغة في الرواية ليس من باب الاحتفاء بها وزخرفتها واستعراض الكاتب لكمّ ما يحوزه من بلاغة وفصاحة بقدر الاشتباك معها بوصفها إشكالية في ذاتها.فلم يعد السّرد الروائي لدى الدكتور حماّدي ممارسة أدبية أو عملا كتابيا ذا رسالة تثقيفية وإنما هو فاعلية فكرية يعبّر من خلالها عمّا لا يستطيع التعبير عنه تقريريا. ومن وجهة فلسفية يمكننا اعتبار هذا النوع من السّرد الحكائي في روايتنا، وسيلة يكشف بها الكاتب عما هو مسكوت عنه او مخبأ مفكّكا الصّلد من المسلمات ومشتّتا المتراصّ أو المركزي من الثّوابت. فالمتوغل في صلب الرواية، من خلال الأنساق اللّغوية،يستشفّ بروز الرمز (السنونو، اللّقلق، المدّاح،.. .. )، والصورة، والإيقاع، والتواتر، والغموض، والتناص(استبدال نصوص تراثية وشخصيات تاريخية بشخصيات معاصرة كمقابلة كسرى بن هرمز والنّعمان بن المنذر بشخصيتي بوش الإبن وصدام حسين ).. الخ. وهي السّمات الواضحة المعالم في روايتنا للدكتور حمّادي. دَنَوْت من الرواية وكنت أكثر جرأة في تحليلها على شاكلة كاتبها الذي كان أكثر جرأة في نسجها وسردها بل ونظمها. فرحت أستهلّها بعنوان هرمنطيقا اللّغة (Hermeneutique )،وميتابنيوية النص فقد آل فنّ التأويل أو الهرمنطيقا إلى تأويل النصوص الأدبية وتقديم معان جديدة لها، بالاعتماد على العلوم اللّغوية الأخرى. وهي تستمد مشروعيتها من الجهد الذي تبذله للقضاء على شعور الاغتراب عند المتلقي، وهو ما يحول بينه وبين فهم النّص. لذلك بات من الضروري تأويل نص الرواية من منظور ماوراء الظاهر إلى ماهو ممكن الفهم فبنية النص في "تفنست" تتجاوز حدود الشخصيات والفضاء إلى تفكيكية اللّغة وبنيتها وهو عينه التوجّه الفلسفي مابعد الحداثي.أديبنا حمادي يتخطى حدود التقليد في ضرورة فهم مضمون النص وإملائه على المتلقي، إلى إشراكه في التأويل والفهم الذاتي للنص بما يظهر له وهوما يقارب فينومينولوجيا الاغتراب.

دلالة العنوان:

"تفنست " عبارة بسيطة في بنائها ومباشرة في دلالتها، غريبة من حيث التداول تجعل القارىء يُشَدّ بالفضول ولهفة التّحدي فيسارع الى مضمون النصّ لفهمها، فلا يمكن أن يهتدي إلى دلالة العنوان إلاّ بعد أن يقطع شوطا عظيما في قراءة الرواية أو يكمل قراءتها فيقف على الأسرار المختبئة في زوايا السّرد. وعندئذ يقارن بين انطباعه الأوّلي والمعنى الروائي الذي استحصد في نهاية المطاف، بعد الوقوف على البنية العميقة للرواية.استنادا إلى المنهج الفينومينولوجي الهرمنطيقي أجد نفسي أتعدى سطحية العنوان،من مجرّد اسم لفتاة في الرواية ـ تشارك البطل في السفر وتبادله الحوار ـ إلى دلالة المكان الذي يمثل معنى الاسم " تفنست "، هل هو عيون المها؟ ام له دلالة أخرى، وهذا مالم يؤكّده الراوي ولم يذكر سر عنونة الرواية به، وكأنّه يقحم المتلقّي ويشركه في ضرورة البحث عن دلالة العنوان بغية الوصول الى تمام المعنى الذي قد يجده عند القارىء، ويبعد نفسه عن مركزية المعرفة بموضوع الرواية، ووجد أنّه لا جدوى من إجهاض الشغف الناجم عن معرفة المجهول والكشف عن غرابة الاسم، إلاّ ضرورة الحبل في لحظة تجاهل خارج مجال حقل الإخصاب اللّغوي الدّلالي وخارج رحم الابداع الحكائي، كي تكون دلالة مجازية دارجة في العرف الثقافي مغايرة للدّلالة السطحية التي تبدو خافتة إلى جوار هذه الدلالة المجازية، وهي دلالة الإيعاز والحث للمتلقّي بضرورة الاطلاع على الموروث الحضاري الترقي وغنى منطقة الأهقار الجنوبية .

سميائية المكان والزمان:

يشكل كل من المكان والزمان الروائيين أحد المكونات الأساسية التي بنى كاتبنا عليها روايته. فهما يدخلان في علاقات متعدّدة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤى السردية. فتنشأ بذلك علاقة متبادلة، بين الشخصية والمكان، وهي علاقة ضرورية، فنجد أديبنا الحمّادي يغني الرواية بزخم من الأمكنة المتحركة من أقاصي الأرض إلى أدانيها معتمدا في ذلك على ذاكرة البطل وعزف سنفونية اللّغة السّامقة الثرية الفارسة.فلا يثبت الكاتب ببطله على مكان معين، فتارة يحلق به جوا ليحط الرحال في المطار، ويغادره إلى رحاب البر المترامي الحدود في قوله: " جال أخموت بنظرته الغائرة في كبد السّماء، وتملّكه فزع وحنين فاتر جعله يترك وراءه ذاك المطار التعيس.. "، هاهو يجوب شوارع باريس وباراريها عبر القطار " انطلق القطار مخلّفا وراءه أحياء باريس الممهورة بالسماء الرصاصية الداكنة.. " أمّا عن التداخل الزمني مع المكان، فنجد الكاتب يشذّ عن النمطية، فإذا كان الزمن في القصة والرواية كلاسيكيا يعني الزمن الماضي، فإنه هنا في روايتنا يعني الحركة إلى الأمام والعودة إلى الخلف والقطع المتوازي الذي يعرف سنمائيا الفوتومونتاج، حيث استطاع الكاتب ان يهشّم المسار الزمني، فلم يتقيد أديبنا بالخطّ الزمني الطولي او الدائري، لكنه أحدث فجوات زمنية وقفزات وانحرافات في مفاهيم الزمن (يتحدث عن زمن الاندلس ثم يعود الى زمن تينهنان).

و رغم أن الغاية من كتابة الرواية لم تكن أخلاقية، لم يخل نصّه من المقاصد والمرامي الأخلاقية، رغم ذلك فهدف الأديب الأول هو محاولة اكتشاف الحياة واكتشاف الذات والآخر واستبطان الذات من خلال الآخر وتجارب الآخر.

الرواية الحمّادية ذات سمات معاصرة، تحدث تحوّلات فنية في أبنيتها قياسا إلى الروايات الكلاسيكية المتداولة، فقد أحدثت قطيعة معرفية شبه كاملة مع التراث الروائي عبر التاريخ .وهو ما يمثل منعطفا للكتابة الابداعية العربية.

أثبت الأديب أن طبيعة روايته ذات النّمط الجديد ليست منحوتة من التاريخ نحتا كليا ولا تركّز على الأحداث تماما، بقدر ما تجعل من اللّغة بطلة السّرد والوصف، فراح يخترع شخصيات وعبارات خيالية أو شبه خيالية (امراة نووية.. غضب بوش غضبة هاشمية..)، ويلعب في مصائر الشخصيات ومصائر الأحداث (تحويل مشهد أخموت مع نفنست من حميمي إلى حوار حضاري..)، ويلعب في المفاهيم السائدة في التراث الفكري السائد الى غير المتوقع من القارئ.فلو قارنا بين الروايات الكلاسيكية والروايات المعاصرة العربية بما فيها رواية اديبنا نجدها تتجاوز القيم والأخلاق والعادات والتقاليد،الى المغامرة مع الحياة من خلال قراءتنا لرواية تفنست وتـأمل امتداداتها استطعنا رصد أهم الملامح الفارقة بينها وبين كثير من الروايات النّمطية، فنجدها تتجاوز مركزية الانسان والحدث وتكرس فكرة ما بعد الحداثة التي تتخطى مركزية الانسان، إلى كونه أحد مفردات الكون وهناك بدائل تعوضها وتلعب دور البطولة والبروز.. فنجد الدكتور قد راوح في البطولة بين اللغة الفارسة والأمكنة المختلفة المترامية الحدود والأزمنة المتداخلة واعتمد في ذلك على الاقتباس والاقتضاب والتلقيح والاستعارة.

وكأنّه يكرس جوهر فلسفة ما بعد الحداثة في رواياته التي تسعى الى زحزحة الإنسان عن مكانته التي كانت تجعله البطل الوحيد الذي يحرك الكون ويحرك بالتالي أحداث الرواية وشخصياتها الثانوية،إلى جعله واحدا من مفردات الكون وليس هو الأهمّ وليس هو الأدنى أيضا، ولكنه يقوم بدوره مثل الأشاء الأخرى والشخصيات التي تقوم هي الأخرى بأدوار وتحرك مجريات الرواية ( أخموت بطل.. المداح بطل.. تفنست بطلة.. استر بطلة.. الفتى البائس.. السيّد لامي..).

فالجديد والمميّز في كتابات حمادي عموما وفي روايته خصوصا انّه نقل وعي القارئ من المتلقي الى المساهم في تحريك أحداث الرواية بتوجيه دلالات عبارات النص وأبعاد المكان والزمان.. وكأنّي به يقول للقارىء: أنا لا أعدك بتقديم ما أنت جاهله، ولكنني سأدخل في إطار عملية إبداعية حيث ليس عليك أن تتوقع فيها كيف ستكون نهايات ومصائر الأبطال والشخصيات في الرواية لأنني لا اعرف الشخصيات الى ما ستفضي به إلينا.. حتى أنّنا كقرّاء كل يساهم في تأويل الأحداث ورسم نهاية الرّواية والأبطال ويحلّل شخصياتها فعلى سبيل المثال: ترك للقارىء تخيل ما سيحدث بين أخموت وتفنست ولم يكن النص صريحا في ما إذا كان الحوار قد قطع اللّحظة الحميمية التي يتوقعها القارىء عادة.. هنا أكد تجاوز فكرة أنه ما اجتمع رجل وامراة الا وكان الشيطان ثالثهما وقد اتضح من خلال النّص أن الوعي كان ثالثهما.. فكرة الحدث في الرواية تعكس شخصية الكاتب العالية الرقي والوعي والانفتاح على التحضّر والانسلاخ عن الرجعية والتقليد.

وعلى الرّغم من صعوبة الفصل بين المكان والزمان لما بينهما من تداخل وتواشج نجد الدكتور حمادي يبرع في استحضار الزمان عبر الأمكنة بوصف تفاصيلها الدقيقة (.. تقع دارات هؤلاء المستعمرين وسط أشجار الأشواك الرّومية حيث ترتفع سقوفها القرميدية الحمراء ويلوح بياض جدرانها..)، (تعمر السوق يوم الثلاثاء.. وتمتزج رائحة روث الدواب.. برائحة الشواء..)، ويعزّز مقابل ذلك علاقة المكان بالإنسان، ويجعل منها علاقة جدلية مصيرية، فلا يمكن أن يتصور لحظة من لحظات الوجود الإنساني خارج سياق المكان، بقدر ماهي مرتبطة بإطاره المكاني. إنه جزء لا يتجزأ من كل الموجودات، وحاضر بكثافته في حركتها وسكونها.. (حضور المدّاح في سوق الثلاثاء .. وانبهار أخموت بشخصية المدّاح، برع حمّادي في استحضار الزمان ضمن المكان وربطه بشخصية المداح الذي اعتمده كرمز ودلالة لم يفصح عن قيمتها وترك المتلقي يحلل ويستنتج كلّ حسب قناعاته وثقافاته وآرائه وميوله.

خاتمة:

لقد حاولت، في هذه القراءة التحليلية معتمدة النظرية الهرمنتيقية في تأويل لغة الرواية، من أجل تأكيد العلاقة بين قوة اللّغة ودلالتها الباطنة، وتأثيرها في القارىء براغماتيا، في خضم فوضى الأيام التي تتوالى علينا بصعابها وتحدياتها في العمل والبيت والشارع العام، ووسط مخلفات ما توارثناه من جيل لجيل، حيث أصبح من الصعب علينا إدراك حقيقتنا أو رسالتنا على هذه الأرض.وغدت الرواية وسيلة لاكتشاف ذواتنا واستنساخ شخصياتنا المسلوبة منها، ولا أزعم أنّني ألممت بكلّ ما جادت به قريحة الأديب حمّادي من رؤى ومصطلحات ومفاهيم مؤسِّسة لمنهجه التّأليفي والتّوفيقي بين الشكل الجمالي والمضمون الاجتماعي، فحسبي أنّني أشرت إلى أهمّها من أجل استمالة القارئ إلى أهميّة هذه النّظرية وجدواها في مقاربة النّص الروائي.

***

ليلى تبّاني.. من الجزائر

 

في المثقف اليوم