قراءات نقدية

ضمير الغائب ودوره في إنتاج الدلالة.. قراءة في قصيدة (آدم وحواء) لنازك الملائكة

حسبها أننا دفعنا إليها

ثمن العيش حيرة ودموعا

أيّ ذنب جناه آدم حتى

نتلقى العقاب نحن جميعا؟

وليكن آدم جنى حسبه

فقدان فردوسه الجميل عقابا

حسبه يا حياة أن هبط الأرض

ليحيا ويجرع الأوصابا

حسبه أنه أتى الأرض

مطرودا من الخلد مستطاراً حزينا

حسبه ما رأى من الشرّ والإثم

وما ذاق من عذاب السنينا

ليت شعري ماذا يروق لعينيه

على الأرض بعد سحر السماء

كيف ينسى جمال فردوسه المفقود

في عالم دجيّ الفضاء

كيف ينسى الأمس الجميل ليهنا

بحياة موسومة بالشقاء؟

ليس يحيا فيها سوى الآثم الجبّار

يا رحمتاه للضعفاء

في هذه القصيدة تستوحي نازك الملائكة محنة حواء وتحمِّلُ الشيطان وِزرَ الخطيئة الأولى، مستندة إلى التفسير الديني، لتجمع بين السبب والنتيجة، وتنتقل إلى رصد ملامح المعاناة الجماعية الناتجة عن الخطيئة الفردية.

وفي إطار توظيف الشاعرة لبنية الضمائر للقيام بدور الرابط الإحالي الذي يجمع تراكيب النص، تستخدم ضمائر الغائب مستغلة إمكانياتها التعبيرية التي تتطلب متابعة الأداء اللغوي، إذ تتضح قيمة (الغياب) باعتبارها بنية خلافية في ضوء بنية الحضور، حيث يصبح الأداء اللغوي قادراً على أن يستولد تعبيرات، ويصطنع إيماءات بواسطة الإمكانيات الدلالية، ومن ثم يتيح للمتلقي أن ينظر فيما ورائية العمل الفني ليكتشف تلك المشاعر المتوارية خلف جسد الكلمات.

إن استخدام الشاعرة لضمير الغائب يتيح اتساع القيمة التعبيرية للأداء اللغوي، حيث تتمكن من الولوج إلى أعماق البنية، وسبر أغوار الدلالة من خلال تسليط الضوء على ذلك الغائب، ومن ذلك قول الشاعرة:

حسبــها أننا دفعنا إليـــها

ثمن العيش حيرة ودموعا

تبدأ الشاعرة قصيدتها بإضافة الضمير لاسم الفعل (حسبها) ؛ فكلمة (حسب ) ليست فعلاً ولا اسماً ، وهي كلمة تستعمل في بنية دلالية  للكشف عن موقف انفعالي ، فكأنها اسم من جهة اللفظ ، فعل من جهة المعنى ، والضمير في (حسبها ، وإليها ) يعود على (حواء) ، الأمر الذي يسهم ـ هنا ـ في دفع فعل السرد / القول تجاه الحدث من خلال ارتباطه بتفصيلات تعمق أبعاده ، وتزيد القارئ معرفة بملامح التجربة النفسية حيث تتشكل العلاقة بين الشاعرة والغائب الذى تتحدث عنه ، وتبقيه مجهولاً  حتى حين لربط المتلقي بالنص ، وجذبه لمتابعة مرجع هذا الضمير الغائب صاحبه عن الصياغة .

تتسم طبيعة تجربة الشاعرة بالعنفوان القائم على الغضب الممزوج بمعاني القلق، إذ ترى في كل ما حولها من مظاهر مريرة لواقع غريب مواضع استفهام وتساؤل، ينبض بهما قلبها فينعكسان على لغتها وأسلوبها، والشاعرة تعمد في كل هذا إلى توظيف السؤال في خلق المفارقة، وفي توليد المعاني التي تتفجر بها تجربتها.

أيّ ذنب جنـــــاه آدم حـــتى

نتلقى العقاب نحن جميعا؟

تطرح الشاعرة استفهاماً مكتوماً ـ إن صح التعبير ـ يمثل إيقاعاً رئيسياً هادئاً، ويشيع نغماً حزيناً يعكسان حسرة الشاعرة التي تعجز عن إدراك الحكمة، وإن كانت لا تنتظر رداً، وإنما تجسد عبر سؤالها حزناً وألماً شديدين، فماذا جنى آدم حتى ندفع جميعنا الثمن؟ ونتجرع من مرارة الحياة حنظلها، ومن كدر عيشها أكواباً؟!

ورغم ضبابية مرجع الضمير في بداية القصيدة إلا أن الشاعرة أسرعت بتحديد مرجع الضمير في البيت الثاني، وقامت هي بالإخبار عنه، وربما يرجع ذلك لطبيعة النص السردي؛ إذ لا يستطيع أن يمضي قدماً دون العناية بحركة الضمائر وتماهيها وتبادلها في نسيج النص.

وهنا تقوم الشاعرة بدور الراوي الذي يحكي الأحداث بوصفه أحد ضحاياها على نحو ما، هذا النمط التعبيري يرصد تصاعد الحدث، وتتبلور في طياته الفكرة:

وليكن آدم جنى .. حسبه

فقدان فردوسه الجميل عقابا

حسبه يا حياة أن هبط الأرض

ليحيا ويجرع الأوصابا

حسبه أنه أتى الأرض

مطرودا من الخلد مستطارا حزينا

حسبه ما رأى من الشرّ والإثم

وما ذاق من عذاب السنينا

إن تحديد مرجع الضمير ـ هنا ـ أدى إلى تقلص دور المتلقي ليقف عند رد الضمير إلى مرجعه، ثم تحسس حركته داخل الخطاب، ومدى مساهمته في إنتاج الدلالة، يؤيد ذلك أيضاً استبطان الشاعرة لنفسية ذلك الغائب من خلال عدة جمل فعلية تقريرية ترسم ملامح تلك المعاناة التي عاشها جراء تلك الخطيئة: هبط الأرض، ليحيا ويجرع الأوصابا، أتى الأرض مطرودا من الخلد، رأى من الشرّ والإثم، وذاق من عذاب السنين.

وهنا أصبح الضمير المستتر "هو " محوراً تجمعت حوله الدلالة صادرة منه وعائدة إليه، كما كان مستجمعاً لكل عناصر التجربة " الأرض، الأوصاب، الطرد، الشر، الإثم، العذاب، وبذلك يعد الضمير رابطاً لحالات شتى ومشاعر متفرقة من خلال الشعور المستدعى لها من أغوار الذاكرة.

وبإعادة الصياغة إلى بنيتها الأصلية تتكشف الضمائر على النحو التالي:

هبط (هو) الأرض، ليحيا (هو) ويجرع (هو) الأوصابا، أتى (هو) الأرض مطرودا من الخلد، رأى (هو) من الشرّ والإثم، وذاق (هو) من عذاب السنين.

لقد تكرر الضمير المستتر " هو " ست مرات، ومرجعه معلوم من البداية " آدم " ، ومن ثمَّ فإن مجيء الضمير مقدراً في بنية الفعل ـ بلا مرجع ـ دعوة مباشرة للمتلقي بالتعامل مع الصياغة وتحديد خط السير فيها، كما أنه من ناحية أخرى أعطى مرجع الضمير أحقية الاشتهار بنفسه دون حاجة إلى مرجع.

ويحظى المكان بأهمية خاصة في هذه القصيدة إذ يمثل بؤرة الدلالة ومحور التجربة الذي تدور حوله رؤى النص، والمكان الذي نعنيه هو (الأرض) حيث أن آدم:

هبط الأرض ليحيا ويجرع الأوصابا، وأتى الأرض مطروداً من الخلد مستطاراً حزيناً، ورأى في الأرض الشرّ والإثم وعذاب السنين، ولم يجد عليها ما يروق لعينيه.

فالشاعرة تذرع الأرض كلها ماديات ومعنويات، مشاعر وأفكاراً رصداً لملامح تلك المعاناة التي عاشها آدم، وورثها عنه أبناؤه، معنى هذا أن المكان في بنية النص الشعري يجسد بناء فنياً موازياً لحركة الواقع الذي تعايشه الشاعرة من خلال تفاعل الداخل مع الخارج في لحظة كشف تنبئ عن طبيعة العلاقة بينهما مجسدة دلالياً / نفسياً في ثنايا التجربة الشعرية.

وبهذا ترسم (نازك الملائكة) صورة لتلك الأرض، صورة تستقر في منطقة اللا شعور بوصفها مهد الحقيقة المغيبة والمثل المغتربة، وحين يتم استدعاء هذا المعنى بوصفه أمراً واقعاً يعكس ألماً كامناً في أعماق الشاعرة، فإنه يحضر بأبعاده الفيزيقية والمادية، أي إنه يتجسد بعناصره المكانية الحسية وأبعاده النفسية، عبر اختراق خيالي لأستار الماضي البعيد يستقطب إلى الحاضر هذا المشهد لحياة موسومة بالشقاء.

إنها محنة تظلّ على العالم مسدولة الدجى مكفهرّه

لو ذاق قطرة من نعيمها أعقبتها من الأسى ألف قطره !.

***

دكتور جمال فودة

عضو الاتحاد الدولي للغة العربية   

كاتب وناقد من مصر

في المثقف اليوم