قراءات نقدية

توظيف عنصريّ الرمز والأسطورة لفضح مظاهر الاستبداد السياسي والثيوقراطي

قراءة نقديّة للمجموعة القصصيّة (بريد الآلهة)، للقاص العراقي: ميثم الخزرجي.

أتحفني الأديب العراقي المبدع ميثم الخزرجي بمجموعته القصصية الموسومة تحت عنوان مثير ومشوّق " بريد الآلهة "، والصادرة عن دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعتها الأولى، سنة 2019 م. فدفعتني رغبة الفضول والمتعة إلى قراءتها. وهي مجموعة ضمّت بين دفتيها تسع (9) قصص قصيرة، موزعة على 85 صفحة.

وأوّل ما شدّني إليها، وأثار شغفي إلى الغوص في مضمونها، عنوانها الغرائبي، والمثير للدهشة، (بريد الآلهة)، ولكنّها دهشة ما لبثت أنّ زالت أمام قدرة اللغة على تجاوز المألوف والإثارة والإعجاز. وتساءلت: أيّ بريد سيُحمل إلى هذه الآلهة في عصر انتحل المستبّدون صفاتها ودورها؟ وأيّ بريد سترسله هذه الآلهة الرعناء إلى رعاياها في زمن الساديّة السياسية والصهيونيّة الفكريّة؟ متى يرتدع ذلك الإنسان المتعجرف، والذي نسيّ أنّه من طين إلى تراب، ويعود إلى أصله وغاية وجوده؛ عبادة الخالق والتعارف بين الناس والتراحم والتكافل بينهم؟

وكما هو متفق عليه عند معظم النقّاد المعاصرين، فإنّ العنوان، عادة، ما يكون عتبة النص الإبداعي وبوابته الأولى أكان نثرا أم شعرا. وهو تقنيّة سرديّة وعلامة سيميائيّة، يتداخل فيه الواقعي بالأسطوري. كما يوحي بمعان خفيّة وإشارات ذكيّة، تستنبط من خلال التأويلات، وتفضي إلى دلالات رمزيّة معيّنة؛ دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو طبقيّة أو عائليّة، قد تأتي متوافقة أو متناقضة. فلفظة (بريد) تدّل لغويّا، على التراسل بين أطراف بواسطة المراسلات والمذكّرات والطرود، أما سيميائيا، فتدلّ على الحركة والتواصل والتقارب والتعارف والتخاطب وتبادل الأفكار والآراء. أمّا اسم (الآلهة)، فدالّ، من الناحية السيميائية على الثيوقراطية والكهنوتية والفوقيّة المطلقة. وهو الحكم المطلق للحاكم المستبّد، الذي يدّعي استمداد سلطته وشرعيته من السماء. وكان اليهود سبّاقون إلى تبنّي هذا النوع من الحكم في القرن الأوّل الميلادي. لقد نصّبت النظم العسكريّة، الاستبدادية في البلاد العربيّة حكاّما وزعماء بمرتبة آلهة معصومين من الزلل، يحكمون شعوبهم مدى الحياة، يسومونها أساليب القهر والتسلّط والقمع الدمويّ.

انطلق القاص ميثم الخزرجي من أعماق بيئته العراقيّة، تلك البيئة التي وهبها الله كل مقوّمات الجمال والحكمة والخلود. ولكنّ وطأة الواقع الاجتماعي المزري اغتال أحلام المواطنين الأبرياء، وسحق أمنياتهم المعسولة. فهاهو مرهون الحمّال المزارع، المعوّز، صاحب العربة العرجاء " لنقل الثمر المصفوف إلى محاجر السوق " ص 8.

يعيش بطل القصة مرهون الحمّال بين دواليب الوهم والمعاناة والمكايدة. فزوجته مرزوقة، ابنة أم تمتهن الدلاّلة في البيوت، سليطة اللسان، طفقت تمارس الفاحشة نكاية فيه، لأّنّها افتقدت فيه الرجولة والقدرة على إشباع رغبتها الجنسيّة ".. فباتت جدواه شحيحة ومقدرته جامدة " ص 12. كما أدركت مرزوقة عجزه الجنسي على إطفاء نارها المشتعلة " تدرك تماما بأنّه يخفق بافتراشها ليوقد شعلته الحمراء " ص 12. وعندها استسلمت لشيطان الفاحشة. ".. لتعلن استسلامها لرغبتها التي سوّلت لها أن تمارس الفاحشة تنكيلا بزوجها الذي أكله العار " ص 14. ولعل تيمة الجنس هنا، لا تعبّر عن مفهومه الحقيقي عند العامة، بل هو تعبير مجازي ورمز لواقع اجتماعيّ وسياسيّ يحكمه العجز والخيانة والقهر والمكايدة.

يعيش مرهون الحمّال مهمّشا، على أطراف مدينة تعامله معاملة السيّد للعبد. مدينة استولى عليها استبداد التجار الكبار ولصوص المال والشرف، الذين صادورا جهود أبناء الفقراء من وراء قناع قانون مفصّل حسب رغباتهم وشهواتهم ومصالحهم. " لكنّهم يسرقون بقانون " ص 17. " وكيف يسرقون بقانون؟ " 18. " ثمة قطع من الحلوى علّها تكفي لرؤية مرزوقة مع سارق آخر، أو لرؤيتنا مع زعيم آخر يناور أجسادنا على طاولة القانون " 18. رغم أنّه يحمل لها الخير والحياة. وهذا ما جعل مرهون الحمّال، يلجأ إلى السحرة والعرافين " طرق أبواب السحرة والعرافين المزروعين بين جوانح المدينة " ص 12. وطوّق جسده بالأحجبة لكنّها " لم تحرّك رجولته الساكنة " ص 12. في انتظار خروجه يوما.. " لثورة محتملة لتجابهه عثرات المدينة وأنظارها الساخرة " ص 11. فالليل لا يفضحه غير حزم الضياء المعلنة " ص 10. وفي هذا المقطع السردي، حجم التناقض في المجتمع العربي، والصراع المرير والخفيّ بين الحريّة (الضياء) والاستبداد (الليل). هذا الصراع الذي سيتحوّل إلى ثورة من أجل التغيير وإصلاح ما أفسدته أيادي الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي.

و يستمر ضياع الإنسان العربي المسحوق من خلال شخصية رؤوف في قصة (الغرفة) فرؤوف كما يقدّمه القاص ميثم الخزرجي ".. هو الولد المثابر المهتم بالرسم وطيف الألوان " ص 20. لكنّه يعيش في مجتمع بلا هويّة، فاقد لمعالمه يشبه غرفة بلا باب لها، بلا مخرج. مجتمع منغلق على نفسه، أو هو مُغلَّق بأقفال المستبّد الظالم وسلاسل الأعراف والتقاليد الجامدة والمميتة.

يحاول رؤوف الدؤوب رسم أطيافه: " يمعن النظر كثيرا بمن حوله، النخلة مثلا، نعم النخلة التي اعتزمت الأرض للوقوف باستقامة لا مثيل لها " ص 20/ 21. رؤوف الشارد التائه بسؤاله: " هل الإنسان موجود بمآثره أم بكيانه؟ " ص 21. هنا تقفز إلى ذهن المتلقّي، ظاهرة الانتماء القبلي والعشائري، والتي مازالت تبسط سلطانها على أغلبية المجتمعات العربية، وتتحكّم في النشاط الحزبي والتفاعل السياسي، وتغذي الفتن الداخلية والحروب الأهلية من أجل تفكيك البنية الاجتماعية والدينيّة والأخلاقية، وبتحريض من الغرب تحت مسمّيات غير صادقة، كالديمقراطية وتحرير المرأة وحقوق الإنسان. إلا أنّ الغرض الحقيقي والخفيّ، هو نشر (الفوضى الخلاّقة)، كما سمّتها الدعاية الأمريكية في عهد أوباما.

في الوقت الذي تخلّص فيه الغرب من عاهات القرون الوسطى، يعيش المجتمع العربي مظاهر تلك القرون المظلمة. يعيش استبدادا سياسيا مريعا، وتخلّفا اجتماعيا فظيعا، وعجزا عن التغيير السلمي، والانتقال من الحكم الفرديّ المطلق إلى الحكم المؤسساتي أو البرلماني أو الشوري، المبني على الكفاءات لا الولاءات، على العلم النافع لا الخرافة الضارّة، وتقوده الأفئدة البصيرة، النيّرة لا الأهواء الحائرة، العمياء. وما كان الربيع العربي، لتندلع شراراته في المغرب والمشرق العربيين، لولا مظاهر الاستبداد، التى استشرت في الوطن العربي، تارة باسم الشرعيّة الثوريّة، وتارة أخرى باسم الوطنيّة والقوميّة، وتارة أخرى باسم المقاومة والتصدي والتحدي ومحاربة الصهيونيّة ونصرة فلسطين.

مّما دفع الشعوب إلى القيام بثورات (الربيع العربي)، التي أتت على الأخضر واليابس، والغزو الأجنبي الذي أعاد بعض البلاد العربية إلى فترة ما بعد اتفاقيات سايكس بيكو. وما حدث للعراق الشقيق في فترة التسعينيّات وبداية الألفية الثالثة، خير شاهد على إفلاس النخبة السياسية والثقافية ومؤسسة الجامعة العربيّة المشتّتة المواقف والأهداف.

وهنا من حق رؤوف أن يصرخ، وقد بلغ الخنجر العظم " نحن المتغطرسون بالعدم متى تتضح هويتنا؟ " ص 22، " أين الباب؟ " ص 22. أي، أين النجاة؟ ومتى؟ وكيف؟ أسئلة جيل كامل غارق في التيه والضياع، وتتلاعب بمصيره أهواء السياسيين المراهقين. "

و عندما، نتصفح قصتي (لنعد إلى الباب) و(صراخ متّئد)، تواجهنا أسئلة المواطن العربي المقهور. وأوجاع جيل ضائع الخطى، ومتأزّم، جيل جهل أمجاد أسلافه العظام، وتشابهت عليه سبل النجاة والخلاص، كما تشابه البقر على بني إسرائيل. " ماذا بعد هذا الكون المغلق؟ وكيف نصل إلى عتبة النهاية؟ وأين باب الخروج؟ " ص 23 / 24. وهي أسئلة كينونية، وجودية، تنم عن عمق الجرح والمأساة والقلق." أين ملامحك أيها الكون المعدم " ص 24.

وما صيحات الشيخ الهرم، الحاج جلال، مجنون الحي - الذي تسمّيه نسوة الحي، الخير والبركة – إلا صورة معبّرة عن أزمة المجتمع العربي. " الحياة سجن كبير – يصيح بألم موجع -: نحن نشيخ وأوجاعنا فتيّة " ص 25 / 26.

هكذا تحوّل الرجل الحكيم " الذي بات حكيما بأحلام الآخرين وانثيالاتهم التي أضحت سبيلا إلى معرفة الحق مهما ارتفع عباب الباطل وهاجت موجاته " ص 26، تحوّل إلى رجل مجنون.

يشيخ الناس جيلا بعد جيل، لكنّ أوجاعهم، هي نفسها، تتجدّد اللحظة تلو اللحظة، راسخة في حنايا المجتمع لا تتحلحل، لا تشيخ، ولا تفنى كأنّها قضاء وقدر. وكان الطفل، ابن الخامسة عشرة، ابن العشّاب، ضحية أبيه، صاحب دكان الأعشاب. وكان يحلم بأن يصبح معلّما في المحلّة، كالأستاذ وليد، فهو يتمتّع بقدر كبير من الفطنة والذكاء. " كان ذكائي الحاد وفطنتي الكبيرة تجعلني أحظى بتوجيهات على مدار اليوم " ص 27. وكانت رغبة والدته بأن يصبح معلّما بارزا، "... ودعاء والدتي اليومي أن أصبح معلّما يشار له بالبنان " ص 29. لكنّ والده يريده أن يكون عشّابا مثله. " الصباحات تبدو مغلقة لأبناء المكان أو ربّما لي " ص 31. وهنا نلاحظ، كيف اصطدمت النوايا والأحلام الجميلة بواقع مرّ وجامد وظلاميّ، لا يؤمن بالتغيير. ويحارب العلم في صورة الأب الذي يقف حجر عثرة في طريق ابنه.

معاناة رؤوف، هي معاناة مجتمع وجيل ما بعد تغوّل العولمة، وفشل الأنظمة الاستبدادية، التي ألّهت الحاكم المستبد، وجعلت منه " الزعيم الملهم والقائد المبجّل " الأوحد في ذهن الأمّة وعيون الشعب، لا بديل له، لم تلد النساء مثله، ولا أحد ينازعه في السلطة، لا يمرض ولا يشيخ وإن أمكن لا يموت.

تلك الأنظمة التي رفعت لواء الوطنيّة الزائفة والقوميّة العربية، وشعارات الصمود والتحدي ومقاومة الإرهاب الإمبريالي والصهيوني، جيل يعاني من أزمة هويّة وفكر وثقافة وتيه. ذاك الجيل الذي شاخ قبل الأوان، لأنّه حُرم من الحرية والعلم والحقيقة، دفع ثمن الانكسارات والهزائم المتتالية، في حروب الأمّة ضد الصهيونية في فلسطين وبلاد الشام كافة، وضد الغطرسة الأمريكية في بلاد الرافدين، والتي دمرت أعظم حضارة وأقدمها في العالم، وضد التعصّب الديني الإسلاماوي وحركاته المسلّحة والمتطرّفة في البلاد العربية. لم يهدأ بال بطل القصة، رؤوف، فهو كثير التساؤل ومصرّ على النجاة وحريص على معرفة حقيقة ذاته. وعندما يسأل الأستاذ وليد، رمز العلم والحقيقة والتنوير، عن مضمون كتبه التي يحملها قال له: " إنّها كتب ثقافية، تتحدث عن كلّ شيء، عن الحقيقة، عن معرفة الذات " ص 31. " حقيقة ما نحن فيه " ص 31. لأنّه لا يريد أن تأكله الشيخوخة، لكنّ وقع الصدمة كان قويّا وقاسيا وعميقا، حين اعترف له الأستاذ وليد بالحقيقة المرّة، " لكنّها الآن ومع شديد الأسف، أكلتها الشيخوخة كحال أبنائها " ص 33.هذا الإفلاس الثقافي والسياسي والأخلاقي والديني، سببه مظاهر الكذب والنفاق وتزييف الحقيقة والفكر الأحادي الديكتاتوري وغياب الجدل المنتج وحرية التفكير والتعبير والرأي والديمقراطية والعدالة والمكاشفة. ومن خلال الحوار التالي بين الأستاذ وليد وبطل القصة رؤوف تتكشّف للقاريء الهوّة العميقة بين البطل، الباحث عن ذاته والواقع المعيش. " ألا تعتقد أنّنا بحاجة إلى من يكاشفنا " ص 34. " يكاشنا عن أيّ شيء. " ص 34. " عن أخطائنا، ألم أقل لك أنّنا نبحث عن الحقيقة. " ص 34 " وما دور الله، سبحانه وتعالى، الم يضع لنا دستورا؟ " ص 34." ربّما نحتاج إلى من يحاسبنا ويذكرنا بمصائرنا الموجعة، ونحن على قيد الواقع " ص 34. أجل، لا بد لكل أمّة من وقفات تأمليّة جادة، لتدعيم المسار أو تصحيحه، واستلهام العبر والدروس من الحوادث والتاريخ، ومن الإخفاقات والهزائم وملاحم الانتصارات. فالتاريخ عبر، كما قال ابن خلدون. ولا حياة للأمّة أضاعت ماضيها ودستورعقيدتها.

و من الوسط الاجتماعي المسحوق، يرصد لنا القاص ميثم الخزرجي في قصته (ما لا يدركه الحلم) صرخة شاب فقير يعيش أحلام يقظة، هي مجرد ذكرى واستذكار. انقسمت حياته إلى قسمين: قسم يمثّل مرحلة الصبا (الطفولة)، وقسم يمثّل ما بعد العشرين. ففي البدء حلم بأن يركب دراجة هوائية، وتحقّق له ذلك، " الدراجة كانت هي الحلم الأول الذي تحقّق على يد والدي رحمه الله " ص 37. وفي الخامسة عشرة من عمره، وهو سنّ المراهقة. حلم بتقبيل البنت المدلّلة ميّادة. " القبلة التي أودعتها كانت بمثابة مضاجعة مسوّرة بالخيال، ادّخرتها حرزا لممارسة رجولتي السريّة " ص 37. وفي التاسعة عشرة حلم بقراءة الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية والشك، الذي تحامل على فظائع المؤسسة الاستعمارية الفرنسية، وعلى الثقافة الكولونيالية الفرنسية في الجزائر خاصة. هكذا الفقراء يواجهون قسوة الواقع، ويحاولون التعافي منها، باللجوء إلى مربّع الأحلام. وسواء تحققت أو لم تتحقّق، فعزاؤهم أنّهم حقّقوا لذّتهم في كنفها. فالبطل الشاب، الفقير، الذي يتقمّص دور الراوي في القصة، يعلنها صراحة، أنّ على الفقراء أن يختاروا نهايات تليق بفقرهم. " علينا أن نختار نهاية تليق بنا كفقراء " ص 37 / 38. أو أن يستفيقوا من غفلتهم وخنوعهم ويأسهم، وينتفضوا لتغيير أوضاعهم المزرية التي طال أمدها. " أرجوكم املأوني بالصور الجميلة، لكن لا تدعوني للنوم.. إلى متى ونحن نلوذ بأحلامنا الواهمة، ونترك يقظتنا راكسة بالتيه " ص 40. هذه المقاطع السردية مرآة صادقة لمجتمع أنهكته الأوجاع والأمنيات المستحيلة، حتى باتت كالأمراض المزمنة. مجتمع زاده الأحلام والأوهام والتيه والرجولة المشوّهة والتخميات المليئة بالضبابية والصور." الحياة، الأمل، النخلة، الطيور، الوطن، الوطن... " ص 39. يحلم البطل الراوي – الذي رمز به القاص إلى المواطن العربي المأزوم - بحياة آدمية في حضن الوطن، راسخ الجذور في تربته، أصيل كنخله الباسق، المخضّر، محلقا بحريّة كطيوره وبلابله وحمائمه، يمتطي صهوة الأمل من أجل حياة كريمة، مصونة العز والشرف.

لكن، هيهات أن يتحقّق ذلك، ما لم يتطهّر من الأحلام والأوهام. " ليس ثمّة أحلام تدّعيها غير ما قُضي مع الوقت " ص 39.

لا تبنى الأوطان بالتمنيّات، وإنّما - كما قال أبو الطيّب المتنبي- بالعزائم التي تأتي على قدر أهل العزم.

و يرحل بنا القاص ميثم الخزرجي بأسلوبه السردي المثير إلى عالم اليوتوبيا والأسطورة في قصتي(صرير الأمكنة) و(بريد الآلهة). ففي قصة صرير الأمكنة، وظّف القاص عنصر النهرتوظيفا أسطوريّا وسيميائيا مثيرا - والذي غالبا ما يوظف لدى الأدباء والشعراء القدامى والمعاصرين، كرمز للخصب والتجديد والانبعاث والإنجاب – وظّفه – غالبا - كرمز ثريّ له دلالات وأبعاد ومستويات سلبية، هي الاغتراب والاستيلاب والحزن. فهو تارة، " أصبح النهر ملاذا لمن عقرت عن الإنجاب، لتوقد النذور وتهاليل الشمعدان " ص 47. وتارة أخرى، " تحوّل النهر إلى شبح يقبض الأرواح " ص 45. وعندما سأل الراوي الجدة عن مصير هديدة ابنة عواد المرزوقي. " أي ذهبت هديدة يا جدّه؟ " ص 44، قيل له بكل فتور: " النهر قد اختصّها لجمالها الأخاذ " ص 44. لقد صار النهر عدوا مخيفا ومميتا لأهل القرية، بعدما كان واهبا للماء والنماء، هو الذي جعله الله حياة بكل شيء، ترده نساء القرية لقضاء حوائجهنّ المنزلية واليومية في فرح وسرور وطمأنينة، وهي عادة قديمة توارثتها النساء الساكنات حذاء الأنهار، قبل ظهور أنابيب التوصيل إلى المنازل والبيوت. ".. ليدركن النهر بوفرته المعهودة، يتقرفصن على عتبته المتعرّجة... ليبدأ فصل من الجهد بتنظيف الأواني وغسل الملابس، ومن ثمّ يغمسن أوعيتهنّ بقليل من الماء ليعتزمن الرواح " ص 42. والسؤال الملّح: لماذا استعدى النهر سكان القرية، واختطف هديدة الجميلة ابنة عواد المرزوقي، وأمسى يتهدّد نساء القرية بنفس مصير هديدة؟ ما السرّ في ذلك؟ لماذا وقع القرية في قبضة الأوهام والأحاجي؟ وكانوا " إذا ما لاح بالقرية شوط من الرعب، كفنوه بحكاية مدلّلة، تدرك أنّ للموت موعدا. " ص 41. و" أصبحت أحجية النهر مأخوذة من الوهم " ص 45. لقد تعامل أهل القرية مع النهر / الشبح، المهتاج، باعتباره كائن مقدّس، تُحمل له النذور والقرابين من أجل التقرّب منه والتعبّد له واسترضاء له، طلبا للأمن والسلام والرخاء، وهي طقوس وثنية قديمة؛ بابلية وفرعونية، كانت ساكنة ضفاف الأنهار تمارسها، في العراق ومصر والشام خوفا من غضبها، المتمثّل في فيضانها الموسمي.

وعندما نعود إلى البنية السردية في قصة (صرير الأمكنة)، نلاحظ حرص القاص ميثم الخزرجي على وصف الأشياء (النهر، القرية، النساء، هديدة، الماء، الطين..) وصفا كليّا، يتيح للقاريء رصد المشهد كليّا، وهذا ما يسمّى في السرديّات الحديثة، (بوجهة نظر عين الطائر أو الصقر). إضافة إلى عمق الصراع والتناقض بين النهر / الإله وأهل القرية، في بنية سرديّة ذات مستويين؛ المستوى الزماني، الحياة / الموت، والمستوى المكاني، القرية والنهر.

في القصة تلميح ذكي من القاص إلى كفاح الجماهير المقهورة ضد الطغيان السياسي والظلم وتأليه الحاكم المستبد. وما الربيع العربي، الذي قادته الجماهير، إلا صورة من صور المقاومة للقضاء على الاستبداد وعواقبه. " وآلوا بعزيمة هائلة طمر النهر، لتُطمر معه البراثين جميعها التي ألحقها بهم " ص 45. وصار للنهر المهتاج، نهرا فرعيّا جديدا كالوشم، " هو نفس الوشم الذي أودع لفتيات القرية كعرف اجتماعي على أصالة الشرف " ص 46. وأصبح ذلك النهر الجديد " يُعرف بنهر هديدة بنت عوّاد المرزوقي " ص 47. هكذا تحقّقت أمنية القرية، وإرادة نسائها، وانتصرت على عنجهية النهر الظالم / الحاكم المستبّد، وحقّقت الجماهير تغييرا جذريّا / النهر الجديد، واستردّت حريتها وكرامتها وشرفها. بعد صراع دراميّ وتضحيات جسام، دفعت فيه القرية ثمنا باهظا.

أمّا في قصة (بريد الآلهة)، وهي القصة التي اختارها عنوانا لمجموعته. وتدور أحداثها في منطقة الأهوار، جنوب العراق. وهي منطقة تجمع بين عراقة التاريخ وغنى الطبيعة، وتضمّ كنوزا من الحضارة السومرية قبل خمسة آلاف سنة، ممّا يؤهلها كي تكون منطقة جذب سياحي كبير. وهذا دفع بطل دليل السياحة، شمعون كرمل، الأستاذ في علم الأساطير واللغات القديمة إلى قيادة مجموعة من السيّاح للذهاب إلى مكان يدعى (تل بشارة)، للبحث عن " ألواح مخبّأة مكتوبة عليها رموزا مغلقة، قيل أنّها تمثّل سفرا لتعاليم الآلهة في تلك الفترة " ص 49. كما أخبرهم الدكتور (وليم) أحد كبار المتخصصين في تاريخ الحضارات.

ارتأى القاص ميثم الخزرجي، الغوص في عالم أسطوري عجيب، لفضح واقع سياسيّ أسود، ومتعمّدا إسقاط الأسطورة على الواقع العراقي والعربي السياسي الراهن، واقع يتّسم بالإفلاس على جميع الأصعدة، وسيطرة منظومة حكم الفرد، الزعيم الديكتاتوري، المؤلّه في أقواله وأفعاله، والذي لا يجرؤ أحد على معارضته أو استخلافه على كرسيّ السلطة، إلا بعد أن تُقبض روحه. لأنّ " مساحة الحياة لا تكفي لاستيعاب إلهين متجاورين مسوّرين بالقصب والماء " ص 49. وهذا ما أدى إلى نشوب الحرب العراقية الإيرانية بين الحكم الثيوقراطي في إيران والحكم البعثي في العراق، وبين رأسي البعث في سوريا والعراق. لم تكن الجغرافيا السياسية تتّسع ولا الطموحات الذاتية، الأنانية، تسمح بالتعايش بين حاكمين / إلهين متجاورين. فقامت الحرب العراقية الإيرانية، وذهب ضحيّتها ملايين الأبرياء، من أجل أن يعيش الحاكم المؤلّه في البلدين. وكانت القطيعة بين قطبيّ البعث في سوريا والعراق من أجل ادّعاء الزعامة الثورية، واحتكار القوميّة العربية، أمام الجماهير المغرّر بها.

فالإله (أنليل)، الذي يعني سيّد الريح والعاصفة في الميثولوجيا السومرية، هو سيّد الأرض، الذي يسيّر البشر. بينما (آن) هو سيّد السماء، وهو الأب الأول لكل الآلهة، يسقط المطر، فتنبعث الحياة على شكل نباتات وحيوان وبشر. يستهلّ السارد قصته بقوله: " هل هي معصية من الإله أنليل عندما رفس أباه الإله آن ليبتهل بعرشه الذي فُسّر على أنّه مصدر لحكمة مقدّسة لا تخلو من نزعة التأويل المغلّفة بالشك مستعينا برؤيته الكونية الماسكة بالقدر البشري.. " ص 48.

إنّ عزيمة السياح على ولوج (تل بشارة)، لكشف الألواح المخبأة، هو رحلة نحو مجهول خطير، قد قابله الشيخ بالرفض والتحذير، قائلا: " لا أعرف، لكنّنا لا نتجرّأ على الدخول إليه، أو التقصّي عن مسالكه تبعا لحادثة دشر الذي فقد على أثره "ص 51. ثم يضيف الشيخ " لا نريد أن نخسر أحدا من أبنائنا " ص 52.

لكنّهم، رغم تحذيرات الشيخ لهم، عزموا على المضيّ إلى التلّ، متحدّين كل الصعاب والتحذيرات. وأكّدوا أنّه لن يهدأ لهم بال حتى يحقّقوا مبتغاهم الذي جاؤوا من أجله " لا جدوى من رفع عناء هذه الأجوبة عن كاهل أولادها إلاّ بالولوج إلى غايتنا التي اعتزمنا إليها " ص 52. وعندما يصلون إلى قلب المكان، يكتشفون أنّ الحياة في عالمهم الذي خلّفوه وراءهم، خارج تل بشارة، تسير إلى الخلف." كانت الحياة تسير إلى الوراء. " ص 58. أمّا هم فقد كانوا مجرد سلعة تجاريّة رخيصة.".. وكنّا نباع ونشترى ما بين حين وحين بأثمان بخسة، ونساق كما تساق الشياه، إن لم نكن أقلّ منها بقليل. " ص 58. هكذا سنحت لهم تلك الرحلة إلى عالم الأسطورة والميثولوجيا، من اكتشاف عالم آخر، يشبه عالمهم الواقعي المحكوم بقيود حاكم مستبّد، بمرتبة إله، حوّل شعبه إلى قطيع من الشياه، أو أقلّ من ذلك، يتاجر به في سوق النخاسة والذل والهوان والاحتقار. ذلك هو الراهن العربي، الذي انعتق من ذلّ الاحتلال الأجنبي، ليسقط سقطة حرّة - بعد الاستقلال - في قبضة عدوّ آخر، أشدّ شراسة وإيلاما، ألا وهو الاستبداد السياسي والحكم العسكري تحت قيادة حكّام مستبدّين، صنعوا لأنفسهم، وصنعت لهم الجماهير المخدوعة صور زعماء وطنيين وقوميين مؤلّهين. " إيّاك والصراخ، لا تزعج الآلهة " ص 55. لأن ذلك سيعرض. " أيّ شخص يُغضب الآلهة " ص 59. لعقاب الحاكم /الإله، صاحب الرأي الواحد، المعصوم من الزلل، صاحب الجلالة أو الفخامة. وقد تكون العقوبة نفيا أو قتلا أو سجنا، وهنا تيقّن أنّ الأمر سيّان، لا يختلف عن عالمه الواقعي، خارج تل بشارة، لم يجد حريته المفقودة، التي جاء للبحث عنها، بل وجد عبودية أشد قسوة من عبودية عالمه الذي خلّفه وراءه.

و أثناء تلك الرحلة الاستكشافية، شاهد السارد، كيف كانت ".. القرابين تقدّم إرضاء للآلهة، ومراسيم الكهنة ومعابدهم لأنصاف من تزعم الربوبية في صناعة القرار. " ص 58. " كنت أبحث عن كينونتي في هذا العالم الذي كنّا نقرأه كثيرا، وننعته بالخرافة في بعض من تفاصيله. " 58 / 59. كانت تلك الرحلة بمثابة يقظة للضمير، وتطهّر من الشكّ، وبلوغ عتبة اليقين، واكتشاف للذات التائهة، الضائعة، المتأرجحة بين الواقع والخرافة. تلك الذات التوّاقة إلى الحريّة. وعندها يستأذن السارد من الإله أنليل، أن يعود إلى عالمه، ليسترجع حريّته، أذن له، ودار بينهما هذا الحوار:

" وماذا تعني أن تكون حرّا؟ " ص 60.

" أن لا أكون ضمن العبيد والخدم " ص 60.

" وهل الحرية التي تدّعيها تجعلك أن تعصي أوامر الآلهة " ص 60.

" أنتم لا تختلفون عنّا كثيرا، فالوجع الذي ننغمس فيه قد توارثناه منكم " ص 61.

" ألا توجد فاصلة زمنيّة ما بين موطن وآخر أو ما بين وجع وآخر " ص 61.

في هذه الجمل الإنشائية الاستفهامية والجمل الخبرية السردية، وضع القاص ميثم الخزرجي المتلقي أمام حقيقة بديهية، وهي أنّ الاستبداد والحكم المطلق موروثان قديمان. انتقلا من الأسلاف إلى الأخلاف، كأنّهما جينات وراثية. وأنّ مفهوم الحريّة عند الحاكم المستبّد، يختلف عن مفهومها عند الرعيّة، فالحاكم المستبّد يعتبرها فوضى وعصيانا وتمرّدا وخروجا عن طاعة أوامره. بينما تعتبرها الرعيّة انعتاقا من العبودية، وانطلاقا نحو آفاق إنسانية رحبة. وعلى الأساس يستمرّ الصراع ويحتدم بين الحريّة والعبوديّة، بين النور والظلام، بين الحق والباطل، وتواصل الأوجاع عزف موسيقاها التراجيدية دون فواصل زمانية ومكانية.

والاستبداد هو نجل الجهل وصنوه الدائم. ففي قصة (أسئلة محرّمة)، يتم اغتيال الأستاذ عمّار صاحب المكتبة، والمجرمان اللذان حرّضا على الاغتيال هما: الحاج كامل ومنتصر. أما الذي قام بتنفيذ الجريمة فهو حازم، صاحب بكالوريوس آداب فرع الجغرفية، وهو شاب فقير، ومعوز، يعاني من البطالة منذ تخرجه. حجتهما في ذلك، أنّ الأستاذ عمّار، بائع الكتب من أهل النار. " الأستاذ عمّار صاحب مكتبة الإبصار فهو من أهل النار." ص 75.

وقد أراد القاص ميثم الخزرجي، أن يضع المتلقي أمام ظاهرتين؛ إحداهما دينية واجتماعية، تحوّلت إلى إشكالية عقائدية عويصة، ألا وهي ظاهرة التكفير، والاغتيال على الهويّة والملّة. والأخرى، سياسية وثقافية واقتصادية، تحت غطاء فكر ديني تكفيري مزيّف. اختار القاص لفظة (الإبصار)، على وزن (الإفعال) وهي مصدر الفعل بصر، للدلالة على قوّة الإدراك، وهي ذات بعد سيميائي تفاعليّ مثير وعميق وأقوى دلالة وإيحاء من الفعل نظر أو رأى البصرية.

و الغريب في الأمر، أن يُقتل الأستاذ عمّار، المتهم زورا وبهتانا بالهوس والهذيان – عمّار الذي يوحي اسمه بالإيجابية والعطاء والإعمار والوعي – لأنّه أراد إيقاظ المدينة من سباتها، فقد كتب على وجه مكتبته: " مدينة مترعة بالذل، موت، مقدّسون جميعهم، لا تسألوا أربابكم. " ص 78. وهو بهذا، يواجه تحالف المصالح والاستبداد مع الفكر التكفيري المدخلي، الذي أسّس لديكتاتورية المستبّد، وتأليه السلطان، والولاء المطلق للحاكم. تحت،عنوان، وجوب طاعة وليّ الأمر، وتحريم الخروج عليه، مهما ارتكب من فظائع.

هذا الحق، الذي أريد به الباطل، استغلّته طائفة من المجتمع، وراحت تنخر أعماق المجتمع كالأرضة. ممتطية فكرا ظلاميّا، منحرفا، متطّرفا " أنا أفكّر / أنا أقتل " ص 80. على وزن، وبخلاف عبارة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (أنا أفكّر، إذا أنا موجود). ثم، كما يقول الراوي: " ولماذا هذا الكره لبائع الكتب.. " ص 79. والجواب نجده عند أستاذ علم التأويل. يقول الراوي: " تذكّرت أستاذا لي في علم التأويل وهو يحدّثنا عن براثن القبح التي باتت تنخر في مجتمعاتنا العربية " ص 84 / 85. بينما المدينة صامتة، " للصمت بلاغة يعجز عنها أساطين اللغو " ص 83. تمتهن " الخنوع بطريقة ورعة جدا " ص 80. مستسلمة للعابثين بحاضرها ومستقبلها. وأبناؤها " يقتلون بلا صوت " ص 81. بأيدي " ممّن تسوّر بالدين فصاروا أحجية مبهمة المفاتيح " ص 80. كان الكتبي، الذي يرمز إلى النضج العقلي والوعي والثورة والخلاص، يحث المدينة على الانتفاض والتحرّر من سيطرة التطرّف الديني وبارونات المصالح الفردية. " أما آن للمدينة أن تنتفض " ص 80.

هكذا يصوّر لنا القاص واقع المجتمع العربي الراهن، يأكل أبناءه المخلصين، ويغتال العقول النيّرة، ويُسكت الأصوات الحرّة برصاص الغدر " الرصاصة التي قتل بها الكتبي لم تصدر صوتا. أم نحن في خرس المكان،أم الحقيقة بكماء، من الذي قتله؟ لا صوت، لا سجال، نحن أم هم، أم صوته الحافز، هل صوته حافز فعلا أم اصواتنا خافتة؟ " ص 81. مجتمع منكسر الأضلاع، بلا رأس، في حاجة إلى " مصدر من النور نبتغي لبيان أخطائنا " ص 85. بعدما أضحى فيه النور " فقيرا جدا " ص 85. مجتمع وقع ضحية الخوف واللامبالاة والعبث والقداسة القاتلة والحقيقة البكماء والنفاق والشك." الساعة السابعة والنصف وجدوا الأستاذ عمّار مقتولا في مكتبته، ترحموا عليه كثيرا، لكنهم لعنوه بعد حين من الرحمة " ص 81.

و بعد، فقد انطلق القاص من بيئته المحليّة والوطنيّة، العراق، وما يؤكّد أنّ الأدب المحليّ هي البوابة الشرعيّة نحو العالمية والإنسانية.

لقد جمع أبطال المجموعة القصصية، سمات متماثلة. ولعل أهم سمة على الإطلاق، هي البحث عن الحرية والكرامة والخلاص. ولعلّها كانت بمثابة العروة الوثقى، والخيط السرّي في قصص المجموعة جميعها.

كما عرّت هذه المجموعة القصصية، الموسومة ب (بريد الآلهة) للقاص العراقي المتميّز، ميثم الخزرجي، عرّت عورات المجتمع العربي ووجهه المقنّع، وأبانت – أيضا - عن حجم النفاق الأخلاقي والاجتماعي والسياسي المستشري في المجتمع العربي. هذا المجتمع الذي استسلم – عن طواعيّة أو كراهية - لإرادة الأثافي الثلاث؛ الاستبداد من ناحية والتطرّف الديني (الثيوقراطي) من ناحية أخرى، والجهل المُميت، وما ترتّب عن هذا الثلاثي، من علل اجتماعية وأخلاقية جمّة؛ كالفقر والمرض والفاحشة والخرافة و، إلى جانب العلل السيكولوجية، كتحطيم عزائم الأفراد والشعوب والأمم وتعطيل قدراتها العقليّة والمعنويّة، وكبح تطلّعاتها إلى الرقيّ والازدهار وغيرها. واستغلّ القاص - خاصة في قصة بريد الآلهة - الإرث التاريخي المحلّي الممزوج بالأسطورة، كرمز لفضح الأنظمة السياسية العربية المستبدّة، التي كانت سببا مباشرا في تأخّر المجتمع العربي عن ركب المدنية الحديثة، علميّا وتقنيّا وأدبيّا.

و قد جاءت لغة القاص في مظهرها السردي معبّرة عن آلام شخصياتها وآمالها، ومزاجها السيكولوجي ومرآة عكست ثقافتها ووعيها. كما أبانت هذه المجموعة عن إضافة جيّدة في هرم القصة العربيّة المعاصرة، وقدّمت لنا اسما موهوبا في مجال القصة القصيرة في العراق الشقيق.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم