قراءات نقدية

جَمالياتُ شِعريَّةِ أنساقِ التَّكرارِ الفنَّي

دراسةٌ في مَجموعةِ ناظم السَّاعدي الشِّعريَّة (مَرَايَانَا...)

تَقديمٌ:

(مَرَايَانَا الَّتي يَعلُو نَشِيدُهَا)، هي المُدونة الشعرية الذاتية لتي نحن بصدد دراسة نصوصها الشعرية جماليَّاً وفنيَّاً، وهي مجموعة قصائد ونصوص نثريَّة في أغلبها للشاعر ناظم كَاطع السَّاعدي. والدالة ثريا نصِّ عتبتها الرئيسة على وظائفها العُنوانية الأربع كما يُحدُّدها الناقد جيرار جينيت:(التعينيَّة، والوصفية، والدلالية الضمنية المُصاحبة، والإغرائية)، وعلى سمة انزياحها اللُّغوي والصوري المؤنسن اللَّافت بصريَّاً وحركياً وصوتياً. تلك هي المجموعة الشعرية (مَرايَانَا الَّتي يَعلوُ نَشيدُهَا) الصادرة عن دار المتن للنشر والتوزيع، بغدا- العراق، بطبعتها الحديثة الأولى  سنة 2022م، وعلى مِساحةٍ ورقيةٍ إبداعيةً فنيَّةٍ بلغ إنتاجها (109) صفحةً من القطع المتوسِّط.

لقد احتوت هذه المجموعة على ثلاثين نصَّاً شعريَّاً، وكانت سمتها الشكلية تعُّدد ثيم أفكارها الشعرية الإبداعية، وتنوِّع جودة وحداتها الموضوعية المترابطة بخيوط نسيجها اللُّغوي والفنِّي، وبتلابيب وحدتها العضوية الكبرى التي أمسك بها الشاعر الساعدي بوعي في تراكيب جملها الشعرية شكلاً ومضموناً، وإدراكاً حقيقياً واعياً ماكناً.

لقد اهتمَّت نصوص هذه المجموعة الشعرية اهتماماً فكرياً بالغاً بالموضوعات الفكرية الإنسانية والقيم الجمالية الروحية والقضايا المصيريَّة الفنيَّة، وبتداعيات الذات الشاعرية في تماهيها وتماثلها الشعوري مع هُويَّةِ قُطبها المُماثل الطرف الآخر. فكانت وقائع (مَرايانا) مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية الشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة، وهذا ما عبَّرت عنه عتبة الإهداء النصي بصريح القول: "إنَّ مِراتَنَا تَتَموَّجُ بِالجُراحِ وَالنَدمِ وَنُدوبِ الرُّوحِ"(ص،5). إنها مرآة واقعة حال الماضي التالد، والحاضر الراهن الحالي، واستشراف الغد المستقبلي الآتي.

وهذا الاهتمام الكبير اللَّافت بمحتويات (مَرايَانَا) التي هي بالتأكيد مرآة الشاعر التكوينية كان مِهمازاً فكريَّاً مضيئاً كاسراً لمألوف جدار توقُّع وعي المتلقِّي والقارئ النابه، وكاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها وتستأثر بثقافة اهتمامه الآسر في تواصله معها.

لقد كانت كلُّ قصيدةٍ من قصائد هذه المدونة الشعرية الثلاثين نَّصَّاً صورةً فنيةً ناطقةً و(إيموجيةً) بَصريةً مُعبَّرةً عن ذات نفسها تارةً بعباراتها البيانية الناطقة، وتارةً أخرى بإيحاءاتها السيميولوجية الإشارية الموحية الصامتة. ولا غرابة أنْ تتوزَّع ثيمات موضوعاتها الجوهرية المُرسلة عبرَ أثير نصوصها المَتْنِيةِ إلى المتلقِّي بالحديث عن صورها الإبداعية التعدُّدية.

فنقرأ في تجلِّيات صورها الانبعاثية رسائل شعوريةً صادقةً ساخنةَ المحتوى تتحدَّث عن وقائع ذاتها الشعورية الخفيَّة والمتجلِّيَّة، وعن وقائع الأيام ونكوصها، وعن أثر الخديعة وفواجعها، وعن الفكر الإنساني وجنونه، وعن عالم الطفولة وبراءتها، وعن الحبية المعشوقة وأشواق حبِّها، وعن واقع الحياة اليومية وعقابيلها، وعن المجهول وتوقُّعاته، وعن فقد الأحبة أخاً وأُمَّا وقرابةً وأثرهم، وعن الرموز الثقافية والفنيَّة المحلية والدولية وأثر ثقافتها الفنية، وعن جدلية المكان مدينةً وقريةً ومقهىً ونهراً ووطناً بغدادياً وميسانياً مؤثِّراً، وعن سالف زمكانيتها الآسر.

وإنَّ مشغل حفرياتنا الاستكشافية لمناجم تحليل هذه الوحدات النصية تضيء آثار موضوعاتها وتكشف بجلاء واضح عن غياب لظلال الواقع السياسي والآيدلوجي لموقف الشاعر ووقوفه على قارعة الحياد الموضوعي تُجاه رمزية الوطن العراقي الكبير. في حين نجد في الوقت ذاته همينة الفكر الجمالي والروحي الجمعي  لرؤى الشاعر الذاتية وفلسفته الشعرية الاستبطانية بشكل قد طغى على مفاصل فضاءات نصوصه الشعرية التي توحَّدت جماليَّاً

أسلوبيتها الشعرية وفنيتها التعبيرية الحداثوية في مثابات هذه المصفوفة التي تمثِّل خطاب الشاعر وثراء تجربته.

مَفهومُ تَقنيةِ التَّكرارِ

لقيت ظاهرة التَّكرار الفنِّي اهتماماً كبيراً وبالغاً من قبل عديدِ النُّقاد والباحثين في كينونة الخطاب الشعري قديماً وحديثاً؛ كونها ظاهرةً موسيقيةً داخليةً رصينةً، وسمةً إيجابيةً مُحبَّبةً من سمات الشعرية الفنيَّة الأساسيّة لما يحمله مفهومها النصي من إيحاءاتٍ  نفسيَّةٍ مُثيرةٍ وطاقاتٍ إيجابيةٍ تعبيريةٍ إيقاعيةٍ موسيقيةٍ أثيرةٍ على نفسية المتلقِّي. كما أنَّ ظاهرة التكرار اللُّغوي تثري القصيدة وقعاً لغوياً حَسناً، وتعلو من قيمتها الشعرية فنيَّاً وجماليَّاً؛ لذلك هي واحدة من أهمِّ أساليب الشعرية المعاصرة، ومن ظواهرها الأسلوبية الحديثة التي لا يمكن لأيِّ شاعرٍ أنْ يتخلَّى عنها في منظومة الحداثة الشعرية أو أنْ يُهمِلهَا. على الرغم من جذورها الفنية الضاربة في قِدَمِ الشعرية العربية التراثية.

وعلى وفق ذلك فإنَّ تقنية التكرار تُعدُّ في مستويات الخطاب الشعري من أبرز الظواهر الأسلوبية واللُّغوية والأدبية والفنية التي تجلو لنا في القصيدة الحديثة أبعاداً دلاليةً كثيرةً وسماتٍ جماليةً فريدةً تحضُّ القارئ الناقد الواعي عليها، وتشحن المتلقِّي على النظر مليَّا في تمظهرات القصيدة والتَّأمُّل بدلالاتها ومحمولاتها التكرارية القريبة والبعيدة التي تعمل على تكثيف التماثل اللُّغوي جمالياً في بوتقة إنتاج النصِّ الشعري وتسويقه إلى المتلقِّي.

وحقيقة الأمر أنَّ مفهوم التَّكرار يرتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالحالة النفسية والشعورية للشاعر المبدع لحظة القيام بإنتاج دفقته الشعورية، والعمل على استمرارية تدفقها الأُسلوبي حتَّى اكتمال نهايتها الفنيَّة وفق رؤيته الشعرية المحدَّدة. وتعضيداً لذلك التوافق الشعوري، فإنَّ نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) ترى أنَّ مفهوم التَّكرار بطبيعة الحال هو، "إلحاحٌ على جهة هامَّة [مهمَّة] من العبارة، يُعنّى بها الشاعر أكثر من عنايتها بسواها.. فالتكرار يُسلط الضوء على نقطةٍ حسَّاسةٍ من العبارة ويكشف اهتمام المتكلِّم بها. وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسية قيمةٍ تُفيدُ الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويُحلِّلُ نفسية كاتبه". فالحالة الشعورية إذاً هي أُسُ التَّكرار.

وتأسيساً على ما تقدَّم من منطق فنِّي شعوري نفسي، فإنَّ أهمية التكرار لا تأتي عن كونه تكراراً للألفاظ والحروف والكلمات والعبارات ورصفها بطريقةٍ فنيَّةٍ تراتبيةٍ شعوريةٍ تدفقيةٍ توقُّعيةٍ تتابعيةٍ متتاليةٍ في بنية الخطاب الشعري فحسب، بل تأتي أهميته الفنيَّة المتمايزة من حيث تعالقه الفنِّي وتوحُّده الروحي والجمالي مع عناصر الشعريَّة الأخرى التي تُسهم في بناء النصِّ، وفي ارتقاء التجربة الشعرية حداثياً. ويُضفي عليها ثراءً شمولياً وتمايزاً يُحققُ لها رؤياها العميقة وأهدافها ومقصدياتها البعيدة المبتغاة. وإنَّ نجاح هذه التجربة لا يمكن تحقيقها بسهولةٍ ويُسرٍ إلَّا إذا توفَّر لها شاعرٌ مثابرٌ على سعةٍ كبيرةٍ من الموهبة الشعرية، وطاقة ثرائيَّة علمية من الإبداعية المكينة، وما يُلقاها إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ من المقدرة الفنيَّة التي تُحقِّق أكبر قدر ممكن من التأثير الروحي والجمالي في نفس السامع والمتلقِّي بما يتوافق مع وقع متطلباته ورغباته وينسجم مع وعيه الثقافي وحسِّه الفنِّي.

وسنحاول في ترانيم هذه المُدوِّنة الشعرية الغور جليَّاً في طيَّات تمظهراتها الشعرية البارزة واستنطاق صورها في شعر ناظم كَاطع السَّاعدي. والتي تمثَّلت جوانبه الفنيَّة المتنِّوعة بأنساقٍ عدةٍ، كالتَّكرار الحَرفِي، وتكرار الضمير، والتكرار اللَّفظي (الاسمي أو الفعلي) للكلمة، والتكرار الجُملي  والعُباري  والاشتقاقي للجُملة الشعرية من خلال تلك الأنماط التكرارية أو الأنساق التي كان لها الأثر الكبير والواضح في توهُّج قصائده الشعرية ومنح أسلوبها الداخلي توقُّعاً إيقاعياً منتظماً وجِرساً نغميَّاً متساوقاً يُعوُّض عن فقدان الوزن والقافية، ويُسهمُ في ترصين البنية النصيَّة للخطاب، وتمكينها من تحقيق أغراضها الدلالية والجمالية والفنيَّة الحداثويَّة لقصيدة النثر الشعرية.

أنساقُ شِعريَّة التَّكرارِ الفنِّي

تُشكِّلُ تمظهرات تقنية التَّكرار وأنساقه الفنيَّة في شعر ناظم السَّاعدي ظاهرةً أُسلوبيةً لغويةً مُعجميةً لافتةً للنظر، تمثَّلت في مجموعته الشعرية (مَرايانا الَّتي يَعلو نَشيدُهَا) على شكل أنساقٍ نمطية متعدِّدة تجلَّت مسمياتها الأنساقية العنوانية التكرارية في الحرف والضمير والكلمة اسماً وفعلاً وجملةً وعبارةً واشتقاقاً للجملة الشعرية. وقد تجلَّت تمظهراتها في خطابه بشكل بائن وقريب على شكل أو هيأة إيقاعاتٍ تكراريةٍ نغميةٍ توقُّعيةِ الضرب الموسيقي في البناء النصِّي للدفقة الشعرية المتراتبة الأثر، والتي تلفت عناية واهتمام القارئ أو المتلقي أو المستمع  لها كي يعيش أجواء خطاب الواقعة الشعرية التَّكرارية للحدث الفعلي ويشارك في إصغائه أو قراءته المرئية وغير المرئية الذاتَ الشاعريةَ وهمَّها الشعوري وحاجتها النفسية المُلِحَّة من خلال تلك الأجواء التكرارية الساحرة، والتي انماز بها أسلوبه الشعري المعجمي صعوداً رأسياً تارةً وهبوطاً أُفقيَّاً تارةً أخرى واستقراراً كُليَّاً تارةً ثالثةً.

فالساعدي من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري يُضفي على هذه التَّكرارات الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية ونثيثاً علائقياً من نِياط  قلبه الشعورية النفسيَّة للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة واحتدام تداعياته الشعورية التي يواجهها في حياته الشخصية  سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه المحيطي البيئي الجمعي البيئي الراهن الحاضر.

وليس هذا فقط كذلك بما يتعلَّق بموقفه الآيديولوجي والعقائدي منها في ظلٍّ مجموعةٍ من الظروف والمؤثِّرات الخارجية المُلحَّة، والتي وجد فيها الشاعر الساعدي فرصةً مؤاتيةً كبيرةً لتحقيق طموحه وغاياته الفنيَّة وآماله الجمالية من خلال محاكاة الواقع المعيش وتمثُّله شعرياً عِبرَ سير هذه التكرارات التموسقية الصادحة؛ كونه وجد فيه واقعاً اجتماعياً وثقافياً جديداً وظَّف فيه التكرارات الصورية المتباينة لكسر حائط الصدِّ في المألوف النمطي الشعري الاعتباري بهذه التقنية الفنيَّة التي تلقى قبولاً ورضاً واستحساناً لدى المتلقِّي في الشعرية النقدية الحديثة.

1- نَسَقُ التَّكرارِ الحَرْفِي

لجأ الشاعر ناظم الساعدي في تركيب نصوص قصائده النثرية والموزونة، أو في بناء وتأثيث مقاطعه الشعرية  إلى توظيف ظاهرة فنيَّة التكرار الحرفي من تماسكها النصِّي وترابطها الأسلوبي اللُّغوي التوقُّعي الداخلي. ولعلَّ القصدية المتوخاة التي تغيَّاها الشاعرُ من وراء ظاهرة التَّكرار الحرفي في القصيدة أو المقطع الشعري له أسبابه وموحياته الفنيَّة والإشارية التي ترتبط دلالاتها اللُّغوية بفلسفة الشاعر الذاتية ورؤيته شعرياً، وبالصيغ الشعرية الدالة على معانيها ومقصدياتها التوكيدية التَّكرارية من أجل تقوية المعنى الدلالي ونزع فتيل الشكِّ عنه بالمُكرَّرِ.

وقد استطاع الساعدي في رسالة خطابه الشعري أنْ يؤسِّس لنصوصه الشعريَّة ويُثريها بنظام هندسيٍ تكراريٍ حرفيٍ متناسقٍ في إيقاع بنائه التعبيري والدلالي، كان له الأثر الكبير والوقع الخاص المتميز في تأثيث قصائده بهذه التقنية الجمالية ذات التأثير الإيقاعي المدهش الذي يحضُّ القارئ على وقع تحسُّسه ذوقيَّاً وجماليَّاً والانسجام مع وقائع ظلال وحدته المناخية الوارفة. فضلاً عن معايشة أجوائه النفسية التي تسربلت لها شخصية الشاعر وأنتجتها واعيته الإبداعية والفكرية بهذا التشاكل الدلالي من التَّكرارات الحرفية التي تفيض بها نصوص قصائده النثرية من أجل ديمومة حياتها الروحية وعمارة بقاء خلودها الفنِّي الموضوعي الذي يُعدُّ هو من أهمِّ وأبرز اشتراطات قصيدة النثر الشعرية ذات البناء التركيبي الأصعب من حيث إنتاجية وصنع التخليق الإبداعي في مراحل التغيير وتطوُّر التحوُّلات الشعرية العربية الحديثة. ولندللَّ في هذا المجال على نموذج من نماذج التَّكرار الحرفي الشعرية في سطور هذا المقطع، والتي وردت تكراراتها على نحوٍ فنِّي تتابعي:

لَا دِرهَمٌ أَسوَدَ

لَا حَيَاةٌ تَفُوقُ دِرْهَمَاً أَسوَدَ

القِيمَةُ الَّتي تَتَسَاوَى،

القِيمَةُ الَّتِي يَنحَطُّ بَرِيقُهَا

وَيَلمَعُ فِي بُوصَلةٍ بَاطِلَةٍ

فَلَا دِرهَمٌ يَذهَبُ إِلَى ضِفَتِهِ

لَا دِرهَمٌ يَطلَعُ مِنْ نَهرِ الفُقَرَاءِ

الحَيَاةُ إذاً بِدِرهَمٍ أَسوَدَ

بِدِرهِم ٍأسودَ هَذهِ الَحيَاةُ (مَرايَانَا، ص 42)

الشَّاعر في هذا المقطع الذي استهل به مطلع قصيدته الدالة على معانيها اللَّونية الرافضة لتلك الحياة، يُكرِّر الحرف (لا) النافية أربع مراتٍ متتاليةٍ  ليعلن رفضه التام وتبرئته الذاتية  من ذلك الدرهم الأسود، ومن تلك الحياة  التي تفوق الدرهم الأسود حين تتساوى فيها القيمة المادية مع القيمة المعنوية. فهو يرى أنَّ الدرهم لا يذهب إلى ضفته الآمنة، ولا يخرج من نهر الفقراء المتعففين مادياً، بل يخرج من غيرهم أسودَ بمعانيه الدالة عليه، وهذا النفي المتوالي لتلك الدراهم يأتي لتبيان حالة  الرفض والاحتجاج النفسي للذات الشاعرية تُجاه تلك القيمة المادية.

وإنَّ تكرار الساعدي لحرف النفي (لا) وتوزيعه على سطور الجملة الشعرية بهذا النسق الحدثي التتابعي، هو لغرض التركيز والتأكيد على إيقاعية التعبير الأسلوبي لترابط هذه السطور مع بعضها بعضاً كونها تمثِّل أجزاءً مُحكمةً من بنية القصيدة، فضلاً عن أنها تُعيدُ إنتاج الدلالة بهذا التناسق التكراري المموسق داخلياً، والذي من شأنه أنْ يهبَ القصيدةَ ثراءً لغوياً ويرفع من قيمة مكانتها الفنية. وإذا أمعنا النظر جليَّاً في سطور هذه الدفقة الشعورية، نلحظ أنَّ الحرف (لا) ليس هو الذي تكرَّر وحده فقط، وإنَّما تكرَّر معه الاسم (دِرهمٌ) ست مرَّاتٍ متتالية؛ ليضفي على وقع سطور المقطعية للجمل الشعرية قوةً تكرار مضاعفةً تأكديةً أخرى تسمو بها فاعلية القصيدة فنيَّاً ودلاليَّاً على هذا النحو الموقَّع موسيقياً وتنبيهياً لجماليات الإيقاع الأسلوبي. كما لم نلظ هناك تكرارات صوتية في شعره.

وفي سياق هذا المضمار التكراري الحرفي المتساوق في تعبيره اللَّحني التوقُّعي نختار من بين نصوص هذه المدونة الشعرية قصيدته (رِحلةُ رَقمٍ مَجهولٍ) ذات المقاطع التراتبية الستة؛ لنكشف عن جماليات وآفاق التكرار الحرفي في بعض مقاطع هذه القصيدة التي حرص فيها الساعدي أنْ تكون أسلوبيتها التكرارية الإيقاعية الداخلية متواشجةً لغويَّاً وتركيبياً مع نظام دلالاتها السياقية والموضوعية بشكلٍ يلفت نظر المتلقِّي ويؤثِّر فيه نفسياً، ويُحَرِّضهُ على قراءتها وإدراك كنهها وفهم محمولاتها الكليَّة بعد أنْ تواصل معها وفكَّ شفراتها وحلَّلَ معمياتها الخفية ابستمولوجياً معرفياً حتى مشارفته نهايتها. إذ يقول عن تجلِّيات التكرارية الحرفية بهذه التراتيل الشعرية:

عَن الطُّفُولَةِ الغَابِرَةِ

عَنْ وَسائِلِ الغَرَامِ الَّتي تُكتَبُ بِدَمِ القَلبِ

لَا بِحِبِر المَوَاجِعِ وَحدَهَا ..

عَنِ الجِسْرِ وَجُرحِهِ الأَولِ

عَنِ الجِسْرِ وَجُرحِهِ الكَبِيرِ

عَنْ نُدُوبِ رُوحِهِ

عَنْ أُغنياتِهِ الَّتي ضَيَّعَهَا المَارُونَ خِلسَةً (مَرَايَانَا، ص 80، 81، 82)

هذه السلسلة الحَلقية الترابطية من العنعنات التَّكرارية الحرفية بهذا التساوق النسقي الروحي الذاتي الجميل التي استحضر فيها الشاعر الساعدي تالد ذكرياته عن ماضي طفولته الغابرة، وعن رسائل عشقه الأزلى التي كتبها لمحبوبته بدم القلب النازف لا بحبر مواجعه التوثيقية كفيلةٌ بأنْ تنكَأَ جروحَ نُدوبِ روحهِ الهائمةِ بعلائق جسر مودَّته الأول وجرحه الأخير المفعم بأغنياته العذبة التي ضيَّعها المارونَ خفيةً. لقد تكررت هذه العنعنات الحرفية المتعاقبة ست مرَّاتٍ بإيقاعات دلالية ولغوية مُتعدِّدة الأفكار والمضامين الشعورية الدالة على الذات الشاعرية مع تجلِّيات عالمه الآخر. وقد أدَّت هذه المتكررات الحرفية المتوالية هَرَمِيَّاً وظيفتها التوسعية من خلال الحدث الكلي للقصيدة ضمن سياقاتها الشعرية النصية المترابطة فكرياً وفنيَّاً.

وها هو الساعدي يُكرِّرُ ترانيم عنعناته الحرفية في رثائه المُهدَى(إلى الرُّوحِ العظيمةِ أُمّهِ)في قِسْمِهِ الثاني قائلاً:

عَن أُمِّي ..

عَن شِيلَتِهَا السَّماويَّةِ السُّودَاءِ

وَعَنْ رُوحِهَا الَّتِي  تُشبِهُ رَائِحَةَ الطَّلعِ

أَكتُبُ فَيَنزِلُ  مِنْ وَحشَتِي  سَمَاءٌ مِنِ الدَّمْعِ (مَرَايَانَا، ص، 13)

لا شكَّ أنَّ العنعنات اللَّفظية هي حروف جرِّ تؤدِّي معانيها وفق دورها المنوط بها عن تواترها الحدثي المنقولة عنه؛ لكن وظيفتها الدلالية هي النسق المرجعي الأصلي؛ كونها تشكِّل مصادرَ مُستقاةٍ للحدث التي نُسبت إلية، أو أُخُذتْ منه، فمصدرها الأول النسقي هي الأُمُّ الحنون التي ترك الساعدي  للمتلقِّي أو القارئ التعبير عنها بفراغاتٍ بياضيةٍ  واضحةٍ، وأمَّا مصدرها الثاني فهو شيء من لوازمها الشكلية أو بقاياها (الشِّيلةُ) أو الحجاب الذي تستر به رأسها، ومصدرها الثالث الذي عبَّرت عنه بمنتهى الصدق والوفاء، هو روحها السامية التي تُشبه رَائحةَ طَلعِ النخيلِ أو بذوره كما هو معروف عنها. وكأنَّ الشاعر يحتفي قسماً بهذه التَّكرارات المعبِّرة إيقاعياً عن تواتره الشعوري المؤثِّر الذي يُشرِك به المُتلقِّي تفاعلاً معه. فضلاً عن أنَّه قد كرَّرَ(مِنْ) التبعيضية مرتين تأكيداً وتأصيلاً.

2- نَسقُ تَكرارِ الضَميرِ:

ولأنَّ الشاعر لا يمكن أنْ يُسيطر على هواجسه الشعرية وتداعياته النفسية الشعورية المهجوسة  بالتجدُّد والتَّعدُّد التكراري لإيقاعه  الداخلي، فقد يخرج لديه النسق الشعوري الأسلوبي النمطي من التكرارية الحرفية إلى تكرارية الـ(أنا) الضميرية الدالة على وقع الذات الشاعرية الواثبة الكبيرة فنياً. وكما وظَّفها ناظم الساعدي في مقطعه الأخير من قصيدته (سَجعٌ مُرسَلٌ...) في هذه التراتيل الأنوية الثلاثة من دفقاته الشعورية التي فاضت بها القصيدة:

أَنَا الأَنِيُن فِي شَوقِي

وَسيِّدُ الجَمرِ فِي قُدَّاسِكَ الأَلَقُ

أَنَا ضَيَاعُ المُوجِ إنْ سَادَهُ العَبَقُ

أَنَا كُلُّ الحُرُوفِ إنْ نَطَقَتْ بِكَ

وَمَعنَاهَا إِنْ حَطَّتْ عَلَى الوَرَقِ  (مَرَايَانَا، ص 18)

فهذه الـ(أنا) التكرارية المضمَّخة بوقع الشوق وصدى الأنين الموجع وحرارة الجمر اللَّاهبة ومتاهة الضياع وسمو جلالة الحروف الناطقة بترجمان الذات الشاعرية أسهمت جميعها في تخليق قطعة شعرية ساحرة اشتركت بتواشجها الداخلي الإيقاعي الجمالي الفنِّي مع الإيقاعات الخارجية لنهايات سطورها المتوحُّدة بتقفيةٍ حركيةٍ قافية نحو(الألقُ، العبقُ، الورقُ)،وقد أسهمت جميعاً في تعاظم الروح التكرارية الإيقاعية ومنحت الدلالة جوَّاً من الألفة.

والتكرار بالضمير يُمثِّل ظاهرةً أسلوبيةَ لافتةَ للنظر وخاصةً في نصوص قصائد الشعرية النثرية في الشعر العربي الحديث، وعلى وجه التحديد في مطالع المقاطع الشعرية أو في مُستهلات مُفتَتحِها؛ كونه يحدث لدى المتلقِّي أو القارئ هِزَّةً نفسيةً أو ارتعاشةً شعوريةً لتأكيد الذات الشاعرية وتعظيمها أو تهويلها أو تفخيم معانيها الدلالية من السياقات الشعرية التي تتطلَّب من مبدعها تخليق صور منه حماسية أو رثائية أو فخرية أـو غزلية عاطفية في تأثيث ورسم هوية الآخر المقصود بآلية التكرار. وهذا ما نتلمَّسه واضحاً في بعض مقاطع قصيدة الساعدي الموسومة(صباحُ الكونِ لكِ بغدادُ) التي يفتخر بها بمدينة بغداد، وكأنها امرأة جملة يرسمها لوحةً شعرية:

وَهَا أَنتِ تَرسِمِينَ أَيامِي بِفِرشَاتِكِ

وَتُنَاغِينَ وَجَعِي عَنْ كَثَبٍ

وَتَستَفِيقِينَ كُلِّ صَبَاحٍ

عِندَ صَوتِهَا المَلَائِكَةُ

وَهْيَ تُغَنِّي بِغدِادَ..

وَأَقِصدُ فَيرُوزَاً !!

هَا أَنتِ تُتَمتِمِينَ  بِهَمسٍ

يَا قِبْلةَ الشُّعَرَاِء وَرَوعَ مَا قِيَل

فِي رَوضةِ الأَدَبِ (مَرَايَانَا، ص 40، 41)

وفي مطلع هذين المقطعين الشعريين يؤكِّد الساعدي تكرار الضمير المتوالي (أنتِ) في الجملة الشعرية إيقاعاً توقعياً نغمياً جميلاً باعثاً على صوره الحركية الموقظة للدلالة الجمالية لمدينة بغداد؛ كونها الموصوفة بـ (أنتِ) بؤرة التكرار الصوري ومركز ثقله الدلالي الذي تفاخر به الشاعر ذاتياً وشعورياً، إذ وجد في هذا التكرار صورةً من صور الوفاء والوطنية الحقَّة التي ارتقت بها معاني القصيدة بهذا اللَّون الشعوري من الغزل الشفيف لبغدادَ.

وفي أحد مقاطع قصيدته (راهبُ الحنينِ كُلَّهِ) يوظِّف الشَّاعر ناظم كَاطع الساعدي توصيف الضمير (أنا) التعريفية مُكرِّراً إيَّاهُ مرتين في رثاء أخيه، لغرض اثبات ما للمرثي  من آثار سجايا وصفات إنسانية وفطرية مثيلة يتحلَّى بها بين أهله وناسه، إذ يصفها الشاعر بتشبيهه قائلاً:

وَكَأنَّهُ يَتَهَجَّى الفَجِيعَةَ الَّتي صُرتُ أَبَّا لَهَا

أَنَا عَلَى الدَّوَامِ مِنْ آبَاءِ الفَجِيعَةِ

مِثلِمَا فُطُرتُ فِي الصِّبَا كَوَاحِدٍ مِنْ أَبنائِهَا..

أنَا صُنوُهَا وَتَوْأَمُ أَحزانِهَا الأَبَدِيَّةِ !!

فَنَمْ أَيُّهَا الصَّادقُ جِدَّاً (مَرَايَانَا، ص 32)

إنَّ تكرار الضمير أنَا بهذه الطريقة التأكيدية التي تبعث على التأمُّل والنظر بسطور الدفقة الشعورية توحي بالانتماء الجمعي للآباء وامتداد لحاضرهم المعيش، وقد أفاد حضورهما في طيات المقطع فاعلية المشاركة وأضفى على النص قوةً مضاعفة أخرى زادت من أثر تلاحم أجزاء البناء النصي للقصيدة تلاحماً جمالياً ودلالياً.

3- النَّسقُ التكراري للكَلمَةِ:

ونعني بالنسق التكراري  للكلمة أنْ يُكرِّر الشاعر المبدع في خطابه النصي الشعري كلمةً أو لفظةً شعريةً ما رصينةً مؤثرِّةً سواء أكانت الكلمة المكرَّرة اسماً أو فعلاً أو حرفاً كما مرَّ بنا في الإجراء التطبيقي لتكرار الحرفية. ومزية هذا التكرار لا بدَّ أنْ يكون تكراراً فنيَّاً عالياً موقظاً بمهمازه الشعري الحركي، وفاعلاً مستثيراً بجِرس دلالالته الفنيَّة  التكراريَّة الموقّعة، ومقوِّياً لمعانيه ومضامين بُناهِ الفكرية المحتشدة تارةً بالحالة الشعورية النفسية، وتارةً أخرى بفوائد تنغيماته الموسيقية المتعاقبة التي اعتمدها شعراء الحداثة الشعرية معجمياً. ولا سيَّما شعراء قصيدة النثر ممن اتَّخذوا التكرار شرطاً مهمَّاً من شروط بناء وتأصيل قصيدة النثر واستمرار أُسلوبية خلودها الروحي الفني حداثوياً في ظلِّ عصرنة التحوّلات المرحلية والمتغيِّرات الشعرية الزمكانية الراهنة.

وجدير بالإشارة القوليَّة أنْ نذكر هنا أنَّ النسق التكراري للكلمة الشعرية الواحدة يكاد يكون هو النمط الشكلي من أنواع التكرار المتعدِّدة وهو الغالب والمُهيمن على فضاءات الأنماط والأنساق التكرارية الأخرى في شعرية ناظم الساعدي في إنتاج مصفوفته الديوانية الشعرية (مرايانا). إذ يتَّخذ لفظةً محدَّدةً ما بشكل تتابعي مُتواتر الأثر أو مُتباعد السطر؛ فتكون هذه الكلمة مركزاً محوريَّاً مؤثراً فاعلاً تدور حوله حركة الصور والانثيالات الشعورية الصادقة عن واقعة الحدث ذات الدلالات الموضوعية والجمالية.

والتي بدورها تضع في أيدينا - نحن المتلقِّين الدارسين- إشاراتٍ مفاتيح جوهريةً للفكرة المتسلطة على عقل ومخيلة الشاعر ونفسيته الروحية والتي تشغل باله وتُهيمن على واقع تفكيره كما ترى نازك الملائكة في نظرتها النقدية لتقنية تكرار الكلمة. وقد اتَّخذ تكرار الكلمة الواحدة عند ناظم الساعدي في شعريته شكلين أو نمطين هما، تكرار الكلمة الاسمي، وتكرارها الفعلي، وسَنسلط الضوء عليهما تطبيقيَّاً وإجرائيًّاً:

أ- تَكرَارُ الكَلمة ِالاِسمِي (الاسمُ):

ونعني بذلك - تكرار الكلمة الاسمي- أنْ يعمد الشاعر قصدياً إلى ظاهرة تكرار الكلمة الواحدة تكراراً اسمياً بنائياً نصيَّاً مؤثِّراً بدلالاته الفنيَّة والجمالية المتتابعة بدءاً من مفتتح القصيدة، ومروراً بسطور انثيالات طياتها المقطعية، وانتهاءً بخواتيمها التوافقية مع مُستهلات مطالعها الافتتاحية المُغرية. وعلى وفق ذلك الاتساق النسقي المتراتب يُشكِّلُ نظام الكلمة الواحدة المكرورة اسمياً مركزاً بؤريَّاً مكثَّفاً، ومحوراً احتشادياً فنيَّاً لافتاً يمثِّل مصدر نقطة الإضاءة التي يرتكز عليها بناء القصيدة جمالياً، وينهل منها روافد ثقل تركيبها الفنِّي. وقد أقبل الشاعر ناظم الساعدي على الاشتغال بهذه التقنية التكرارية الاسمية في خطابه الشعري الحداثوي؛ ليحقِّق لنصوصه الشعرية سمات التوازن الفني الجمالي، وعلامات التكامل الإيحائي الإشاري في وقائع القصيدة.

ولعلَّ الغاية الإبداعية التي ينشدها الشاعر من تقنية هذا التكرار الاسمي المعبَّأ المتتابع أنْ يُحقِّق للقارئ بمهمازه الإجرائي التطبيقي تنبيهاً إيقاعياً لافتاً في جذب انتباهه إلى نقطة الإشارة الضوئية المكرَّرة في أقانيم القصيدة وتخومها المقطعية، والتي تنعكس من خلالها رؤية الشاعر وفلسفته الشعرية. والتَّكرار الاسمي في شعرية ناظم الساعدي يأتي على صورتين متباينتين تكرارياً، يأتي في بداية السطر الأول من مطلع القصيدة ويتتابع فنيَّاً، ويأتي تكرارياً من خلال مقاطع القصيدة الأخرى المتعدِّدة أو من خلال نهايتها. ومن المقاطع الشعرية الدالة على فاعلية التَّكرار الاسمي المقطع الأول من نصِّه الشعري المعنون (الذِي يَنامُ فِي الهَوَاءِ)، إذ يفتتحه الساعدي مبتدئاً القول:

الهَوَاءُ الَّذي مَضَى

الهَوَاءُ الَّذي يَمضِي

هَكَذَا صَحَتْ فِي لَيلَةٍ مَاطِرَةٍ

الهَوَاءُ فِي حُضُورِهِ

الهَوَاءُ فِي غِيَابِهِ

سَيَّانَ أَنْ يَكُونَ مَحضَ سَرَابٍ

كَيفَ لَكَ أَنْ تُدْرِكَ

مِحنَةَ الهَوَاءِ عِندَمَا يَنَامُ المَرْءِ

فِي أَقبيةِ الظَّلَامِ دُونَ أَمَلٍ ؟ (مَرَايَانَا، ص 66)

وظَّف الشاعر أسلوب التكرار الاسمي في كلمة (الهواء) توظيفاً حدثياً تتابعياً منتظماً، إذ تكرَّرت الكلمة في المقطعين خمس مراتٍ رغبةً منه واستجابةً ذاتية في المحافظة على رتمِّ الإيقاع الحركي الصوتي الممتد تتابعياً في أسلوبه الشعوري، والمتوالد من تكرار الكلمات، وتنظيمه وتدفقه العاطفي وراء تدفقه الشعوري بهذا التناسق الحركي اللَّافت. والشاعر هنا يواصل إنسياقه العاطفي وراء تدفقه الشعوري وعدم كبح جماحه معتمداً في ذلك  على آلية ذلك التكرار اللَّفظي للاسم التي تشي تكراريته الزمنية إلى استمرارية التدفق الإيقاعي للقصيدة نسقياً.

حتَّى ترى هذا الإيقاع تارةً يكون حدثه الزمني ماضياً وتارةً أخرى حاضراً وتارة ثالثةً مستقبلاً متغيراً، كما هو حاصل في سطور المقطع لهذا الهواء الذي صيَّره زمانياً. وهذا التكرار اللُّغوي المتواصل يعمل على تحقيق التنامي الحدثي للقصيدة ويمنحه مساحة من التكوين الإيقاعي، فضلاً عن ذلك يُحقِّق التكرار للوحدة الموضوعية قصديتها الإيحائية وجدليتها في ثنائية الغياب والحضور الذاتي. ومن النماذج الشعرية الجيِّدة التي يتمثَّل فيها الشاعر التكرار اللَّفظي الاسمي لكلمة (الحياة) هذا المقطع الشعري التوصيفي من قصيدته الدالة على أيقونة رمزيتها الموضوعية (عنْ مَسرحِ الحَياةِ مَثَلَاً)، والذي ينشد فيه مؤكداً تجلِّيات التكرار:

الحَيَاةُ المَسرَحُ

وَالحَيَاةُ الخَشَبَةُ وَالحَيَاةُ المُمَثِّلونَ

وَثَمَّةَ سِيناريُو لِمَصِيرِنَا الحَائِرِ

الحَيَاةُ مَسرحٌ كَبِيرٌ مِثلُ قَلبِك الشَاسِعِ

الَّذِي يُشْبِهُ لَثْغَةَ الأُمَّهاتِ

عِندَ أَولِ سَقَطَاتِ قَدَمِي الطِّفلِ (مَرَايَانَا، ص 52)

إنَّ هذا الضرب التأكيدي المتوالي من التكرار اللَّفظي لكلمة (الحياة) أربع مراتٍ له تأثيره الدلالي النفسي والإيقاعي النغمي الصوتي في واقعة الحدث الموضوعية. تلك الواقعة التي كانت مثابةً لمنبع القصيدة ومركزاً لفضاءات ثقلها الجمالي والإيحائي الممتد عبر مِساحات الفعلية الاسمية التكرارية التي تَسحرُ القارئ بتعددها الدلالي اللَّفظي المتناسل فكرياً وموضوعياً. والحياة في نظر الشاعر ناظم الساعدي مجموعة صور عديدة، وليس لفظاً تكرارياً نمطياً مُعاداً. والحياة في مخيال الشاعر مسرح كبير من الفعليات الحدثية وضرب من مسار الحركة الفعلية، والحياة عنده خشبة ومثابة مكانية مرتبطة بزمن معين ما. والحياة بعينيه البصرية المرئية فواعل شخصية حركيةٌ، من الممثلين يُسيرها درامياً وحركياً سيناريو فاعل مكين مائز يتحكَّم بمصائر النفوس الحائرة. إذن الحياة بهذا الوقع التكراري الأميز  بواوات العطف ليس إلَّا مسرح كبير كالقلوب الندية يتِّسع لكل هذه الوحدات التكاملية.

لم يتقيَّد الشاعر ناظم الساعدي بنظامٍ معيَّن من تقنية التكرار اللَّفظي الموحد، فقد يقوده تدفقه الشعوري إلى أنْ يكونَ إيقاعه التَّكراري الاسمي في آخر السَّطر لمقاطع الشعرية، أو قد يتداخل مع سطورها بنظام مغاير، فيكون تارةً آخر السطر وتارة ًأخرى في أول السَّطر بحسب ما يقتضيه امتداد الدفقة الشعورية التي ينتهي عندها الضرب الإيقاعي للكلمة الاسمية. وهذا التمظهر ماثل في تجلَّيات قصيدته (قُبلةُ الكَونِ) التي يبتدِئُها الشاعر منشداً القول:

كلُّ شَاعِرٍ لَا يُفَسِّرُ مَعنَى القُبلَةِ

غَيرِ جَدِيرٍ بِالجِنُونِ

كُلُّ شَاعِرٍ هُوَ أَخِي فِي مَعنَى القُبلَةِ

مُنذُ القُبلَةِ الجَاهليَّةِ فِي الشِّعرِ

وُصُولاً إِلَى تَفسِيرِ الخَرَابِ

الَّذِي أَفسَدَ الحَيَاةَ مِنْ دُونِ قُبْلَةٍ

القُبلَةُ إِذَاً مَعنَىً وَاسِعٌ

لَكِنْ البِلَادَةُ وَهيَ تَنتَشِرُ مِثلَ الهَوَاءِ

لَا يَعرِفًهَا أَحَدٌ فِي مَعنَى القُبلَةِ ! (مَرَايَانا، ص 28)

فلو تفحَّصنا جيِّداً  فضاءات هذا المقطع الشعري، لرأينا أنَّ الاسم  المكرَّر لفظه إيقاعياً ودلالياً ونفسياً هو(القُبلَةُ) التي تكرَّرت بتمظهراتها اللَّفظية والدلالية ست مرَّاتٍ؛ ولكنَّها جاءت في محوريتها المركزية ليست بضرباتٍ تتابعيةٍ.، أي جاءت الكلمة تلو الأخرى. فهي في السطر الأول ضربتها التوقُّعية جاءت في نهايته، وهي في السطر الثالث جاءت كذلك في خاتمته ، أمَّا في السطر الرابع فكانت مُضافةً لـ (منذُ) بدايته الزمنية. في حين تتأخر في السطر السادس إلى نهايته التعبيرية عن دلالاتها الفكرية، وفي الوقت ذاته تتقدَّم في السطر الثامن لتكون في بدايته تعبيراً عن تأكيد قوتها وتحقيقها الفعلي المؤثِّر. وهكذا تمضي تكرارية وقع اللَّفظ قُبلَةٍ في سطور المقطع الشعري.

ويستمرُّ الشاعر الساعدي في تواصله التَّكراري اللَّفظي للكلمة الاسمية حتى تستقر مثاباتها التعدُّدية فتكون خاتمةً في نهايته المقطعية. وهذا الانتقال التكراري المتأرجح يميناً وشمالاً يدلُّك على مدى سعة المساحة اللَّونية التي تتحكَّم بقدرة الشاعر وتفرُّده بهذا التساوق الشعري المتتالي الممتد في جسد القصيدة وفي روحها النابضة بالجمال.

ويتَّخذ التَّكرار اللَّفظي للاسم في مصفوفة ناظم الساعدي أشكالاً تنظيميةً مختلفةً في تركيبها الجُملي. وقد يوظُّف الشاعر لمثل هذا التكرار في مطلع كل مقطع شعري توظيفاً تتابعياً مهجوساً بوقع ضرباته الإيقاعية المتوالية في نواة الجملة الشعرية التي تتشظى من منبعها التكرارات اللَّفظية ذات المعنى اللَّفظي الدلالي الموحي بإشاراته التركيبية عن فاعلية هذا التكرار. وقد يكون هذا التَّكرار المقطعي ليس تكراراً تتابعياً، وإنَّما يكتفي الشاعر بأنْ يكون المحور الرئيس للتَّكرار في مفتتح كلِّ مقطع شعري يستهل به بناءه الشعري النصِّي. وكما هو بائن في قصيدته الموسومة (الجنونُ الذي يَشبهُني)، إذ ينظّم قصيدته بهذا الترتيب المتوالي المتواصل لتقنية تكرار الاسم:

الفِكْرَةُ لَيْسَتْ اِبنَةَ الرِّيحِ

الفِكرَةُ أُمٌّ رَؤُومٌ لِكُلِّ هِذَا الأَلَمِ

الفِكرَةُ لِيسَتْ نَقِيضَاً لَلجُنُونِ؛

لِأنَّ العَقلَ وَسِوَاهُ يُفكِّرَانِ فِي شَيءٍ

بِالضِدِّ مِنِ الآخِرِ (مَرَايَانَا، ص 25)

فالشاعر في المقطع الأول من القصيدة يُكرِّر لفظة (الفِكرةُ) تكراراً تتابعياً ثلاث مرَّاتٍ، وينفي أنْ تكون الفكرة ابناً طارئاً للريح العابرة، بل هي الأُمُّ الرؤوم الحاني التي تحتضن كلَّ شيءٍ، وهي ليست نقيضاً متضاداً للجنون، وإنما هي مركز العقل المدبِّر للفكر ومفتاحه السِّرِّي لحل المعضلات. والشاعر بهذا الضرب التكراري منح إيقاعاً تراتبياً موقظاً لافتاً لوعي القارئ وتأثيره المباشر على نفسيته المنجذبة في تواصلها مع صيروره تفاعله الحدثي.

ولم يكتفِ الشاعر بهذا الضرب التَّكراري للكلمة الاسمية فقط، بل عمد إلى تكرارها تكراراً عمودياً (رأسياً) بمستهلات كل مقطع من مقاطع القصيدة وجعلها نقطة ضوء ينطلق منها في استمرارية توقُّعه الحدثي الأسلوبي. وهذا ما تشي به سطور المقطع الثاني الذي جعل من (الفكرة) الكلمة المحورية لازمةً بؤريَّةً  مكتنزةً يبني عليها حشد انثيالاته الشعرية الدافقة دون تكلُّف مقصود في بنائها الشعري التركيبي:

الفِكْرَةُ تُنَمِّي حَيرَتِي فِي ذَلِكَ الضَيَاعِ

فَتَارَةً أَرسِمُ خُطُوطَ يَدِي

فَأَرَى حَنِينَاً يَتَوَارَى خَلفَ أَقبِيَتِهَا

وَتَارَةً نَكسُوهَا ذِكرَيَاتٍ تَحكِي

عَنْ تِلكَ الأُمنِيَاتِ الَّتِي بَقِيَتْ تُراَوِحُ أَدرَاجِهَا

وَتَهمُسُ لِي بِعَجزِهَا عَنِ الُوصُولِ (مَرَايَانَا، ص 26)

هكذا يُكرِّرُ الشاعر (الفكرة) مقطعياً ويضفي على وحدته الموضوعية شيئاً صورياً عميقاً من ندى فيض روحه الجياشة بالأحاسيس والمشاعر. وَيُكرِّرُ حدوث مثل هذا النسق الشعوري مُكَرِّرَاً الكلمة ذاتها في المقطع الآخر الذي يؤنسن فيه الفكرة ويمنحه روحهاً صفات الإنسانية  لوناً وحركةً وجمالاً:

الفِكْرَةُ ذَاتَهَا سَادَهَا المَشِيبُ

وَانْحَنَتْ عَلَى جَوقٍ هَائِلٍ مِنِ الأَوجَاعِ

وَتَرَسَّخَت بَينَ خُطُوطِ يَدَيَّ

وَلَمْ تَبرَحْ إلَّا بِكَسرِ قَوَاعِدِي

فِي تَوبيِخِ مَا أَرَاهُ مِنْ تِلكَ القُيُودُ (مَرَايَانَا، ص 27)

وبهذه الروح الشعرية المتيقظة يمنح الشاعر الفكرة صورةً حركيةً روحيةً مؤنسنةً وينزاح بها في تنمية دفقاته الشعورية الدالة على ذاته الشاعرية ورؤيته الفكرية في مواجهة الحياة وكسر قيودها الرتيبة. ولنتابع استمرارية  في تكرار مفردة (الفكرة) في مطلع مقطعه الأخير، وكيف جعلها نواةً تنفلق منها أدواته فتحتوي قصائده الشعرية:

الفِكْرَةُ هِيَ نَوَاةُ لِفَلَقِ أَدَوَاتِي

وَاِحتِوَاءِ قَصَائِدِي

الَّتِي تَنمُو مِنِ الوَجَعِ ذَاتِهِ قَطّ (مَرَيَانَا، ص 27)

فالمُتَأَمِّلُ لتكرار لفظة (الفكرة) في مقاطع القصيدة الأربعة، سيجد أنَّ لكلِّ تكرار لفظي له وظيفته المقطعية التي أدَّاها على النحو الذي رسمه الشاعر لها رسماً دلالياً وإيقاعياً فنياً ممكناً. فالفكرة في المقطع الأول جاءت رفضاً تامَّاً كي لا تكونَ عابرةً غير فارَّةٍ، وفي المقطع الثاني جاءت الفكرة بناءً يُنمِّي حيرة الشاعر من الضياع والتي، وفي المقطع الثالث جاءت انزياحاً صورياً لفكرة المشيب الإنساني، وأمَّا المقطع الأخير الذي ختم به قصيدته جاءت معبرةً عن ذاتها؛؛ كونه جعلها نواةً محورية تنفلق منها شعرية قصائده وتنطلق منها أوجاع الشاعر وآلامه وجروحه النازفة بهذا التكرار التنغيمي المُوقّع ،والمعبِّر عن واقعة الحدث الزمكانية التي جسدتها  مقاطع القصيدة.

وهناك أمثلة ونماذج كثيرة أخرى على تنوِّع التكرار الاسمي للكلمة في مصفوفته الشعرية (مَرَايَانَا...) التي  جاءت بطريقة التقديم والتأخير السَّطري لهذا المقطع الشعري الذي تكرَّر فيه لفظ (الأيام)  أربع مرَّاتٍ متواليةٍ، وبشكل طلبي تساؤلي يحتمل الجواب فيه التعبير بـ (أَمْ المُعادلة)، وسواء أكان إيجاباُ أم سلباً المهمّ تقنية التكرار:

مَاذَا يَعْنِي رَسْمُ الأَيامِ ؟

الأَيَامُ الحُلوَةُ الَّتي يَعِيشُهَا النَحلُ مَثَلاً،

أَمْ الأَيامُ المُرَّةُ الَّتِي اِغتَالَتْ غُصْنَ المَحَبَّةِ الهَائِلَ ؟

الأَيَامُ إِذَاً مَارِقَة مِثلُ وِلَدٍ طَائِشٍ

وَمُخَاتِلةٌ مِثلُ وَلَدٍ عَنِيدٍ !  (مَرَايَانَا، ص 40)

تَكرارُ الشّاعرِ للأيام بهذا التوقُّع فعل فعلته التَّكرارية المؤثِّرة بين حُلوٍ ومُرٍّ وَاغتيالٍ وحبٍّ ومَرَاقَةٍ وَمُخاتلةٍ وعَنَادٍ.

ب- تَكرارُ الكَلمةِ الفِعْلِي(الفِعْلُ):

ونعني بتكرار الكلمة الفعلي أنْ يُكرِّر الشاعر- في قصيدة أو في مقاطعها الشعرية- فعلاً حدثياً مرتبطاً بزمن معين ما، سواء أكان الفعل (ماضياً أو مضارعاً أو أمراً). وينطلق من تكرار تحشيده المتتابع وتعبئته في رسم معمارية هندسته التكرارية القارَّة؛ ليصل وقع هذا الفعل وتأثيره الحدثي الزماني إلى المتلقِّي فيوقظه بِجِرْسِ الانذار الفعلي الذي تزخر به الجمل الشعرية سبكاً وحبكاً ودلالةً ورفعةً؛ للوصول إلى قصدية الذات الشاعرية وتحقيقها إيقاعياً ونفسياً داخل فضاءات النصِّ الشعري المتوهِّج بهذا الترتيب التتابعي المتواصل من الطاقات الفعلية المتفاعلة نصيَّاً بضرباتها اللُّغوية والدلالية المتساوقة.

إنَّ آلية تكرار اللَفظ (الفِعْلي) في النصِّ الشعري تُعدُّ فنياً وجمالياً من أهمِّ الإشارات المهمازية التكرارية الدالة بعلاماتها السيمائية الفعلية على شدِّة انفجار الموقف الشعوري وهيجان واعية التوتر الانفعالي في أعماق الذات الشاعرية. وهذا مما يشي بأنَّ للتَّكرار اللَّفظي للفعل له وقعه الخاص وتأثيره النفسي الفاعل المباشر بالمتلقِّي. وعلى وفق ذلك لا تنحصر مهمته الرئيسة بوظيفته المُرتبطة بزمن محدَّدٍ ما، وإنَّما تكون مُهمَّة تكرار الفعل مركزيةً محوريةً أساسية متوالدة بدلالاتها المعنوية التوقُّعية الكثيرة في بنية النصِّ الشعري. حيث تنبعث من موحياته اللُّغوية التكرارية التعبيرية المتساوقة طاقات انفجارية موجبة هائلة، ويكتنز من الدلالات والمعاني التخليقية الماتعة المدهشة التي تعلو من عَمَدِ سقف النص الشعري وترفع من قيمة مكانته الإبداعية في جماليات الخطاب الشعري لقصيدة النثر الحديثة.

وباعتقادنا التقديري الخاص إنَّ التكرار الفعلي في النصِّ الشعري لقصيدة النثر ذات التركيب الأسلوبي الصعب له طابعه الدلالي والنفسي الخاص، وله أثره الفني والجمالي الكبير عندما يتحوَّل هذا الملفوظ  الفعلي المكرَّر من فعل حدثي زماني مُحدَّدٍ بوقتٍ إلى طاقة إيجابية موحَّدة من الحيوات الخلَّاقة الفاعلة تُسهم في إثراء معجم  الدلالات التعبيرية السياقية وتمكينها من أداء وظيفتها اللُّغوية الحركية الصورية والانزياحية  داخل مثابات النصِّ.

ولتبيان فاعلية أثر التكرار الفعلي والتدليل على مؤشِّرات تأثيراته النفسية والدلالية الإجرائية المتحقِّقة نأخذ المقطع الأول من قصيدة الشاعر(مِنْ أوراق ِالخديعةِ) الدالة على وظيفتها العنوانية التعيينية والإغرائية الهادفة:

خُذْ مَا تَشَاءُ مِنِ الرِّيَاحِ

خُذْ مَا تَشَاءُ مِنِ الطَّبيعَةِ وَالرِّيَاحِ

خُذْ يَا صَدِيقَي طُفُولَتِي

خُذْنِي إِليكِ مُحَمَّلاً بِالصّيفِ

بِالمِلْحِ القَدِيمِ

وَبالجُرَاحَاتِ النَازِفَاتِ

خُذْنِي لِصِدْقِ القَرْيَّةِ الأُولَى

أَزِقَّتِهَا، شَوَارِعِهَا،

وَمُنعَرَجَاتِ أَروَاحِ الَّذِينَ تَرَكتَهُم

فِي البَابِ آبَاءٌ لَهُم

مِنْ رَجفَةِ الخَجَلِ الكَثِيرِ

أُمَّهَاتٌ كُنَّ يَغْزِلْنَ الثِيَابَ بِدَمعِ الرَّاهِبَاتِ..

خُذْ مَا تَشَاءُ فَذَا دَمِي

خُذْ مَا تَشَاءُ فَذَا جٌنُونِي وَاِرتِبَاكِي

وَاِختِلَاط ُمُوَاجِعِي  (مَرَايَانَا، ص 45، 46)

في هذه الدفقة الشعورية المقطعية المتواثبة السطور طولاً، والتي استهل بها الساعدي أحداث قصيدته، كشف فعل الأمر الطلبي (خُذْ) الدال اللَّفظي المكرَّر سبع مرَّاتٍ عن فنيَّة صور إيقاعه الداخلي الأسلوبي المنساب بتراتيله الحسيَّة سحَّاً وتِسْكَاباً للقارئ عبر سير تنغيماته التوقعية المتواترة لفظياً في بداية السطور الشعرية المتوحُّدة في تراتبها اللَّفظي شعورياً ودلالياً. واللَّافت أنَّ هذا التنغيم اللَّفظي المكرَّر للفعل جاء متوافقاً في انسيابيته التعبيرية الأسلوبية مع بنية قوافي بعض الأشطر السطورية في المقطع الشعري، مثل(الرياحِ، الرياحِ، النازفاتِ، الراهباتِ، دَمي، مواجعِي).وهذه الضَربات التساوقية الآسرة الأثر بتكراراتها وتوافقها اللَّفظي تمنح سطور القصيدة نغماً عذباً ماتعاً يمتدُّ نسغه الإيقاعي الروحي إلى مساحات تعبيرية واسعة من مقاطع القصيدة حتَّى اكتمال نهايتها الختامية.

إذا ما تأمَّلنَا مليَّاً ودلاليَّاً حركة فعل الأمر الطلبي (خُذْ) وما يكتنزه لغوياً من طاقات تعبوية وموحيات دلالية إنسانية وعاطفية فذةٍ محتشدة بمزايا العطاء والصدق والوفاء، لرأينا تلك الوظيفة الشعرية التي أنيطت به لتتجاوز نطاق دلالاته اللَّفظية المحدَّدة، فتدخل في جوهر البنية الشعرية، وفي صميم هندسة إنتاجه التخليقي الرؤيوي المتناظر. ولا أدلُّ على ذلك الحال التوصيفي اختيار الشاعر الساعدي للفعل المتضافر ذاته دون غيره من الأفعال الطلبية المؤثرة الأخرى في الشعرية. فهذا الاختيار المنتظم لم يأتِ عفوياً دون حساباتٍ حركيةٍ مُمهدةً لتوقيعه فنيَّاً.

ولنذهب إلى دالة فعلٍ تكراري آخر وما يحمله من معانٍ جمالية فنية ودلالية واسعة الأثر الذهني والتنبيهي في عن الذات الشاعرية وتأكيد ثبوته. ولنقرأ تكرارات هذا الفعل وما تركه من أثر إيجابي انفعالي في نفس المتلقي، وكيف وظَّفه ناظم الساعدي في بعض مقاطع قصيدته(الذي يَنامُ فِي الهَوَاءِ) بهذه الصورة الجمالية المتتابعة حركيَّاً:

لَستُ قَارِئَاً لِلحِفظِ

لَكِنَّنِي أُجِيُد نَهَايَةَ اللُّعبَةِ

لَستُ صَيَّادَاً مَاهِرَاً

لَكِنَّنِي أتَحَلَّى بِالصَبرِ

عِندَ نِهايةِ كُلِّ  مَرحَلَةٍ

لَأغدُو مِنْ بَقِيَتِي

بِبَعضِ مَا فَاتَ مِنِ النَّدَمِ

كِشِاهِدٍ وَحِيدٍ عَلَى المَعرَكَةِ

لَستُ قَارِئَاً لِفِنجَانٍ

مَنْ خَسِرَ الوُصُولِ اِحتِرِازِاً

مِنْ مُوتِهِ بَينَ ثَنَايَا العِزَّةِ

يَختَارُ الخَيبَةَ فِي نَهَايةِ الأَمرِ (مَرَايَانَا، ص 67، 68)

من المعلوم أنَّ التكرار هو أحد علامات الجمال الفنِّي البارزة في اللُّغة، وأنَّ إعادة التكرار اللَّفظي  سواء أكان اسما أو فعلاً أو حرفاً أو عبارةً هو عن ظاهرةً تنظيميةً فنيَّة جماليَّةً في الفنون الإبداعية يلجأ إليها الشاعر المبدع لغرض التأكيد أو التنبيه عن غرض معيَّن ما، أو لغرض التعظيم وأهميته في اللُّغة أو الرغبة الشعورية والنفسية في التلذُّذ بذكر اللَّفظ المُكَرَّر والإمتاع بتوقعاته التموسقية دلاليَّاً وجماليَّاً.

وهذه هي الأسباب الحقيقية التي دفعت ناظم الساعدي إلى تكرار اللّفظ الفعلي (لَسْتُ) ثلاث مرَّاتٍ في المقطعين السابقين رغبة منه في إثبات ذاته الوجودية المتحركة والنفي عنها ما هو ليس قائماً بذاته الشخصية. فتراه في مستهل مقطعه ينفي عن نفسه قراءة الحظِّ الغيبي ومعرفته به؛ لكنَّه يستدرك حينئذٍ بإثبات ما هو قادر عليه نهاية اللُّعبة. وكما ينفي عن ذاته مهارة هواية الصيد؛ لكنَّه على رويَّةٍ في ذات الوقت  يتحلَّى بمزايا الصبر الذي يتطلَّبه في الصيَّاد الماهر العارف بمهنته. كما ينفي أيضاً أنّْ يكون قارئاً أو منجِّماً لفنجان الغيبي الذي يمارسه سماسرة الدجل والسحرة المحترزون من الخسران والخيبة الحدثية.

وإنَّ الغاية الأساسية من ذلك هي ليس في التكرار اللَّفظي في الفعل (ليسَ أو لَستْ) ونفيه عن رمزية ذاته الشعورية، وإنما هي ما تركه هذا الفعل الآسر من أثر إيجابي كبير في نقل شعوره الباطني المتداعي إلى المتلقِّي كي يشاركه واقعة الحدث الجمالية التي قامت عليها الدلالات الشعورية في بناء النص الشعري المتماسك. ومما زاد من تأكيد قوة الفعل المكرَّر تعضيده بتكرار (لكنَّني) الاستدراكية مرتين مع فعلي الحاضر المضارعين (أَجيدُ، وأتحلَّى) اللَّذين أضفا على التكرار روحاً جمالية كبيرة منحة قوةً وجلالاً لغوياً شعرياً متوحداً مع تنغيمات التكرار.

وقد يكون اضطراب الحالة النفسية الشعورية واستقرارها شعورياً لدى الشاعر سبباً مهمَّاً في تغيير ضربات الفعل التكرارية من هيأة التكرار التتابعي للَّفظة الواحدة في المقطع الواحد إلى نظام التتابع التكراري الفعلي في كل مقطع من مقاطع القصيدة أو يتصدَّر بعض مقاطعها المتتالية. وهذا التباين التكراري للفعلية المكررة هوما يكشف عنه الفعل المستقبلي الدال على حضوريته (أُراقبُ) في قصيدة الشاعر الساعدي، (أراقبُ أيامي)  الدالة على وقع وظائفها العنوانية  الأربع وغلى دلالاتها السياقية:

وَأَنَا أَرْاقَبُ أَيَامِي

بِشَتَاتِها المَعْهُودِ

كَإنْجِيلٍ يُرَتِّلُهُ صَعَالِيكُ مَدِيَنتِنَا الضَائِعَةِ

الَّتِي يَعلُو صِيَاحُ دِيْكَتِهَا مُنذُ فَجْرِ اللَّوعَةِ

***

كُلُّ صَبَاحٍ أَرْقَبُ أَيْضَاً تِلكَ الصِبيَةَ

الَّتِي تَحتَضِنُ دُميَتِهَا

خَشيَةَ الرَّصَاصِ الطَائِشِ حَولَ رُؤُوسِنَا ..

رُؤُوسنَا الَّتي تَخلَدُ إِلَى الفَجِيعَةِ كُلِّ يَومٍ

***

أَرقَبُ أَيضَاً تِلكَ الوَردَةَ وَهْيَ تَنَامُ

قُربَ حَشدٍ يُلَوِّحُ كَثِيرَاً لِلعَابِرِينَ

وَهيَ تَرتَعِشُ خَشيةَ المَوتِ

بَينَ أَضلَاعِهُم الدَاكِنَةِ

مِنْ رِيحِ الحُرُوبِ (مَرَايَانَا، ص 9، 10)

فالمقاطع الثلاثة تركَّبت منها بنية القصيدة تكشف عن تكرار فعل المراقبة البصرية (أرقبُ) ثلاثة مراتٍ متوالية في مستهل كل مقطع شعري. فموحيات المقطع الأول تُشير إلى أنَّ تأثير الفعل المستقبلي قدْ وقعَ على أيام الشاعر الشتيتة وشبَّهها بصورة إنجيل سماوي يُرتِّلهُ صعاليك المدينة. في حين ينتقل في المطع الثاني ليعطي صورةً رقابية أخرى ولكن عن براءة صبية تحتضن دميتها الطفولية رغم حركة الرصاص الطائش، وفي المقطع الثالث يعطينا صورةً جماليةً لفعل المراقبة حين يكون رقيباً لوردته التي تنام قرب حشد كبير من العابرين. إذن قصديات الفعل (أرقب) الذي ركَّز عليه الشاعر في استمراريته ليست قصدياتٍ تكراريةً فحسب، بل هي انبعاث للحالة الشعورية التي يمرُّ بها الشاعر في تنقلاته الشعرية، وهي رسم صوري هندسي مُتراتب من إيقاع التأكيد والتنبيه والتفخيم التعظيمي في اثبات ذاته الشاعرية من خلال هذه الإيقاعات التكرارية الداخلية في بنائه النصِّي الذي تعاضدت فيه الأفعال المُضارعية الأخرى، مثل (يُرتِلُ، يَعلو، تَحتضنُ، تَخلدُ، تَنامُ، تُلَوِّحُ) في إسناد الفعل المُكرَّر.

4- نَسقُ التَّكرارِ الاِشتقاقِي لِلكَلمَةِ:

يمثِّل التكرار الاشتقاقي للكلمة نسقاً معرفياً من أنساق التوازنات الاشتراطية التركيبية التي لَقيتْ اهتماماً بالغاً في تراثنا الشعري العربي القديم، وعُدَّتْ حداثوياً من الأساليب والظواهر اللُّغوية المائزة في إنتاج  وتخليق بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر للشاعر الحداثوي. وأنَّ آلية هذا التَّكرار الاشتقاقي للكلمة الواحدة تعتمد بالدرجة الأولى على ما احتشد من تمظهرات ألفاظ مكرَّرة في الجمل الشعرية؛ وذلك من خلال الرجوع  إلى جذر هذه الكلمات الثلاثي الأساسي الذي يكثر ثلاثياً في أغلب الكلمات العربية. وهذا يعني أنَّنا قد نلحظ في النصِّ الشعري وجود كلمة أو مفردة لغوية أو أكثر من كلمةٍ مُشتقةٍ في أصولها أو مصادرها اللُّغوية من جذرها الثلاثي أو الرباعي اللُّغوي الأصلي نفسه، والتي لا تختلف عن نظائرها الاشتقاقية الأخرى من المفردات إلَّا في طبيعة بنيتها الصرفية أو الوزنية بالقياس مع أقرانها أو مثيلاتها الاشتقاقية الأخرى.

إنَّ آلية التكرار الاشتقاقي للكلمة هو أنّْ تتوالى في النصِّ مفردات اشتقاقية تنتمي إلى جذر لغوي أساسي واحد حتى تكون هذه التمظهرات الآلية المشتقة أكثر جاذبيةً وإدهاشاً توقُّعيَّاً على لفت تنبُّه القارئ أو المتلقِّي إليها وفق فاعلية هذه المساوقة الإجرائية للكلمة. والحقيقة أنَّ هذا النوع من التَّكرار الاشتقاقي المنتظم بآلية التوالد اللَّفظي يعمل فنيَّاً على تأكيد الدلالة اللُّغوية وتركيز تكرارها وتفعيل تعالقها جمالياً في ذهن القارئ وترغيبها إلى نفسه. ومن نماذج هذا التكرار الاشتقاقي الجيِّدة في مصفوفة ناظم الساعدي الشعرية (مَرَايَانَا التي يعلو نشيدها) هذا المقطع الشعري التصديري التأمُّلي من نصِّ قصيدته المعنونة (لأجلكِ يهونُ الكونُ) التي تبدأ بهذا التأمُّل الجمالي:

الكَونُ يَهُونُ إِذاً فِي اللَّيَالِي

الَّتِي لَا يَطلَعُ قَمَرُهَا

وَعَلَى الرُّغمِ مِنْ ذَلِكَ

يَعتَادُ القَمَرُ وَتَعتَادُ الرِّيحُ

عَلَى تَكرَارِ الأَسئِلَةِ

رُبَّمَا لِأنَّ التَّكرَارَ سِمَةُ الحَيَاةِ

الحَيَاةُ مُتَكَرِّرَةٌ فِي العَاطِفَةِ  المُهْمَلَةِ

عَلَى نَهرٍ حَزِينٍ فِي السَّعَادَةِ

الَّتِي تَنطِقُ بِهَا الأَلسِنُ

وَتَفتَقِدُهَا الرُّوحُ

الحَيَاةُ تَتَكَرَّرُ وَأَنَا مُعْتَادٌ

عَلَى أَنْ أَتَمَاهَى مَعَهَا (مَرَايَانَا، ص 100، 101)

إنَّ شعرية تكرار المفردة اللَّفظية (تكرارُ)، هي بكل صيغها الاشتقاقية الإجرائية الأربع (تَكرارُ، الَّتكرارُ، مُتكررّةٌ، تَتَكَرَّرُ)، في دفقات النص الشعري السابق تعود في كل المثابات الموضعية إلى أساس جذر ثلاثي واحدٍ هو (كَرَرَ). وهذا التكرار الاشتقاقي للجذر ذاته يمنح تلك المفردات اللَّفظية المتوالدة عمقاً راسخاً في سياقه النصِّي اللُّغوي، بيدَ أنَّ هناك علاقةً تفاعليةً وثيقةَ الأثرِ بين مجموع تلك الاشتقاقات اللَّفظية المكرَّرة الجذر الأصلي كَرَرَ.

وتكرار الأسئلة التي هي شيء محتمل، والتكرار سمة من سمات الحياة المتغيِّرة في مُضيها، وقِدَمِهَا. والحياة المُتكرِّرة عاطفياً وشعورياً حاضراً آنياً ومستقبلاً آتياً، وجميع هذه التَّكررات الموضوعية المثيرة التي سيطرت على سطور الدفقة الشعورية توحي إشاراتها الدلالية والسيميائية على تأكيد المعنى اللُّغوي الدِّلالي وترسيخه في نفس السامع والمتلقي، ونزع أُمارات الشكِّ عنه بهذا المعادل الموضوعي الذي يُسهم بتحريض وعي المتلقِّي واستجابته لهذه المثيرات المكررة التي أسهمت بانزياحياتها الأسلوبية والتعبيرية في بناء النصِّ وإنتاجه صورياً.

ولنأخذ نموذجاً شعريَّاً آخر لنسق  التكرار الاشتقاقي، وكيف وظَّف الشَّاعر السَّاعدي صوره الاشتقاقية المتعدِّدة بحسب دلالاته الحدثية الفعلية المكانية، ومحدَّداته الزمانية الفعلية المرتبطة بزمانية وقت حدوثه الفعلي الحاضر والمستقبل. وما العلاقة التي تربط هذه المجموعات الاشتقاقية اللَّفظية في وحدة النصِّ الموضوعية ؟ وهذا ما كشفت عنه وقائع قصيدته، (صُورةُ مُتقاعدٍ مِنِ الحَياةِ) التي يقول أحد مقاطعها الشعرية:

اِبَق وَحِيدَاً قُربَ ذَلِكَ الكَلبِ

الَّذِي أحبَبتَهُ وَأَحبَّكَ كَمَا تُرِيدُ

يَقُولُ أفلَاطونُ بِالفَضِيلَةِ

وَتَقولُ أَنتَ بِالخَيبَةِ

فِيمَا يَقُولونَ

بِنَهرٍ يَابِسٍ مِنِ الشَجَنِ (مرايانا، ص 87)

لو تتبعنا بإمعانٍ المشتق اللَّفظي للكلمة المكرَّرة لوجدناه فيما تقدَّم الفعل المضارع (يَقولُ) الدال على التلاحم الدلالي المعنوي الكلامي الناطق بالقول الفعلي الصوتي والحركي، والتناغم الموسيقي بين سطور الدفقة الشعرية من خلال الاشتقاق التكراري الذي تكرَّر ثلاث مراتٍ بصيغة المضارع الحالي والمستقبلي (يَقولُ، تَقولُ، يَقولونَ)، والذي أصل جذره الثلاثي اللُّغوي المعجمي في الماضي (قالَ)،أو (قَوَلَ)، وكيف تمكَّن الشَّاعر من تطويعه شعرياً.

وإنَّ الرابط الحقيقي بين هذه الاشتقاقات اللغويّة الثلاثة، هو انعدام الثقة الحقيقية في مصداقية القول بين القائل والمقيل، والدليل على جدلية ذلك أنَّ أفلاطون في جمهوريته المثالية الفاضلة مثال لمصداقية القول الحقِّ المحكي بالفضيلة، وأنَّ الآخر الصدى مثال الخيبة وعدم المصداقية بحقيقة ما يقول وما يقولون عن اتباعه. وهذا الاختلاف القولي الكبير بين (المحكي والصدى)، أي  بين الفضيلة وخيبة الرذيلة كان بؤرة لغة الحدث النصِّي اللَّافت للمتلقي الذي يتفاعل بين مع واقعة الحدث الجمالية التي ارتقى النصُّ إيقاعياً من خلال تكراراته الاشتقاقية التي تُرصِّن قصدية النثر الحداثوية فنيَّاً وجماليَّاً.

5- نَسقَ التَّكرارِ الجُمَلِي (الجُمْلةُ):

ونعني بنسق التكرار الجملي أنْ يعمد الشاعر الحديث والمعاصر إلى تقنية تكرار الجملة في قصيدته تكراراً فنيَّاً  جماليَّاً مُوحياً بآثار دلالته السياقية اللُّغوية المحبوكة، ولافتاً بوقع ضرباتها النغمية التركيبية المسبوكة في إنتاجها التخليقي وبراعة أسلوب معمار هندستها الشعرية المتنامية بنائياً وشعورياً. ومن الملاحظ أنَّ التكرار الجملي في شعرية ناظم السَّاعدي بوصفه شاعرَ قصيدةِ نثرٍ حداثويةٍ قد اتَّخذ أشكالاً لونيةً متعدِّدة التكرار في القصيدة الواحدة.

فجاء تكراره الجُملي تكراراً استهلاليَّاً مطلعيَّاً ولزوميَّاً لكل مقطع من مقاطع القصيدة المتباعدة حركياً، فضلاً عن خطى التزامه بأنْ يكون تكراراً جُمليَّاً ختامياً مَكيناً ذا نسق نغمي وجمالي مائز لافت وخاص بآقانيم القصيدة الرحبة ومناخها الفضائي الواسع الذي يجمعه خيط نسيج الفاعليَّة الشعريَّة وقوة لتأثير الشعوري للذات الشاعرة على المتلقي الواعي. ولا أدلُّ على ذلك الأثر الفاعل ما تحكيه المدونة المكانية قصيدة الأرخنة الموسومة لفظياً بـ (سِيرةُ مُقهَى وَمَدينةٌ) الدالة عتبتها وعلى وظائفها التدوينية الحدثية التاريخية والزمكانية:

المَقهَى ذَاتَهَا

تَتَصَدَّر الذِّكرَى

تَقِفُ فِي مُنتصفِ الذِّكرَى

فِي قَلبِهَا بِرِفَيفِ وِجدَانِهَا

***

ذَاتَهَا المَقهَى

بِحَنِينِهَا

بِحشدِهَا الَّذي بَاتَ غَيرَ قَادِرٍ

عَلَى المُكُوثِ طَوِيلاً فِي ذَاِكرَتي

***

ذَاتَهَا المَقهَى

تَحَوَّلتْ بَينَ لَيلَةٍ وَضُحَاهَا

إِلَى هَشِيمٍ

مِنْ بَقَايَا الحُرُوبِ

الَّتي طَالَمَا كَانَتْ ظَلَامَاً شاسِعَاً

يَفتِكُ بِالأَحيَاءِ

الَّتِي تَشتَبِكُ  فِي النَهَارِ

وَتَلتَحِمُ آخرَ اللَّيلِ بِسَلَامِهَا (مَرَايَانَا، ص 76، 77، 78، 79)

وعلى وفق شاكلة هذا النسق من التكرار الجملي الثلاثي المقطعي (المُقهَى ذاتَها) أو (ذَاتهَا المُقهَى)، فقد شكَّل توزيعه الاستهلالي اللزومي في القصيدة جملةً محوريةً توكيديةً كانت ركيزته الشعرية التوكيدية المكرَّرة التي استند إليه الشاعر في ضرباته التوقعية المتساوقة التنغيم الجملي الشعري، والتي كانت سحر بيانها التدويني المكاني لذاكرة المدينة الجنوبية الغافية على ضفاف النسيان، وسرُّ خصوبتها الشعرية الجمالية التي انعشت رموزها الثقافية بهذه الأرخنة المكانية التي بما تنتجه لغة هذه التَّكرارات الجملية المتشاكلة من استجاباتٍ نفسيةٍ إغرائية إدهاشية ماتعة ثرية تلقي بظلال أثرها الفاعل على ذائقة المتلقِّي وتعكس جاذبية مرآتها على وعي تفكيره.

6- نَسقُ التَّكرارِ الجُمًلِي (الجُزئِي):

والمقصود بالتكرار الجزئي الجملي أنْ يُكرِّر الشاعر أجزاءً مختلفةً من جمله الشعرية ذات النهايات التعبيرية المفتوحة على النصِّ، وقد تكون أسلوبية هذا التكرار الجزئي متواترةً أحياناً في تتابعها الجملي، وأحياناً أخرى تأتي منفصلةً بحسب ما تُمليه عليه الدفقة الشعورية وامتدادها التعبيري الإيقاعي المرتبط بها نفسيَّاً وسياقياً. والشاعر في هذا النسق من التكرار (البعضي) لأجزاء الجملة يسعى جاهداً ومثابراً إلى تأثيث مقاطع قصيدته بأنماطٍ جماليةٍ منه، ويحرص على تكريس بنائها الشعري في أنّْ يعلو صوته الشعري للقارئ ويأخذ سمو مكانه.

ويحصل هذا التكريس الجملي المُفنَّن بتقنية التكرار من خلال موقف الشَّاعر الجامع تضادياً لثنائية (اللِّين والشدَّة) من واقعة الحياة الراهنة حين يشحنُ زفير الكلمات اللَّاهبة دلالياً بشهيق خلجاته الذاتية الدافئة؛ لتعبِّرَ بملامسته الشعورية الخاصة عن صدق واقعه الجمعي المعاش. وبالتالي فإنَّ مثل هذا النمط من التَّكرار الجزئي يستدعي التحليل والتأويل والإحاطة بظروف النصِّ والاغتناء من إيقاعاته الداخلية التي تُفصحُ عن المؤثِّر الدرامي الحدثي لانفعالات الشاعر الداخلية التي نحسُّ بنتائجها التمظهرية من استجاباتنا القرائية لها وإمتاعنا الفكري بها.

وتجلِّيات هذا النوع الجزئي من التكرار الجملي الجزئي المتمِّم نجده واضحاً في نصه الشعري الأصلي (لأجلكَ يَهونُ الكونُ)، والذي جاء في قِسمهِ الثاني من هذه المصفوفة من(التعوِّدات) الوجدانية الدالة على الذات الشاعرية:

أعتَدتُ أَنْ أَكُونَ أنَا لَا سِوَايَ

مِثلَمَا تَعَوَّدتُ عَلَى كَسرِ قَوَاعِدِي

مُعتَادٌ عَلَى الهَزِيمَةِ

مَثلَاً لِإرضَاءِ طُمَوحِ الغَيرْ

مُعتادٌ عَلَى كَسرِ قَلبِي إِنْ لَزِمَ الأَمرْ

كَي لَا أَدخُلَ فِي مُعَادَلَاتِ الجَبرْ

***

مُعتَادٌ عَلَى شُربِ قَهوَتِي بَعِيدَاً

حَتَّى لَا يَنسَابُ الحِبرُ عَلَى الحِبرْ

مُعتَادٌ عَلَى قَولِ أَحُبُّكِ

لَكِنْ بِصَمتٍ تَتَخَلَّله نِيرانُ الجَمرْ

***

مُعتَادٌ عَلَى عَادَةِ التَّوبِيخِ

لِتَمتَلِكَ أَنتَ كُلَّ الفَخرْ

***

مُعتَادٌ عَلَى تَركِ سَفِينَتِي

وَمُغَادَرَةِ البَحرْ

بَعدَ أَنْ كُنتَ قُبطَانَاً يَعرفُهٌ الفَجرْ

وَتَخشَاهُ عُيُونُ الصَقرْ

***

أَنَأ الآنَ مُعتَادٌ يَا حَبِيبَتِي

عَلَى أَنْ أَكونَ مَخذُولَاً

لِتَبقِينَ أَنتِ سَيِّدةُ القَصرْ

بِلَا مُنَازِعٍ (مَرَايَانَا، ص 104، 105، 106)

فهذه التعوِّدات التكرارية الجملية الجزئية من الشحنات التوترية التي مصدرها الذات الشاعرة الجياشة التي تكرَّرت سبع مرَّاتٍ متواليةٍ بصورة مقطعيةٍ تتابعية فنيَّة مُحكمة في نصِّ المقطوعة الشعرية بصيغة تركيبية مفتوحة النهايات المتوالدة (مُعتادٌ عَلَى ...)، إنَّما هي إقرار واعتراف كلي تأكيدي مباشر من الذات الشاعرية المأسورة نحوَ هُويَّةِ الآخرِ بنكران الذات وجلدها جلداً بهذا القبس التصريحي الشعوري الاعتباري دون حياءٍ أو وجلٍ شعوري متقي لها. والذي يستفزُّ المتلقِّي ويُرشدهُ إلى كُنه الحقيقة الشاعرية الشفيفة التي كشفت عن سونار نفسها وأعلنت بصريح العبارة دون غشاوة تُغطِّي عُريها الباطني الحقيقي الشفيف المكنون بجدار الخفاء الكُلِّي.

إنَّ هذه التكرارات الجملية التسبيحية السبعة التي كشفت في تتابعها الجزئي عن اعتياد الشاعر غير المعهود على وقع  الهزيمة، وتقبُّل الانكسارات القلبية المتكرِّرة وعلى التوحُّد مع نفسه بعيداً عن  مرأى الآخرين في شرب قهوته، وبُوحه بحبِّه بلغة الصمت اللَّاهبة، وتعوِّده على لغة التوبيخ الفَّجة، وتقبُّله ترك سفينته ومغادرة البحر نهائياً  وإقراره الكُلِّي لحبيبته بالخُذلان والخضوع والإذلال من أجل أنْ تبقى هي سيِّدة القصر وربُّته بِلا مُنازعٍ  يُشاركها حبَّ السيَّادة. فمثل هذه التعوِّدات التكرارية الإيقاعية الاسمية التي دوَّنتها سطور الشعرية جاءت في وقع تَتابعها التنغيمي الإيقاعي متوافقةً تماماً في انسيابيتها ومواءمتها مع قوافي الأشطر الشعرية الداخلية الآتية: (الغَيرْ، الأمرْ الجَبرْ، الحِبرْ، الجَمرْ، الفَخرْ، البَحرْ، الفجَرْ، الصَقرْ، قَصرْ).فهذا التساوق الرائي منح القصيدة قبولاً جمالياً جمَّاً.

ومن أمثلة التكرار الجزئي الجُملي المتجلِّية التي عمد فيها ناظم الساعدي أنْ تكون تكرارات جمله الشعرية الجزئية منفصلةً عن بعضها وليست تتاببعيةً، نصُّ قصيدته الدالة على عنوانها اللَّفظي الموسوم بـ (هُوَ لَيسَ قَلبِي). وقد تجلَّت تمظهرات هذا التكرار بشكل واضح ومثير للمتلقِّي في مثابة هذه المقاطع الثلاثة المتوالية الترتيب:

فَمَا لَكَ يَا قَلبُ لَا تَهْجَعُ

مِنْ وَجَعِ المَنَايَا فَتَهفُو وَتَدْمَعُ

وَفِي كُلِّ حِينٍ أَرَاكَ تُوَدِّعُ

فِلِا ذَاكَ بَاقٍ وَلَا هَذهِ تَنفَعُ

***

فَمَا لِكَ يَا قَلبُ تَغدُو وَتهفُو َوتَرجِعُ

وَمرَّت سُنُونٌ طِوَالٌ

كَمَا البَحرُ فِي مُوجِهِ عَاتِياً

وَها أَنتَ تَفزَعُ وَدُنيَاكَ تَلهُو وَتَخدَعُ

وَمَا زِلتَ فِيهَا كَسِيرَاً وَتَطمَعُ

***

فَمَا لَكَ يَا قَلبُ

يَا رَنَّةَ اللَّيلِ وَالوَجَعِ المُترَعُ

أَتَرنُو إِليهَا وَتَسمَعُ ؟

فَيَكفِيكَ أَنّكَ  فِي الحُزنِ تَرتَعُ

وَمِنْ هَولِهَا لِلمَنَايَا الَّتي تُرِيدُ غِيَابَاً (مَرَايَانَا، ص 22، 23)

(مَا لَكَ يَا قلبُ؟) أسلوب استفهامي طلبي لافت بأداته الاستفهامية (ما)، ويحتاج إلى جواب غير مُحدَّدٍ، وفي الوقت ذاته أنَّها مثيرُ استفهامي لجملة محورية ديناميكية مركزية حركية فاعلة الأثر والتأثير، بنى عليها الشاعر وقع تكراراته الجزئية الجملية بشكلٍ منفصلٍ وليس مُتتابعٍ مقطعياً وفق سير التنغيمة الموجَّه إلى الذات القلبية الشاعرة في هذه المقاطع الثلاثة التي تجسَّدت فيها صرخة الشاعر الشعورية وحزنه الكبير من وجع السنين وآلامها الدامية النازفة التي ألمَّت به وهو صابر على ريبها وانكساراتها وخذلانها له بهذا الوقع الحقيقي المؤلم .

لقد تضافرت تلك المشاعر الجياَّشة المؤثِّرة على مسامع ذائقة المتلقِّي بفنيَّة تكراراتها التعبيرية الجُمليَّة جزئياً وأسلوبية بنائها النصي الموقّع بأنساق تركيباته الداخلية مع وحدة قوافي سطورها الشعرية المقطعية الخارجية التي عَلَتْ من سقف رِتمَّ موسيقاها داخلياً وخارجياً. ففي المقطع الأول جاءت قوافي السطور الشعرية بهذا الترتيب الحرفي العيني للقافية، ( يَهجِعُ، تَدمِعُ، تُودِّعُ، تَنفعُ). وفي المقطع الثاني جاءت القوافي أيضاً بهذا الشكل، (تَرجعُ، تُخدعُ، نَطمعُ). وفي المقطع الثالث تكرّرت القوافي السطورية بهذا النسغ الروحي المتصاعد، (المُترَعُ، تَسمعُ،  تَرتعُ). وإنَّ هذا التعاضد الصوتي الإيقاعي المتناغم منح المقاطع إحساساً جمالياً وفنياً مدهشاً تتواصل معه ذائقة المتلقِّي والقارئ والسامع حتى اكتمال صورة القصيدة نهائياً على هذه الوتيرة اللحنية من التكرار الموسيقي العذب.

لم ينحصر التكرار الجزئي للجملة في شكلٍ تأكيديٍ تنظيميٍ واحدٍ يتقيَّد به الشاعر أسلوبياً في شعريته النثرية المتصاعدة الأفق بنائياً. فقد عمدَ ناظم الساعدي في نصِّ قصيدته الموسوم (رِحلةُ رقمٍ مجهولٍ) إلى أنْ تكون تكرارات توتراته الشعورية الدافقة تتابعية في مطلع مقطعه الاستهلالي الأول الذي تصدَّرته جملة التوكيد الجزئي الظرفية (بعيداً عن...) وجعله تكراراً تناصيَّاً في المقطع الثاني، وجعله أيضاً مُقدَّراً محذوفاً في المقطع الثالث، في حين حافظ على نسقه التكراري الانفصالي الدائري في المقطع الرابع. ولنقرأ ما يقوله في هذه الرحلة المجهولة:

قِفْ هَا هَنَاكَ

بَعِيدَاً عَنِ الجِسْرِ

بَعِيدَاً عَنِ المُدَوَّنَاتِ

الَّتِي كَتَبُوهَا مَعَاً

***

بَعِيدَاً عَنْ كَرَارِيسِ الحَربِ

وَالحِصَارَاتِ الطَويلَةِ

يَومَ كَانِتِ الحَبِيبَةُ

تَأخُذ ُبِيَدِ النُّومِ إِلَى الغِيَابِ

ثُمَّ تَعُودُ حَائِرَةً

حَيثُ الضَيَاعُ كُلُّهُ

فِي الأَبَدِيةِ التَالِفَةِ !

***

عَنِ الطُفُولَةِ  الغَابِرَةِ

وَعَنْ وَسَائِلِ الغَرَامِ

الِّتِي تُكتَبُ بِدَمِ القَلبِ

لَا بِحِبرِ المَوَاجِعِ وَحدَهَا..

***

بَعِيدَاً عَنْ هَوَامِشِ

مُعَلِّمِنَا الَّذي أَضَاعَ نَعلَهُ مَرَّةً

وَنَسِي أَنَهُ مُعَلِّمُ حَيَاةٍ

أَضَاعَ أَقدَامَهُ قُبَيلَ الجِسرِ (مَرَايَانَا، ص 80، 81)

فعندما تكون كل الوسائل المتاحة والدروب أمامنا مسدودةً، فخلاص ذاتنا الشعوري هو الرسم بصور الكلمات الناطقة كما يقول نزار قباني. وها هو ذا ناظم الساعدي يحثُّ الخُطى الإبداعي بتصويره الشعري الناطق، فيرسم بالصوت والحركة والفعل الدرامي البصري حدثية عواطفه وأحاسيسه المُتَجَيِّشَةِ لتبقى عالقة في ذهن المتلقِّي.

وقد تجّلَت مَعالم كل تلك الشاعرية بنسق هذه التكرارات الشعورية الجمالية التي وضَّحتها معمارية خريطة هندسة البناء الجزئي للجمل الشعرية وفق هذا التتابع الانفصالي المتكرر لأجزاء الجملة التركيبية بنهج صيغته التعبيرية المؤكِّدة على الانفتاح، (بعيداً عن ...) التي أدَّت وظيفتها الجمالية والفنية والإيقاعية والدلالية عبر تراتيلها الصورية وبنائها الجملي الرصين المُحكَم. وقد بلغ به الهوس الشعوري لهذا البعد أنْ يكون محذوفاً مُقدَّراً في مطلع مقطعه الثالث الدال على تقديره بهذه الشاكلة: (بَعِيدَاً عَن الطفُولةِ الغَابِرَةِ / وَعَنْ رَسَائِل الغَرَامِ/ الَّتِي تُكتَبُ بِدمِ القَلبِ / لَا بِحبِرِ المَواجِعِ  وَحْدَهَا..).

7- النَّسقُ التَّكراري لِلعُبارَةِ:

بعد أنْ اتضحت جليَّاً معالم تقنية التكرار وأنساق تمظهراته الفنية في مصفوفة ناظم الساعدي (مَرَايَانَا)، وسواءٌ أكان نمط هذا التكرار اللُّغوي الدلالي تكراراً حرفياً أو تكراراً للضمير أو تكراراً (اسمياً أمْ فعلياً للكلمة)، أو تكراراً اشتقاقياً للكلمة، أو تكراراً جُملياً أو جزيئاً، باتَ معلوماً أنَّ النمط التكراري للعبارة لم يكن ضمن سُلم قائمة هذه التكرارات التموسقية الجمالية في نصِّ الخطاب الشعري لديوان الشاعر ناظم كَاطع الساعدي (مَرَايَانَا ...).

وقد تحقَّق ذلك من خلال الكشوفات الحفرية لهذه الدراسة الغيابُ الكُلِّي التّامُ لتكرار العبارة، وكان الدليل النقلي الذي سدَّ مسدَّ محلَّه التركيبي والإبداعي عنها، هو التكرار الجُملي بنوعيه الكلي والجزئي اللَّذينِ هيمنا على نصوصه الشعرية رغم سيطرة التكرار اللَّفظي وهيمنته على بنية الخطاب الشعري لناظم الساعدي. وهذا يُدلِّل على أنَّ الشاعر لا يسعى فنيَّاً وجمالياً في أسلوبه التكراري الشعري إلّا وكان تجديداً تكرارياً مناسباً لواقعة الحدث الذي تحفل به وحداته الموضوعية التي كشفت عنها وأظهرتها مستويات أسلوبيته الشعرية للعين النقدية الثالثة في معجمه الشعري والدلالي الذي هو ميزان الشعرية الحداثوية المكين الراجح في مناهج النقدية التكاملية الحديثة.

وعلى وفق ذلك التأسيس النقدي التحليلي للشعرية، فإنَّ شعرية التكرار التقني الفنِّي لدى ناظم كَاطع الساعدي تتوحّد جميعها في غالبيتها العظمى وتتَّفق مع طبيعة الشاعر النفسية والشعورية المهجوسة بحبِّ هذا التكرار لا لكونها تسعى جاهدةً راضيةً مرضيةَ لتسويقه كوسيلةٍ إبلاغية إنتاجية لغرض الإعادة ولفتِ الانتباه والتأكيد ونزع الشكِّ عن ظنِّ المتلقِّي عما يدور في خلجاته الشعورية والذهنية فحسب، وإنما هو أداة تعبيرية ناهضة لمحاكاة  الواقع المعيش بمختلف تصوراته الرؤيوية، وتحديد مواضع ارتكاساته الفردية والجمعية.

وليس القصدية منه تكراراً لشيءٍ قائم بعينه الذاتية، وإنَّما هو البحث عن القيم الجمالية والفنية والأسس والمبادئ الدلالية والنفسية الشعورية التي تمكن النصَّ الشعري وتسمو به من خلال مبدعها لمنتج الخلَّاق إلى الارتقاء بأداء وظيفته الأسلوبية المتمايزة. وهذا يشي كلهُّ بأنَّ أُسلوب التكرار عند الشاعر ناظم الساعدي لم يكن محصوراً فنياً على الجانب التنغيمي الإيقاعي للنصوص الشعرية فحسب، بل قد تجاوزت حدود آفاقه الفنيَّة تلك الاشتراطات التكميلية إلى الجوانب السياقية الدلالية التي تُنبئ بها مُوحيات النصِّ الشعرية المُرسلة من الكاتب وتُخبرُ به المُرسل إليه المتلقي عبر أثير رسالته النصية.

ولذلك كانت أنساقه النمطية ثريةً ومتنوِّعةً ومناسبةً لأسلوبية الشاعر في تجربته الشعرية الخاصة بمعجمه الشعر، وأنَّ لجوءه إلى هذه التقنية التكرارية من أجل إبراز موقفه الذي يرغب في ترسيخه وتعميقه حسيَّاً وجماليَّاً في نفسه؛ كون هذه التكرارات اللَّفظية المتعددَّة تكشف عن جوانب باطنية مستترة خفية مُهمَّة مسكوت عنها لا حدَّ لها عن شخصية الشاعر الذاتية . فهذه الانفعالية النفسية التَّوتُّريَّة المعتمدة على تقنية التَّكرار وظيفةٌ من وظائف شعريته الحداثوية، والتجديد التخليقي بمهمة التكرار اللُّغوي ميزةٌ من مِيزات الكتابة الشعرية، وسمة من سمات أسلوبية ناظم الساعدي الشعرية التي أدت دورها الوظيفي في تنامي حركة الإيقاع الموسيقي اللَّفظي داخل النصِّ الشعري وتسربله بحليةٍ جمالية. وبالتالي فأنَّ نجاح شعرية التكرار أو فشلها تعود إلى قيمة نجاح النص أو فشله.

تلك هي المزايا الفريدة التي يعوِّل عليها السَّاعدي ناظم كَاطع كثيراً في أدبيات شعرية قصيدة النثر وعلى وجه التحديد أو الخصوص في شعرية فنيَّة التَّكرار؛ وذلك  لتمنحها جوَّاً شعريَّاً تنافسيَّاً وجودياً خلوديَّاً راسخاً الأعماق في الارتقاء بحضورية ديمومة العطاء الفنِّي الذي يُميِّز قصيدة النصِّ النثري عمن سواه من الأشكال الشعرية الأخرى (العمودي التشطيري والتفعيلي الحُرّ). والتي تنافسه شكليَّاً في حجز مكانتها الشعرية الراكزة في البقاء والثبات على نهج الشعرية التجديدية زمانياً ومكانياً، والتي تسجَّل لها علامات تحولاتها التجديدية عبر مسار هذا المضمار الحركي الجمالي الفنِّي لإنتاج الشعرية الحديثة في زمن كَثُرَ فيه الكم الشعري على حساب كيفه النوعي.

***

د. جبَّار ماجد البهادلي

 

في المثقف اليوم