قراءات نقدية

الطنطورة الوشم الذي يزيّن وجه الذاكرة...

قراءة على رواية الطنطورية للراحلة الكبيرة رضوى عاشور

ولدت رضوى عاشور في القاهرة عام 1946. درست الأدب المقارن ثم نالت شهادة الدكتوراة وعملت كأستاذ في جامعة عين شمس.

جاء اسم الرواية من اسم قرية الطنطورة والتي كانت من ضمن المناطق التي ستدخل منطقة اليهود حسب قرار تقسيم فلسطين.

هناك حيث البحر يتحرش بقدمي رقية العاريتين، حيث كان الصبار يخلع ردائه طواعية بين يديها، حيث يلف البحر تلك القرية برائحته، هناك حيث الرمل الذي يعانق الجسد داخل حفر الطفولة وزفة عريس على شاطئ بحر امتزجت زغاريد أمواجه بأهازيج الأهل والجيران في مقطوعة موسيقية هارمونية، حيث القطار وما يخفيه من أسرار..هنا ابتدأت الحكاية. رقية والبحر وما تخبئه الأيام، ثلاثة جمعتهم مساحات لا تشبه غيرها مبتدأها الطنطورة عروس حيفا ومكمن أسرارها..

تسرد رضوى عاشور أحداثا من عام 1948 وحتى عام 2000 وقد تمكنت من التأريخ لأحداث مفصلية مهمة بدءا من النكبة وانتهاء بالأحداث التي وقعت في لبنان.

وفي الرواية يطلب حسن الابن الثاني لرقية من أمه أن تسرد له حكاية الخروج بهدف توثيق ما حدث. وهذا إن دل على شيء فيدل على تأكيد الكاتبة على أهمية التاريخ الشفاهي.

تبدأ رقية بعصر الذاكرة واستفزازها لتخرج ما تحتفظ به من ذكريات معتقة لحياتها المعقدة منذ 1948 في الطنطورة حتى استقرارها في لبنان بعد أن تقاذفتها الحياة وحطت بها في الإمارات ومصر.

تبدأ أولى مآسيها أثناء الخروج بالشاحنة التي نقلتهم خارج حدود القرية حين التقت وجها لوجه بجثة والدها وأخويها المكومة مع جثث أخرى (ولكني عدت أجذب ذراعها بيدي اليسرى وأشير بيدي اليمنى إلى حيث أبي وأخويّ كانت جثتهما بجوار جثة جميل مكومة بعضها لصق ببعض) الرواية ص62 لكن أمها أم صادق بالرغم من تحديقها بالجثث إلا أنها ظلت متأكدة من أن زوجها اعتقل مع من اعتقلوا من رجال القرية وولديها قد هربا إلى مصر .فهل رفضت أم صادق ما رأت عيناها كي تبقى على قيد الأمل الخيط الوحيد الذي يمدها بالحياة والعودة؟

وتواصل رقية رحلة الاغتراب وما خبأته الذاكرة من الشتات وسلب الحقوق الذي ابتدأ بتنكتي الزيت ونصية الجبنة حينما قامت المجندة الصهيونية بمصادرتها وكيس الخيش الذي يشي بالثوار وكما وشى هنا سيشي هناك في لبنان..

 ومن الفريدس إلى الخليل فإربد في شمال الأردن ثم درعا فدمشق في سورية وصولا إلى صيدا في لبنان حيث عمها أبي الأمين الذي كان قد خرج بأهله قبل المجزرة التي تعرضت لها القرية..هناك تتزوج رقية ابن عمها الطبيب أمين وتنجب ثلاث أولاد.

في لبنان تعيش بقية المآسي حيث تلخص لنا الكاتبة الحياة التي عاناها الفلسطينيون بعد خروج المقاومة من الأردن بعد حرب أيلول وتوجهها نحو بيروت حيث الكتائب لها بالمرصاد ..

تتدرج رضوى عاشور بالمآسي بدءا من اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 ثم تدمير بعض المخيمات بالكامل إلى انقسام بيروت إلى شرقية وغربية إلى اجتياح دولة العدو الصهيوني للبنان عام 1982 وما رافقها من أحداث إلى مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان وحتى مذبحة صبرا وشاتيلا.

جمعت رضوى عاشور في روايتها بين التاريخي والمتخيل بطريقة سلسة كما لجأت إلى استخدام الرمز مثل ما نجده في المشهد ص453 (أمد يدي.. ألمس المفتاح أرفع الحبل عن رقبتي أضعه حول رقبة الصغيرة) حيث يرمز المفتاح هنا إلى العودة إلى فلسطين..

وفي موضع آخر من الروايةص61 (إن للبلد رائحة غريبة تختلط برائحة البحر والزنبق الأبيض الذي ينبت في الجزر وشواطئها في ذلك الوقت من السنة) حيث ترمز رائحة الزنبق الأبيض لفترة الأمان في القرية قبل اقتحام العصابات الصهيونية وارتكاب المجزرة .

كما جاءت الرواية لتجسيد اللهجة الفلسطينية على لسان الساردة.

وكانت الرواية كحارس لبعض الأهازيج من قبيل حفظ التراث الفلسطيني.

في رواية الطنطورية تتذوق فلسطين، تشتم رائحتها، تعيش جنون البحر وبحر الجنون.

***

بديعة النعيمي

 

في المثقف اليوم