قراءات نقدية

قراءة في مسرحية '' كلام الليل'' لتوفيق الجبالي..

عندما يصبح المعيش اليومي مرتكزاً للتخييل

النص في المشهد المسرحي:

لئن إعتبر بعضهم أن المسرحية هي مجرد عمل أدبي وما العرض المسرحي سوى أداء وتلفظ وليس لبقية العناصر الدرامية من دور سوى رفد النص وإعادة تأكيده بالصورة فإن هذا التصور في حاجة إلى مراجعة وتجاوز لأنه يسلب المسرح كفن طابعه المميز أي المشهد. والمشهد يستدعي مقولات البصر وهي بدورها تستدعي مكونات أخرى: كالديكور والأ ضواء والصوت والملابس والحركة.. وهي تتضافر جميعها لتقديم شكل تعبيري متكامل، يتم داخله إخضاع النص المسرحي كأثر أدبي لمقتضيات الفضاء الركحي حتى يصبح مستجيباً لدواعيه ومتطلباته. فالنص المسرحي ينصهر في المشهد بإعتباره عنصراً منه أي من بنيته التعبيرية دون أن تكون له تلك السلطة المطلقة على العمل المسرحي. والكثير من التجارب المسرحية الناجحة يختفي فيها النص / الكلام وتنبني فقط على حركة الجسد وعلى بقية المكونات ولكن دون أن تفقد قدرتها على التعبير / الإبلاغ.إن العمل المسرحي، في نهاية المطاف، ثمرة تمازج بين فنون متعددة تضافرت كلها لتكون شكلا تعبيريا راقيا، من هذه الفنون نذكر الفن التشكيلي الذي نلتقط منه الأشكال والألوان والفن المعماري نستوحي منه الخطوط والبناء ات والديكور والموسيقى التي توفر الإيقاع والجرس والنبر ومن الكوريغرافيا نولد الحركة والهيئة(1).

ينقسم المشهد المسرحي إلى فضاءين: فضاء القاعة وفضاء الركح، بينهما حد فصل الستار فبارتفاعه يتم الإلتحام بين كونين: كون واقعي يؤثثه المشاهدون، الكون الثاني كون خيالي وهمي مصدره نص ومؤثث بشخوص ومعمار وأضواء وإيقاع.. تعمل جميعها على ايهام المشاهد بواقعية الأحداث. ويتكفل الستار المرفوع بتوفير الصدمة والغرابة للمشاهد حتى يتمكن من ولوج عالم العجائب والخيالات وقد أصبح مهيأ للتفاعل مع العرض المسرحي كعمل ابداعي تتحطم فيه الحدود بن الواقعي والخيالي. رغم ما شهدته التجارب المسرحية المعاصرة من نزعة إلى تقويض سلطة النص وإستبدالها بأشكال تعبيرية أخرى، فإنه يظل للنص رونقه وهيبته.يساهم النص في إلتحام الفضاءين فضاء الركح وفضاء القاعة. أنه القناة التي يتم بواسطتها التواصل بين الممثلين والمشاهدين والنص بقدرما يشد المشاهد الى العرض المسرحي بفضل بنائه الدرامي فإنه يحفزه على التخييل ويقحمه قسراً في عوالم الإبداع ومكاشفاته. فيتحول المشاهد تبعاً لذلك، من مجرد متابع للعمل المسرحي إلى مشارك في انتاجه. هنا تكمن خطورة النص في الإبداع المسرحي، لذلك سينصب اهتمامنا عليه دون غيره من المكونات التي تخرج عن اختصاصنا. وقد اخترنا نصاً مسرحياً معاصراً متميزاً بدسامته اللغوية إنه مسرحية '' كلام الليل '' للمسرحي توفيق الجبلي (2). ولعل هذه الدسامة هي رد فعل على تلك النزعة التي تعمل على تفويض سلطة النص/ الكلام ضمن تيارات المسرح المعاصر بالرغم من اننا لا نعدم تجارب مسرحية معاصرة عند نفس المؤلف، حاول فيها التخلص تماماً من اللغة / الكلام، حيث يلف الصمت المطبق أجواء العمل المسرحي، انها مسرحية ''فهمتلا'' وهي تكاد تكون على الطرف الأخر المناقض لمسرحية ''كلام الليل'. إن هذا الأثر - كلام الليل -ورغم أنه مكتوب باللهجة الدارجة يستجيب كما سنرى لاحقا لمحددات النص كما تراها '' جوليا كريستيفا '' التي تقول '' حد النص عندنا هو أنه جهاز خارق للغة يعيد توزيع نظامها رابطا بين كلام ابلاغي هدفه الإعلان المباشر وبين ملفوظات مختلفة متقدمة عليه أو متزامنة معه '' (3).

تضافر المبنى والمعنى:

إن تعريف جوليا كريستيفا ينسحب على نصوص العربية الفصحى مثلما ينسحب أيضا على نصوص اللهجات المحلية، فالابداع كمسوغ أساسي لتحديد النص يشمل نصوصاً مستثناة من الثقافة العالمية. مثلما يشمل أيضاً نصوصا مستثناة من الثقافة الشفاهية. فالإبداع يمكن أن نعثر عليه في فضاء اللغة اليومية وفي كل الثقافات. فلننظر إلى امثلتنا الشعبية لنلاحظ ذلك الثراء الدلالي المنبني على التشبيه والمجاز والإستعارة. فليس غريباً أن نعثر في مسرحية '' كلام الليل '' على تضافر بين المبنى والمعنى. هذه الوحدة تقوم على تخير الألفاظ التين تحاكي بحروفها معاني الأفعال المسرودة، أو تحاكي بالأحوال أو تنقل الأحاسيس أو تكون قادحاً على التفكير بغرض بناء رؤية جديدة للعالم. يعمل إتحاد المبني بالمعنى على استحداث علاقة جديدة بين الدوال والمداولات بحيث أنه يساهم في أداء الوظيفة الابلاغية للكلام ولكن بغرض تغيير وعي المتقبل. الوظيفة الابلاغية تتناسب مع النص المسرحي باعتباره خطاباً يقتضي باثا ومتقبلاً.بينهما قناة تعددت داخلها الأساليب كما هو شأن مسرحية -كلام الليل - والتي وضفت لإبلاغ المضامين المناسبة. من هذه الأساليب:

تشظي المعنى: ونقصد به أن يعمد المتكلم إلى تفجير الدال عبر تغيير الكلمة لتوليد اشتقاقات مختلفة، فتتنوع نبعاً لذلك المداولات تنوعاً قد يستدعي في أحيان كثيرة ثقافة المتلقي لفهمها في سياقاتها المتعددة.ففي مشهد " الداخل والخارج " (4) تكون لفظة الداخل ومشتقاتها تعني الإستكانة " يدخل ببوشتو " وتعني أيضاً الجذور " يخرجولنا من الدواخل متاعنا " كما تعني أيضاً الدخل السنوي " هاك ترى المخروج أكثر من المدخول ". كما تعني باطن النفس " قالي بالك داخيليتو طيبة.. " وتعني أيضاً الأعتداء على الغير " متعرفش أللي أنا كيف ندخل فيه نتسمى خرجت من الموضوع ". أما لفظة " الخارج " فتتخذ في هذا ألفصل / المشهد معاني كثيرة أيضاً فهي تعني الأجنبي والمختلف حسب ما عمد إليه المؤلف من إسقاط محور ألإختيار على محور التوزيع (5) " الخارج كيف كان بحذانا كان خارج علينا" وتعني السفر للغرب " إنت لواه الخروج للخارج يتطلب منك مدخول لاباس بيه " كما تعني الفلكلور اي تلك النظرة التي تحدد نظرة الآخر إلينا، وهي تصور تذبذبنا في نسج علاقة صحية مع الأخر / المختلف "..واليوم كيف خرجوا اش عملنا؟ ولينا نهار كامل واحنا لي فالخارج نستادنو فيهم ونفرج فيهم على الخرجة " هكذا قد يدل جذر الكلمة نفسه على الشيء ونقيضه ( الخارج = الأخر / الخرجة = الأصالة) حسب السياق والمقام.

توظيف التراث الشعبي: الحكاية والأمثال: تملأ الحكايات والأمثال موروثنا الشعبي، وهي سمة بارزة على إستمرار حضور الثقافة الشفوية في حياتنا وعلى دورها في صياغة مخيال الجماهير ويبقى المسرح أشد الفنون التصاقاً بهذا النمط من الثقافة. ونص مسرحية " كلام الليل " زاخر بهذين "الجنسين الأدبيين " فكيف تعامل معهما المؤلف وكيف تم توظيفها ؟

في المشهد المعنون ب-" أمك سيسي (6) " وهي حكايات شعبية تروى للصغار. إن بدايتها ونهايتها، كما أوردهما المؤلف، تذكرنا بتلك القوالب الجاهزة التي يتلفظ بها " الفداوي " إما لتهيئة السامعين لما سيقوله، أو لينهيها نهاية تبشر بالخير الآتي. ولكن ما بين البداية والنهاية يعمل المؤلف في بنية الحكاية معول الهدم، فيوظف مفهومي " الانزياح " le-déplacement" و"أفق الانتظار ع l'horizon d'attente ليصيب السامع / المشاهد بخيبة انتظار، تجعله في لهفة لتقبل الاتي / المغاير. يكتفي المؤلف بمقطع واحد من الحكاية، يقع التركيز عليه وتكراره وهو فعل الكنس. بحيث يصبح هذا الحدث البؤرة التي تصب فيها عناصر جديدة مثل " بطاقة التعريف " و-"القانون " و-" الأوراق والرخص اللازمة " فتنتزع الحكاية من سياقها القديم وتصاغ بشكل معاصر فتكون قريبة مألوفة من السامع / المشاهد. يتحول فعل "الكنس " من حدث تلقائي تقوم به الشخصية رغبة في نظافة المحيط، إلى فعل يستوجب حضور الإدارة بروقراطيتها المقيتة وقوانينها الخاضعة دوماً لتلاعب منفذيها والقائمين عليها، من ذلك ضرورة " مطابقة المصلحة للمواصفات التي مصححة عليها تونس في المعاهدات الدولية (7)" ثم تتحول " أمك سيسي " من شخصية مشبوهة باعتبارها خارجة عن " القانون " إلى شخصية نموذجية يختفي بها ليحتذى بها (8) لقد هشم المؤلف بنية الحكاية بغرض اقحامها في الزمن الحديث المعاصر، بحيث تصبح تعلة لنقد الأوضاع السياسية والإجتماعية، من ذلك اعتباطية القانون وعرضته لأن يتلاعب به، في مجتمع لم يستبطن بعد أهمية الحقوق والواجبات في ضبط العلاقات بين الأفراد وبين مؤسسات الدولة. كما تشي الحكاية ذات البنية المهشمة بحضور نمط من الحكم، قائم على مفهوم الدولة الأخطبوطية، التي تتوفر على أجهزة مراقبة فعالة تهيمن بها على كل جوانب الحياة.

في باب الأمثال سنتناول بالتحليل ما ورد في المشهد المعنون ب-" الحاج موسى " (9) إن الأمثال تنطوي على عصارة تجارب بشرية وخبرة معمقة بالحياة. وقد سبك أغلبها في أسلوب عربي متين وتختزل فكراً وصوراً (10) وايحاءات. والمثل أيضاً قول ينجز في سياق لغوي ومقام تخاطب بين متكلم وسامع (11). ويتصف المثل بإطلاقيته الخارقة للزمن رغم تاريخية منشئه فينتقش في الذاكرة ويدور عل الألسن، والايتان بيه يكون عادة لغرض قياس الشاهد على الغائب إنه عنوان لإستمرار خضوع الحاضر لسلطة الماضي. المثل " الحاج موسى هو موسى الحاج ". من حيث المبنى قائم على مكونين إثنين يفصل بينهما ضمير هو للفصل والوصل، ولكن دلالته على الوصل أبلغ فهو يطبق المكون الأول على المكون الثاني، ومن حيث الدلالة فإنه يؤتي به عادة لإبراز التشابه بين وجهي الأمر، إذا قلب. كما أن دلالة التشابه في المثل متأتية من تشابه الألفاظ. يعمد المؤلف إلى تهشيم دلالة المثل المتعارف عليها، مستنداً على معنى ألفصل الذي يحمله الضمير "هو"، فلم يعد ضميراً للفصل بين مكونين لغويين بل ضميراً للفصل بين دلالة تينك المكونين، فينتفي عنهما معنى التطابق يقول " مش صحيح أللي الحاج موسى هو موسى الحاج (12) " فما الفرق بينهما إذن؟ الفرق حسب المؤلف هو أداء فريضة الحاج فمن منهما الحاج الحقيقي؟ فموسى الحاج هو موسى ثم التصقت به صفة الحاج بعد ادائه للفرذا الخمسة، فهو الحاج الحقيقي في حين أن الحاج موسى لا يمكن أن يكون حاجاً قبل أن يوجد لأن صفة الحاج لاحقة على وجوده فهو لا يمكن أن يكون إلا حاجا مزيفاً. هذا الإختلاف بين الإثنين يخفي صراعاً من أجل إمتلاك " رأسمال رمزي " يوفر لمن يفوز به وجاهة إجتماعية، يقول المؤلف، مؤكداً على أن ذلك الرأسمال الرمزي هو الوسيلة الواحدة للتفريق، بين مكوني المثل وبالتالي لتهشيم تلك الدلالة التي ترسخت في أذهان مردديه على إمتداد قرون، يقول " كانت قبل الحجة تفرق بيناتهم.." " مش هكة يا حاج (13) " هكذا بممارسة نوع من التفكيك لمكونات المثل، نكتشف أن تاريخية المثل كانت قائمة على الإختلاف وأن صفة التطابق، وهي الدلالة التي راجت، انما هي لاحقة عليه. السخرية: تنبني السخرية في مسرحية " كلام ألليل " عل إقامة مناقضة un paradoxe متعمدة بين مقتضيات المقام ومستتبعات المقال، أي ما تتلفظ به الشخصية ضمن ظروف محددة بحيث يكون المقول، عادة، متناغماً مع مقامه. يستهدف المؤلف هذا التناغم، فيعمد إلى إحداث شرخ داخله، ينفذ من خلاله بغرض ممارسة نقد لاذع يديره على ألسنة أولئك الذين يعيشون انفصماً إجتماعياً. بحيث يكون خطابهم في واد والواقع في واد أخر. ففي المشهد المعنون " ب- ناس بكري " (14) يكثف المؤلف الإستشهادات التي يدعي اصحابها إلمامهم بمسائل الراهن والمستقبل. ففي ردودهم على مسائل حارقة تتصل بدور بعض المؤسسات والهياكل المحلية والدولية واهدافها والتي تطلب انجازها وتحققها سواء عبر الفعل التاريخي أو الإستيراد إلى تضحيات وماس، تكون هذه الردود مبسطة ومسطحة تشي بغياب الوعي التاريخي عند اصحابها، وبحالة إنفصام مرضي يعانيها أولئك الذين فقدوا كل علاقة صحية تربطهم بواقعهم يقول المؤلف "إكتب لي يا طفل في المجتمع المدني " "اخطا راسي وأضرب "

" وتوة يا طفل إكتبلي في النظام العالمي الجديد " " أللي حج حج واللي عوق عوق "

" اه.. هما بربي اش قالو ناس بكري في مجلس النواب ؟؟ قالو: يا نايب يا كريم " (15)

إن السخرية في هذا النص المسرحي موظفة للكشف عن الوضع التراجيدي الذي تعاينه المجتمعات العربية الإسلامية المنكفئة على ذاتها والمستكينة للنمطية والإجترار. يدرك المؤلف الأثار المدمرة لهذه العقلية السلفية من حيث أنها تكرس التخلف والتبعية وتجهض كل نفس تحرري وكل طموح مشروع للانطلاق نحو أفاق جديدة وواعدة. يقول المؤلف: " هكة علاش احنا لا فلحنا لا في فلاحة،لا في هندسة، لا في صنعة " (16)

إيقاع الحداثة في مسرحية "كلام الليل"

مسرحية " كلام الليل " نص حداثي، لأنه يقتحم المفاجئ والمعيش والمنسي بجرأة. إنه يرفض إحتكار الثقافة العالمة للإبداع، فيجعل من اليومي المعيش، أرضية خصبة لكل عمل تخييلي خلاق. إنه يعيد للشفاهية سلطتها وهيبتها وبريقها، بعد أن ضلت ولفترة طويلة مرمية في دائرة التهميش والنسيان. يستهدي المؤلف في عمله المسرحي، بالذاكرة الجماعية احياناً فيصدعها بالحلم والتجربة والممارسة وبثراء معجم اللهجة العامية أحياناً اخرى. هذان المعطيان -الذاكرة الجماعية والمعجم - مكنا المؤلف من الحفر في التراث الشفاهي بغرض استنفاد مدلولاته ومعانيه وتحيينها لتصبح قادرة على صياغة مضامين حديثة أو قادرة على التلميح إلى تلك المضامين والإشارة إليها. تستحيل " المفردة " عنده إلى لغم قابل للإنفجار، إذا أحسن استعمالها فتتشظى معانيها في كل حدب وصوب ثم يقع ادراجها ضمن سياقات ومقامات متنوعة، تشي بهواجس المؤلف وهمومه، بقدرما تحيل ألى واقع متأزم. إن الوظيفة الابلاغية / الايحائية للكلام في فن المسرح تنبني على عنصرين العنصر الأول هو الممثل القادر على إبلاغ " الرسالة " موظفاً، من أجل ذلك كل العناصر المساعدة كالنبر l'intonation، واللباس، وقسمات الوجه وحركات الجسد، العنصر الثاني المشاهد / المتقبل ويفترض فيه أن يكون قادراً على تفكيك شفرة الخطاب وعلى استكناه مدلولاته، كما يشترط فيه أن يكون ممتلكاً لحد أدنى من الثقافة المسرحية. يدرك المؤلف بوعي حاد خطورة الحضور " الأمبريالي" للتراث في الثقافة الشعبية والثقافة العالمة على حد سواء، فهو قد يصبح من العوائق المكبلة للوعي إذا ظل يصوغ رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، ويقدم لنا "اجوبة " على مشاكلنا وتساؤلاتنا. يسترجع المؤلف التراث الشعبي ممثلاً في الحكايات والأمثال. بغرض ضرب بنيته وخلخلة تماسكه الداخلي. ففي الحكاية الشعبية عمد المؤلف إلى إحداث فوضى متعمدة، طالت أقسام الحكاية ومراحلها وكان الغرض من ذلك إقحام عناصر جديدة عليها حتى تستجيب لمقتضيات الحداثة من حيث هي خطاب قد فقد مرجعيته، أي تصبح الحكاية وقد انتزعت منها هالة الماضي، لا تحيل إلا على نفسها ولا تكتسب شرعيتها إلا من ذاتها وليس من خارجها. أما في الأمثال فقد انصب اهتمامه على بيان هشاشة المثل وتنقذه الداخلي، رغم ما توحي به متانة صياغته اللغوية وقدرته على إختزل الأفكار والتصورات. يهدف المؤلف، من وراء ذلك إلى تحرير إرادة الإنسان العربي، من سلطة الماضي، وتفتيق ذهنه على دروب بكر ينحت من خلالها كيانه الإنساني. عبر مغامر وجودية يصوغ مفرداتها بنفسه. فيكثف المشاهد التي تصب جميعها في تحقيق تلك الغاية. تتكرر عبر هذه المشاهد (17) الدعوة إلى تكريس فكر الإختلاف، وإلى قبول الرأي المخالف وإلى إستبطان قيم الحداثة وإلى التقيد بمستلزمات السلوك الحظري.... ولئن صيغ هذه المشاهد في قلب ساخر مثير للإضحاك فإنها ترمي إلى تعميق ألام الذات. علها تستفيق فتتحسس لنفسها سبل الخلاص.

ظاهرة أخرى تسم نص مسرحية " كلام الليل " وتبوؤها جدارة التموقع في صميم الحداثة. انها ظاهرة الهذيان التي تتجلى في تفتت وحدة الخطاب وفي تفكك نسقه وفي إنتفاء مرجعيته. تطل الشخصية المسرحية بواسطة هذا الخطاب على عالم هلامي، وقد تملكها رعب مربك، لتعيد صياغته من جديد، بعد أن كرست جهدها لإنتقاد مظاهره السلبية وللتشكيك في مسلماته. يبني خطاب الهذيان منطقة الخاص به. إنه "منطق" يدين الخطاب العقلاني الصارم، لأنه نقيض له بل يؤسس مشروعيته على انقاضه إن اللغة الهاذية تكشف عن عالم الرغبة والإنفعالات.. عالم داخلي يعج بغرائز رديئة وآلام وعنف وإنحراف ويفضي إلى انعدم وحدة الخطاب.فإذا كان الخطاب العقلاني انبنى على عمليات إقصاء واستبعاد لخطاب الجنون في مستوى أول وللحقوق المدنية للمجنون في مستوى ثان، فإنه أفضى إلى إنتهاك صارخ لحقوق الأفراد والجماعات، فتساوي في المصيبة العقلاء والمجانين وحق حينئذ " للعقلاء " أن يشهروا خطاب الهذيان ليكشفوا الإنحرافات الخطيرة للخطاب العقلاني وان يفتحوا للذات متنفسا تعبر من خلاله عن خيبتها وعن يأسها وعن رغباتها المكبوتة التي أسقتها الواقع الرديء بسلطة القامعة وبقيمة الباليه وبانسداد افاقه.  فمن المشاهد المعبرة عن خطاب الهذيان بإمتياز، مشهد " شعب واحد ميكفيش " (18) إنه مشهد يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي بطريقة اعتباطية، كما يتداخل فيه الماضي بالحاضر وبالمستقبل في غير ما إتساق. في المشهد إستعمال مكثف للمجاز والإستعارة والرمز. ولعل هذه الأساليب تنجح في لملمة جراح نازفة أبداً، أو تكون صرخة مدوية يخترق صداها سباتنا الممتد فيأتلق اثرها فجر جديد في سمائنا المدلهمة.

إن نص الهذيان تقتضي صياغته، درجة كبيرة من الوعي يتوفر عليها صاحب النص. إنه الوعي الحاد بما تتعرض له البنى القديمة في المجتمع من تصدع بفعل النسق السريع للتحولات الإجتماعية والإقتصادية وبأثارها المدمرة التي تصيب البنية النفسية لأفراد المجتمع. فإنحلال المؤسسات التقليدية وتفككها، من شأنه أن يخلف وراءه فراغاً رهيباً، يتمثل في انهدام الثوابت وضياع المرجعيات، دون أن تكون الذات قادرة على صياغة بديل مناسب لهذا الخراب المتراكم تسترجع من خلاله توازنها المفقود. ضمن هذا الوضع من اللاثبات قد يصبح الهذيان الطريقة المثلى للتعبير عن واقع مترع بالفوضى والإضطراب.

****

رمضان بن رمضان

..................

الهوامش

1 - الحبيب شبيل: " الفضاء المسرحي / الفضاء التشكيلي " ترجمة عبد العزيز عرفة مجلة الحياة الثقافية عدد 66 / 1993. ض 124 - 125.

2 - توفيق الجبالي، كلام الليل، سلسلة المسرح الحي، دار الجنوب للنشر، تونس، 1997.

3 - أنظر رولان بارت، نظرية النص، ترجمة منجي الشملي وعبد الله صولةو محمد القاضي، حوليات الجامعة التونسية عدد 27 / 1988 ص 75.

4 - توفيق الجبالي، كلام الليل، دار الجنوب للنشر، تونس، صص 25 - 26.

5 - عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب ص 140.

6 - توفيق الجبالي، كلام الليل، ص 118.

7 - المرجع نفسه ص 119.

8 - المرجع نفسه ص 121.

9 - المرجع نفسه ص 32.

10 - شعبان بوبكر " المثل جنسيا أدبياً " ضمن أعمال ندوة، مشكل الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم. منشورات كلية الأداب، منوبة1994 ص 286.

11 - المرجع نفسه ص 284.

12 - توفيق الجبالي، كلام الليل، ص 32.

13 - المرجع نفسه ص 33.

14 - المرجع نفسه ص 144.

15 - المرجع نفسه صص 144 - 145.

16 - المرجع نفسه ص 144.

17 - المرجع نفسه أنظر الصفحة التالية 47. 60، 66، 93.

18 - المرجع نفسه من ص 95 إلى ص 98.

 

في المثقف اليوم