قراءات نقدية

صرخة شاعر من سجن بربروس

تُسجن الأبدان وتعتقل ويلقي بها الجلاد السياسي والعسكري والقضائي بين أربعة جدران باردة في زمن القرّ والصقيع، لاهبة في نهارات الحرّ والقيظ. جدران، تكاد مهترئة من وطأة الرطوبة والإهمال.

لكن السجّان الجلاّد، عاجز – دوما - عن سجن العقول والأفكار والعواطف والأمنيات والأحلام، عاجز عن اطفاء شعلة الحريّة الحمراء، المضرجّة بدماء الشهداء الأبرار، الذين قضوا نحبهم على مذبحها، ودموع وآلام إخوانهم المجاهدين البواسل الصامدين.

من حلكة السجون ومآسيها، ومن رحم المعاناة أشرقت علينا أنوار شعر مقاوم، عميق المعاني، صادق العواطف، أنيق الألفاظ، سلس العبارات، واسع الخيال، نبيل الغاية.

و من أكبر شعراء الجزائر في العصر الحديث، الذين كتبوا وأبدعوا، وهم في ظلمة السجن الاستعماري أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، الشاعر مفدي زكريا، مؤلف النشيد الوطني الجزائري " قسما "، وصاحب " إلياذة الجزائر " وديوان "اللهب المقدّس"، والذي استحق، بجدارة، لقب شاعر الثورة الجزائريّة.

لقد كتب قصيدته في رثاء شهيد المقصلة الفرنسيّة بسجن بربروس الرهيب (سركاجي حاليا)، بالجزائر العاصمة، بالزنزانة التاسعة، وفي الهزيع الثاني من ليلة 18 جوان (يونيو) عام 1956 م. ليلتها كان شاعرنا سجينا، بمعيّة آلاف الرفقاء المجاهدين الجزائريين، وقيل أنّه كتبها بدمه، لأنّه لم يجد حبرا، فكان دمه حبرا. يقول في مطلع القصيدة، يصف الشهيد أحمد زهانة (زبانة)، وهو مقبل على الشهادة:

قام يختال كالمسيح وئيدا

 يتهادى نشوان يتلو النشيدا.

*

باسمَ الثغر، كالملائك، أو

 كالطفل، يستقبل الصباح الجديدا

*

شامخاً أنفه، جلالاً وتيهاً

 رافعاً رأسَه، يناجي الخلودا

*

رافلا في خلاخل زغردت تملأ

 من تحتها الفضاء البعيدا

*

حالما كالكليم كلّمه المجد

 فشدّ الحبال يبغي الصعودا

*

و تسامى كالروح في ليلة القدر

 سلاما يشّع في الكون عيدا

*

و امتطى مذبح البطولة معراجا

 ووافى السماء يرجو المزيدا

*

و تعالى مثل المؤذن يتلو

 كلمات الهدى ويدعو الرقودا

*

صرخة ترجف العوالم منها

ونداء مضى يهز الوجودا

*

اشنقوني، فلست أخشى حبالا

واصلبوني فلست أخشى حديدا.

*

و امتثل سافرا محيّاك جلادي

ولا تلتثم فلست حقودا

*

و اقض يا موت فيّ ما أنت قاض

أنا راض إن عاش شعبي سعيدا

*

أنا إن متّ، فالجزائر

تحيا حرّة، مستقلّة لن تبيدا.

أجل، لم يستطع السجّان الغاصب، اعتقال الأفكار والكلمات والعواطف. كانت السجن في حياة شاعرنا السجين، منبر معراج نحو الخلود. ومنبرا للتغنّي بالحريّة والبطولة والشهادة والوطن، ومخبرا لصهر الأحلام والآلام،

والسخريّة من الجلاّد المتعجرف. فقد أضفى الشاعر على الشهيد أحمد زبانة (زهانة)، أوصاف الأنبياء والرسل، فهو كالمسيح عليه السلام في مشيته الوئيدة، يتمايل، مختالا فرحا، يتلو الشهادتين لولوج عالم الخلود. وهو تارة أخرى باسم الثغر كالملائكة، سعيدا كالطفل البريء، وهو يولد،و يستقبل عالما جديدا.

فإذا كان السجن، في نظر الجلاّد والسجّان، عقابا للسجين، وعذابا نفسيّا له. فإنّه، في عرف الشاعر، زاوية من زوايا الكون، لا غير، وهو موضع ضاق مكانه على الجسد، لكنه لم يضق على الروح المحلّقة في آفاق الكون. ليس السجين من حُبس بين أربعة جدران اسمنتيّة، أو بين قضبان من حديد، أو في (قعر مظلمة) كما وصفه الشاعر الحطيئة، إنّما السجين، سجين الروح، ولو كان الجسد مجرّدا من القيود والأغلال، هو من رضي بالذل والهوان، ولو كان في أفاق رحبة. ولله درّ شاعرنا مفدي زكريا، الذي صرخ في وجه السجن ساخرا، متحديّا، شامخا وثابتا كالطود:

سيّان عندي، مفتوح ومنغلق

يا سجن بابك، أم شدّت به الحلق

*

سري عظيم فلا التعذيب يسمح لي

نطقا ورب ضعاف دون ذا نطق

*

يا سجن ما أنت ؟ لا أخشاك تعرفني

من يحذق البحر لا يحدق به الغرق

*

أنام ملء عيوني غبطة ورضى

على صياصيك لا هم ولا قلق

لقد استطاع الشاعر مفدي زكريا، وأبدع في تسجيل لحظات فارقة في كنف التضحيّة والبطولة، وقد كان شاهدا على ذلك، وهو الذي سمع تكبيرات الشهيد أحمد زبانة، وتكبيرات رفاقه السجناء، ووقع أقدام الجلاّدين، حين اقتيد الشهيد إلى المقصلة لإعدامه. فكانت قصيدة (الذبيح الصاعد) صرخة مدويّة، زلزلت الأرض تحت أقدام الغزاة والجلاّدين الفرنسيين. وكانت لوحة دراميّة خالدة، رسمها شاعر سجين بأنامل حبّه الشديد لوطنه وعقيدته، وعشقه الصوفي للتضحيّة والفداء.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم