قراءات نقدية

شعرية الأسئلة أم دغدغة الفلسفة؟

يا لضعفي ،

يا لقسوة العالم،

رحمتك ربي..

– ليلة الجحيم. فصل في الجحيم آرثر رامبو-

أبدأ بما أنهی به الشاعر إبراهيم ياسين خاتمة نصه (على خطى بابلو نيرودا) والمكون من ٢٤٠ سطرا: “مع أن كافكا كان سوداويا إلا أنه احتفل بلحظة انقطاع مطر دام يومين وليلة”.

نعم؛ عندما اقرأ نصا متميزا واسکت عنه، يحرکني شيء من الداخل وكأنه انذار بأنفجار قوي، الا ان اشارك الآخرين هذه الاسفار وأدون الاستکشافات والايحاءات لتلك النصوص وما تختبئها من مفاجآت، صحيح انه من الصعب متابعة کل النصوص الشعرية المنشورة يوميا علی نطاق واسع وعلی مختلف المنصات، لكن لا يخفى على أحد ان هناك أصواتا ومحاولات جدية هنا وهناك تجرنا الی عوالمها المكتظة بالتحولات والايماءات، هنا يأتي دور الناقد الشغوف الذي يتلذذ بأستکشافاته جوانب معينة من تلك النصوص وفكّ شيء من شيفراتها حسب قراءاته..

لاشك ان القراءة المتأنية لعدة مرات والتدقيق اللازم في النصوص الغنية والمتعددة الدلالات سيقودنا الی استنتاجات لم تكن في بالنا مسبقا (أي قبل القراءة)، عندئذ نثمن النص ونحيط بجوانبه الابداعية المتنوعة ونقدر قيمته الادبية والجمالية.

يستهل الشاعر المتمرد ابراهيم ياسين نصه بالسؤال عن كينونة المرأة التي يحادثها ويريد ان يعرف ماهيتها ثم أين هي وكيفية تواجدها؟ ثم ينتقل من سر خلق الحواء ويتساءل عن أسرار ومكامن الوجود والكائنات المتنوعة من المجهري الی الكتلات والمجرات السماوية الضخمة، وهو يسعی جاهدا للوصول الی أسرار الوجود، فعلی سبيل المثال يريد معرفة سر ذبول الازهار المتفتحة ربيعا أو حکمة شيخوخة طفل لم يزل يحلم بركوب الارجوحة التي فاتته، بقراءتنا هذا النص ومع أول وهلة نتعرف علی نص مليء بصور شعرية کئيبة ومتعمقة مصبوغة بطلاء وجودي سارتري:

لماذا يركض الموج ليحفر قبره على الشاطئ؟

أسئلة فلسفية تلو الاخری، معظمها لا جواب لها ، وبعضها لها جواب لكن الشاعر هنا يتساءل بغرض التوكيد والتذكير، هنا يلتقي الشعر والفلسفة معا في نقطة اللغة والمعرفة، اذ ان الاداة الوحيد لكليهما هي اللغة، وبما ان الشعر يتضمن شيئا من المعرفة كذلك، اذن فليس الشاعر خائنا كما وصفهم أفلاطون ولا هم “صناع وهم ومفسدوا العقول”، وجوهرة العطف ليست الا جزءا يسيرا من مكونات واكتمال نمو جسد الشعر. بل احيانا تكتب الفلسفة شعرا ككتابة فلسفة صاحب الإلياذة هوميروس أو قصائد شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري.

4457 عوالم الشعر

نلاحظ ان الاسئلة المعقدة هنا في هذا النص تظهر الی السطح كشكل ولادة طبيعية لتأملات الشاعر المعرفية للكون والحياة برمتها وهو يسأل ويتساءل ويتركنا للاجوبة عليها دون أي انتظار منه:

ما الحديث الذي يدور بين النحل والرحيق؟

وهكذا يصل بنا الشاعر الی نوع من الاسئلة البديهية أو الاستنکارية، لكي يثبت للقاريء بأن الشعر ليس بمعزل عن الحياة اليوميـة للانسان، ولم لا؟ فالشعر أداة تعبيرية ترفرف في الاعالي خارج اللغة اليومية والتخاطب بين الناس، هنا يخاطب به الشاعر العقول والقلوب معا، أي يطرق أبواب الفكر والاحاسيس معا لغرض الوصول الی بر الأمان والطمأنينة النفسية أولا ومن ثم التمتع بلذة الكتابة كما يصل القاريء الی متعة القراءة بأستكشافاته:

لماذا الشرق مهووس بالغرب؟

كيف يخون المرء وطن يعيش فيه؟

وكما قيل ان للشاعر نظراته الخاصة وتفسيراته اليوتوبية لظواهر الكون فهو يری بعينان شعريتان لكنه يلبس الكلمات بكساء المجاز والمنطق تارة والحيرة والتأوه تارة أخری، كما رأی الناقد رولان بارت النص وفسره بأنه: “نسيج من الكلمات، ومجموعة نغمية وجسم لغوي”، ومن الناحية السيميائيّة فهو: “نسيج من الدوالّ التي تكون العمل” وهذه الفروقات والمواصفات اللغوية تجعل من النص الشعري مختلفا تماما عن الكلام اليومي، صحيح ان السوءال دائما هو سلاح الحياری ووسيلتهم البليغة للوصول الی دائرة الوعي والمعرفة والتجربة وتكوين الشخصية وهنا نلاحظ نقطة الالتقاء مع الفلسفة، وكم من اسئلة أوصل في النهاية بالمخترعين الی انجازاتهم المبهرة، هنا فلنأتي بهذا المثال: كثير منا قد أكل الفستق مسبقا ويعرف بأن الحبة محتفظة داخل القشر، لكن الشاعر في مختبره الشعري وعالمه المجازي يجعله رمزا لسجن الروح، وربما هذه الاستعارة أقرب من لحظته الآنية أثناء کتابة نصه، وكأنه يتعامل مع كل هذا الكون الشاسع کموجودات ذات عقل وادراك وأحاسيس:

من أقنع الفستق أن يحبس روحه في زنزانة؟

كيف تحتفظ نواة البلح بروحها بعد فراق جسدها؟

يقول دریدا: ان اثرا فنیا لا يکون اذا لم یترك لي انا القاریء مکان الاندساس فیه والعثور فی ثنایاه علی مکان لي. فأسئلة الشاعر الصميمية هنا في هذا النص تتعلق بنا جميعا عن قريب أو بعيد فأنها تتداول الكينونة وعلم الانطولوجيا Ontology وظواهر الكون المادية. احيانا قد نشارك الشاعر في أنفسنا بهذه الاسئلة ثم ننساها ونمر عليها مر الكرام، لكن الشاعر هنا قام بتدوينها في أسطر شعرية وربطتها مع الثيمة العامة بواقع مجتمعاتنا وهو يترك في نصه حيزا مناسبا وكافيا للمعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في حال عدم الاكتراث والتعاطي معها بأجوبة مقنعة سيزيد الطين بلة وستوءدي الی تراكمات جديدة وخلق الازمات والتخلف والامراض دون الخروج من هذه الدوائر الفارغة:

كيف يصنع الألم العظماء؟

لماذا يمجد التاريخ ثلة من القاتلين؟

لماذا لا يتجسد جمال القصائد في الحياة؟

كيف للنفس أن تحوي الرذيلة والفضيلة في إناء واحد؟

كيف اكتشف النمل سر الأرض؟

من أوحى للقصبة أن تفرغ روحها لتصير ناي؟

لمن تخبئ الصدفة لؤلؤة؟

بماذا تشعر الدودة حين تصير فراشة؟

كيف تخدع عنكبوت نملة باسم الصداقة؟

كيف يسير الأعمى وحيدا في رؤاه؟

من يوقف الوقت في العقل لحظة ما؟

لماذا تسيل المرارة من شفاه الحقيقة؟

لماذا يثق البشر في الكلاب أكثر من بعضهم البعض؟

هل تتلذذ الغيوم بقتل زرقة السماء؟

كيف يرتدي الشفق جلد الغسق؟

أين تسافر الروح بعدما تطفو من الجسد وقت المنام؟

لماذا لا تتفق كل الأشياء التي نحبها على موعد واحد؟

كيف يولد الندى من رحم الفراغ؟

أي بُوصِلة تحملها الطيور المهاجرة؟

أين تختبىء الشمس وراء الأفق؟

بماذا يفكر الغريق في الحياة أم الموت؟

بأي مخالب ناعمة تتشبث فقاعات الندى بالأغصان؟

وفي الختام أود ان أشير الی ان الشاعر سمی قصيدته بـ ” علی خطى بابلو نيرودا ” علی غرار أرض اليباب الـذي أهداه (ت،أس، اليوت) الی عزرا باوند والذي وصفه بالصانع الامهر، ولاشك ان العلاقة الحميمية والتشابه في اسلوبهما الشعري من التعمق والتشعب وتعدد المعان قد يبرر هذا الاهداء حيث يقول فيه:

في غرفنا الخالية.

دا

تعاطفوا : لقد سمعت المفتاح

يدور في الباب مرة ويدور مرة واحدة

نفکر بالمفتاح، کل في سجنه

لكن في نظري وبالنسبة لذكر ووضع اسم بابلونيرودا في هذا الشعر، بل تسمية عنوانه بـ(علی خطى بابلو نيرودا) لا يعطي مبررا منطقيا سوی اظهارا لأعجاب الشاعر بالشاعر الشيلي المشهور بابلو نيرودا، والسبب في هذا القول يرجع الی تباعد اسلوبهما الشعري. كما يذكرنا هذا العنوان بعنوان نص للشاعر المصري (وليد الأسطل) بعنوان “على خطى ماريو بينيديتي وبابلو نيرودا” المنشور في موقع الكتابة بتأريخ 20 يناير 2022. لكن لو تابعنا اعمال نيرودا سنقرأ بين طياتها اعمالا مشابهة ولقد اقتفی شاعرنا العزيز ابراهيم ياسين هاهنا اثره وتقلد اسلوبه، حيث يقول نيرودا علی سبيل المثال في “شذرات من كتاب الأسئلة” :

هل صحيح أن الأحلام إجبارية

في بيوت النمل؟

*

أين ينتهي قوس قزح؟

في الأفق أم داخل روحك؟

*

أين الطفل الذي كنتُه؟

ألا يزال بداخلي أم مضى إلى غير رجعة؟

هل يعرف أني لم أكن أحبه؟

هل يعرف أنه لم يكن يحبني؟

ولماذا قطعنا معاً

هذا الطريق الطويل

إذا كان علينا أن نفترق في النهاية؟

لماذا لم نمت سوياً

حين ماتت طفولتي؟

في الختام ليس بودنا شيء الا ان نتمنی للشاعر إبراهيم ياسين المزيد من العطاء والتوفيق والتقدم منتظرا منە الاجمل والمزيد في غد مشرق.

***

بقلم: سوران محمد

في المثقف اليوم