قراءات نقدية

الدكتور عبد الاله بن عرفة وسؤال المدينة الفاضلة

صدر للدكتور عبد الاله بن عرفة الأديب والكاتب المغربي ورائد الرواية العرفانية، عن دار الآداب، رواية بعنوان: "أختام المدينة الفاضلة" في طبعتها الأولى 2022م. تكمن أهمية هذا العمل، في الأفق المعرفي الذي فتحه، وهو يعالج موضوعا قديما وجديدا في الوقت ذاته، بالإضافة إلى كون طبعة هذا الموضوع، يمتد ويصب في مختلف حقول المعرفة بمختلف مجالاتها. ونذكر هنا بأن هذا العمل، امتداد لما قبله من الأعمال التي سبقته، وقد سبق للدكتور عبد الاله بن عرفة أن وصف مشروعه الأدبي بوصف "الكتابة بالنور" إشارة منه إلى استحضار البعد الرمزي والدلالي للحروف المقطعة في القرآن الكريم، وما تفتحه من آفاق نورانية في الكتابة، فالرواية التي نحن بصددها وردت تحت فاتحة (المر). وفي نظرنا أن الأمر لا يتوقف عند فواتح السور وهي 29 في القرآن الكريم، بقدر ما هو استحضار لمنهجية القرآن المعرفية، وما تتصف به من تداخل معرفي بين عالم الغيب وعالم الشهادة.

المدينة الفاضلة، أو التفكير في مجتمع ينعم بالفضيلة والسعادة والطمأنينة والراحة، أمر شغل الإنسانية منذ فجر التاريخ،[1] وقد طرق أفلاطون (-347 ق.م) هذا الباب بكتابه الشهير "المدينة الفاضلة" وكانت كل متمنياته وأحلامه أن يحكم الفلاسفة المدينة، وفي الثقافة الإسلامية كتب الفارابي (-339 هـ/950م) كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" ويعتبر من أهم مؤلفاته، إذا كتبه في مرحلة نضجه المعرفي، وهو يتمنى ويحلم بمدينة يتحقق فيها التعاون بين كل أفراد المجتمع ويسودها العدل وينعم كل أهلها بالسعادة، و تجعلهم بفضائلهم قادرين على مواجهة المدن الجاهلة.

ما يقابل المدينة الفاضلة، هي المدينة الجاهلة أو المدينة الفاجرة، وهذا يأخذنا إلى النفس والفعل الإنساني وما يترتب عنه، قال تعالى:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) 10)"(الشمس) فالفعل الإنساني بشكل عام تابع للنفس الملهمة والمنقسمة بين اتجاه الفجور واتجاه التقوى، فالفلاح يأتي نتيجة لتزكية النفس، والخيبة والخسران تأتي نتيجة لتدسيتها. والحديث عن الفجور والتقوى في حد ذاته حديث في موضوعات القيم والأخلاق وهي خاصية يتميز بها الإنسان عن غيره من الخلق.

سؤال المدينة الفاضلة، بوجه من الوجوه يتصل بسؤال الأخلاق، وهو سؤال شغل كثر من المختصين والدارسين عبر العالم، في تفاعل مع مختلف التحديات بفعل التحولات العلمية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... التي عرفها العالم، ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)"(يسن) فالمسألة تدور في مدار الهداية إلى مكارم الأخلاق، ومن فضل الله وحكمته أن المدينة لا تخلوا من رجال كل همهم هو إرشاد الناس وتقويم سلوكهم، هؤلاء وصفهم الدكتور عبد الاله بن عرفة بأختام المدينة الفاضلة. ودورهم هو أنهم "يقودون المدينة الفاضلة التي تحكم باطن الإنسان، ويؤكدون على بعده الروحي. وتلك هي السياسة العليا التي ينبغي أن يتشوفوا إليها ويعملوا على بلوغها"[2] وبهذا الفهم فالإنسان وهو يسعى من أجل الارتقاء إلى مقام الفضيلة -المدينة الفاضلة-فنفسه تكون محمولة بفعل الروح، وعندها لا مجال لتستحوذ عليه المادة والأشياء والغريزة... كما أن كل وسائل المعرفة والتعبير لديه من فنون وغيرها ستدور في دائرة الغائية والقصدية التي تراعي كينونة الإنسان، باعتباره كائنا متجاوزا للبدن ولما هو حسي، فالغنى لديه يتحقق، بالغنى عن الأشياء لا بالأشياء. أما التدين في هذه الحالة يكون خارج عن دائرة الطقوس والأشكال والأشخاص؛ ويدور في دائرة القيم العليا التي تجعل الناس جميعا إخوة بمعزل انتماءاتهم الدينية والثقافية. وباختصار فالنفس عندما تكون محمولة بالروح، فستترتب عن ذلك روحانية الإنسان بدل الإنسان المشيأ (نسبة إلى الأشياء) أو البهيمي (نسبة إلى البهيمة) فالبهيمة تتحكم فيها الغريزة أكثر من أي شيء آخر.

تضعنا رواية "أختام المدينة الفاضلة" للدكتور عبد الاله بن عرفة، في قلب نقاش كوني معاصر، يتصل بسؤال مفاده إلى أين يتجه العالم اليوم؟ بالنظر إلى ما يحيط بالعالم اليوم من مخاطر، من أبرزها خطر التلوث البيئي، وتغير المناخ، والحروب، وأسلحة الدمار الشامل، والمجاعات، والهجرة والتفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب... وقد كان مرض كفيد 19 لحظة تنبيه وتذكير بأن مصير الإنسانية مصير واحد مشترك، في وقت تضخمت فيه النزعة المادية والاستهلاكية، وتم تشيئ الإنسان باختزال وجوده في دائرة العمل والإنتاج الذي يفضي الى الربح، وهذا الوضع يصفه الفيلسوف الكندي (آلان دونو) بنظام التفاهة،[3] وهو يعني بذلك تراجع التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الظواهر والموجودات والأشياء، وسيطرة نزعة إرضاء الجمهور وما يطلبه السوق في مجال مختلف الفنون، على حساب الابداع الراقي والهادف والذي يراعي فضيلة الانسان... وفي وقتنا الحاضر يحق لنا القول أن ما يقابل المدينة الفاضلة، هي المدينة التافهة، إذ يتمسك قطاع كبير من الناس فيها بكل ما هو سطحي وبكل زبد عابر في غفلة على أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض قال تعالى: " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)"(الرعد) وقد سبق لعبد الوهاب المسيري أن نبه بكون الفلسفات المادية قد جعلت الكثير من الناس يعيشون وهم تحقيق الفردوس الأرضي "الآن وهنا" مما جعل أفق التفكير لديهم افقا منسدا، يبدأ من المادة ويعود إليها على حساب كل ما هو باطني وجواني وروحي، إذ ينظرون لأنفسهم كجزء من الطبيعة شأنهم شأن الكائنات العضوية الأخرى، فطبيعة هذا الانسداد أو السجن داخل أسوار المادة، جعلت وهم الفردوس الأرضي يتحول إلى جحيم.[4]

وبالرغم من كل هذه المنزلقات التي تعد وجها من أوجه التقنية والحداثة، فنفس التفاؤل والأمل حاضر في ثنايا رواية أختام المدينة، وهي تعيد الثقة في الانسان وللإنسان إيمانا بأنه "آية وليس ألة، وأنه مبعث خير وأمل وفضيلة وصلاح رغم كل الأعطاب التي قد تطرأ عليه حينما ينسى الحكمة من وجوده والغاية من ولايته على العالم"[5] لقد عمل الدكتور عبد الاله بن على استرجاع واستنبات الكثير مما هو ماكث في الأرض، ومن طبعه منفعة الناس، استحضارا منه، بأن التاريخ والماضي متصل وممتد في الحاضر، وعلى هذا المنوال بإمكاننا اليوم تمثل واستحضار مختلف الحكم والفلسفات والفضائل في الشرق والغرب، بما يخدم انسانية الإنسان المعاصر، وبما يحرره من الأغلال والقيود، سواء كانت باسم التاريخ وثقله، أو كانت نتيجة انزلاقات في النظر والتفكير، أو كانت نتيجة لمتطلبات الواقع والحياة.

سافرت بنا رواية أختام المدينة الفاضلة في عالم مفتوح لا حدود له، يجمع بين فهم الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، وتتداخل فيه عوالم متعددة، يحضر فيها العقل والنظر والحواس والقلب والذوق والوجدان والروح، من خلال نظم لغوي يتداخل مع الواقع واشكالاته، ويرتقي إلى الأعلى،[6] بهدف بسط مقاربات الحلول والعلاج. من خلا مشهد تخيلي اجتمع فيه خمسة من أختام المدينة الفاضلة وهم، الترمذي (الحكيم) والفرابي (الفيلسوف) والمتنبي (الشاعر) والمعري (الأديب) ومحيي الدين ابن عربي (المتصوف) وهو مجلس غني يجمع بين أفاق الحكمة والفلسفة والشعر والادب والعرفان، وعملت الرواية على استحضار واسترجاع سيرة وحياة كل هؤلاء الأعلام، بنفس يغلب عليه التحليل والنقد والمناظرة بين كل هؤلاء، ولا شك بأن أختام المدينة الفاضلة، لا تنحصر في هؤلاء الخمسة، بقدر ما يشكلون نماذج بارزة.

فاسترجاع سيرة هؤلاء الأعلام ليس استرجاع من باب الاسترجاع ذاته، بل يغلب عليه نقد وتحليل وتفكيك الكثير من الصور الذهنية التي تشكلت حول هؤلاء وغيرهم، نتيجة خلفيات معية، ولسبب ظرفي في لحظة عابرة من الزمن، ففي هذا السياق، تفند الرواية بحس الأديب المنفتح على التاريخ، تهمة ادعاء النبوة في حق الشاعر العربي الكبير، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي، والذي سار معروفا بالمتنبي، وتجدر الإشارة هنا بأن الدكتور عبد الاله ابن عرفة كشف بكون المغاربة يسمون المتنبي باسم المتنبه، وهي إشارة ربما غير مسبوقة. القارئ للرواية سيجدها تفتح أعينه على أفق خلاق في فهم حياة هؤلاء الأعلام، بشكل يستحضر الساق الحضاري والثقافي الذي ينتمي إليه كل واحد من هؤلاء.

ارتأى الدكتور عبد الإله بن عرفة، أن يجعل محيي الدين ابن عربي (المتصوف) حكما بين أختام مجلس المدينة الفاضلة، وهو بهذا يأخذ القارئ إلى مجال المعرفة العرفانية التي تتعاطى مع المعرفة بكونها تكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، في وقت يرى فيه الكثير بأن المعرفة والعلم منحصرة في مجال الحس والتجربة فقط، وقد ترتبت عن هذا القصور المنهجي الكثير من الآفات ليس هنا مجال ذكرها، مما دفع هيدغر إلى إطلاق عبارته الشهيرة: «لن ينقذنا سوى الله».

فالمدينة الفاضلة إذن "هي المدينة التي يتبوأ فيها الفضلاء مكان الصدارة حيث يقودون الركب الإنساني نحو الكمال."[7]

***

د. صابر مولاي احمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

.....................

[1] عبد الاله بن عرفة، أختام المدينة، دار الآداب، ط.1، 2022م، ص. 210

[2] نفسه، ص. 195[3]

[3] أنظر: نظام التفاهة، آلان دونو، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري

[4] أنظر: الفردوس الأرضي، عبد الوهاب المسيري.

[5] نفسه، ص. 212

[6] قال تعالى: " وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)"(النحل)

[7] نفسه، ص. 221

في المثقف اليوم