قراءات نقدية

طريق فرانز كافكا الطويل الشائك إلى روسيا

عرف كافكا الأدب والثقافة الروسيين جيدا. وكان نيكولاي غوغول وفيودور دوستويفسكي من بين كتابه المفضلين. وكان من محبي الباليه الروسي ومعجبا بالراقصة يفغينيا إدواردوفا. ويحلم بها، وقد طلب منها ذات مرة في حلمه أن ترقص على أنغام موسيقى (التشارداش) الهنغارية.

في أعمال كافكا، غالبا ما توجد إشارات إلى روسيا والروس. على سبيل المثال، في رواية «المحاكمة» يتذكر جورج بيندمان صديقه الذي يعيش في سانت بطرسبرغ. بدأ كافكا بكتابة قصة عن روسيا «ذكريات الطريق إلى كالدا» التي يصف فيها بالتفصيل طريقة الحياة القاسية في سيبيريا، وشخصيات وعادات سكان البرية الروسية. لكن هذا النص ظل غير مكتمل. قال كافكا ذات مرة: «ربما، سيكون من الصواب إذا كتبت قصة عن الحياة الروسية بعد «المحاكمة». كما نشأت رواية «القلعة» من فكرة كتابة «قصة عن الحياة الروسية» تحت عنوان «إغواء في القرية» والمناظر الطبيعية الثلجية لـ«القلعة» لها علاقة مباشرة بروسيا. لكن على الرغم من القرابة الروحية الوثيقة بالثقافة الروسية (وربما بسببها على وجه التحديد) فإن أعمال كافكا لم تصل إلى روسيا إلا بعد عدة عقود.

الإشارات الأولى العابرة إلى كافكا في روسيا

 ورد اسم فرانز كافكا لأول مرة في الصحافة الروسية خلال حياة الكاتب في عام 1922، فقد تحدث الناقد المسرحي الكسي غفوزديف (1887-1938) في مقالته «التعبيرية في الدراما الألمانية» المنشور في مجلة «الغرب الحديث» السوفييتية بشكل إيجابي عن مسرحيات كافكا. وربما خلط الناقد بين اسم فرانز كافكا والكاتب المسرحي التعبيري فريدريش كوفكا (1888- 1951). لم يكن الناقد السوفييتي مخطئا تماما عندما نسب الأعمال الدرامية إلى فرانز كافكا. في وقت لاحق، تم العثور بين أوراق الكاتب على جزء من مسرحية غير مكتملة تحمل اسما متوافقا جدا مع أحداث الإتحاد السوفييتي – «الخوف من الضريح». وقد نشر نص هذا الجزء من المسرحية بعد عقود من مقالة غفوزديف.

عقب نشر روايات كافكا «أمريكا» و«المحاكمة» و«القلعة» بعد فترة وجيزة من وفاته، أصبح معروفا على نطاق واسع في أوروبا. ومع ذلك، تجاهلته الصحافة السوفييتية عمليا حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، باستثناء بعض الإشارات العابرة في المراجعات الأدبية. بالطبع، عرف المتخصصون في اللغة الألمانية والمثقفون السوفييت عن كافكا وقرأوا أعماله في الأصل أو بلغات أخرى. ذكر أناتولي لوناشارسكي أحيانا كافكا في محاضراته. من المعروف أن الفيلسوف الإنكليزي أشعيا برلين أعطى بوريس باسترناك عدة مجلدات من مؤلفات كافكا باللغة الإنكليزية، لكنها لم تصبح الكتب المرجعية للشاعر. في رسالة إلى ألبير كامو بتاريخ 28 يونيو/حزيران 1958، اعترف مؤلف رواية «دكتور زيفاجو» قائلا: «نادرا ما يكون لديّ الوقت لقراءة ما أحبه وما يثير اهتمامي. كافكا وفلكنر، اللذان لم أقرأهما، ينتظران الوقت الذي سأخرجهما فيه من رف كتبي». بعد ذلك بفترة قصيرة، قدم باسترناك كتب كافكا إلى آنا أخماتوفا، التي اعجبت بها وتركت في نفسها انطباعا قويا. وكانت تعيد قراءتها بين آونة وأخرى، واصفة كافكا بأنه كاتبها المفضل بعد دوستويفسكي، واعتبرته فوق جويس وبروست. عبرت أخماتوفا عن انطباعاتها بالطريقة التالية: « لقد كتب لي وعني.. شعرت كأن شخصا ما أمسك بذراعي وجرني إلى أكثر أحلامي رعبا». في عام 1960 كتبت أخماتوفا قصيدة «تقليد كافكا» واستخدمت فيها صور كافكا ودوافع المحاكمة والشعور بالذنب والعقاب والأحلام والرؤى للتعبير عن الجوهر المأساوي للعديد من أحداث حياتها.

كما حظي كافكا بإعجاب مارينا تسفيتاييفا، التي تعرفت على روايته «المحاكمة» في سبتمبر/أيلول 1937 أثناء وجودها في فرنسا. تزامن اطلاعها على الرواية مع الأحداث الدرامية في حياتها، حيث أشاع المهاجرون الروس فرية كاذبة عن زوجها الشاعر سيرغي إيفرون، الذي عاد إلى موسكو عام 1937، ثم لحقت به تسفيتاييفا مع ابنها عام 1939، أعدم إيفرون بتهم ملفقة عام 1941. يمكن للمرء أن يتخيل الانطباع الذي تركته السطور الاولى من رواية «المحاكمة» في نفس تسفيتاييفا ا في ظل مثل هذه الظروف: «لا بد من أن أحدا قد افترى على جوزيف ك، إذ اعتقل ذات صباح دون أن يرتكب أي خطأ».

 حظر أعمال كافكا

 عندما زار الشاب غابرييل غارسيا ماركيز الاتحاد السوفييتي عام 1957 – للاشتراك في المهرجان العالمي السادس للشباب والطلاب-  دهش لأن أعمال كافكا لم تترجم إلى الروسية، وأن أحدا في الاتحاد السوفييتي لم يقرأها، وقال: «أعتقد أنه كان بإمكانه أن يكون أفضل كاتب لسيرة ستالين. وظلت أعمال كافكا محظورة في الاتحاد السوفييتي حتى عام 1965 لعدة أسباب، لعل أهمها أن رواياته وقصصه القصيرة تصوير مجازي للنظام الشمولي، وإن طريقة كتابتها كانت مخالفة للمبادئ الجمالية للادب السوفييتي. والأهم من هذا وذاك أن الإبداع الكافكاوي بالنسبة للنظام الاستبدادي يتعارض مع كل الأفكار البلشفية حول الفن «المفيد»- أي الفن الأخلاقي، الأيديولوجي، الحزبي، الديني، التربوي.

وصف الكاتب النمساوي إلياس كانيتي- الحائز جائزة نوبل في الأدب لعام 1981 – كافكا بأنه «أعظم خبير في قضايا السلطة بين الشعراء». إن انخراط كافكا العميق، وحتى الصوفي، في «القضية الملعونة» للقرن المنصرم – قضية السلطة – جعل طريقه إلى القارئ الروسي شائكا. تقلبات نشر وتعميم تراث كافكا في الاتحاد السوفييتي ترتبط بشكل مدهش بمنطق الأحداث في أعمال الكاتب. يعطي المرء انطباعا لا إراديا بأنه توقعها مسبّقا. لا يمكن تفسير أعمال كافكا بشكل لا لبس فيه، فهي استعارات اجتماعية، وتحليلية نفسية، وفلسفية، وأخلاقية ودينية، وتتطلب جهدا روحيا مستقلا، لاستيعابها وفهمها وتقييمها، لذا لم تكن أعمال كافكا مقبولة لمجتمع يسعى إلى رؤية متجانسة للعالم.

بعد عام 1956، بدأ اسم فرانز كافكا يظهر بانتظام على صفحات المجلات السوفييتية والمجموعات الأدبية النقدية المكرسة للأدب الأجنبي في القرن العشرين. في هذه الأعمال، يصف معظم النقاد، كقاعدة عامة، مؤلف رواية «المحاكمة» بأنه كاتب منحط لم يستوعب الأفكار التقدمية للماركسية اللينينية، وبالتالي فهو في معسكر الكتاب الأشد رجعية. ومع ذلك، كان الغرض الخفي لهذه التقييمات السلبية هو «إشاعة اسم كافكا في الحياة الثقافية من خلال الإشارات المتتالية في سياق سلبي» ومع تطور الميول الليبرالية في السياسة الداخلية للاتحاد السوفييتي، بدأ النقاد الأدبيون شيئا فشيئا في تحديد العناصر الإيجابية في أعمال كافكا، وفي تقديم كافكا بلطف أكثر: لم يعد منحطا، بل حداثيا، حيث أصبحت الحداثة الكلاسيكية موضوعا للنقاش الأدبي والفني في عصر «ذوبان الجليد». في عام 1962 عقد مؤتمر السلام العالمي في موسكو، وأعرب جان بول سارتر عن دهشته لعدم وجود ترجمات لأعمال كافكا في الاتحاد السوفييتي، وأن الكتّاب السوفييت كانوا حذرين منه. وفي خريف عام 1962، عندما وصلت مجموعة من الكتاب من جمهورية ألمانيا الاتحادية لأول مرة إلى موسكو، وكان بينهم هاينريش بول. عندما سئل من هم أهم الكتّاب المعاصرين في ألمانيا والعالم في نظره قال: إن فرانز كافكا كاتبه المفضل. فوجىْ بول بأن الجمهور لا يعرف شيئا عن هذا الكاتب، وكان عليه أن يشرح من هو كافكا وماذا كتب! في عام 1963، في المؤتمر الدولي حول مشكلات الرواية المعاصرة في لينينغراد، اعترض جان بول سارتر وناتالي ساروت وآلان روب غرييه وزملاؤهم الألمان والإيطاليون علنا على رفض النقد الأدبي السوفييتي لأعمال جويس وبروست وكافكا. عندما بدأ قسطنطين فيدين في خطابه في تكرار الكليشيهات الدعائية حول الثالوث المنحط، قال سارتر مباشرة: «عندما يتم إخبارنا عن (بروست، وجويس، وكافكا) ككتاب منحطين، غالبا ما يتبين أنهم ببساطة لم يقرأوا شيئا لهؤلاء الكتاب الثلاثة.

انتصار كافكا

وقد مهدت هذه الأحداث والأيديولوجية العامة لعهد «ذوبان الجليد» الأساس لظهور كافكا باللغة الروسية. ففي عام 1964، نشرت قصتان من قصص كافكا «المتحول» و»في مستعمرة العقاب» وعشر منمنمات نثرية في عدد يناير/كانون الثاني من مجلة «الأدب الأجنبي» حدث هذا بعد 40 عاما تقريبا من وفاة كافكا. في عام 1965، نُشر «المجلد الأسود» الشهير المكون من 600 صفحة لمختارات من أعمال فرانز كافكا، الذي تضمن رواية «المحاكمة» و39 قصة قصيرة وقصيرة جدا. وقد اصطف حشد كبير أمام كل متجر من متاجر الكتب في موسكو لاقتناء الكتاب. وكنت حينها في موسكو. ولم أحصل على نسخة منه رغم وقوفي في طابور طويل عدة ساعات أمام أحد متاجر الكتب الكبرى في شارع غوركي وسط موسكو. فاضطررت إلى اقتناء  نسخة من السوق السوداء بأضعاف سعره الرسمي. لأن دار نشر «بروغريس» الحكومية أرسلت معظم نسخ الكتاب إلى بلدان المعسكر الاشتراكي. ليس من الصعب تخيل المشاعر التي انتابت سجناء الرأي السابقين في معسكرات الاعتقال الستالينية والفاشية وأقاربهم وأصدقاءهم. وهم يقرأون رواية «المحاكمة» التي تصف  مأساة جوزيف ك وصفا نفسيا عميقا، وغرف المحكمة المزدحمة، والمحتالين، والضحايا والجلادين، كأن الرواية كتبت من قبل شخص اعتقل وزج به في معسكرات الاعتقال دون أن يرتكب أي خطأ. على الرغم من أن أعمال فرانز كافكا يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، إلا أن شعبيته في الاتحاد السوفييتي بلغت ذروتها بعد ظهور «الكتاب الأسود». في ذلك الوقت، اعتبر كل مثقف روسي أن من واجبه الحصول على كتب كافكا وقراءتها.

ومع ذلك، كان نشر أي عمل جديد لكافكا مصحوبا دائما بمراجعة أيديولوجية متحيزة للعمل المنشور، يشرح للقراء أن كافكا لم يفهم «تلك الأسباب الاجتماعية المعقدة التي تؤدي إلى علاقات عدائية بين الإنسان والمجتمع في العالم الرأسمالي» بدون مثل هذه المقدمة الأيديولوجية، كان نشر التراث الكافكاوي في الاتحاد السوفييتي مستحيلا. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما كتبها نقاد محترفون لكي يتمكن القارئ السوفييتي من قراءة أعمال الكاتب «المناهض للسوفييت». وسرعان ما سمح جو «ذوبان الجليد» لنقاد الأدب الروس بإعلان كافكا «وريثا للأدب الكلاسيكي» وحتى «الكاتب الذي يتبع أفضل تقاليد الفن الأوروبي». لكن طريق فرانز كافكا إلى القارىْ السوفييتي انقطع بسبب أحداث تشيكوسلوفاكيا عام 1968، عندما دخلت الدبابات السوفييتية براغ. وقد أُطلق على الكاتب – رغم وفاته منذ عدة عقود – «الأب الروحي لربيع براغ» وأصبح مرة أخرى كاتبا غير مرغوب فيه في الاتحاد السوفييتي. وكان على نقاد الأدب السوفييت أن يغيروا جلودهم، ويبدأوا تدريجيا بالحديث عنه ككاتب منحط. وأخذ اسم فرانز كافكا في الظهور بشكل أقل فأقل على صفحات الصحافة الدورية السوفييتية، ثمّ توقف نشر أعمال الكاتب حتى عهد البريسترويكا. ففي عام 1988، نشرت مجلة «الأدب الأجنبي» رواية «القلعة» بترجمة ريتا رايت كوفاليفا.، وقد أظهرت المترجمة براعة في استخدام المصطلحات القمعية: فقد ترجمت «الاستجوابات» على أنها «استطلاعات الرأي الليلية» هذا جعل نص كافكا أكثر جاذبية. ومنذ ذلك الحين ظهرت ترجمات عديدة لمعظم أعمال كافكا ويومياته ورسائله. وبعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية كتبت عن إبداعه في روسيا عشرات الكتب النقدية والأطاريح العلمية، وعدد لا يحصى من الدراسات والمقالات النقدية.

تأثير كافكا في الأدب الروسي ـ عميق ومتعدد الأوجه، فقد تأثر به عدد كبير من الكتّاب الروس، وثمة أغنية سوفييتية شهيرة مطلعها: « لقد ولدنا لنجعل كافكا حقيقة». لكن هذا موضوع ضخم يضيق المجال عن الخوض فيه في هذا المقال، ويستحق وقفة أطول.

***

جودت هوشيار

في المثقف اليوم