قراءات نقدية

مسرحية طلقة الرحمة.. ارتقاء لغة العرض

افتتح مهرجان بغداد الدولي للمسرح يوم الخميس ٢٠-١٠-٢٠٢٢ واستمر لثمان أيام، تواجدت في المهرجان عروض وفنانون من مختلف الجنسيات والقوميات، تضمن عرض  الافتتاح لغة عالمية، لغة يفهمها الجميع لأنها تتضمن منطق حركة الجسد والموسيقى والفضاء السينوغرافي، وجميعها انصهرت بوحدة إيقاعية جمالية ممكنة التبويب تحت مصطلح (الرقص الدرامي) (The Drama Dance ) انه عرض مسرحية (طلقة الرحمة)

تقديم اول: اعتمد العرض المسرحي في بداياته التاريخية لغة الحوار بالدرجة الاولى، ربما يتمكن المتلقي خلال حضوره العرض من إغماض عينيه بين حين وآخر والاكتفاء بسماع الشعر، ثم - وفي مرحلة لاحقة - كانت الحركة تدعم لغة الحوار المتسيدة، أما في العرض المسرحي الحديث فقد حضرت لغة الجسد لتتصدر المشهد في الكثير من العروض ومنها عرض (طلقة الرحمة) الذي تفردت فيه لغة الجسد برفقة الموسيقى - التي تعد اللغة الأسمى حسيا -  في التعبير عن روح العرض.

تقديم ثان: آلت متابعة وملاحظة وتفحص العملية الإخراجية المعاصرة الناتجة عن مشاهدة العديد من العروض إلى:

اولا: إن النص المسرحي يبقى محصورا في نطاق الأدب الى أن  يعمل على تشريحه الإخراج ليختار من أوصاله ما يتسق ورؤيته ويضيف هذه الأوصال الى تصوراته هو ويركبها ليقدم عرضا على وفق الواقع الراهن والتعاطي من الزمن الحاضر .

ثانيا: ما عاد النص المكتوب بصيغة تقليدية قادرا على تلبية متطلبات رؤية العديد من المخرجين، مما دعا المخرج إلى الشروع بوضع سيناريو رؤيته بنفسه، وهذا ما فعله المخرج (محمد مؤيد) في إنشاء عرض مسرحية (طلقة الرحمة)4469 مسرحية طلقة الرحمة

عمل المخرج محمد مؤيد على الاستثمار الفني للغة الجسد واستخرج مكنونات قدرتها التعبيرية الفائقة وذلك بالاتساق مع جماليات السينوغرافيا، وجعل جسد الممثل جزءا عضويا ينطلق منه ويندمج فيه ويبتكر حركات وتكوينات معبرة وعرض متماسك الأجزاء والعناصر، حيث لا وجود لزوائد في المنظر ولا في الأزياء ولا في أجساد المؤدين البلاستيكية التي لم تعرف الهدوء والسكينة طوال خمسين دقيقة تقريبا

لقد عمل المخرج على مفهوم التلقي المسرحي الخالي من  الكلام بالاستناد الى بلاغة الحركة والتكوينات، وقال من خلال العرض وبكل وضوح ما معناه : لن تقف (لغة الحوار) عائقا أمام الفهم والإحساس والتأمل وخلق الاندهاش، بالتأكيد توجد عروض سبقت (الفنان محمد مؤيد) في هذا المضمار، لكنه ابدع في تدريب وتقديم الفنانين الشباب وأوصل رسالته من خلالهم بسهولة بعد تدريبات - اعتقد انها كانت – شاقة، وبهذا خرج العرض عن وجود المتن الحكائي المعتاد والتقليدي وذهب الى تجسيد فكرة/ موضوع / معنى من خلال الحركة والإتيان باشتغالات جماعية وتكوينات ذات أبعاد دلالية واضحة وأبعاد جمالية حققت شغفا بالمتابعة حتى نهاية العرض.4471 مسرحية طلقة الرحمة

ان دلالة اللون الابيض الذي طغى على ازياء المشهد الأول لمجموعة الفتيات، واللون الأسود وسيادته في ازياء الفتيان، ثم تحققت الغلبة للون الرمادي في عموم الفضاء، ومن الملفت لنظر المتلقي المحلي استخدام مفردة العباءة السوداء العراقية التي منحت العرض دلالات محلية، فضلا عن فعل (حركة التعازي /اللطم) بعده ملمح بارز الهوية  بأبعاده المعنوية المرتبطة بإيلام الذات وإظهار هول المصاب.

وقد وظفت تقنية المستويات الثلاث المتدرجة في إنشاء منظر العرض، إذ استثمرت ارضية المسرح في حركة مجموعة المؤدين الذي يمثلون عامة الناس ، وبعدها مستوى ثان لتقديم مشهد يتداخل ضمنا مع ما يقدم على المستوى الأرضي وزاد في جمالية الأمر وجود المستوى الثالث وجعله مركز سيادة للمتسلطين على من دونهم - او هكذا يظنون - ودعوتهم للصعود اليه وبحركة متكررة دائرية بما تتضمنه من استلاب الإرادة، أما التراب/ الرمال المتراكم على هذا المستوى (الثالث) فبعد المشي عليه فقد نثر فوق رؤوس المؤدين، وكان جدار الصد الحديدي متواجدا في عمق المسرح وهو جدار عازل للجميع والذي شهد محاولات فردية لتسلقه بقصد الخلاص من وضع القيد وحياة العزلة، ولم تفلح المحاولات لأنها - قد تعني - هروبا الى مجهول.4472 مسرحية طلقة الرحمة

جاءت المعالجة الجمالية ذات البعد الدلالي العميق في ختام العرض عندما ذهبت فئة من المؤدين - وهذا ما خلص إليه العرض - إلى حرث الأرض وتهيئتها للآتي من الزمن، بعد ان كانت الارض يباب (رمال) مع وضوح دلالة رفض الجميع لــــ (طلقة الرحمة) رغم ما تعرض له هذا الجميع من قمع وإذلال وقتل

كل التوفيق للفنانين الشباب وفي مقدمتهم المخرج (محمد مؤيد) وهم يقدمون عرضا مغايرا على صعيد اللغة وتصميم الحركة والسينوغرافيا والموضوعة المؤكِدة على التحدي لكل قيد وعزلة أو مظهر للذل والموت، قدم العرض عالم مؤلم بإطار جمالي يحرض على صناعة النور وعدم انتظار إضاءة الاخرين، انه عرض تنويري الأسلوب تثويري الفكر.

مبارك فور فريق (طلقة الرحمة) بجائزة (أفضل أداء جماعي) ويستحق هذا العرض أن يمثل الدراما المسرحية العراقية -كما شأن الكثير من العروض - لأنه ينطوي على خصائص لغة تعبيرية وجماليات أداء تعطي صورة واضحة عن إمكانيات الفنان المسرحي العراقي.

***

حبيب ظاهر حبيب

في المثقف اليوم