قراءات نقدية

دفاعًا عن مدرسة الديوان وبيان أثرها في تطوير وإثراء الشعر العربي

قد يبدو الحديث عن "مدرسة الديوان" وأثرها في حياتنا الأدبية من الأحاديث المعادة التي شبعت بحثًا ودرسًا وتقريرًا، على أن ظاهرة الطعن في تراثنا الأدبي عامةً أطلت برأسها علينا منذ فترة لم تعد قصيرة، وقد تزعمها نفرٌ من النقاد الذين خلعوا على أنفسهم ألقاب "التقدمية" و"الحداثة"..إلخ؛ بحيث أصبح من غير المناسب أن نغض الطرف عن محاولات العبث بجزءٍ أصيل من تاريخنا الثقافي وهويتنا العربية، ولا يمكن للدارس إلا أن يُذَكِّر من حوله بالحقائق الأدبية التي جعلت من شعرائنا الكبار أمثلةً عليا نتطلع إليها بعين التقدير والإجلال وإن آثرنا أن نطور الأدب بما يتجاوزهم ليتلائم مع روح العصر الذي نعيش فيه؛ غير أن مجاوزة القديم لا تعني التنكر له وجحود فضله.

ومدرسة الديوان تبدأ مع بداية القرن العشرين، وتستلهم مبادئها وأهدافها من شاعرٍ أصيل تجاوز "الإحياء" قليلًا ليدخل في "الرومانتيكية" متأثرًا بثقافته الفرنسية الرفيعة، إنه اللبناني "مطران خليل مطران" الذي اقتفى أثره ثلاثةٌ كانوا في زمانهم مثل فتية الكهف؛ إذ لا يشعر بهم أحد ولا يلقي لهم أهل زمانهم بالاً؛ بل إن أحدهم – وهو المازني- بسبب الحسرة والألم رثى نفسه وهو على قيد الحياة! إنهم الثلاثة الذين خُلَّفوا وما كان لمثلهم أن يقابلهم الناس إلا بالتهميش في عصرٍ خلا من كل معالم الحياة، فالاستعمار يجثم على صدر الوطن، والحياة العلمية في خمولٍ غريب لا تُحسد عليه، والأدب الذي أراد له رواده أن ينتعش قليلًا كان تقليدًا ومحاكاة شبة تامة لِما تقادم زمنه من فنون الشعر والقصيد، أما الرواية والقصة فلم يكونا قد نَبُتَا بعد..

والثلاثة الذين أسسوا "الديوان" هم: الشاعر النبيل ذو الحس المرهف "عبد الرحمن شكري" المولود سنة 1886 والمتوفى سنة 1958، و"عملاق النثر" - فيما بعد- وصاحب العبقريات الشهيرة: الشاعر والكاتب الموسوعي "عباس محمود العقاد" ومعهما "إبراهيم عبد القادر المازني" الذي تحول إلى الكتابة الصحفية الساخرة وفن القصة.

ثلاثة فتيان كانوا يمثلون الشباب المصري والعربي الذي مرَّ بأزمةٍ عنيفة أحسَّ من وطأتها بالاختناق، ليطمح إلى التحرر والانعتاق، وكيف لا يكون هذا همُّه ومسعاه؟ وهاهو الاستعمار البريطاني يفرض نفسه على بلادنا أمرًا واقعًا لا تبدو له بوادر حلٍ في الأفق، ولا يكتفي بالاحتلال بل ينشر معه الجهل والفقر والفوضى، ويحطم قدر جهده معالم الشخصية العربية، والشباب في المقابل لا يجدون مجالاً للنمو والشعور بالذات وإصلاح الأوضاع ليكون لهم ذلك الدور الفاعل الذي بدونه يكون المرء ميتًا على قيد الحياة.

وحين رأى الأصدقاء "شكري والمازني والعقاد" أن آمالهم الكبرى تصطدم مع الواقع، وشق عليهم أن يرضو بالمذلة، لم يجدو إلا الهروب على قاطرة الوهم وأحلام اليقظة.. وهكذا صنعوا عالمًا كاملاً من خيوط ذهبية لا يراها إلا خيالهم، وكما آوى فتية الكهف إلى تجويفٍ عتيق في بطن الجبل، لجأوا هم إلى الطبيعة وتأملوا في الكون وتسلوا بالفلسفة علَّهم يفهموا الدنيا طالما لم يستطيعوا تغييرها! فجاء شعرهم مثل فلسفة "شوبنهاور" لكن بلسانٍ عربيٍ مبين، وبعمودٍ شعري لم يبرحوه أبدًا وإن طاب لهم أن ينوعوا القافية في القصيدة الواحدة.

وكما تأثر "مطران" بالفرنسية وآدابها تأثروا هم بالأدب الإنجليزي، وجاء شعرهم بعد "الإحياء" طفرةً وتجديدًا وبعثًا للذات الشاعرة، ونحن إذ نُقَلِّب النظر في أبياتهم لنشعر بالمتعة نرى عن كثب مواقفهم الصريحة ودمائهم الحارة وحماسهم المُتَّقِد، نرى الحزن والغضب والألم، نرى صدق التجربة وعمق المأساة والاتجاه نحو الداخل، نحو الذات، ونرى أيضًا جنوحهم إلى الخيال بما يجعلنا نقول أنهم كانوا رومانتيكيين لا محالة.

وهكذا وعلى هذا النحو شرع الثلاثة في نشر مذهبهم والدعوة إلى رؤيتهم الخاصة منذ مائة وثلاثة عشر عامًا، أي منذ عام 1909، وكانت الصحافة تفرد لهم صفحاتها فيكتبون المقالات العريضة في الشعر: ما هو؟ وكيف هو؟ واستمر تنظيرهم في مقدمات الدواوين التي أصبح لها اسمٌ تختص به، فما عاد يقال "ديوان العقاد" مثلاً؛ بل "ديوان عابر سبيل" للعقاد، وذلك أنهم سعوا إلى وضع عنوان للقصيدة إيمانًا منهم بالأولوية المطلقة لوحدتها الموضوعية، ثم بدا لهم أن يثبتوا عنوانًا للديوان كله يدل على إطاره العام.

ونحن على يقين أن العقاد - من بين شعراء الديوان- رغم شعوره الراسخ بعبقريته وإيمانه الشديد بذاته وسعيه نحو التفرد، لم يصنع قطيعةً تامة مع تراث الإحيائيين، رغم أنه قال عن مدرسته إنها: "نتاج قريحة شباب لا عهد لهم بالجيل الماضي، وقد نقلتهم التربية والمطالعة نقلةً عظيمة جعلتهم يسبقون الشيوخ الذي كان أقصى أمانيهم أن يعارضوا ابن الرومي وأبا تمام، وهم يجمعون الحسنيين؛ إذ يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وجائت ثمرة ذلك أن نزعت أقلامهم إلى الاستقلال عن الغير، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود المصطنعة".

إن ما أحدثه العقاد ليس قطيعة مع ما سطره يراع شوقي وحافظ ومن قبلهما فارس الإحياء "محمود سامي البارودي" الذي أعاد الشعر سيرته الأولى بعد قرون من الوهن والخمول؛ ولكنه بالأحرى "تطوير" نشكره عليه، فقد نظر إلى الأمام مفضلاً إياه على الهجوع في ظلال الأولين رغم الراحة التي يبعثها؛ إذ ليس أجمل من الهجرة في الزمان إلى الماضي الجميل، وإطلاق العنان لهذا الحنين إلى عصرنا الذهبي يوم أن كانت "بغداد" حاضرة العالم وبهجة الكون وموئل كل عالم وأديب؛ غير أن العقاد ترك الماضي لأن التاريخ يمضي إلى الأمام، ولأنه يريد أن يعبر عن نفسه وخيالاته وعواطفه وحدس الشاعر الكامن بداخله، يريد أن يعبر عن مأساة عصره فهذا خيرٌ من التعبير عن سعادة الماضين.

وهكذا خُيِّل للفتيان الثلاثة أن "الإحياء" شرٌ كله أو كثيرٌ منه، وهاجموا شوقي وحافظ وهما على قيد الحياة بضراوة، ثم أوغلوا في هجومهم فلم يسلم منهم الشاعر الشاب آنذاك "مصطفى صادق الرافعي" لأنه كان ذا روحٍ إحيائية، وفي سياق هذا الهجوم الذي يبدو لنا الآن لاذعًا جاء كتابهم "الديوان في الأدب والنقد" الذي أصدره الصديقان "العقاد والمازني" معاً سنة 1921، وبه سميت جماعتهم "مدرسة الديوان".

وكان تطوير العقاد والمازني للشعر محاولة للتقليل من استلهام البيان القديم عند شعراء القرون الخوالي، ونقول "محاولة" لأن القارئ لشعر العقاد بتأمل يجد أنه لم يخرج تمامًا عن "البيان" وإن تغيا الخروج على طغيان هذا البيان على الفكرة، وكان شعر العقاد ذهنيًا فيه غير قليل من الفلسفة.

كما أن التطوير عند العقاد كان رفضًا لما يمكن تسميته بـ "شعر المناسبات" في مقابل ابتعاد حافظ وشوقي عن تصوير خلجات النفس وبوح المشاعر، ولا تندهش إذا رأيت العقاد نفسه يكتب في "المديح" فقد ذكرت لك أنه لم يصنع قطيعةً وإنما استهدف التطوير، وسيبقى "المدح والهجاء والرثاء والغزل والفخر" سيبقى هذا كله ما بقي الشعر العربي، ونحن لا نتصور شعرًا عربيًا يخلو من هذه الأغراض حتى وإن زعم بعض النقاد "الحداثيون" أنها أغراض غير أدبية، وليتهم يشرحون لنا ما الدافع وراء نفيهم صفة "الأدبية" عن هذه الأغراض التي قيل فيها الشعر منذ "امرئ القيس" وسوف تظل - كيما نعتقد- إلى آخر الدهر، وهل ينبغي على "النظم" حتى يكون أدبًا أن يقال في العمائيات التي لا يفهمونها هم أنفسهم وإن مجدوا أصحابها وشكروا صنيعهم؟!.

نعم نحن نتفهم ثورة العقاد والمازني على ما يبدو في شعر حافظ وشوقي من الاهتمام بوصف مظاهر الأشياء، وما يبدو كذلك من عدم الظهور الكافي لشخصياتهم الإبداعية، وخاصةً في معارضاتهم المشهورة، كما أنهم نسجوا على منوال شعراء الجاهلية أحيانًا فتناسوا الوحدة الموضوعية في قصائدهم، بل يمكن القول أنهم بالغوا في قصائدهم لأنهم قالوا إن الشعراء لابد لهم أن يهيموا في كل وادٍ فرأيناهم يبالغون في الإطراء والمديح حتى يرفعوا الممدوح إلى السماء، ثم يبالغوا في رثائه حتى لكأنه كان ملاكًا مجنحًا على صورةٍ آدمية، كل هذا نفهمه من ثورة العقاد على شعراء الإحياء، ولكنه أولاً وأخيرًا لم يمحُ أسمائهم من سجل الشعر والشعراء، فقط أراد أن يجدد.

ومن ملامح التطوير عند شعراء الديوان: أنهم أثروا الشعر العربي حين جمعوا بين ثقافة تراثية عميقة وثقافة إنجليزية لا تقل عمقًا، وأنهم حلموا بواقع أفضل ودنيا مغايرة، وأنهم عبروا بصدق عن نفوسهم، ولأول مرة نجد في الشعر تعبيرًا عن تأملات الفكر والنظرات الفلسفية، كما أن قصيدتهم كانت بناءً مترابطًا يشد بعضه بعضًا، وكل مقطع فيها له دوره الوظيفي بحيث لا يمكن للقارئ إلا أن يقرأها كلها، فالقصيدة عندهم مثل جسم الإنسان لا تتنافر أعضاؤه، وإن شذ منها عضو تداعت سائر القصيدة، فهي منغومة هارمونية مثل ألحان الموسيقار "محمد عبد الوهاب" الذي بدأ يظهر قريبًا من عهدهم، ذلك العهد الجميل رغم فداحة الاستعمار؛ إلا أن هذه الحقبة من تاريخنا كانت ولا شك محظوظة بظهور أمثال هؤلاء الرواد.

وقد لا يبدو من الشطط أن نَصِف شعر المازني وشكري والعقاد بأنه شعر عقلاني، وهو مصطلح قد يبدو غير مألوف على أسماع الباحثين في تراثنا الأدبي؛ على أنك لو تأملت ما كتبه المازني مثلاً لما وجدت مندوحةً عن وسم شعرهم بالعقلانية، انظر إليه حين يقول بهذه السخرية الأليمة:

أَقِم وادعًا واصبر على الضَّيْمِ والأذى.. فإنك إنسانٌ وجَدُّكَ آدمُ

وهَبْكَ على الدنيا سَخِطْتَ وظُلْمِهَا.. أَتملِكُ دفعَ الظلمَ والظلمَ لازمُ

شعور العجز واليأس ينضح من هذه القصيدة، إنه "شوبنهاور" يطل علينا من ثنايا الكلمات فيخبرنا أن الظلم طبيعة الحياة وليس بأيدينا إلا الصبر، وهب أنك ثُرتَ على الدنيا وما فيها من ظلمٍ قديم قدم النوع الإنساني، فهل ثورتك تكفي لأن يزول الظلم من العالم والظلم لابد واقعٌ على بعض الناس؟ إنها الحياة "ظالم ومظلوم" وإنك إنسانٌ وجدك آدمُ، ولا تسألني لماذا اتجه المازني بعد ذلك إلى السخرية فقد كان هذا مفهومًا وها أنت ترى بوادر تلك السخرية في بيتين جمعا بين التهكم والمرارة.

وهكذا مضى شعراء الديوان يتأملون في الحياة ويغوصون في أسرار الوجود، ويعبرون عن هذا الاستبطان بلغة معاصرة تمامًا فلا تلمح آثار اللغة المعجمية التي لم يكن يفهمها من شوقي وحافظ إلا أضرابهما من الشعراء ويفهمها بالطبع مشايخ الأزهر وعلماؤه، كما ابتعد الديوانيون تمامًا عن الموضوعات السياسية والاجتماعية فليس في جعبتهم إلا الشعور والتفلسف ولا تسألهم عن شيءٍ آخر، وقد طاب لهم أن ينوعوا الوزن والقافية تأثرًا بما قرأوه في أشعار الإنجليز ومفهوم "الشعر المرسل" كما أنهم يُشْكَروا على استحداث موضوعات جديدة في الشعر العربي، فالعقاد مثلاً يحدثنا في قصائده عن "الكَوَّاء" أو بالعامية المصرية الدارجة "المكوجي"! وعن "رجل المرور" وعن موضوعات عامة كثيرة تجعل منه شاعرًا رومانسيًا ذا مسحة واقعية.

وبعد.. إن الدارس لتاريخ "مدرسة الديوان" وأثرها على حياتنا الأدبية لن تفلت منه تلك الحقيقة المحزنة والمضحكة في آنٍ واحد والتي ربما كانت سببًا في اتجاه المازني إلى السخرية فيما بعد، وهي أن الفتيان الثلاثة "شكري والعقاد والمازني" خرجوا من كهفهم ولم تجمعهم بعد ذلك مناسبة أدبية، فالمدرسة التي شيدوها معاً تهاوت أركانها وانحلت عقدتها وذهب كلٌ في سبيل؛ بل قد هاجم عبد الرحمن شكري زميله المازني لاختلافٍ بينهما في وجهات نظرٍ أدبية، وحين وقف العقاد في صف المازني حزن شكري وآثر التوقف عن قول الشعر، وكانت آخر تجاربه الشعرية ديوان "أزهار الخريف" سنة 1918، فنحن هنا في الحقيقة نتحدث عن مدرسة عمرها 9 سنوات فقط وماتت في سن الطفولة وعمر الزهور.

وهكذا ترك "عبد الرحمن شكري" قول الشعر، واتجه "المازني" إلى الكتابة الساخرة وفن القصة، ورغم أن العقاد بقي وحده في المدرسة إلا أن نثره غلب شعره فعرفناه بعبقرياته الخالدة وكتبه في الاجتماع والأدب والإسلاميات، لكنه أفرخ تلاميذًا كبارًا أخلصوا لرؤيته في الشعر، وكان منهم: علي أحمد باكثير.

***

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم