قراءات نقدية

أدبنة التاريخي في رواية قيامة الحشاشين للروائي الهادي التيمومي

الرواية التاريخية:

(رواية تثير الحاضر، يعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم بالذات) فيصل د راج). او كما عرفها سعيد يقطين (عملا سرديا يرمي إلى اعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة) ص159ةسعيد يقطين قضايا الرواية العربية الجديدة -الوجود والحدود ط1 2012

بعد ما سمي بـ(الربيع العربي) وما احدث من تحولات دراماتيكية كبيرة في طبيعة الحراك الاجتماعي وطبيعة الانظمة التي اعتلت سدة الحكم في البلدان العربية.. في العراق حدث التغيير عن طريق زلزال الاحتلال الامريكي في 2003، اما في البلدان العربية كمصر وتونس فقد هياج الشارع التونسي والمصري مما ادى إلى عزل الحكام المستبدين السابقين محتكري كراسي الحكم لعشرات من السنين.

ما ترمي إليه هذه المقدمة ان هذه البلدان اخذت تعيش حيزا من الحرية في ظل هذه التغييرات على مختلف المجالات الحياتية، وقد شمل هذا الثقافة والادب خصوصا؛ فالادب سبّاق إلى انارة افاق المستقبل بحكم كونه حالما ومتجاوزا للواقع المعاش، متطلعا إلى مستقبل افضل حيث الحرية والجمال والرفاه الذي ظلت الشعوب العربية تحلم به لقرون من السنين سواء في ظل القوى الاستعمارية أو في ظل الانظمة (الوطنية الديكتاتورية) الملكية والجمهورية على حد سواء.

ان هذا الحيز من الحرية فتح باب الجرأة لاعادة كتابة تاريخ هذه الشعوب، وهذه المرة ليس بأقلام المؤرخين الذين كان أغلبهم من كتبة السلطان، بل بأقلام الادباء وبالأخص كتاب الرواية باعتبارها الرحم الاوسع والفضاء الارحب الذي يمكن ان يعيد كتابة التاريخ بعيدا عن هاجس الخوف من السلطة وادواتها الرقابية، كتابة تاريخ الشعوب والمهمشين والمقموعين أي أنَّ الباب أصبح مفتوحا من أجل (أدبنة التاريخ)، هذه المهمة العسيرة التي لا يمكن ان يتصدى لها الكاتب الا وهو يحمل عدة الابداع واحكام صنعة السرد والحبكة الروائية، مضافا اليها امتلاكه لثروة ورصيد لغوي كبير، وسعة الخيال وانما يجب ان يكون مستوعبا لتاريخ الشعوب وللظواهر والاحداث ضمن منهج تفكير ينحاز للإنسان وليس للسلطان، يؤمن ان التاريخ هو نتاج صراع وكفاح مختلف الطبقات الاجتماعية من اجل تحقيق الهيمنة على مقاليد الثروة والسلطة وسبل الحفاظ عليها بمختلف الاساليب، وهو كذلك نتيجة صراع الطبقات الشعبية المهمشة والمقموعة من اجل تحقيق طموحاتها في الحرية والعيش الكريم...

كذلك يجب ان يكون الاديب متسلحا بخلفية يعتد بها في علم النفس وعلم الأجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وتراث وفلكلور الشعب المعين المراد ادبنة تاريخه.

وهذا ما يميز الروائي وهو يؤدبن التاريخ عن الكاتب المؤرخ وهو يوثق التاريخ بعقلية السلطان وكما قال فيصل دراج:

(يكتب الروائي التاريخ الذي لا يكتبه المؤرخ، أي تاريخ المقموعين والمضطهدين والمهمشين، ذلك التاريخ المأساوي الذي يسقط في النسيان، وتتبقى منه آثار متفرقة، يبحث عنها الرواي طويلا، ويضعها في كتب لا ترحب بها "مكتبات الظلام ") فيصل دراج ص 369.

على الروائي وهو يكتب التاريخ ان يمتلك القدرة على التمييز بين الخيط الابيض والخيط الاسود في داخل غرفة مظلمة محكمة الابواب مسدلة الستائر بأيدي كتاب ووعاظ السلاطين، حيث المنفعة وحظوة السلطان وقلب الحقائق غير آبهة لا بالمنطق ولا بطبيعة وصيرورة الحراك الأجتماعي، ولا بدور التراكمات المستترة والمولدة للثورات والأنتفاضات والحروب والأزمات، تكرس وتركز وتبرز دور الحكام والسلاطين مهملة بالكامل دور الأغلبية الفاعلة في صنع التاريخ، معزيا الأنتصارات والهزائم إلى شخص وأرادة السلطان وكأنه الممسك الوحيد بكل خيوط ومحركات الأحداث عبر امساكه بصولجان السلطة والمال...

مما يتطلب من الروائي ليكون أمينا لضمير التاريخ وواقع حراكه وتحولاته، ان يلقي الضوء الكاشف على المسكوت عنه، ان يزيل غبار التضليل السلطوي عن تاريخ الفاعلين المهمشين والمقموعين...

عليه أنْ يُخَلِقْ من رحم وواقع الحراك الشخصيات صانعة التاريخ، ليس بروح الأيدلوجيا بل بروح الموضوع وطبيعة الحراك، بحيث لا يجافي الواقع بقدر ما يكون أمينا على كشف أبطاله الحقيقين وجنوده المجهولين..

كما انَّ على الروائي انَّ لا يكتفي بالوصف التاريخي للحدث أو الظاهرة كما وثقها المؤرخ، بل يجب أنْ يضع يده المبدعة على التعريف الحقيقي ومعرفة أسباب وموجبات ومحركات والفاعلين الأجتماعين من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية المساهمة في تخليق هذا الحدث واستيلاد هذه الظاهرة، والكشف عن القوى المستفيدة وعن القوى المتضررة من هذه الظواهر والأحداث، الأنتفاضات، الثورات، الحروب، فالتاريخ هو تاريخ صراع الطبقات الأجتماعية من أجل تحقيق مصالحها...

المطلوب من الروائي أنْ يكشف عن العوامل الحقيقية لسلوك وتصرفات الأفراد والجماعات وان يستحضر وحي الواقع المعاش وليس وحي المفارق والارادة الشخصية المجردة...

على الروائي ان يقرأ السطور وما بين السطور، ان يقرأ الظاهر والمستتر في الوثائق والمستندات التاريخية وليس قبولها على ماهي كما يفعل المؤرخ...

على الروائي ان ينفذ من حاجز الحجب والتمثيل واختلاق الهيئة والسلوك للأفراد والجماعات والغوص في أعماق هذه الشخصيات من الناحية النفسية والسسيولوجية وتظهير نسختها السالبة لتكون نسختها الموجبة الحقيقية بكل تفاصيلها وأسرارها

أمامَ القارئ...

وهنا لا نريد ان نعرج على شخصية الروائي وقدراته الابداعية وحنكته في سرد الاحداث وفطنته في التقاط الصور التي تبدو للإنسان العادي غير ذات اهمية، واستنتاج المواقف والعبر، لأننا نرى ان ذلك يجب ان يكون حاضرا لمن يتصدى لكتابة الرواية وخصوصا لهذا الجنس الروائي المؤدبن للتاريخ...

ان تحقيق النجاح في عملية (ادبنة التاريخ) في كتابة الرواية التاريخية امر في غاية الاهمية والصعوبة من حيث الموضوع والذات خصوصا وان الفن الروائي والرواية ولدت معوقة في وطننا العربي نتيجة لافتقادها لموضوعها ورحمها باعتبارها ملحمة البرجوازية الناهضة...

ففي والبلدان العربية البرجوازية / طفيلية هجينة تابعة مكونة من بقايا الاقطاع والبرجوازية الطفيلية

وما زال الصراع في المجتمعات العربية صراعا غير واضح المعالم هلاميا مائعا،

(فلا الشر مكتمل النصر ولا الخير مكتمل الهزيمة... الرواية العربية بحث نوعي في تاريخ هوية مازومة، فقدت ما كان عندها، ولم تعثر على ما تريد الحصول عليه، هوية معلقة في الفراغ، ترى إلى ماض لا يستطيع العودة اليه وترنو إلى مستقبل تعجز عن الوصول إلى ابوابه) ص369.

فتظل الظروف الحالية للعالم العربي عموما ولذلك اقدم العديد من الكتاب إلى (ادبنة التاريخ) وهم كمن دخل إلى بحر هائج وواقع ملتبس وغبرة حراك وصراع لم تنجل بعد، مما انتج كما من السرد التاريخي للأحداث وهي لا تحصى، ولمدن تمتلك تاريخاً غائراً في عمق الزمن وللأشخاص، فكانت كتابات ونتاجات يسيطر على بعضها التقرير الصحفي، أو كتابة السيرة الذاتية، والرواية الملتبسة الهوية، ولاشك ان هذا الكم الروائي الكبير افرز نوعا مميزا من (ادبنة التاريخ) لكتاب عرب...

أدبنة التاريخ عن طريق الرواية تعني في تعني ملأ الفراغات والسطور البيضاء المسكوت عنها أو المهملة من قبل المؤرخ ليظهرها الروائي عبر السرد الروائي مما يعطي للمتلقي صورة كاملة وبالالوان حول الحدث التاريخي

ومن أبرز هؤلاء الكتاب الروائي الاستاذ الهادي التيمومي كاتب رواية (قيامة الحشاشين)، في رواية ضخمة الحجم ، وقد قال عنها مؤلفها (رواية الحشاشين تجمع بين الفنتازيا والخيال من جهة والمعطيات التاريخية الموثقة من جهة أخرى وهي رواية تحمل القارئ بين الماضي والحاضر وبين الخيال والحقيقة).

والحشاشين هم (من أكثر الفرق الباطنية في الاسلام أثارة للجدال ويحيط بتاريخها غموض ملحوظ وتتوزع أخبارها بين المصادر الدينية والتاريخية العربية والفارسية وبعض المصادر التركية ومؤرخي الصليبيين وكتاب عصر النهضة الاوروبيين) برنارد لويس – فرقة الحشاشين – دار البيضاء بيروت ص5 مقدمة المترجم .

التنقل من زمن الجمال الى زمن الهاتف النقال

حيث تدور احداث الرواية حول عثور الأستاذ على مجموعة من الرقائق تضم كتابات ورسوم مخبأة في احد القبور قرب داره وقد حدث الأمر بالصدفة ، الدكتور يذهب الى اليمن للأستفسار حول معنى ومضمون وعائدية هذه الرقائق ، الذي يتبين انَّها تعود الى حسن الصباح أمام الحشاشين الذي كان يسكن قلعة (آلموت) في عش النسر في اعلى الجبال الحصينة ، ضمنها توصياته وتنبؤاته الى مريديه، موصيا بحرقها وأتلافها فور الحصول عليها وقتل من عثر عليها ، وكان يمكن انْ يقتل الدكتور من قبل فرقة الحشاشيين من جماعة البهرة في اليمن لو انّ لم يبصره ويحل له صديقه الاستاذ عبد العزيز رموز الصور ومعانيها ودلالاتها ...

كانت هناك فرقة أخرى من الحشاشين وهي النزارية الهندية كانت تستميت من أجل العثور على هذه الرقائق لأمامهم لحوزتها والأحتفاظ بها ، وقد دار صراع عنيف بين الفرقتين للاستحواذ على الرقائق وصار الدكتور مطلوبا ومطاردا ومهددا بحياته من قبل الفرقتين ، وكذلك أصبح مطاردا من قبل السلطة الحكومية التي اتهمته بالاستيلاء على كنز من الأموال والذهب ووثائق تاريخية هامة يجب أن تعود الى الدولة ....

كان مع الرقائق خنجر من الذهب غريب الصنع والصفات منقوعا بالسم موصى به للحشاشين من قبل حسن الصباح ليكون اداتهم في قتل وأغتيال خصومهم...

عاش الدكتور حالة من الرعب والخوف هو وعائلته من قبل البهرة والنزاريين والسلطة والخوف من الخنجر الذي يترصده بالموت والفناء كما صوره حسن الصباح ؟؟!!!

دلالات الرواية:

اراد الروائي القدير من خلال سرد الاحداث ان يلقي الضوء الكاشف على الصراعات الطائفية بين مختلف الطوائف الأسلامية في العصور الوسطى من التاريخ الأسلامي وكيفية استحواذها على عقول وسلوكيات بسطاء الناس وتجنيدهم وتسييرهم لخدمة اغراض القادة (المعصومين) السياسية وتأليههم وقد نشطت هذه الفرق على وجه الخصوص بعد وفاة الأمام جعفر الصادق عام765م ، والتوصية بالأمامة الى ولده الأصغر موسى الكاظم بدلا من ابنه الأكبر اسماعيل الذي أسس المذهب الشيعي الأسماعيلي ومنه كانت فرقة الحشاشين بمختلف فروعهم ...

يقول الروائي الكبير عبد الرحمن منيف (اذا تسيس الدين أصبح فاشيا) . وبذلك فقد اتصفت هذه الفرق وغيرها بشدة ميلها للقتل والعنف وفناء من يخاصمها عبر الهيمنة على عقول الجماهير الفقيرة والمعدمة والمقهورة من قبل السلطات الحاكمة وعلى وجه الخصوص انذاك السلطات الاموية والعباسية (كل عبد هرب من سيده وأتانا فقد عتق من الرق، وكل عبد ذبح سيده واتانا فقد عتق وسقط عنه الدم، وكل فقير ومسكين اختارنا كفيناه مؤونته ولم نحوجه الى غيرنا ...) الرواية ص193 . وكذا هي دعوة القرامطة والبابكية وثورة الزنج وغيرها من الثورات ضد حكم الطغيان والاستبداد الاسلاموي وجميعها تردي الرداء الاسلامي وتدعي انتمائها الى الائمة المعصومين من العلويين على وجه الخصوص.

بسبب استئثار الاقلية الحاكمة وحاشيتها على الثروة والجاه والعيش عيشة الترف والبذخ واللهو مع الجواري والغلمان في حين تعيش الأغلبية حالة من الجوع والبؤس والخوف والحرمان مما يجعلها تبحث عن مخلص يؤمن لها الكرامة والعيش الكريم والأمان كما أدعى حسن الصباح وكذلك بقية الفرق الثورية الاخرى .

وبسبب قمع الكثير من الثورات المسلحة للعلوين ضد الحكم الاموي والعباسي كثورة الامام الحسين680 ميلادية و 685 ثورة المختار بن يوسف الثقفي وتبعتها ثورة زيد وذو النفس الزكيه واخيه وثورات ال الزبير وغيرها وجميعها قمعت وقتل قادتها ، مما جعل هذه الفرق المتطرفة تلجأ الى اسلوب التخفي واسلوب الاغتيالات للحكام والامراء وكل من يعارض هذه الحركات وقد استمرت حتى (النصف الثاني من القرن الثامن فشلت الحركات المتطرفة والمتشددة ثم اختفت من الوجود وتضاءلت ولم يعد يشعر بها احد) برنارد لويس –فرقة الحشاشين – در البيضاء بيروت – بغداد ص38-39.

الروائي ييتتبع امتدادات هذه الفرق في العصر الراهن مسلطا الضوء على جذور الحركات العقائدية الدينية الاسلامية في زمننا الحاضر ومدى ارتباطها بالحركات السابقة وبذلك ربط الماضي بالحاضر ، ربط بين (جمل) العصور الوسطى و(نقال) العصر الالكتروني الحالي وظهور حركات ارهابية عقائدية مثل حركة القاعدة وطالبان وداعش وما اليه في زمننا الحاضر ...

كم أنه اوضح مدى تغلغل هذه الاساطير وخرافات الحركات الغابرة والحاضرة في عقول حتى بعض المثقفين ومن ذوي العلم والمعرفة وكذا كان حال الدكتور الذي أرهبه خنجر حسن الصباح العجيب وحيل أتباعه ، ومدى تواطوء بعض السلطات والأجهزة التنفيذية الحكومية معهم عبر رشوتهم بالمال كما هو حال الضابط الذي اختلس الخمسين مليون بدلاً من ايداعها في خزينة الدولة . حيث تمكن الاستاذ عبد العزيز لفطنته وتبحره العلمي والمعرفي في طبيعة وتاريخ هذه الحركات الى ازالة الخوف من قلب الدكتور عبر لعبة محكمة بتحضير شبح أحدهم وكأنه يطارده في مستقره وكيف اثبت انه فزاعة وشبح غير حقيقي وخرافي.

لقد تمكن الروائي وياسلوب سردي ممتع ولغة رصينة لاتخلو من الشاعرية وحبكة روائية محكمة ان يقدم للقاريء عملا روائيا لم ينحدر صوب التقريرية او استنساخ التاريخ كما كتبه المؤرخين ، فكان حائكا ماهرا للكلام بخيوط ملونة ناعمة رصينة قدمت لنا صورة واضحة مجسمة لماضي وحاضر هذه الحركات الاسلاموية المسيسسة في الماضي وامتداتها في الحاضر .

***

بقلم الأديب حميد الحريزي

في المثقف اليوم