قراءات نقدية

جثة بيانو" الحطاب.. توظيف الاستبدال اللفظي بصور متنوعة

- معاني مترادفة وتكريس التشبيه والإسقاط للدلالة اللفظية

 - تداخل الزمن وعدم استقراره مابين اللغة وواقعية المعنى الرمزي

 التاريخ يتدلى شعراً عند جواد الحطاب والذي أفرد  له مساحة عريضة في مقتبل إكليل موسيقاه، جاء بها على ذكر اسماء الخلفاء حتى تراقصت حروف سلمه الموسيقي لتهزء من تلك الأسماء  التي تعلقت باسم الله كما قال (أرب هذا أم شماعة أخطاء) .

الاسقاط الذي بدء به الحطاب نصه الشعري ليلج من خلاله باب الذكرى بتأويل (الشباك)، وظف فيه الخِطاب الديني عبر رموز واسماء جاء بها للدلالة ثم للتمني قاصداً منها التداخل السمعي البصري للصورة التي يريد تجسيدها متكاملة أمام مخيلة القارئ.

قيل أن الأخذ ب (لو) يفتح أبواب الفتنة، فأي فتنة في شعر الحطاب أراد لها أن تكشف خبايا التاريخ بتضمينه (لو) استفتاحا لأبياته، هي لم تحدث،لكن التمني يؤدلج عقل القارئ على تخيلات ما كان لو إنها حدثت، والفتنة تكمن في ثنايا التساؤل، كما يكمن الشيطان في التفاصيل.

لو كان أبن ابي طالب قد مد يديه إلى العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو صدق السفاح

لو تمت بيعة ابن عبيد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من أجل إمارة؟!!

 التساؤل في ختام الأبيات، فتح الأفق على مضمون قضية تاريخية، تناولها الحطاب عبر أدواته الموسيقية التي عزفت لحن كلماته على "جثة البيانو" (اكليل موسيقى على جثة بيانو)، استبدال رائع لمعاني مترادفة، هي شائعة في مخيلة القارئ، (أكليل، جثة) كلاهما قبل أن يستخدم (جواد الحطاب) مفهوم الإسقاط والتشبيه، كانتا كلمتان دالتان تعبران عن مفاهيم مختلفة لأشياء على نقيض بعضهما، لكن أن يتم توظيفهما بهذا المعنى فذاك شيئ مختلف بل قمة في الإختلاف والروعة في الاستبدال والإسقاط.

هل تكون الأكاليل الموسيقية بدلاً عن (المقطوعات) عن (الوصلات الموسيقية، المعزوفات)، وكيف لذاك الإكليل أن يكون على جثة من خشب تتداخل فيها الأوتار بآلة المفاتيح، ذلك التشبيه الذي جاء به الحطاب في قصيدته استخدمه للتأويل، ومن يجيد التأويل أكثر من جواد الحطاب.

المتوكل بالله

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعز بالله

المهتدي بالله

المعتضد بالله

المعتمد بالله

المكتفي  بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

المطيع لله

التوظيف العام لمطلع القصيدة بدلالة الاسماء المذكورة، هو عبارة عن تأويل لحقب زمنية تعاقب فيها هؤلاء على الحكم، وهنا أورد الحطاب اسماءهم كيصغة استهجان تصف تلك الفترات التي كان طابعها لايتوافق مع تلك الصفات التي خلعها هؤلاء الحكام على ذواتهم، أو أنهم نسبوا أنفسهم لصفات تغلف توصيفات ممارساتهم للحكم وتنسب تلك الصفات إلى الله سبحانه، تلك السمة، وذلك التوصيف هو الذي استهجنه الحطاب مقارنة بتناقضات ما طغت عليه صفات تلك الفترات من حكم هؤلاء (الخلفاء) الذي حملوا أنفسهم تلك الصفات التي تستعين غالبيتها بالله، وتلك هي التورية التي كانت تميز تلك الفترة من عصر الخلفاء، أو ما يطلق عليه (تغليف السياسي بالطابع الديني)، وربما هي مرحلة يعيدها التاريخ اليوم باسم "علي بن أبي طالب" الذي رفع اسمه شعاراً لمرحلة الحكم الحالية التي حرقت الأخضر واليابس لكنها بقيت شعارات خلت من مبادئ "علي" الزاهد العابد المؤتمن، وأراد منها جواد الحطاب بتوظيفه (التشبيه) اسقاط تبعاتها على مايعيشه العراقيون من مآسي وويلات جَرت عليهم وعلى العراق مزيداً من الآسى والدمار و(شماعة الأخطاء جاهزة)، سيما وأن جواد شاعر مقاوم لايختلف على أداءه في معترك المقاومة أثنان.

المقتدي بالله

المستظهر المستنجد بالله

المسترشد بالله

المستنصر المعتصم بالله

ياآه ه ه ه

تضحكني هذي الاسماء

أرب هذا

ام شماعة أخطاء؟!

 في الليل  تدلهم الخطوب على النفوس، تثار المواجع، يعمل التفكير أعماله، ويأخذ الشجن مأخذه منهم، في الليل ينتظر الشارد بفكره أملاً، عله يأتي بعد انبلاج وشاح السواد، لينشر الصباح خيوط النور ويعم على الجميع، وقد قال في توصيف تلك الصورة " المتنبي" (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي ....وما الاصباح منك بأمثل).

في ذاك المعنى كتب الحطاب بتداخل الزمن وعدم استقراره مابين لغة الدلالة وواقعية المعنى الرمزي واتساع الرؤيا  فجاءت كلماته تحمل إشارات الإمتداد الزمني الذي سعى إليه الحطاب  ليغلفه بنور الأمل المنتظر والذي مثله ب(الشباك المفتوح) على ظلام الليل.

نص حمل من الرمزية التي تشير لواقع دلالي قد يتغير مع مرور الوقت، والتغيير ميزة الأشياء والأزمان، فلا الحال يبقى، ولا الزمان يثبت،صورة معبرة أختزل من خلالها  جواد الحطاب مشهد الحياة دون حاجة لتوظيف التكرار الذي نعهده عند كثير من الشعراء.

توظيف الرموز في النص الشعري  دالة التشبيه، وهو في نفس الوقت دلالة رمزية تعمل على تقوية الصورة التي يرسمها الشاعر، فيما تعد مقاربة ضمنية لتذليل الصعوبة التي قد تكتنف الكلمات التي يوظفها في أبياته، لكن إن تم توظيفها بتراتبية تستند للتبسيط، وذلك ما ندعوا له في كل كتاباتنا، وهي تعتمد على مخيلة الشاعر وسعة أفقه اللغوي، فإنأمتلكها نجحت تشبيهاته، ونجح أسلوبه في التوظيف . وقد أبدع الحطاب في ذلك فصاغ نصاً رائعاً ما كان أن يكون بهذا الوصف الدقيق لو أن غير الحطاب سعى لنظمه.

شباك مفتوح في الليل على الذكرى

.....................

لو كان ابن أبي طالب قد مد يديه على العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو أن أبا مسلم لم يتشيع لإبراهيم

لو صدق السفاح.....

لو تمت بيعة ابن عبد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من اجل إمارة؟!

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

تقلبات استعمال اللغة وتكريس النص في مجموعة من الصور هو أقرب لذهن القارئ من تباعد المعنى عبر توظيف أفكار متباينة للوصول إلى الصورة التي نريد، فكم من شاعر حاول أن يبتعد عن تثبيت الصورة عبر النص، والمحاولة لولوج القصدية الشعرية من باب تشتيت الصور في القصيدة ومن ثم جمعها،فضاعت محاولاته وضاعت صوره.

وفي هذا جاء الحطاب بالاختزال اللفظي كمنهج يعتمد عليه في رسم صوره الشعرية بسردية موجزة، أفادت القارئ وسهلت عليه عملية اقتناص المعنى الضمني، ودلت على عمق التوظيف واستخلاص المعنى، فكان الإيجاز بدلالة تنوع الإيقاع وتعدد الوظائف الشعرية والغايات الرمزية أن شكل البنية التشكيلية للقصيدة بتنوع البنى الرمزية لشعره ببناء سردي متقن، مما أثرى الحبكة التي عمل عليها وليوظفها بشكل قابل للدلالة على التحول في الفهم حسب تحول الزمن.

تناول الحطاب الرموز بدلالالتها الدينية والإنسانية، وبدلالة السلطة، ووظف الرمز ا(ديني أو سياسي) توظيفاً دقيقاً ليلج من خلاله اللاشعور ويعكسه على الواقع باستعمالات لغوية فريدة حملت افكاراً مغايرة للصور الشعرية التي نراها ونلمسها عند الشعراء، فخرجت من ثنايا قصيدته (اكليل من الزهور على جثة بيانو) رؤية واقعية لواقع مأزوم قد لانراه في أفق قصائد أخرى.

الايجاز الذي يحتكم على رؤية بأفاق وليس أفق، تمنح ما يكتب الشاعر بعداً لا متناهي من الصور الشعرية، ذلك ما ضمنه "جواد الحطاب " أكليله الرائع، ليحتفي ونحن معه بجثة بيانو طالما طربنا على ترنيمات أوتاره، لكننا نستعيض عنها اليوم بكلمات الرثاء الضمني للجثة المسجاة أمامنا (البيانو) الذي فقد إرث موسيقاه على صفحات الشجن التي خلفها التمني ب (لو)، حتى أحيا الحطاب خطاب الأمل فينا عبر شباكه المفتوح على ليل العراق الذي طال سواده،فكان كما قال:

الشٍعر في زمن القواد

دعاره.

***

سعد الدغمان

 

في المثقف اليوم