قراءات نقدية

الشعر الحر.. مماذا؟

حينما أثار الشعراء العرب مسألة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، على إثر نشر نازك الملائكة لقصيدتها "الكوليرا"، كان ذلك تأثرا بالشعر الغربي. إلا أن مفهوم "الحر" يختلف من ثقافة إلى أخرى، وبطبيعة الحال الاختلاف هنا بين الثقافة العربية والغربية، تماما كما تختلف "ع" عن "غ" بزيادة النقطة أو حذفها. فمثلا الشعر الفرنسي تحدث عن الشعر الحر أو البيت المحرر مع بليز دو فيجينير Blaise De Vigenère الذي كان يشغل منصب كاتب لدى الملك هنري 3، سنة 1588. إلا أن البيت المحرر لم يتم الاهتمام به فعليا إلا في القرن التاسع عشر مع كل من موريس دو كًران Maurice De Guérin بديوانيه "الباخوسية La bacchante و القنطور Le Centaure، وألوسيوس برتراند Aloysius Bertrand بديوانه "كاسبار الليل" (Gaspard de la nuit 1842) ثم مع رامبو Rimbaud بديوانه "إضاءات" (Illuminations). يهدف إذن البيت المحرر vers libéré أو البيت الحر vers libre إلى تحرير القصيدة من ضغوطات الأوزان التقليدية المحسوبة والمنغلقة بعددها ومن ضغط القافية، مكتفيا بالايقاع الداخلي والقوافي الداخلية وما يمكن ترجمته تجاوزا بالسجع والجناس (allitérations, assonances)، وبطبيعة الحال بالصور الشعرية. في هذا الصدد يقول الشاعر البلجيكي إميل فيرهايرن Émile Verhaeren:"الإيقاع هو حركة الفكرة نفسها [...]. الشعرية الجديدة تحذف الأشكال الثابتة وتمنح الفكرة-الصورة الحق في خلق شكلها من خلال تطورها، تماما كما يخلق النهر مجراه."

وللتذكير فإن الكلمات الفرنسية مكونة من مجموعات صوتية syllabes يُعتمد عليها لتقطيع الكلمات بالبيت الشعري، و تتشكل أنواع البحور أو الأوزان حسب عدد هذه المجموعات الصوتية. فيكون البيت الأسكندري مثلا، مشكلا من 12 مقطعا صوتيا. وهكذا حينما تتحرر القصيدة، سوف تتشكل من فسيفساء من المجموعات الصوتية، حيث قد نجد بيتا مثلا من 12مقطعا وآخر من 2 أو 3 إلخ... وهكذا يتضح أن القصيدة الحرة لا تحترم مقطع انطلاق القصيدة، بل وفيما بعد أصبحت القصيدة لا تحتوي حتى على علامات الترقيم.

كيف إذن يفهم الشعر الحر العربي في تفاعله وتثاقفه بالشعر الغربي؟

ينعت الشعر حرا مقارنة بالشعر العمودي او التقليدي. بمعنى أنه يتحرر من أشكاله المعروفة، أي من البناء حيث كل بيت مكون من شطرين افقيا، صدر وعجز، وينتهي بقافية تتكرر في نهاية كل بيت، وخاضع لقوانين العروض الخاصة ببحوره وزحافاته وعلله الخ... وهكذا، بتحرره من التقليدي، يصبح شعرا حرا مكونا من أبيات توزع عموديا من غير تشدد في نفس القافية. لكن هناك من يقول بتعدد التفعيلات، وبطبيعة الحال سوف يحترم أيضا ما تفرضه الضرورة العروضية كالزحاف والعلل إلخ... وهناك من يقول بأنه يحافظ على نفس التفعيلة، حيث يجب على الشاعر أن يلتزم بنفس البحر فيما يخص الوزن، وغالبا ما تكون الأوزان حسب البحور البسيطة او الصافية.

نلاحظ إذن أن الشعر الحر في الثقافة الغربية، هو فعلا حر بمعنى الكلمة ولا يخضع لأي ضغط تقليدي، وفي المقابل فإن الشعر العربي لم يتحرر بالكامل، بل يحمل معه جينات من تقنينات الشعر التقليدي حينما يُفرض عليه، في الغالب، الالتزام بنفس التفعيلة وبنفس البحر الذي بدأ به الشاعر قصيدته، وهكذا لا تتحقق تلك الحرية التي نودِي بها. بل وحتى في حالة ما إذا تعددت التفعيلات فإنها تبقى خاضعة لما قننه العروضيون.

هل ذلك مرجعه إلى كون القصيدة العربية، حتى و كونها تُقطع حسب الحركة والسكون، ما يشكل مجموعة صوتية، تخضع في الأخير إلى "ميزان ذهبي" وهو نظام التفعيلة الذي يمر حتما بما يسمى بالميزان الصرفي، خلافا للقصيدة الغربية والفرنسية بالتحديد التي تقطع حسب المجموعات الصوتية فقط كما سبق الذكر؟ أم ذلك راجع إلى طغيان الإيقاع الخارجي المفصل حسب الوزن؟ او نكتفي بترديد ما قاله الناقد عباس محمود العقاد في إحدى حواراته المسجلة صوتا:"الشعر الحر؟ مُحرر مماذا... ليس هناك شعر حر...لا يمكن للشعر أن يتحرر من نفسه"، بمعنى أن الشعر العربي شعر بقوانينه التي استخرجها الخليل من القصائد الأولى وقننها، وما عدا ذلك، ليس شعرا.

ربما هذا هو السبب الرئيسي، المشبع بالحرية الكاملة، الذي أدى إلى ما ينعت بشكل هجين : قصيدة النثر. هذه القصيدة التي تحررت لتسقط هي نفسها مع تضخم الأنا لدى شيوخها، في سجن الرؤى والفتاوي... فهل هناك من يدعو إلى تحرر القصيدة من هذه الفتاوي؟

***

محمد العرجوني

 

 

في المثقف اليوم