قراءات نقدية

المشكلة الوجوديَّة السارتريَّة.. الموقف من الدِّين والتعليم

إذا كان الشَّرُّ متأصِّلًا في البَشَر، والخير مستحيلًا- كما تُصوِّر مسرحيَّةُ (جان بول سارتر)، "الشيطان والرحمن"، في مَواطِن عديدة- فإنَّ من الخير، إنْ وُجِد، ما هو خيرٌ سلبيٌّ؛ يُعيق الالتزام بالحقِّ والواقعيَّة في النظر إلى الأمور، كموقف الفلَّاحين المتديِّنين الذين يقابلون الشَّرَّ القادم بالخير والحُبِّ(1)؛ ممَّا يفرض على الملتزِم توجيههم الوجهة الواقعيَّة، ولو استدعَى ذلك اللجوء إلى القوَّة.  والمعوِّق الآخَر: رجال الدِّين ودجَّالي الغيبيَّات؛ ممَّا يجعل مهمَّة الملتزِم صعبةً في إقناع أبناء الشَّعب بزيف ما تُحشَى به رؤوسهم، مثلما حدث عندما حاول (تيتزل)، الكاهن الدجَّال، أن يوزِّع صكوك الغُفران على أبناء الشَّعب ليَبْتَزَّ أموالهم.  وحين حاول بطل المسرحيَّة (كوتز) أن يُفهِّم الجمهور حقيقة لعبة تيتزل الدنيئة لم يُفلِح، بل لقد عاداه جمهور الشَّعب، على حين استطاع تيتزل أن يزيد حُبَّ الشَّعب إيَّاه وإطاعته.(2)  وقد يكون تضليل الشَّعب عن طريق السِّحر والشعوذة وما أشبه ذلك، مثلما نجِد في (اللوحة الحادية عشرة)، إذ تَحُكُّ السَّاحرة بِيَدٍ خشبيَّةٍ ظهور الفلَّاحين، زاعمةً أنَّهم بذلك سيُصبحون معصومين من التعرُّض للجراحات. حتى لقد استُغِلَّت هذه الطريقة لدفعهم إلى الحرب ومنعهم من الفرار. غير أنَّ (ناستي)، الذي يمثِّل قائد الثورة الشَّعبيَّة، وقف أمامهم، مخاطبًا أحد أبطال هذا الفصل من المسرحيَّة:

"ناستي: لقد جعلتُ منهم رجالًا وأنتَ تحوِّلهم إلى بهائم!

كارل: إنَّ البهائم التي تُقتَل وهي ثابتةٌ بمكانها أفضل من الرِّجال الذين يَفِرُّون."(3)

وماذا عن التعليم؟

من خلال دَور المعلِّمة التي تتولَّى تعليم الفلَّاحين، تُصوِّرُ المسرحيَّةُ التعليمَ- وكان المعوَّل عليه في تبصير البُسَطاء والجهلة بحقيقة الأمور ووظائف الإنسان في الحياة- على أنَّه لا يُعَلِّم إلَّا المثاليَّة الفارغة، وحُبَّ الخير العقيم، الذي لا يُشْبِعُ جائعًا، ولا يكسي عاريًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يَدْرَأُ شَرًّا محدِقًا بالمجتمع.  وأنَّ تكريس تلك المثاليَّة تجعل الناس يقفون ضِدَّ من يُفتِّح عيونهم على أشعَّة الشمس الساطعة.(4)

 وهكذا فإنَّ مسرحيَّة (سارتر) تُقدِّم عرضًا لمختلف جوانب المشكلة الوُجوديَّة، وتصويرًا للصراعات بين عواملها المتباينة المركَّبة.  صراع الفقر مع الغِنَى، وصراع الواقعيَّة مع المثاليَّة، وصراع الخير مع الشَّر، وصراع الوُجوديَّة مع الدِّين، وصولًا إلى النهاية التي جاءت دعوةً إلى تحقيق وجود الإنسان.  أمَّا الوسيلة، فهي باعتماد الإنسان على نفسه في تحقيق ذلك الوجود، وبالواقعيَّة الوُجوديَّة، التي تجاهد الفساد في كلِّ صُوَره، وإنْ استدعَى الأمر العنف والإرهاب! 

أَ فيتَّفق هذا الالتزام الذي يطرحه (سارتر) في مسرحيَّته هذه مع ما دعا إليه الوُجوديُّون، وفي مقدمتهم سارتر نفسه، من أن يقدِّم الكاتب رأيه الالتزاميَّ بهدوءٍ، وبلا عنفٍ أو تَشَنُّج، بل من دون أنْ يُشْعِرَ القارئَ بفرض شيءٍ عليه، وإنَّما تُقَدَّم إليه الحقائق والاقتناعات ليُكْسَب تعاطفُه على الأقل؟ 

تلك مسألةٌ نقديَّةٌ تتطلَّب استطرادًا جانبيًّا، ليس هذا بمجاله.  ومهما يكن من أمرٍ، فلعلَّه قد اتَّضح- من خلال سلسلة المقالات في هذا الموضوع- ما جاءت تُمثِّله مسرحيَّة (سارتر) من نظرةٍ وجوديَّةٍ إلى علاقة الأدب بالسُّلْطة، وما عبَّرت عنه من التزامٍ وُجوديٍّ عميق، لا يخلو من تطرُّف.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 186- 188.

(2) انظر: م.ن، 136- 144.

(3) م.ن، 248.

(4) انظر: م.ن، 181- 190.

 

في المثقف اليوم