قراءات نقدية

لعنة طنجة.. نبضات ناقمة على أبواب مدينة جاحدة

1- تقديم: إن مقاربة هذا العمل لا يمكن أن تتم إلا بوضعه ضمن السياق الرؤيوي الذي ينطلق منه المبدع، لأن اقتحام القاص رضوان بن يشرق مضمار الكتابة الأدبية كانت له مبرراته ودوافعه الذاتية والموضوعية. والقارئ المتأمل لهذا المنجز يدرك أن الكاتب استثمر تجاربه الحياتية باعتباره شابا حالما بالتغيير، شابا عاش كل الإحباطات المؤلمة التي تطارد الخريجين الجدد، وعانق الحياة البائسة في أبشع صورها. وفي النهاية قرر أن يطل علينا بهذا المنجز ليحمل صورة الهامش الذي يعيش جحيم الإقصاء، ولينوب عن كل المقيمين فيه. وقد ساعده احتكاكه اليومي بالناس في إسماع صوت البؤس، وفي رسم صور التعاسة، وترجمة التجاعيد الغائرة التي تسكن وجوه المهمشين.

ولتقديم هذا العمل الذي يطرح العديد من الأسئلة الكبرى، نجد أنفسنا مضطرين إلى تسجيل بعض الانطباعات الأولية حول هذا العمل بالعبارات التالية:

- لعنة طنجة عملية تشريح دقيق لأنسجة المجتمع الطنجي، وكشف حثيث عن الهم الكبير الذي يزداد عتوا وضخامة مادام الواقع يزداد ترديا، ومادامت القيم تزداد انقلابا وتحورا.

- لعنة طنجة جماع الإحباطات التي تغتال أحلام كل شاب حالم بالتغيير وتحقيق الذات وإيجاد المعنى لهذا الوجود بعد سنوات طويلة من الأمل والانتظار.

- لعنة طنجة استنطاق للمسكوت عنه، وتسلل نحو الأعماق المظلمة الصاخبة.

- لعنة طنجة مذكرات شاب محبط.  نبضات شاب عاشق للحياة الكريمة. صرخات شاب غاضب ثائر في زمن التهميش وأزمة القيم وضياع المعنى.4544 لعنة طنجة

2- لعنة طنجة وإشكالية التصنيف:

لعنة طنجة مجموعة قصصية حربائية، تتلون وتتشكل في أكثر من شكل مما يجعلها عصية على التصنيف. فهي تنتمي، في بعض محكياتها، إلى الأدب الواقعي الذي يكشف صورا من الواقع السياسي والاجتماعي والعاطفي.  ولكنها في جانب آخر تميل إلى الأدب الفنطازي الخرافي الذي تنزاح فيه الوقائع وتفقد هويتها الواقعية وتكتسي صفة النص الخرافي العجائبي. وأحيانا يتضمن هذا العمل كائنا سيريا مضمرا يطل علينا من بين بعض الفجوات والمحكيات. فهي إذن مزيج حكائي يجمع بين الرصد والخيال والبوح.

3- ظلال العنوان:

العنوان هو المعبر الأول الذي نمر من خلاله إلى أغوار المتن، وغالبا ما يكون منطقة دلالة حبلى بالإشارات التي تفيدنا في عملية القراءة. ولعنة طنجة عنوان مستفز للقارئ ومثير للفضول. كما هو الشأن حينما نقول لعنة الجوار/ لعنة الحب/ لعنة الوظيفة/ لعنة الشيخوخة... فهو، وإن كان عنوانا لإحدى قصص هذه المجموعة، فإنه المفتاح الذي يمهد الطريق لكل قارئ لهذا المنجز القصصي، ويسهل عليه الولوج إلى عالم مكتظ بالإحباطات المتلاحقة والإخفاقات المتتالية. فهذه العبارة تختزل كل المعاني التي تحيل على الخيبة والغربة والإخفاق والإحباط والمعاناة وسوء الحظ في مدينة عاقة لأهلها اسمها طنجة. طنجة المقنّعة بأقنعة دخيلة زائفة، جعلتها تختلف عن صورتها القديمة البهية الفاتنة ذات الخصوصية المعمارية والبشرية والخلقية. طنجة التي كانت.. طنجة التنوع والاندماج والتفتح والتمدن والأصالة والبساطة والطيبة والشهامة والنبل والسمو. طنجة القناعة والعفة والحياء....

لعنة طنجة هو تعريض صريح بهذه المدينة الساحرة التي ُمسخت تفاصيلها وصارت تتمرد على ذاتها، وتتنكر لماضيها، فأصابت أبناءها بالاغتراب وبلعنات يومية لا تنتهي. صارت تُعرض بكل قسوة عن أبنائها، وتسلمهم قرابين لنيران اليأس والبؤس، وتزرع في أعماقهم المرارة والرغبة في الانسحاب والهروب، فغرقوا في بحار التخدير والجريمة والهجرة والعدمية والاغتراب.

هذه الغربة القاسية التي تحيط بأهل طنجة في مدينتهم، جعلتهم يميلون إلى الاعتقاد بأنهم أصيبوا بلعنة حب غير متبادل.. لعنة حكمت عليهم بالانزواء والعزلة. ولذلك تجدهم يلوذون بالهامش وبالأحياء الفقيرة ويخفون أوجاعهم في المقاهي الشعبية. هناك يتحررون من سطوة الاغتراب ومن متاهة الضياع. هناك فقط يجدون الإحساس بشيء يشبه الحياة.

4- العوالم الجمالية في (لعنة طنجة):

قبل الخوض في عوالم هذا المنجز أشير إلى أنه منجز أفكار وأسئلة ورسائل قوية ومنبهة أكثر مما هو عمل فني معد للمتعة أو مقصود لذاته. فالكاتب يميل إلى فلسفة الفن من أجل الواقع وليس إلى تيار الفن من أجل الفن.

أولا: على مستوى المحكيات

عوالم لعنة طنجة كثيرة ومتنوعة. لأن هذا العمل يوجه رسائل كثيرة في قالب فني. وهي رسائل قوية تصل إلى مستوى الإدانة ومحاكمة مؤسسات الواقع.  كما نجد رسائل النقد الثائر ورسائل النقد الساخر. ففي هذا المنجز نجد المبدع يترافع بالورق والقلم والكلمة والخيال مناصرة للمظلومين والمسحوقين وسكان الهامش.

وفي عوالم لعنة طنجة نجد مزيجا من الأحاسيس المتناقضة التي تعكس وضع الإنسان المهزوز في هذه المدينة؛ مدينة المتناقضات. أحاسيس قوية غير ثابتة، يسيطر عليها اليأس والرغبة في الانسحاب تارة، وتارة أخرى يسيطر عليها إعلان التحدي والرغبة في المواجهة. يمكن تصنيفه في: الإحساس بالاغتراب في مدينة إسمنتية جاحدة. الإحساس بالظلم في وسط رأسمالي متغول محتكر للثروة والمناصب. الإحساس بالدونية في مجتمع مادي أناني لا يرحم الضعفاء. الإحساس بالإحباط والخيبة وسوء الحظ. الإحساس بضرورة مقاومة الواقع والتمرد على مؤسساته. التطلع إلى العدالة والديموقراطية وتكافؤ الفرص.

ثانيا: على مستوى الشخصيات

كان الكاتب ذكيا في اقتناص شخصيات قصصه لأنه لم يبحث عنهم بعيدا، لأنهم جزء من الصور الآدمية التي تؤثث الوسط الذي ينتمي إليه. فأغلب الشخوص في قصصه تنتمي إلى الشريحة المسحوقة التي تقاوم كثيرا لتعيش، تكد وتجد ليستمر نبض الحياة، ولكنها أحيانا تضعف وتنسحب وتستسلم لسطوة اليأس فتلجأ إلى الانتحار. يحضر رواد المقاهي الشعبية والسكارى والمنحرفون وتجار المخدرات وتجار البشر والطلبة وأصحاب المهن البسيطة. هذه الشريحة من النماذج البشرية تجمعها قواسم مشتركة عديدة، أهمها الخيبة والقهر والإقصاء.

ثالثا: المذهب القصصي

يهتم الكاتب كثيرا بالتنويع في بناء قصصه وصياغة عالمها الجمالي، وذلك بالتركيز على الواقعية تارة، والارتماء في ساحل النصوص الفانطستيكية والهتشكوكية والكتابة الساخرة وكأنه رأى في النص العجائبي الساخر والمشوق ملاذا آمنا يحتمي فيه كل من اكتوى بلهيب الحياة اليومية في ظل سيادة الظلم والتهميش والأنانية والمحسوبية والفساد.

رابعا: الفضاءات المكانية

الأمكنة تنتمي للهامش. تتقدمها المقاهي الشعبية وبعض الفضاءات التي يتردد عليها البسطاء. وهي شاهدة على تجارب حياتية مؤلمة وحكايات موجعة لشريحة اجتماعية مكتئبة حكمت عليها قوانين الرأسمالية المتغولة بالتواري طوال اليوم في الزوايا المظلمة وارتشاف كؤوس القهر بعيدا عن أعين المحظوظين الوافدين الذين استباحوا كل قطعة جميلة أو معلمة تاريخية في هذه المدينة، فأقاموا أبراجا إسمنتية باردة بلا ذاكرة ولا روح ولا حياة.

6- خاتمة:

هذه المجموعة القصصية الحاملة لهموم البسطاء والحالمة بالتغيير واستعادة الهوية، تقدم للقارئ المغربي وجها جديدا لمدينة طنجة. وجها مختلفا عما عهدناه في الأعمال الأدبية الأخرى. وجها لا يمكن أن يدرك بشاعته وقبحه إلا أبناء هذه المدينة المغتصبة. وجها مقنعا بألف قناع، وقد استطاعت هذه المجموعة أن تنزع بعض هذه الأقنعة لتظهر الصورة البشعة لمدينة صارت تفقد بهاءها يوما بعد يوم، وتتنكر لماضيها المجيد. مدينة جاحدة تنتحر فيها الفضيلة على مقصلة المال والثراء.

***

د.  محمد شداد الحراق

في المثقف اليوم