قراءات نقدية

قراءة في المجموعة الشعرية (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة سلاهب الغرابي

المعادلة الشعرية بين حجب الداخل الحسي وعدمية الخارج الأحوالي

مهاد نظري: من الأهمية أن ندرك إن بناء المعرفة في أبعاد وظائف النص الشعري، تمرر بمواقف انطلوجية ـ حسية، خاصة من مبعث حيثيات رؤية الشاعر ووسائل المعطى التصوري للأشياء المصورة انطباعا في مشخصات دقيقة من محاور الذات الشعرية التي ترتبط بالأحداث النفسية والحسية والشيئية بمحاور أكثر من محل ضرورة وأهمية ومقدرة وسعة في ذهن الشاعر ذاته من هنا قد يجوز لنا دراسة قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة الدكتورة سلاهب الغرابي في حدود ومواقع وحالات علامية دالة، تتضمنها غائية العنونة المركزية في المجموعة الشعرية، على كونها العلاقة الصورية المرمزة في مسافة الأفكار والرؤى والحلم التواصلي في مكونات النصوص الشعرية.لذا فإننا حيال حضور صوت الذات (الآنوية) كيانا متجسدا في وحدة مؤشرات علاماته كمناصات للنص المحيطة بهواجس ودلالات تغلب على أشد مؤشرات المقصدية في مشاغل (الذات ـ الهاجس ـ النجاة) ولهذا لاحظنا بأن أغلب أشكال النصوص في المجموعة تبدو لنا شبه منقطعة مع الحياة تارة ومع ذاتها الآنوية تارة عبر بينات متشكلة من أفضية من الفواصل الزمنية وجملة من الواصلات الحسية، وهي تمرر تشوفاتها اليقينية بالآخر المتوارى، كهوية مسكوت عنها في كينونة الذات المشروطة في تشظيات بوحها المنقسم في ثلاثية الأقطاب (هواجس + النجاة = الأنا) .

ـ الشعرية بعيدا في بؤرة استدراك الحال القصدي:

بوسعنا أن نتعرف على خلاصة الطاقة التعبيرية ـ الصورية، في لغة الحراك الواصف ـ أفعالا ـ ومسميات وإحالات في مشهدية العنونة المركزية الموسومة بـ (هواجس النجاة والأنا) لنواجه من خلالها ذلك الحجم الشاسع من (اللاجدوى ـ الخذلان ـ الرحيل ـ الاغتراب عن الذات) امتدادا إلى حالات تحاورية مع مساحة الأنا ذاتها وبذاتها، أي في مواجهة حضور أسئلة الفضاءات التشكيلية المراوية في معاينات مرآة النص:

يجلسُ الحُزنُ حيثما تكونُ يا أيُّها الغريبُ

لسْتَ بِمُسافرٍ أوبِمقيمٍ فإلى أينَ السَّبيل؟

ألم تكتفِ بحثاً في الفراغِ؟

بعدما خذلكَ الكثير ./ص6 قصيدة : هاجس النجاة والأنا

ترسم لنا قابلية التخييل ذلك الحضور المقصدي بمعنى البوح الاستعادي للذات ومراجعاتها لذاتها في ظل علامة المخاطبة (يا أيها الغريب) ولا تخلو هذه الجملة من مجالية ما تختص بها حساسية الرصد الفاعلة والمحددة بمعناها الوصفي المتابع لـ (يجلس ـ الحزن ـ حيثما) وبهذا تكون حساسية القراءة إلى الملفوظ قد حلت حلولا في صورة تجزيئية ما منا، لأجل الكشف عن وجه التضامن بين طرفي (الأنا ـ الذات ـ المرسلة) في الآن نفسه نلاحظ بأن الشاعرة قد استثمرت مرسلها بما يوازي عتبة القول الذاتي الصادرة عن (أنا الذات) فيما تنعكس علامة مرسلها أيضا بوساطة الذات الموصوفة المحددة بـ (يا أيها الغريب) وبهذا الأمر نواجه حالتين من الذات، الأولى ـ مركزا ـ والثانية ـ موصوفا ـ، ليتراءى للقارىء بأن هناك صعيدين من (فضاء آنوي = مرسل ذاتي موصوف) وهو ما يشكل القيمة الدلالية الاستفهامية في جملة (لست بمسافر أو بمقيم فإلى أين السبيل؟) وتتزامن مع هذا الخط المستفهم، العملية الأحوالية استنكارا ومباغتة، كما ولا يمكنها إعادة ذات الملفوظ إلا من جهة أداة وعلامة ونسق خاص، لتبدو من خلالها حركية كمساحة عزلوية من مجال تحققات القيمة الاستفهامية المستنكرة في دليلها (ألم تكتف بحثا في هذا الفراغ؟) ويمكن ملاحظة في إن أغلب مسميات الدوال في الملفوظ، هي قادمة ليس من وظائف وضعية، بقدر ما تحمل من أحوال قادمة كل شغلها الشاغل هو التواصل بين العلاقة الحسية من طرف حال وذلك الوجود اللحظوي المتمثل بهواجس الأنا .أي بمعنى ما أدق، أقول أن مجموعة وظائف القول في النص، هي مرسلات آنوية ولا يحكمها في ملامسة الخارج من الأشياء إلا بقدر متطلبات الذات الواصفة على نهوض موصوفها في مجال أدائي ما.

1ـ الدال الشعري بين المثال والأقاصي العدمية:

إن حالات التصدير في مجالات المتن النصي ظاهرا في أحوال القصدية، تتمظهر لذاتها تحولا نحو خلاصات ملتهبة من دلالات (المستحيل ـ تنتظر ـ خطى الرحيل ـ الشيء واللاشيء) تشعرنا الغرابي بأن ذاكرتها الشعرية تسعى من جهة ما للتمسك بخلاصات نوعية ما يكون مبعثها دلالات متشظية مركونة من زمن انكسارات الذات وخسائرها في جبة الانعزال في أسطورة الأنا وهواجسها الباحثة عن مواطن (الحلم ـ المأوى ـ المنفى الآخروي) وهذا ما غدا مضاعفا في هذه الجمل من النص :

لكن لم تتغيَّر رغم المُستحيل

ماذا تنتظر وظُلك ينثُ غُموضاً؟

على سبيلٍ اِنتحَب على خُطى الرَّحيل

في أقاصِي المَنطق

ألم تتشَظَّ أفكاركَ بين الشَّيء واللّاشيء؟

ولا شك من جهة ما هامة إن دوال الغرابي طاقة بلاغية عالية، تبدأ فيها مساحة التوظيف في مستويات تساؤلية واستفهامية، تأخذ لذاتها توكيدا محتملا، من إن الشاعرة تحاكي وترائي حالات ذاتها في مرآة ذاتها.أي إنها تكمن في رؤيتها ثمة مسارية خاصة من بداهة (السؤال ـ الإجابة) وكأنها تناظر لازمة مراوية لذاتها في مقابلات هواجس الأنا وصخب خوضها في حتمية رؤى مصيرية تتعلق أولا وأخيرا بذاتها وحدها، وذلك الواصل الآخر من صوت هواجسها المغيبة في أتون محرابها الآنوي.

2 ـ فعالية تقاطع المرسل بالآخر وبلوغات مقاصد الداخل النصي:

لا يمكن لأية قراءة للقصيدة أن تتجاوز مثولها في حدود ثنائيات (ذات ـ موضوع / مرسل ـ مرسل إليه / التقاط ـ شيفرة / أحوال ـ ظروف / داخل خارج / خطاب ـ نص) وعلى هذه الأصعدة الأدائية في مهام الغرض الشعري، نعاين بأن سلاهب الغرابي تسعى إلى محاورة الآخر من جهة أحادية داخل ذاتية، وعلى النحو الذي يجعل من كشوفاتها كقصدية خاصة في بناء مرسلها الممتد نحو موضع التأويل.نقرأ ما جاءت به هذه المقتبسات من أجزاء النص ذاته:

كنتُ جسداً والآن سَماوياً

هاهو زمنُكَ الصَّحيح

فمت أسمُكَ؟

ما عالمُكَ؟

وما التَّأويل؟

قاسمتني الأمسَ وسأقاسُمكَ الغَد

تحمَّلتُ ثورة تقلُّباتكَ واليوم تقبَّل مني

عفويَّتي وذُهولي دون ذمٍ أو تَبجيلٍ./ص8

على ما يبدو لي إن ذات الشاعرة تخاطب عمقها الآخر، أو إنها تحضى بكتابة مرثية إلى جهة قد سلبها منها روح الفقد: وإلا ما معنى ـ كنت جسدا والآن سماويا ـ أو جملة اللاحق ـ ها هو زمنك الصحيح / فما أسمك؟ ـ ما عالمك؟ ـ .قد تكون الشاعرة تستظهر نوعا ما من تمرئيها بأنا ذلك الآخر المفقود من حياتها، وهي بذلك تبدو وكأنها ترني بتعزيمة رثائية حول وازع ذلك المدثر بالفقد.يمكن للناقد سبر أغوار تحاليل النص إلى أقصى أوجه ما من المعنى المحتمل، ولكن ليس في الأمر من ملكية عائدة بصورتها المباشرة إلى جهة الذات الشاعرة، فهي مثلا في جملة (قاسمتني الأمس وسأقاسمك الغد) قد تعني في ما تعنيه منشطرة ما بين الماقبل والمابعد، ولا يخفى عن متبصرا ما بأن ما تلوح له الغرابي، لا يتم إلا في صورتين تعبران عن (العالم الأرضي ـ العالم البرزخي) إذا هناك دلالة على حالة مفقودة من حياة الشاعرة، لا بد لها من الالتحام بها سرا أو في العلن، وهذا بدوره ما يبدو واضحا في هذه الجملة (لا تتركني خذ بيدي للفردوس الأعلى) هنا تتضح الأستحالة في خيارات الذات الواصفة، خاصة وأنها تتحدث من منطلق لغة العوائق والتمني أو الانغراس المحتمل في تيه المحال، في ما يبدو الكمال الأوحد مجسدا في ماهوية اللاشيء أو اللاقدرة الذاتية في الإحاطة بمعاودة ذلك المفقود إلى حيز ذاتها الاستفهامية في الحد الواقع بين (الذات الآخر = علاقة اللاممكن) .

ـ جدلية الموت خلاصا للذات وقيدا للمرجعية الشعرية:

إن نوازع الذات الشعرية في مجموعة (هاجس النجاة والأنا) تؤسس إلى مواطن كينوناتها شرعية بلوغ دال الموت ومصافحته ضمن ثنائية دليل ( الموت : خلاصا ـ قيدا) وبما إن الموت قوة كونية الإرادة غاطسة في توطين مفردات الانقطاع والفقد والرحيل عن الحاضنة الأرضية الدنيوية، لذا بقية لغة الغرابي تتعامل مع هذا الدال تارة كمخلصا، وتارة كطاقة استلابية في نموذجها التحقيقي والتمثيلي.ومن هذا النوع وذاك نقرأ مداليل قصيدة (للموت صوت عال) :

"أنتَ الحُب المُطْلّق

تصالح الذَّات مع الرُّوح"

هكذا وصَفوك

لكنَّكَ يا أيُّها الموت

مبعث تساؤلاتي المُضنية

والحقيقة التي لا أزايد عليها

في لُجَّةِ معرفتي في صمتكَ المُطبق

سأتحرَّر من قُيودِ الجسد

وسَأنحر بمقدَّمك تساؤلات الحَياة الفانية ./ص17

إن مبعث الفاعلية هنا، سواء كانت انعكاسية أو معرفية أو زهدية أو شعرية أو خلجات نفسية، فر تبرر للشاعرة بأن مستوى درجات فهمها للموت واردة في حدود لغة عارية من المحمول الشعري المؤثر، فقد تبدو لغة النص وكأنها جاءت خاطرة نثرية في تجربة الكتابة عن الموت، وليس فيها أدنى درجة من الفراسة الشعرية الدالة والمؤثرة موضوعيا.على أية حال أقول إن دينماميكية (الذات ـ الموت) تصبان في شيئين من الإضافة والتعزية، لا إلى مستوى الحسية الكاملة المسكونة بآهلية شرائط وأشكال حقيقة فقه الموت، خاصة وإن علاقة موضوعة الموت بالذات الواصفة أخذت لها تسويقا مقاربا إلى وسيلة الانتقائية في اختيار الموضوعة.كما وأن حالة التحرر من الجسد، أي من منحة أهواء المادية الأرضية إلى الموت وصولا وتزهدا مرمزا، راح يعكس حالات عائدة للذات أولا وأخيرا كما يتضح في مقتبس هذه الجملة (يا ملاذ الأرواح يا من وجدت فيك حلا) أو جملة المقابل (أمامك اللحظية تنفى) تقودنا اعترفات الشاعرة عبر وحدات قصيدتها بأنها انصهرت كصوفية في مناشدة الموت تطهرا واحتسابا، ولكن قصيدتها لم تنفك من الإحالات والتمثيلات المرجعية للأساطير والملاحم وأبطالها المسكوكة، لذا ظلت قصيدتها منشطرة ما بين جدلية الموت خلاصا وقيدا، خلوصا للمرجعية الشواهدية  للأساطير والملاحم، وتجميل صرخة الانموذج المعرفي في فلسفة أفلاطون المثالية والألوهية .

1ـ فضاء التصدير الصوفي وقلق حالات الارتحال:

ينفتح المدى الزمني في فلسفة التصوف الشعري منذ بواكير الحلاج العرفانية وحتى محي الدين أبن عربي، وهذا الأسلوب الثلاثي الأقطاب هو الانموذج الأكثر أهمية عند أهل العرفان (التوحيد الفعلي ـ التوحيد العقلي ـ التوحيد الصفاتي) هذا الذي اندرج عليه أغلب أهل التصوف العرفاني النظري والتطبيقي، كما أن الوازع الشعري في منجاة الحلاج وباقي شعراء المتصوفة، قد أخذ لذاته الحركة التوحيدية النسبية، ذلك لأن المتصوفة قد ساروا في حدود ضيقة من أوهام المخيلة والتخييل في العبادة، وليس في آفاق تصديقية مبرهنة في إظهاراتها الكلية ولا حتى الجزئية.أو أن لا أكون قد سجلت على ذاتي خروجا من فروع قراءتنا لشعر الشاعرة سلاهب الغرابي، ولكن أحببت إعطاء فكرة وومضة حول شواهد من الشعراء المتصوفة اللذين كانوا يطلقون خيالاتهم في الغيب شططا.أقول أن تجربة الشاعرة في هذا النمط من الشعر، كان يرتدي هيئات من ألوان التصوف في ملبس دواله، ولكنه على أية حال لم يكن إلا عاطفة شعرية مضغوطة بقلم الموت تارة وحب الأنا وأهلها تارة، وهذا الأمر ما جعل من قصيدة (ارتحال) بمثابة الملاءات للحساسية الشعرية بذلك الموت تطهرا وخوفا معا:

تَصْهَلُ الذِكْرَيَاتُ

فِي الرُّوحِ كَّي لَا أَرْحل

وحنينيي يَشٌدُّنِي

أَنْ أُبْقى بِحُضن وَطَنِي الجَرِيحِ./ص21

وبهذا الشكل تكون قصيدة (ارتحال) ذات تلوينات مختلفة، فهي اختارت وظيفة البقاء في وطنها الذي هو في الواقع الموت أهون من العيش فيه فترة من الزمن!؟.

ـ تعليق القراءة:

من خلال خاتمة قراءتنا لبعض من نماذج قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة العزيزة الدكتورة سلاهب الغرابي، أجدني أقول وبكل أمانة: إن فضاءات قصائد المجموعة تجارب شعرية تستحق التقويم والإضاءة والتداول النقدي في مشروع دلالاتها الرصينة، وبالحجم ذاته هناك ذائقة وأداة شعرية موهوبة وثاقبة في رؤيتها ولغتها.فيما تبقى مفاصل قصيدة مطلعة ومتواصلة بين مسافة الذات الفاعلة وموضوعة حجب الداخل الحسي حيال عدمية الخارج الآنوي.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم