قراءات نقدية

تحليل نقدي ذرائعي للقصة المكثفة الموجزة ق. م. م: خروج

للقاص السوري د. محمد ياسين صبيح

خروج

(كلّما خرجتُ إلى فضائي متسلّحًا بفكرةٍ ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..

وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..

مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...)

***

1- ديباجة النص:

هناك عدد من الدلالات السيمائية التي ألقاها القاص في نصّه، منها:

فعل الخروج، الفضاء، الفكرة، المعطف أو الرداء، المطر، الجسد (بعضًا مني)، الجيوب، فعل التخبئة، فكرة جديدة، فعل العودة، البيت، العري..

في هذا النص يشير الكاتب، في فعل الخروج إلى الفضاء والعودة إلى البيت، إلى الإنسان كمخلوق سجين بين الولادة والموت، فالخروج ولادة، والفضاء حياة حرة، والعودة إلى البيت والعري موت في قبر.

الجيوب هي عقلُه الذي يحوي بنات أفكاره، ومخبأُ كل ابتكار يبدعه هذا العقل، ويستهلكه الجسد، فالجيوب عندما تمتلئ بالأفكار، تثقل رداء الجسد الذي يواكب الإنسان، في لبسه كلما خرج، وخلعه كلّما عاد، بمعادلة معروفة:

لبس الرداء - خروج

خلع الرداء – رجوع

والخلع واللبس يشير إلى العمر الإنسان الذي يملك عقلًا وجسدًا، يخبئ أفكاره بجيوب ردائه، يخرج نهارًا يرتدي معطفًا يظن أنه يقيه مطر الأفكار الخارجية، ولكن جيوب معطفه تمتلئ بها رغمًا عنه تزاحم أفكاره الجديدة، وعندما يعود ليلًا إلى داره يستجدي الراحة ينزع عنه رداءه، ويضيع منه، كما تضيع الفكرة الوليدة حينما نخفيها ونعجز عن تذكّرها وتذكّر مكانها، فيغدو عاريًا من كل فكرة كما جسده العاري المتخفّف من كل حمل.

وكلّما كان الإنسان في مقتبل العمر، كلّما كان قويَّ الجسد حرَّ التفكير، ثريًّا قادرًا على شراء أردية كثيرة، تلائم الأفكار المنهارة عليه كالمطر، ومع تقدّمه بالعمر يتكرّر فعل الخروج والعودة، اللبس والخلع، الكسب والفقد، الثراء والفقر، إلى أن يصل إلى مرحلة يفقد فيها القدرات الإيجابية جميعها، ولا يملك إلّا الضدّ السلبي وقبر يلجه بجسد ضعيف زالت أرديته إلا من كفن، وعقل ذاهل تبدّدت منه الذاكرة والعلوم والأفكار، وتعرّى من الوعي والإدراك.

2- التحليل الدلالي الإيحائي:

- الدلالة الأولى: ( كلّما خرجت إلى فضائي متسلّحًا بفكرة )

يشير القاص بفعل الخروج إيحائيًّا إلى أن الإنسان حينما يخرج إلى العالم الخارجي يرتدي ملابس، فما هي هذه الملابس؟ هل هي الملابس التقليدية؟ لم يقصد القاص هذا المعنى إطلاقًا، وإنما قصد المعنى الإيحائي الذي يذهب إلى اعتبار ملابس الإنسان هي عقله، الزينة التي زيّنه بها رب العالمين، فإن كانت الملابس زينة البدن فإن العقل هو زينة الإنسان ككينونة مكرّمة عن سائر مخلوقات الله، هذا العقل هو جيب ووعاء الأفكار التي تنزل إليه كمخلوق مكرّم، فيها يقاوم أفكار الغير، بمعاندة كبيرة، وحرص أكبر على الاحتفاظ بملكية فكرته.

- الدلالة الثانية: ( ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..)

هنا يشير الكاتب إيحائيًّا إلى أن الإنسان، مهما حاول أن يقي نفسه من أفكار الغير، وتحصّن بدرع أو معطف مضاد فلن يستطيع أن يمنع تلك الأفكار من الهطول، كما لن يستطيع بمعطفه الواقي أن يمنعها من اختراقه، ستجد مكانًا لها في جيوب معطفه المفتوحة، وستنافس أفكاره المخبوءة فيها، وقد تطردها، حينما تمتلئ فلا تستوعب الكثير، فيقع ما فاض منها، والغالب أن الفائض هو تلك الأفكار الذاتية الخاصة المخبوءة، التي يكون مصيرها الفقد التي هي بضع من صاحبها، ويطال الفقد أيضًا بعض من أوعية عقله.

- الدلالة الثالثة: (وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..):

وهي تشير إيحائيًّا إلى أن الإنسان عندما يرتدي ملابسه، إنما يرتدي أفكاره، وحينما يتقدّم بالعمر، تغدو السنوات هي الأردية، وكل رداء منها يخلع جزءًا من أفكار الإنسان في عقله وقوّته في بدنه، والأفكار حينما نخفيها أو نخبّئها سنفقدها حتمًا، فهي خُلقت لتظهر للعيان، لتفيض عن أردية الغير بقصدية النماء، الفكر الجديد هو علم مفقود إن لم يُنشر ويعمّم.

- الدلالة الرابعة: ( مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...):

الرسالة النص: سنوات العمر أردية متناقصة بتوالي الخلع، مع كل خلع يفقد الإنسان جزءًا من الكل، حتى يضحي عاريًا من الفكر، متجرّدًا من القوة، مسلّمًا نفسه إلى مدير سجن الموت، نهايته القدرية المحتومة.

3- التحليل النقدي الذرائعي:

وفق المستويات التحليلية الذرائعية التالية:

- المستوى المتحرّك:

حمّل القاص نصّه العديد من الحمولات المختلفة بنوعيّتها:

1- الحمل الفلسفي:

للقاص فلسفته في قضيته كإنسان، فهو يرى نفسه سجينًا بين الولادة والموت وفقط، وكل ما يحصّل من مكاسب في الحياة، من قوة مادية بدنية وأفكار وقدرات عقلية، تنتزعها منه السنوات بتقدّم العمر، وهكذا في البداية تبدو السنوات مقبلة باتجاه النماء، ثم يدير العمر وجهه، فتبدأ السنوات باسترجاع ما أعطت، فتسلب منه القوة والإدراك، وعندما تجرّده من كل ذلك، تدبر الحياة باتجاه الموت، النهاية التي لا يختلف عليها ضدّان.

2- الحمل الرمزي:

بنى القاص قصته بتكثيف موجز رمزي مغلق، أشار له برمز (السنوات)،وجعل السنوات بوجهين، وجه أبيض ووجه أسود، الأول اتجه باتجاه الولادة، والثاني اتجه باتجاه الموت، ودعّم العنوان ( خروج) فعل التوجّه.

3- الحمل الإيحائي الذرائعي:

كان هذا الجمل أو الجانب واسعًا، والدليل أنه كتب قصته الطويلة كإنسان عبر بالحياة بكلمات موجزة، ويعني ذلك أن النصف الثاني غير المرئي من الدلالة ( الإيحائي الذرائعي)

كان، إيحائيًّا، ممتدًّا إلى ما لا نهاية من احتمالات تأويلية، ويستطيع المحلّل تحميله باحتمالات كثيرة أوجزنا منها الولادة والموت، وأترك الباقي للمتلقي.

4- الحمل الاجتماعي:

قدّم فيه رسالة مفيدة، مؤثّرة، عن مسيرة الإنسان الواعي، والتأكيد على الاستفادة من المعرفة المتكاملة، وطريقة إيصالها للناس دون تبذير ولا تفريط.

- المستوى السيكولوجي:

في هذا المستوى، تقرّ الذرائعية أن أصل كل فعل وقول يجريه الإنسان، إنما يتأتّى من دواخله السيكولوجية، بأوامر تصدر أحيانًا من اللاوعي، وأحيانًا من الوعي نفسه، فالأوامر الصادرة من اللاوعي هي نتاجات حتمية تستقرّ في رأس قلم الكاتب، لا يستطيع التخلّص والتملّص منها بسهولة، إلّا إن كان واعيًا ومتمكّنًا من قدرته على هذا التملّص من سيطرة النفس.

أمّا الأمور النفسية والسيكولوجية الواعية فهي تصدر عن رضى نفسي بالتضافر بين الوعي واللاوعي لسيطرة الضمير كموجّه حتمي للتوازن الانفعالي للفرد.

والقاص، في هذا النص، كان منطلقًا من الجانب النفسي الواعي، حيث كتب عن التجربة المعاشة فقط، وحكّمها بالمنطق الذي أقرّ الواقع المعاش، ولم يتطرّق إلى ماوراء المعاش، مقصيًا جانب الغيبيات، ما قبل الولادة وما بعد الموت.

المستوى الأخلاقي:

إن أقرب عمل إجرائي يقوم به الإنسان هو العمل الإيجابي، ليكون هذا العمل في متناول الأخلاق التي تقود الإنسان باتجاه الخير ومجافاة الشر، والأديب هو خير أداة بيد الخير، معول لحفر قبور الشرور والأشرار.

والقاص، في هذا النص، مسنود على رسالته الأخلاقية هذه التي تدعو أفراد مجتمعه نحو الإفادة من علوم الحياة، وزرع أفكاره الخيّرة فيها، ولو أكلت الحياة عمره وقوته وعقله، يكفيه أن يغادرها مؤثّرًا فيها، عابرًا إلى حتمه تاركًا تركته من العلم لأجيال سيعبرون في الحياة متسلّحين بما تسلّح به، والسلاح قوة، فالأفكار والعلوم وُجدت لتُنشر لا لتُخبّأ، وهي قوة مضافة، هكذا تُبنى الأمم.

المستوى الجمالي:

امتازت هذه القصة المكثفة الموجزة بإطناب السهل الممتنع، وحمولة الدلالات الإيحائية الأربعة، ما أكسبها جمالية إيجابية أعطت جوانب برّاقة كما نراها منعكسة بجمالياتها فوق بياض الورق.

أحيي القاص الدكتور محمد ياسين صبيح على هذا النص القصصي المكثف الموجز المائز.

***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

في المثقف اليوم