قراءات نقدية

قراءة في رواية "إرتطامٌ لم يُسمَع لهُ دَويّ" للكاتبة الكويتيّة بُثينة العيسى

إرتطامٌ لم يُسمَع له دَويّ، رواية صدرت عن مكتبة أفاق للنشر والتوزيع في الكويت للكاتبة بثينة العيسى، رواية كُتِبَت بسلاسةٍ وبُلغةٍ بسيطة وبتناسقٍ تام بين مُجريات أحداثها، بحيث تجعل القارىء يتلهّف لقراءتها ومعرفة ما تُخفيهِ من تطوّرات. وهي أيضاً بمثابة رسالة من الطالبة الكويتيّة "فرح" بعد عودتها إلى وطنها تتوجّه بها إلى مُرشدها "ضاري" الذي لازمها كمُرافق مُنتدب خلال تواجدها في السويد. فوثّقت فيها يوميّاتها هناك وما شابها من أحداث إعترضتها.

تتطرّق الرواية بلسان "فرح" إلى ما يُمكن تسميتهُ بِصراع الحضارات ما بين الحضارة الغربيّة المُتَمثّلة بِمُشاهداتها في السويد، وما بين ما تكتنزهُ من عادات وتقاليد، وما نعيشه ليس في الكويت فحسب بل في مختلف أقطارنا العربيّة. مُشيرة إلى التفاوت الكبير والملحوظ خاصة في المجال التعليميّ والأكاديميّ والفروقات الشاسعة بين ما إكتشفته الطالبة فرح وبين ما هو قائم في موطنها. وهذا التمايز ولّدَ لديها شعوراً بالدونيّة وبأنها مختلفة عن بقيّة زملاء البعثة ، فشعرت وكأنها تبدو بينهم كعشبة ضارّة بين وفود الدول المُشاركة.وشعرت كأنّهم يرونها مُجرد برميل نفط وبلادة.4592 ارتطام بثينة العيسى

كما أشارت الرواية الى مسألة التباطؤ في تحديث المناهج التعليميّة  العربيّة إذ تقول "معيب أن أكون هنا من أجل مسابقة أحياء وأجهل هذا ال"لينيه" في إشارة منها إلى "كارل لينيه"مؤسّس علم تصنيف النبات وأشهرعالم في علم الأحياء. وتسأل "ما هذا الذي كنت أدرسه إذاً طوال عامين ؟ الجميع من الزملاء ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، كأنهم يتلقّون معلوماتٍ يألفونها وأنا وحدي أضيع في اللاأدري" وفي موضع آخر عندما وزّعوا على الطلبة أوراق الإختبار تقول "هناك خلل ما ربما أخطأوا  في توزيع الأوراق، فمن غير الوارد أن يكون ما أقرأه هنا له علاقة بعلم الأحياء". منتقدة هذا التخلّف في تحديث المناهج بقولها "ما معنى أن نعتلف كتباً طوال عامين  ثم يتّضح أنّها تحمل معلومات أصابها العطب منذ عشرين عاماً". وفي هذا إشارة إلى الحشو الذي نلحظه في مناهجنا التعليميّة، والتي تحتوي على كمّيّة هائلة من المعلومات غير المُحدّثة لتواكب التطوّر العلمي، وبالتالي يصبح تلقّيها أوتلقينها بلا أي فائدة، لأنّها تكون قد أصبحت خارج الزمن بشكل أو بآخر. وهنا يتبادر للأذهان السؤال لماذا تتمّ مثل هذه المشاركات العربيّة في هكذا ندوات او مؤتمرات علميّة بالرغم من تواضع القدرات العلميّة إن لم نقل إنعدامها وسرعان ما يأتي الجواب على تساؤلنا هذا على لسان "فرح" عندما قالت " إيه يا وطني لم يكن مجيئك إلى هنا إلا روتينيّاً شكليّاً لكي تدوّن الصور الفوتوغرافية وجود ألوانك الأربعة بين كل هذه الأعلام".

 ولم تغفل الكاتبة الإشارة الى التفاوت في المستوى المعيشيّ والإجتماعيّ فيما خصَّ الإمتيازات والخدمات التي يحظى بها الفرد في الغرب وبين هزالة هذه الخدمات أو إنعدامها في أوطاننا، ففي الغرب الأمور متناهية المثاليّة في مختلف القطاعات الصحيّة، التعليميّة، وفي تسَيُّد العدالة في توزيع الدخول والثروات بحيث لا نجد القصور الفارهة بجانب عمارات تكاد تقع فوق رؤوس قاطنيها كما في بلداننا المُتخمة بالثروات، وهذه إشارة الى الهُوَّة الكبيرة في مستويات المعيشة والرفاهيّة بين شعوب منطقتنا، وإلى إنعدام التوزيع العادل للثروات.

وفي موضوع الهويّة والوطن تصف "فرح" الوطن، بأنه الحبّ بمعنى ان تحب شيئاً معيّناً ليس لأنّه الأجمل او الأفضل، ولكن لأنّك تحبّه يُصبح هو الأجمل والأفضل، وإذا كانت السويد جميلة والكويت لا تجاريها جمالاً، تبقى الكويت هي الأجمل لأنها وطني.

مسألة "البدون" كانت حاضرة في الرواية من خلال شخصيّة "ضاري"، والبدون هم تلك الفئة المُهمّشة التي حُرم أفرادها من الجنسيّة الكويتيّة رغم ولادة الكثير منهم على أرض الكويت، فأصبح الفرد منهم مجرّداً من أيّة أوراق ثبوتيّة رسميّة  تمنعه من الإلتحاق بأيّة وظيفة مهما كانت مرتبته التعليمية أو مكانته الأدبيّة والثقافيّة وليس أدلُّ على ذلك من والد ضاري نفسه، وهو الشاعر الكبير الذي تُرجمت قصائده إلى سبع لغات، ويعرفه العالم على أنّه شاعر كويتيّ ولكن في الكويت غير مُعترفٍ به فقط لأنّه من البدون.

وإذا ما حاولنا التطرّق إلى العلاقة بين فرح وضاري، فلا يمكن لنا الذهاب بإعتبارها علاقة حُب وليدة بين شخصين بقدر ما هي في الواقع علاقة إستطعنا من خلالها معرفة شعور ضاري الحقيقي تجاه  فرح التي رأى فيها صورة مصغرة عن "بلده" الكويت ذاك البلد الذي أحبه بجنون ولكن لم يلقَ منه غير الإهمال وعدم الإكتراث، وقد عبرت الكاتبة عن هذا عندما إعترف ضاري بحبه وبصوت عالٍ لفرح ولأكثر من مرّة ولكن فرح (الكويت) تجاهلت هذا الإعتراف وتظاهرت بعدم سماعها له. 

لذا وبما أن ضاري وجد في فرح نسخة عن الكويت بتفاصيلها مصبوبة في هيئة أنثى، فقد حاول بشتّى الطرق العمل على إيذائها عن طريق سعيه لتشويش أفكارها عن الوطن لتهتزّ صورة الكويت في نظرها، وهذا ما عبّرت عنه فرح عندما تساءلت في سرّها واصفةً ضاري بالقول:  "انت الذي ما فتئت تنتهز أيّة فرصة لتسدّد طعنة لقدسيّة الوطن ، تجيء بالشكوك لتتأمّل بتشفٍّ كافٍ مصرع ثوابتي، أتساءل أي شيء شنيع صنعه لك الوطن لكي تقابله بكل هذا الخمود؟"  . وعلى هذا التساؤل نذكر ما جاء على لسان ضاري قائلا لها:" هذا الذي أمارسه فيكِ الآن هو إنتقام طفيف ومؤذٍ، أنا أشوّه فرحكِ التافه بوطنٍ، وأستبسل لأجعلكِ تشبهينني". يمكن أن نستخلص مما سبق أن ما أراده ضاري من كل هذا هو التعبير عن حنقه وغضبه من وطنٍ يُحبّه ولكن للأسف هذا الوطن لا يكترث له. ولذا فإنّه يرفض أن تكون علاقته بالكويت علاقة حبّ من طرف واحد كما قال.

 أيضاً مسألة الحجر الذي يُمارس على الفتاة العربيّة، والموانع التي توضع أمامها للحدّ من طموحاتها وتحقيق ذاتها كان لها الحضور في هذه الرواية عندما أشارت "فرح" إلى أنّها أمضت تلك الليلة في طبع القبلات على رأس جدتها لكي تضغط على والدها ويوافق على سفرها، أيضا إستعطفت أمها مرّات عدة لكي تمنع أخوتها الذكور من محاولة عرقلة هذا السفر .

وفي سياق غير بعيد تُشيرالكاتبة ولو بشكلٍ عابر إلى مسألة تكاد تكون شائعة في مجتمعاتنا العربيّة وهي مسألة التحرّش فتقول فرح كيف كان أستاذها يخصّها بإهتمام مشبوه من بين الطلبة والجميع يلاحظ ذلك. وربّما إختيرت للبعثة ليس لأنها الأفضل بين الطلبة، بل لأنها الأثيرة لدى أستاذ مراهق. كما تطرّقت الرواية الى تقليد إجتماعيّ وهو الزيجات التقليديّة بين الأقارب، وفي هذا يقول ضاري " غالبا ما تجري الأمورهناك في الكويت هكذا، فلان لفلانة، وفلانة لفلان، هو زواج أشبه بسوق نخاسة  يجري بين الجدران بحجّة الزواج".

 لقد أصرّت الكاتبة على جعل نهاية الرواية مفتوحة تاركة للقارىء –أو للزمن- كتابتها سواء مستقبل العلاقة بين ضاري وفرح كشخصين، وأيضا - وهذا هو الأهم -  مستقبل علاقة ضاري بما يُمثل من فئة البدون وبين الكويت (فرح)، هذه النهاية المفتوحة ما هي سوى إقرار بأن مسألة البدون لم تحسم بعد وتركتها الكاتبة للقادم من الأيام.

أخيراً الرواية كما قلنا شيّقة وممتعة تجذب القارىْ بأسلوبها الرشيق ومصطلحاتها اللافتة وتعابيرها المسبوكة ومن بينها هذه الجملة التي تقول " أنا أتبرزخ بين الظاهر والباطن " فكلمة "أتبرزخ" ملفتة جدّاً وأجدها معبّرة بشكل لافت.

 وأختم مثنياً على الكاتبة ومهنّئاً لها على ما قدّمته لنا، وعلى هذا الإرتطام وإن كان لا يسمع له دويّ، لكنّه دون شكّ إرتطام سيحدث صدى في قلوب القُراء.

***

بقلم عفيف قاووق – لبنان

 

في المثقف اليوم