قراءات نقدية

المحاور الإجرائية بين الفاعل المنفذ والعامل المتمثل.. رواية (باب الطباشير) أنموذجا

دراسة في عالم روايات أحمد سعداوي،  الفصل الخامس ـ المبحث (2)

مهاد نظري: تعاين الحالات الأجرائية في مقاربات المنهج (السيميوطيقا) جملة من الحوادث والمواقف الزمكانية المحفوفة بالأبعاد الانفعالية والحسية المتعلقة بالذات الناظمة كمحددا منقسما بين (الفاعل المنفذ = العامل المتمثل) وصولا إلى أقصى المكونات في مدار المقاطع والوحدات في تراكيب السطوح والافضية الدلالية (الضمنية ـ الاظهارية) التي من شأنها استخلاص تداولية البنيات الشخوصية والحوادثية في سياقات أكثر تحليلا وتأويلا في العلاقة الدلالية الكامنة في الرصيد المقصدي من وظائف الفصول الروائية.

ـ الزمن تمفصلات وإحالات في مؤشرات المواقع

حاولنا في سياق مباحثنا السابقة في مواضع مختلفة من الفصول الأولى من الرواية، القول بأن خطاب الرواية موضع مبحثنا، تتلخصه العديد من المؤشرات الزمنية اللاخطية أو اللاتتابعية، لذا وجدنا خطاب السرد عبارة عن تبئيرات تبادلية في مشاغل مواقع شخوصية تربطها المواقع المتحولة والتمفصلات الاستباقية والاسترجاعية من معينات مختلفة من وقائع آليات (المتن = المبنى) ومن خلال مستوى ومعدلات العلاقات الوقائعية في زمن الرواية، عاينا بأن زمن الانجاز السردي في حدود تركيزات ذات أبعاد زمنية مقتطفاتية، أي إن العلاقة فيما بين مرحلة سردية وأخرى، تنتظمها مواقع استرجاعية أو استباق داخلي ما من دوافع معينات زمنية فاصلة وواصلة بين (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) امتدادا نحو إمكانية خاصة في تقانات (الصيغة ـ التبئير ـ المسافة ـ المنظور) أي أن جملة العلاقة بين حاضر الواقعة والشخصية بالماضي وحدوثها الدال، تشكل استكمالا في الوحدات اللاحقة المتآتية في أشكال ومواقع لزمن ضوابط أفعال السرد في النص.

1 ـ الأهواء العلائقية في نزوات الزمن المضطرب:

يمكننا الحديث في جملة تفرعات مبحثنا المركزي حول ملامح الامتداد الروائي، وذلك من خلال النهوض بالشخصية الروائية وسلوكياتها وأفعالها وصفاتها ونوازعها من جانب استثمار توجهات عدمية منكفئة على ذاتها بلواحق أفكار مستلبة وأكثر تجاوبا مع غرائبية العبث العدمي. نتعرف بموجب المعاينة القرائية على خطوات وأفعال الشخصية علي ناجي وهو يسعى إلى عملية الانتحار من فوق جسر الجمهورية غرقا في دجلة، وتضعنا هذه الوحدات من مواقف السرد إزاء خيارات عناصر جمعية المنتحرين التي يقوم برأستها الشخصية المحور ذاته. وفي غضون متباينات هذه العملية تواجهنا عدة دوافع كابحة من الداخل الذاتي للشخصية، أهمها (شاعرية اللحظة ـ القلق الاكتئابي ـ عدم الرغبة الجادة في الموت) والدليل على بروز عدم جدية خيارية الموت، إن علي ناجي كان المتواجد الوحيد فوق حاجز الجسر يعبر عن صراعاته الداخلية بالردود الكابحة في جدية الانتحار: (كان يفترض، وحسب الموعد الذي ضربه مع أصدقائه السبعة عشر في جمعية المنتحرين، أن يحضروا ها هنا في هذه الساعة تحديدا.. سيكونون معه ثمانية عشر منتحرا ينفذون غطسة جماعية وأخيرة مع ضربات الساعة الأولى في القرن الجديد. /ص47 الرواية) وضمن هذا السياق نعلم بأن مضمر عملية الانتحار جاءت تلاقيا مع مقتبسات روح الحياة وشاعرية اللعبة الفنية في موقف المنتحر، وليس في جدية أهوال الانتحار موتا حقيقيا. وبانتقالنا إلى مواقف أخرى من السرد، نلاحظ وجود الدكتور واصف أيضا هو ممن أنضم إلى هذه الجمعية الخائبة، حيث نعلم بأن الدكتور واصف كان كمن يقوم بدور المستشرف في دراسة سيكولوجية نوازع الانتحار لدى الشخوص التي تسعى إلى الموت حياتا بشرائط أولية. ولهذا الأمر لا يغدو الأمر شروعا جادا في الموت، بقدر ما يعني تصحيحا في بدء حياة جديدة لعلي ناجي وأولئك المتورطين معه في تجربة الموت الشفوي.

2ـ حدود شعرية الموت إحباط عبور الحدود الجغرافية:

أن طبيعة الكيفية الروائية المتعلقة في موضوعة روايات سعداوي دائما هي مثار نوازع عدمية شخصية أحادية في هدفها الدلالي وسطحية في مدلولها التأليفي. أن سعداوي في أحداث رواية (باب الطباشير) يمارس عبر لسان حال سارده حياة شخوصيه ذات الأشكال الشعبية المرجع والمصدر، لذا تبدو غير واعية بواظائفها الوقائعية:فما معنى أو قيمة شخصية علي ناجي من ناحية اعتبارية كشخصية روائية مثلا؟إذا نظرنا من حيث كونها شخصية تعلن عن ذاتها مرارة عيش الواقع فهذا بدوره ليس من الأهمية إطلاقا، خاصة وإن ثلث أرباع الشخوص في الرواية العراقية والعربية تحمل ذات المعنى المستخلص شكلا؟. هكذا لاحظنا إجمالا بأن أغلب حاصلية شخوص روايات سعداوي، تعبر عن (ذات أحادية؟!) مشغولة في شواغلها الذاتية الشعبية الضيقة والنزقة، لدرجة شعورنا بأن سعداوي غدا يكرر نسخة بطله الروائي في عدة رواياته التي غالبا ما لا تحمل سوى إرهاصات الذات الأحادية الغاطسة في قاع محيطها الشعبي:أنا شخصيا لا أهاجم سعداوي كونه روائيا أبدا، فهو عبر رواياته لا إشكالية ما على أدواته وعدته الروائية، ولكن من المؤسف أن لا ينظر الروائي سوى إلى حدود ذاته وحدها، فيقوم برسمها عبر وجوه أبطاله بألوان وإيقاعات لا تحمل سوى مطالب ذاتية قسرية واضحة في أبعادها الزمانية والمكانية ليس إلا؟. ولو حاولنا الرجوع حينا إلى الشخصية علي ناجي وفكرته في عملية الانتحار، لوجدناها سؤالا بسبب حرمانه العاطفي والجنسي حينا. وهذا الأمر بدوره ما كشف للشخصية ذاتها عن عدولها وتأسفها على نفسها عندما خطرة لها فكرة الانتحار مضضا ، خصوصا بعد ظهور الشخصية ليلى حميد مجددا في حياته: (الأفكار السيئة أحيانا تأتي من عضو ذكري معطل له صلة بالدماغ، قال عمار ذات مرة، ولم يرد عليه علي بشيء. /ص49 الرواية) فالسرد هنا جاء بما يقتضي وحدود ما قلناه قبل قليل. فحدود الشخصية علي ناجي كانت محكومة بوظيفة تعطل جهاز العاطفة الجنسية لديه، وهذا الأمر ما عثرنا على مثله في روايات علي بدر تقريبا، سوى أن الأخير كان أكثر إبداعا وتألقا في تنويع مشاغل شخوص روايته وموضوعاتها، ولا يقتصر على التركيز على شخصية محوره الروائي المتكرر ، وفرز كل تفاصيله بروح المغالاة والافراط غالبا، ولدرجة شعورنا بأن سعداوي يستنسخ نفسه في قوالب شخوصه. ولعل أهم خصيصة في جملة تحولات شخصية علي ناجي ، عثوره على ليلى حميد في منزل الدكتور واصف أخيرا: (حاول علي جاهدا أن يبدو طبيعيا، وأن يحذف من دماغة أي شيء يتعلق بالقبلة القديمة، وأيام التسكعات والنقاشات الحامية/حاول أن بدو منشغلا وغائصا في تفاصيل حياة صاخبة، وما ليلى وعالمها كله إلا صورة شاحبة لا يتذكر تفاصيلها جيدا، أوهكذا أحاول أن يوحي لليلى. /ص66 الرواية) وعلى الرغم مما تحدثنا به بصراحة قبل قليل، ولكن هذا الأمر لا يعفينا من الخوص في ثنائية (الموت ـ الحياة) لدى نوازع الشخصية علي ناجي. حاول الشخصية الدكتور واصف انتشال علي ناجي من محاولته الباهتة في قذف نفسه في أمواج النهر، بعد أن أقنعه بأن هذه الليلة لا تعد في حساب وتقويم القرن الجديد: (أنها ليست ليلة رأس القرن.. حساباتي الرياضية الدقيقة تشير إلى ذلك، وقد أخبرت البقية بالموضوع. ليلة رأس السنة الفعلية بعد ثلاثة أيام، لهذا هم لم يحضروا.. كانت تلك الكلمات القاضية، التي جعلت علي ساكنا وصامتا. /ص56. ص57 الرواية) في الواقع كما تخبرنا الرواية بأن الشخصية علي ناجي حاول سابقا في شتى الطرق أختراق الحدود بين العراق وسوريا ، وبعد فشل عملية التهريب، تمكنت دوريات الحرس الحدودية العراقية بإيداع علي ناجي (قضى ستة أشهر في سجن بادوش الموصل. /ص49 الرواية) وبعد إطرق سراح الشخصية ناجي، عادت إليه كل مظاهر حياة البؤس وكرنفالية الرقص في أدنى قعور الشظف في دركات الفقر والحرمان كحياة راح يصفها سعداوي بحياة الجرذان. أعود لأقول إن الشخصية واصف بعد أن أثنى علي ناجي من فكرة شروعه بالانتحار، أدلى إليه بأفكار غريبة جعلت من الناجي يستسلم كليا إلى مقترح الدكتور واصف بالموت حيا.

3ـ  خيارات الغياب موتا حيا:

وبما أن آلية خيارات الغياب للشخصية علي ناجي ذلك الانفصال المصحوب برغبة الحياة والموت معا، تواجهنا معادلة أن يكون الانسان (حي = ميت) معا، هذا ما جاءت به غواية أطروحة الدكتور واصف إلى إقناع علي ناجي بأن يصرف عنه فكرة الانتحار عوضا عنها بأن يظل بين طرفي المعادلة الضدية على حد سواء. إذا هو تدبرا من الشخصية واصف على حد ما، أو أنها الفكرة الفلسفية التي تذكرنا بمقولة أفلاطون بالموت الاختياري، على أن يبقى المرء حيا وهو في عين التسليم إلى الموت: (هناك أشكال متعددة من الحياة تشبه الموت تماما وربما أقسى. /ص63 الرواية) أو في ما تحدده هذه الوحدة من فرضية مؤثرة في إقناع الشخصية علي ناجي: (افترض منذ الليلة أن علي ألقى نفسه من الجسر، وعش منذ الليلة وكأنك ميت حي. /ص64 الرواية) هكذا تباعا ظل ناجي يواظب على زيارة مجلس حديقة الدكتور واصف، كي يتزود برؤى إضافية في تجربة العيش في جدل الضدين معا (الحياة ـ الموت) من خلال ما يتفضل به الدكتور واصف من أطروحات قيمة، تجد لها اهتماما واسعا لدى أعضاء جمعية المنتحرين. وليس الأمر يتوقف على حدود قناعة علي ناجي نفسه، بل صار يتعدى إلى درجة تخلي سنان ولد صديقه العجوز وجاره الذي كان أيضا من ذوي أعضاء الجمعية سابقا، وهو الآن متحررا من أفكار العدمية والشروع برغبة الموت إطلاقا. طبعا لاحظنا الحجم الذي بذله سعداوي في هذا الشأن من استطرادات أحيانا يتثاقف بها السارد نفسه، ولا تكشف بدورها إلا عن خلفية سعداوي الثقافية الملحوظة في مسار ملفوظات شخوصه فنيا ومعرفيا.

4 ـ من أشباح القبلة الصفراء إلى فضاء الإيروسية القاتلة:

من المؤكد أن سياق فصل (جمعية المنتحرين) له الأهمية في إبراز أوجه الإشكالية الخاصة في حياة الشخصية علي ناجي ، وتجاوزها بذات درجة القلق والضياع الذي كان يعيش تفاصيله من ذي قبل، أي بدءا بمرحلة شعارات الشروع بالموت ونوازعه إلى مرحلة ظهور ليلى حميد مجددا في حياته وما أظهره ظهورها من مأزومية عاطفية كبيرة في تمفصلات هذه العلاقة التي سرعان ما يختفي طرفها الآخر المتمثل بليلى فيعود الطرف الآخر علي ناجي في دوامة سحيقة من التيه والرغبة في الموت: (كانت تحب كعادتها الأجوبة غير المباشرة، واللف والدوران، وألا تنطق بشيء يشبه لغة الاعترافات ـ استمرا على هذا الحال عدة أسابيع، وغادر علي تحفظه السابق وخوفه من إزعاج ليلى ـ كان صوت في رأس علي يخبره أنه يندفع معها مثل فراشة العث التي تقترب من مصباح حارق ـ رافقها حتى شقة أختها ـ تذكر وهو يمسك يد ليلى ويرى إلتماعة عينيها وكأنها تكبت دموعا غامضة لا تريد سفحها في هذا اللقاء، كان أحمق حين فكر بالانتحار، وأن الدكتور واصف أنقذه وهو من قدم له بشكل غريب، هذه اللحظة المميزة. /ص68. ص69 الرواية) أن علامة رجوع ليلى إلى علاقتها بعلي ناجي لم تكن إمكانية دائمة في طبيعة الحد الأقصى من نضوج العلاقة في ذاتها، كما أن تحرر علي ناجي من الموت منتحرا لم تكن إلا فرصة نحو دخوله إلى تفاصيل جديدة من الموت الجديد. لذا فالمعنى في سابقية تلك القبلة الصفراء ما هي إلا تمهيدا في الدخول إلى آفاق مرحلة حميمية من ممارسة الجنس بين علي وليلى، في ظل هواجس قلقة من الطرف المتمثل بعلي بأن خلف هذه الاسترخائية ثمة فاجعة فاصلة من الغياب والفراق من الطرف المتمثل بليلى: (ظل علي ليومين وهو يشم في يديه وجسمه رائحة ليلى ـ تحطم علي تماما،  رغم أن صوت المنطق في عقله يخبره بإلحاح أن الارتفاع الشديد يؤدي إلى سقطة مؤلمة أكثر ـ تقطعت أقدامه من السير على غير هدى في شوارع حي الزعفرانية، يدقق في وجوه فتيات يبدين من بعيد بهيئة ليلى ـ في مزاجه الجديد لم يجد علي في كلام الدكتور واصف أي ترياق أو تعزية ـ كان قد قرر شيئا مع نفسه، فإن كان القدر يلعب معه لعبة ما، فعليه أن يظهر ليلى أمامه ثانية كي يمنعه من الموت هذه المرة. /ص70. ص71. ص72. ص73 الرواية). هكذا يظهر الشخصية علي ناجي داخل أهوال نوبات من الفقد لمحبوبته الزئبقية. فهو كما السابق عاد يفكر بطرائق جديدة لإنتزاع حياته تتمثل في أساليب حديثه في تحصيل موته ومرارته أثر فقده للشخصية ليلى، إذ صار يبتكر علاقات معمقة في وسائل إيجاد الموت، وما كان عليه سوى قيامه بعمليات شبه وهمية كمحاولة التفجير عند أبواب دوائر عسكرية أو رئاسية مثالا، حتى وصل به الأمر أنه غدا ثرثارا ضروسا: (أخذوه بالسيارة إلى مكان لم يكن يعرف ماهو، وابتداء من ليلة القبض عليه تعرف على عالم آخر. /ص75 الرواية).

ـ تعليق القراءة:

لعل من أكثر الأوجه الابداعية والاذحاقية في مفاصل وحدات السرد الفصولية في رواية (باب الطباشير) هو في كيفية الإمكانية على مخاتلة الزمن عبر مسافة (وقائع ـ متواترات ـ مؤثرات تقاطعية ـ إبدالات صيغة ـ الاستدعاء المطرد ـ النسيج المضمر من الداخل ـ نقطة إرتكاز ـالوهم والإمكان ـ الارتداد في الإمساك بعلائق منقطعة وواصلة) لعل ما واجهنا به فصل (المتجول بين العوالم) هو ما يجيز لنا تسميته (الخطاب من الداخل الزمني) أي رؤية العالم ضمن فاصلة من الغيبوبة ومعاودة سرد الأشياء في آفاق من اللاوعي والعشوائية بمجليات الحياة الداخلية المحكومة بزمن غيبوبة الشخصية، لذا بدا لنا هذا الفصل أكثر تأشيرا نحو الفلاش باك الذاكراتي ولكن عبر زمن من اللامعقول وشرود الذهن في نوبات الوقائع اللامؤطرة زمنيا. وهذا الأمر هو ما جعل بدروه أن تبقى مجمل (المحاور الإجرائية بين ـ الفاعل المنفذ ـ والعامل التمثل) أي في حدوث الفاعل المنفذ داخل مبنى من الأمكنة والأزمنة المتداعية في سياق الامتداد نحو الدخول في جولة غيبانية من الوعي الشخوصي الذي أقضى على الشخصية سمة التمثيل بين حقيقة السياق النصي في وجوده حينذاك ـ كفاعلا ـ وبين الواقع الاستيهامي الذي عاشه الجوال الشخوصي كحالة متمثلة في الأطياف الخارجة عن زمنها الحسي الكائن.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم