قراءات نقدية

الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير).. دراسة مقارنة (3)

أشرنا في المقال السابق إلى محور المرأة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée " للأديب الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وأنها كانت تدير الكثير من الأحداث، أو تدور حولها الأحداث الكثيرة بالأحرى. فهي، منذ بداية القِصَّة، تبدو أوَّل محرِّك للأحداث، وهي أوَّل من يقف معه البطل (صادق) في صراع. أحبَّ (سميرًا) لكنَّها ابتعدت عنه لمَّا علمتْ أنَّ العَوَر سيُصيبه. وكانت السيِّدة سمير نفسها تُوقِع الشِّقاق، بل العِراك، بين صادق و(أوركان)، الذي ينافسه عليها، والذي استطاع أن يخطفها من صادق ليتزوَّجها. ثمَّ لمَّا اقترن (صادق) بفتاةٍ أخرى، هي (أزورا)، لم تكن خيرًا من (سمير)، ولا حظُّ صادق معها خيرًا من حظِّه مع الأُولى؛ وقد انقلبت عليه في التمثيليَّة التي اصطنعها مع صديقه (كادور) ليكشف صدق وفائها، حتى كادت أن تجدع أنفه لتشفي كادور- الذي مثَّل معها دَوْرَ الحُب- من ألمه في الطحال.(1)

ويأتي محور العِشق أيضًا وتأتي المرأة في سياق ما دار بين (صادق) وسيِّدةٍ حسناء، كانت تربطه بها علائق الإعجاب المشوب بعلامات الودِّ والرِّضا، لكنَّ الصروف تقضي عليهما بالسجن، بسبب مكيدة دبَّرها الحسود عند الملِك.(2) غير أنَّ جذوة الودِّ بين (صادق) والسيِّدة الحسناء تخبو، لتشبَّ نار عِشقٍ ملتهبةٍ بينه والملِكة الفاتنة (أستارتيه)، التي كانت أروع جمالًا من (سمير)، وأبرع حُسنًا من (أزورا). وسيُخلِص لها (صادق) وتُخلِص له، إلى أن يحظيا في نهاية القِصَّة بما رغبه أحدهما من الآخَر.

وفي أثناء هذا تظهر المرأة عاشقةً أو معشوقةً في كثير من المَواطِن. فقد عُرِض موقفٌ نبيلٌ في يوم العيد لأحد المحبِّين، ضِمن المواقف النبيلة التي كانت تُمنَح جائزة (بابل) من الملِك. ويحكي ذلك الموقفُ قِصَّة «فتًى كان يُحِبُّ فتاة أشدَّ الحُبِّ، ويريدها زوجًا، لكنَّه عَلِمَ أنَّ لها مُحِبًّا يكاد يُهلِكه الحُبُّ؛ فنزلَ له عنها. ثمَّ لم يكتف بهذه المكرمة وإنَّما أدَّى المهر من ماله الخاص.»(3) ثمَّ عُرِض موقفٌ آخَر: لجنديٍّ اختطفَ الأعداءُ أُمَّه وخليلته، فمال إلى إنقاذ أُمِّه، برغم حُبِّه الجارف لتلك الخليلة.

وكان يَرِد على (صادق) في القصر، كلَّ نهار، سيلٌ من الحسناوات اللاتي يخطبن ودَّه، ويُعرِبن عن إعجابهنَّ وكَلَفهنَّ به. حتى امرأة الحسود سعت في سبيل التقرُّب من صادق ما استطاعت، ثمَّ كادت له وللملِكة عند الملِك حين أحسَّت بما يتجاذبهما من عاطفة، وأحرقتها نيران الغيرة.

وتطالعنا المرأة مرةً أخرى في «المرأة المضروبة»؛ تلك المرأة المِصْريَّة (ميسوف) الجميلة، التي أنقذها (صادق) من يدَي حبيبها، الذي كان يضربها بدافع الغيرة أيضًا.(4)

 وتُطالعنا المرأة كذلك في بلاد العَرَب، في شخصيَّة (المونا)، أو (المُنَى)، تلك الأرملة الشابَّة التي كان القانون يفرض عليها أن تُحرَّق بعد موت زوجها، كما هي عادة العَرَب حينذاك، في زعم (فولتير).(5) وقد استطاع (صادق) أن يُغري الشابَّة بالحياة ويثنيها عن الغرور الذي كان سيدفع بها إلى النار. بل لقد أحبَّته ودعته إلى الزواج بها، لكنَّه كان مشغول القلب بالملِكة (أستارتيه). وقد أنقذت (المُنَى) صادقًا من براثن الكهنة، الذين سخطوا أشد السخط لِـما سمعوه من تحريضه النِّساء على الخروج على هذه العادة الشنيعة. بل استطاعت بذكائها أن تفضح أسرار الكهنة المستفيدين من تحريق النِّساء، وأن تُفسِد هذا القانون في بلاد العَرَب، وتزوَّجت أخيرًا (بسيتوك)، التاجر العَرَبيِّ الذي كان اشترى صادقًا من (مِصْر)، بعد أن حكَمَ عليه المِصريُّون بالرِّق، عقب موقفه الآنف ذكره مع المرأة المِصْريَّة (ميسوف).(6)

وهكذا، كان (فولتير) يردِّد، كغيره من قَبله ومن بَعده، ثقافة المَثَل الفرنسيَّ "فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme". وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء). تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في "العهد القديم"، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(7) ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

ولحكايتها بقايا مثيرة نتطرَّق إليها في الحلقات الآتية من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

....................

(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 20- 21.

(2) م.ن، 31- 00.

(3) م.ن، 36.

(4) يُنظَر: 58- 00.

(5) هذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(6) يُنظَر: فولتير، 67- 80.

(7) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري، (بغداد: مكتبة المثنَّى)، ، 242- 249.

 

في المثقف اليوم