قراءات نقدية

يوسا يودع عام 2022 بصحبة مدام بوفاري

كان في العشرين  من عمره عندما وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة، كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب " التي بدأ الكتابة فيها في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية ..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري " :" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية :" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعدهما سيأتي رجل خشن الطباع يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  إنه ويليام فولكنر، هكذا يعلن يوسا، الذي وجد ان أكثر ما يذهل عند الامريكي ويليام فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل :" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفولكنر، في نشوء الرواية الحديثة ".

في أحد الصباحات، وفيما كان يحدّق في الأشكال التي خلفتها بقايا القهوة في الفنجان الذي تّقدمه له أمه كل يوم منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لمح المخطوط الذي انتهى من كتابته (إغواء القديس أنطونيوس)، كان قد انتهى أمس من قراءته على عدد من الأصحاب الذين أجمعوا أن الحكاية مملة ولا تستحق أن تُخصص لها هذه الكمية من الورق، لمح على الصحيفة بزاوية عينه خبراً مثيراً، عن امرأة انتحرت بعد أن خانت زوجها، قال لأمه التي كانت تجلس على أريكة قريبة: "يا له من خبر تافه".. كانت الأم قد قرأت الخبر وهي تعرف تفاصيل الحادثة جيداً، فزوج المرأة التي انتحرت، وهو (أوجين دالامار)، كان تلميذاً عند والدة فلوبير في كلية الطب.

ظلت الأم تُراعي حالة ابنها الذي أصيب بمرض الصرع عندما أصبح في العشرين من عمره، وكان هو يكره الضجة التي يثيرها زوار البيت: «تمرضني، تدوخني. فأنا أشتاق إلى صمت الأسماك الذي عشت فيه حتى الآن».

كان في الثامنة والعشرين من عمره، يسعى لأن يكتب كتاباً يتفوق فيه على (فاوست) لـ (يوهان غوته). كتب في إحدى رسائله: "إن على الفنان أن يقدم نفسه عبر عمله من دون أن يوجد" .

سببت له الضجة التي أحدثتها روايته (مداوم بوفاري) الضجر، وجعلته أكثر عزلة، ووصفها «بالمرض» الذي يلاحقه، تعرف على (جورج صاند) عندما كانت في الستين من عمرها وقال ساخراً إنها أرادت اغتصابه. كتبت له في إحدى رسائلها: «إنك ولد رائع لطيف، على كونك رجل عظيم، وأنا أحبك من كل قلبي». خاف الزواج والأبوة وأفاده مرضه بإتاحته الفرصة له بالخيار.

في سنواته الأخيرة كان يخاف من الجنس بعد أن أصيب بمرض الصرع، كتب في إحدى رسائله أنه كاره لنفاق البشر، لكنه محبّ للأطعمة والملابس الفاخرة. يعشق الكتابة، قال إن القلم لا يقل أهمية عن مشرط الجراح، ولهذا قرّر أن يثخن الطبقة البرجوازية بجراح عميقة.. عاش في ظل عائلة برجوازية، إلا أنه لم يكن برجوازياً، وكانت نافذته على الحياة تطلّ على مجتمع تسوده المادة ويغلب عليه طابع الجشع، لذلك قرر أن يبتعد عن المجتمع واتُّهم بالمكوث في برج عاجي، لكنه كان يصف عزلته بأنها تحدّ وانفراد، ولم تكن انفصاماً عن المجتمع، إنها عزلة الفنان التي تزوّده بصور الحياة ليتفحّصها جيداً، قال ذات يوم: "لقد آن الأوان لأن أفتح عيني أكثر على هذا المجتمع، لقد رفضته لمعرفتي بعيوبه، سأفضحه، سأجعله محلّ اهتمامي وموضوعي في كتاباتي، سأحرّكه". لقد حاول فلوبير العيش مع العالم في أصعب مواقفه والكتابة عنه: "يجب أن لا نتوقّف عن الكتابة والتأليف، لأننا حين نتوقف ولا نفعل شيئاً، نفكّر في أنفسنا، وانطلاقاً من ذلك فنحن مرضى"، ولهذا جاءت معظم أعماله الروائية مليئة بالواقع وتدور حول الناس، وكانت الكتابة بالنسبة له مغامرة يمارس من خلالها حبّه وكرهه للأشياء، ونوعاً من الدفاع عن نفسه من الضياع، ونداء إلى شيء خالد، كبير أعظم من الحياة، فهي مهمة سامية، ولهذا ظل يردد: "لكم يحتقر الإنسان نفسه عندما يرفع عينيه أكثر نحو الأدباء العظماء، نحو المطلق، نحو الحلم". لقد قرّر أن يكتب الحقيقة مهما كانت قاسية، يقول في إحدى رسائله: " إذا كان لا بدّ لي من اتخاذ موقف فعلي من هذا العالم، فستكون مهمتي كمفكّر وكمثبّط للمعنويات. لن أقول إلّا الحقيقة، لكنها ستكون رهيبة، قاسية، وعارية".

  في حوار معه قال يوسا ان اكتشاف فلوبير بالنسبة له كان امرا أساسيا،ونجده يصف الكاتب الفرنسي بأنه حالة فريدة :" كان في بدايته، كاتبا عديم الموهبة. كان ينقل، يقلد، ثمة رغو كلامي وبدون شخصية. لقد أبدع نفسه عبر الانتظام والعمل والتحفظ والتقشف والالتزام المتعصب وفي النهاية أصبح عبقريا. كان الأمر مشجعا كثيرا لشخص مثلي، كان يفكر بأنه غير عبقري. لذلك قلت: ها هو المثال أمامك ".

غوستاف فلوبير المولود عام 1821 وتوفي عام 1880،جرّب الكتابة وهو في الثامنة من عمره حين بدأ يكتب عن الموت الذي يُطارده، وهو يتجول بين أروقة المستشفى الذي يملكه والده الجراح الشهير، كان أول ما تفتّحت عيناه عليه هو صراع الناس مع وحش خفي اسمه الموت، يقول: "كان مدرج المستشفى يشرف على حديقتنا، وكم مرة تلصصت عبر الأبواب لكي أرى الجثث المددة على الأسِرَّة". أراد فلوبير أن يرسم منظراً أدبياً لهذه الجثث، فكتب أولى قصصه التي سخر منها والدهُ، فمزّقها وجعلها طعاماً لنار مدفأة غرفة مكتبه مؤنِّباً إياه: "الكتابة مهنة الضعفاء والمجانين، أنت خُلقت لتمسك المشرط، لا القلم". بعد سنوات يكتب إلى عشيقته لويزا كوليه: "كنتُ ذلك الإنسان الذي بلا هويّة، والذي يريد الآخرون أن يشكلوا له حياته". هذه الحياة التي تأرجحت بين جديّة الأب وقسوته، وعطف الأم التي كانت تعشق القراءة، كان سريرها مزدحماً بالروايات والقصص الخيالية، ثمة كتب في كل مكان. في المساء كانت تنتابني رغبتان: حضن أمي، وكتبها التي تتحدث عن العشق".

في العاشرة من عمره حاول أن يقلّد كاتبه المفضل فكتور هيجو فكتب رواية قصيرة متأثراً برواية هوجو الشهيرة "أحدب نوتردام"، وحين قُدِّر له بعد سنوات أن يزور صاحب (البؤساء) في بيته، كتب لوالدته فرحاً: "أخيراً استمتعت برؤيته عن قرب، فحدَّقت به مشدوهاً، كما أحدق في إناء مملوء بملايين الجواهر الكريمة".

في الخامسة عشرة من عمره يلتقي بالمرأة التي سيحبّها طوال حياته، وقد خلّدها في روايته التي حملت عنوان (التربية العاطفية)، كانت تكبره بثلاثة عشر عاماً، وكانت زوجة لأحد كبار رجال الأعمال، حين كانت تنظر إليه، يصاب بالتعرق والارتباك. ويخبرنا سارتر في كتابه (أبله العائلة)، أن فلوبير كان يرى فيها بعضاً من ملامح أمه التي عشقها منذ الصغر، ونراه يكتب في (يوميات مجنون) أنه لم يحب في حياته سوى أمه وهذه المرأة التي تدعى (ماري شيزنجر).

بعد عام يكتب لأحد أصدقائه: "لا تتوهم أني حائر ومتردّد في ما يخص اختيار مهنتي في المستقبل.. في الواقع أنه لن تكون لي أية مهنة! إني عاجز عن العمل. وذلك لأني أحتقر البشر إلى درجة أني لا أستطيع أن أفعل لهم خيراً أو شراً. وعلى أية حال فسوف أدرس في كلية الحقوق وأتخرج كمحام. ولكني لن أشتغل في مهنة المحاماة إلا إذا طلبوا مني الدفاع عن مجرم كبير. وأما في ما يخص الكتابة، فإني أراهنك على أني لن أصبح كاتباً ولن أطبع حرفاً واحداً».

لم تكن الوظيفة تشغله ولا المستقبل، فقد كان مشغولاً بتتبع حكايات النساء، يتخيل صديقات والدته، ويسرح في صور النساء اللواتي شاهدهن في الشارع، إلى أن يعثر على (لويز كوليه) التي كانت مغرمة بالأدباء، حتى أن حكايتها مع فكتور هيجو كانت حديث الصالونات الأدبية، ويبدو أن فلوبير البالغ من العمر الآن خمسة وعشرين عاماً قد أحبها بإفراط، فلم تمض على لقائهما سوى ساعات قليلة حتى كتب لها خطاباً نارياً: "إنكِ المرأة الوحيدة التي أحببتها، باستثناء امرأتين: الأولى أمي، والثانية كنت عشقتها قبل عشرة أعوام، من دون أن أفاتحها أو ألمسها، لكنكِ الوحيدة التي أحيت في قلبي الأمل في أن أحظى بإعجابها، بل لعلك الوحيدة التي حظيت بإعجابها فعلاً".

وقد سخر فلوبير في ما بعد من هذه العبارات التي كتبها، وسرعان ما بدأت قصة الحب تفقد بريقها تدريجياً حتى كتب لها ذات يوم: «يبدو أنك لا تفهمينني على حقيقتي، فأنت أحياناً ترفعينني إلى مرتبة أسمى مني، وأحياناً أخرى تهبطين بي إلى درك أدنى مما أستحق، وهذا هو داء النساء منذ القدم، فهن لا يعرفن الاعتدال، ولا يُردن أن يفهمن المخلوقات المعقدة التي هي الغالبية العظمى بين البشر، ولقد تبيّنتُ منذ زمن أن من يريد أن يعيش حياة هادئة لا بد أن يعيش وحيداً ويحكم إغلاق نوافذه لئلا يتسرب إليه هواء المجتمع، وهذا هو السبب في أني عشت سنوات عديدة أتجنب رفقة النساء"، وتصف لويزا فلوبير بأنه كان قاسياً سريع الغضب فريسة للانفعالات والتقلبات العاطفية فتكتب بعد وفاته: «كان شخصية وحشية دائمة السخط".

على أن لويزا كان لها تأثير آخر على فلوبير غير قصة الحب العاصفة التي عاشها، فقد استمد منها ملامح بطلة روايته الشهيرة (مدام بوفاري) التي تفرّغ لها منذ أن كان في الثلاثين حتى السنوات الأخيرة من عمره.

بعد أن اشترى والده قصراً كبيراً يطلُّ على نهر السين، قرر الابن فلوبير أن يتخذ منه مسكناً، كان يكتب طوال ست ساعات في اليوم، لكنه يمزق ما كتبه في اليوم التالي، في ذلك الوقت يلتقي بالشاعرة (لويز كوليت)، التي سرعان ما أصبحت عشيقته، حدثها عن حيرته في الكتابة، كان قد قرأ عليها قصة بعنوان (البائسون) وما أن انتهى من القراءة حتى قذف بالأوراق من النافذة وصاح: "هراء.. كل ما أكتبه هراء، متى تبدأ يا فلوبير بدايتك الحقيقية؟".

قالت له كوليت: "يجب أن تعدل تماماً عن كتابة موضوعات غامضة، خذ موضوعاً من الواقع، ألم تقرأ في الصحف عن حكاية مدام (دلفين ديلمار)، إنها تستحق عملاً ممتازاً بشرط أن لا تقول لي أنك كنت أحد عشاقها». فأجاب: "للأسف لم أكن في قائمتها». قالت: "حسناً اكتب عنها إذن، لو كنتُ أمتلك موهبتك لما ضيّعت هذه الفرصة ". فقال لها: "وماذا لو تعرضتُ لمضايقة عشاقها، هل تريدينني أن أقضي بقية عمري بالسجن بتهمة التشهير بمواطنين شرفاء؟". وهنا ضحكت كوليت على عبارة المواطنين الشرفاء، وكانت تدرك في قرارة نفسها أن الموضوع استهوى فلوبير وسيكتب عنه.

أخذ فلوبير يبحث عن حكاية المدام ديلمار فماذا وجد؟ كان الزوج يوجين ديلمار، طالبَ طب يدرس الجراحة على يد والد فلوبير، وكان طالباً عادياً فشل في العديد من الاختبارات الجامعية ولم يستطع نيل دبلوم الطب، فأصبح مأموراً في إحدى دوائر الصحة. في ذلك الوقت تزوّج من أرملة تكبره بالعمر لكنها توفيت بعد سنوات، فأصبح وحيداً، وراح يبحث عن رفيقة لحياته، عندئذ قابل فتاة في السابعة عشرة من عمرها، جميلة ذات شعر أشقر وجسد متناسق كانت ابنة لواحد من مرضى ديلمار، تعلمت في دير وقد امتلأ رأسها بالأحلام التي تثيرها قراءة الروايات الرومانسية، في البدء كانت تعتقد أنها تزوجت من فارس أحلامها، لكنها سرعات ما اكتشفت أن ديلمار إنسان فاشل وثقيل الظل ولا يملك الطموح، كانت تحلم برجل مندفع مثير، لكنها بدلاً من ذلك تزوجت بإنسان غبي يصفه فلوبير بدقة: "كان حديثه مسطحاً مثل رصيف الشارع، إنه لا يستطيع السباحة، لا يستطيع المبارزة والإمساك بسلاح ناري، مشاعره عادية، يعانقها في أوقات محددة، وأصبح الجلوس معه غير محتمل، يحلو له أن يلتهم الطعام الذي أمامه بشراهة ثم يذهب إلى الفراش ليستلقي على ظهرة ويشخر".

ونجدها كثيراً ما تُردّد حين تكون لوحدها: "يا إلهي لماذا تزوجت"، وتحاول أن تتخيل ذلك الزوج الذي لم تعرف، رجلاً وسيماً وفطناً ومتميزاً وجذاباً، وتسأل في نفسها ما العمل؟ هل سيدوم هذا البؤس للأبد، كانت تتوق إلى الحياة الصاخبة، تبحث عن الحب، عن رجل يختطفها ويطير بها بعيداً، لقد قررت أن تفتح الباب المظلم، ففي مقابل احتقارها لزوجها وللحياة السخيفة التي تعيشها معه، نظرت في المرآة إلى جمالها وأيقنت أن بإمكانها أن تحوِّل أحلام اليقظة إلى واقع، وقررت أن تكتشف عالماً أكثر إثارة يحقق لها وجودها، فبدأت تبالغ في إنفاق الأموال على الألبسة والحفلات دون أن يعلم زوجها، وسرعان ما تراكمت عليها الديون، وبعد أن فقدت الرغبة في الملابس والحفلات، تقرر أن تغوي الرجال. في البداية كان العشيق جاراً لها يدعى لويس كامبيون، ثم عامل المزرعة، ثم كاتب العدل، ثم العديد من الموظفين الشباب. ويكتب فلوبير في الرواية: "لقد بدأَت تعيد إلى ذهنها بطلات الروايات التي قرأَتها، وبدأ هذا الفيلق من النساء العاشقات يغرد في رأسها ".

أهملَت زوجها وابنتها الصغيرة وأقاربها وجيرانها، لكنها في النهاية بدأت تشعر بالملل، كل هؤلاء العشاق الذين مارست الجنس معهم مخيبون للآمال، وأخيراً في فجر السادس من مارس عام 1848 بدأت المشاكل تحاصرها: زوجها أفلس، العشاق تبخروا، وهنا تقرر أن تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لتنهي حياة بلا طعم ولا أمل.

كان فلوبير مقتنعاً أن قصة ديلمار هي وسيلته الوحيدة لإثبات موهبته الأدبية، ولإسكات الأصوات التي كانت تقول إن هذا الشاب الذي دخل عامه الثلاثين سيظلّ مجرد مراهق أبله طائش يزحف وراء رائحة النساء. إلّا أن هناك مشكلة يجب أن يجد لها حلاً، فالقصة سوقيّة وقد نشرتها معظم الصحف، لكنه لم يستطع مقاومة سحر السيدة ديلمار وإصرارها على أن تتمتع بكل ذرة من جسدها، بقيت مشكلة مستعصية هي رفض أمه القاطع، أن يكتب عن موضوع هذه السيدة خوفاً من مقاضاته، وأيضاً لأنّ الموضوع مبتذل، لكنه في النهاية استطاع إقناعها، بعد أن قرر تغيير أسماء الشخصيات لتتحول السيدة ديلمار إلى (مدام بوفاري).

سارت الرواية ببطء شديد، ستّ صفحات في الأسبوع، قال لأمه: "يا لها من مهنة صعبة مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجذاف ثقيل"، وظل يعمل سبع ساعات في اليوم على مدى أكثر من خمس سنوات، درس خلالها كل ما يتعلق بالروايات الرومانسية التي ربما قرأتها السيدة ديلمار أو مدام بوفاري، وحاول دراسة تأثير مادة الزرنيخ على وظائف الجسم، ومن حين لآخر كانت الكتابة تصيبه بالمرض: "عندما كنت أصفُ تسمّم إيما بوفاري، كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرّضني ذلك إلى آلام في المعدة وسوء في الهضم رافقني طوال حياتي. ويكتب إلى صديقة: «لقد توقفتُ عن الكتابة، لا أستطيع مغالبة دموعي"، ولم يكتف بشهادات الجيران ومعارف السيدة ديلمار، بل ذهب إلى القرية يستطلع مجريات الأحداث التي تتعلق بتفاصيل حياة البطلة، وفي الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة اطلع على التقرير التالي: «يوم السادس من مارس 1848 انتحرت في قرية ري نورمانديا، سيدة في السادسة والعشرين من عمرها بتعاطي كمية كبيرة من الزرنيخ" . في النهاية يجد نفسه قد كتب أكثر من 1800صفحة من القطع الكبير.

لم يحاول فلوبير أن يقرأ الرواية على المقربين منه، ويكتب إلى أمه: "أشعر بأنني كتبت عملاً كبيراً، لا أريد أن أعرضه على هواة تحطيم الأدباء وحفاري قبور الأعمال الفنية، سأذهب بالمخطوطة إلى الناشر" . 

لكنه ما أن يسلّم هذه الحزمة الكبيرة من الأوراق إلى أحد الناشرين المعروفين الذي وجد صعوبة في قراءة خطه الرديء، وأيضاً لم يستهوه الاسم، فمن يشتري رواية اسمها (مدام بوفاري)، كما أن الرواية تحتاج إلى تعديلات سيقوم بها الناشر نفسه بدءاً من الاسم الذي سيتغير إلى (قلوب في العاصفة)، وانتهاء بمشهد الموت حيث اقترح الناشر أن تُقتل على يد زوجها بعد أن يضبطها متلبسة بالخيانة، لم يُرد فلوبير أن يصفع الناشر، لكنه طلب منه بكل هدوء أن يعيد إليه المخطوطة.

عشية اعياد الميلاد وفي تمام الساعة الثانية عشر من ليلة السبت 31/12/2022 كتب ألفارو فارغاس يوسا على صفحته في تويتر: "والدي يقول  وداعا للعام وهو في حالة جيدة يقرا الطبعة الأولى من رواية الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير (مدام بوفاري) التي يعود تاريخها إلى عام 1857 ". 

يكتب يوسا :" مضى أكثر من مائتي عام على ولادة فلوبير، وما زال الأسلوب الذي ابتدعه لكتابة الرواية حياً ونضراً. وفي ظني أنه سيبقى يافعاً ومتجدداً طوال المائتي عام المقبلة " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم