قراءات نقدية

رؤساء في مملكة الشعر (3): الصيني ماوتسي تونغ

انشغل العالم منذ خمسينات القرن الماضي بأفكار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ(1893- 1976)، التي أصبحت محوراً مهماً في الصراع الفكري والسياسي في عالم يسمى حينذاك (الاشتراكي)، سواء بين الصين و (الاتحاد السوفيتي، أو في صفوف الحركة الشيوعية الدولية يومئذ، أو في داخل الصين نفسها بين أنصار ماو وخصومه المتهمين باتباع الخط (البرجوازي الرجعي).

أنصار ماو يرفعونه الى مرتبة التقديس والتنزيه عن الخطأ، يشيدون بتعاليمه كما لو كانت نصوصاً سحرية خارقة تكاد تكون قادرة على كل شيء ابتداءً من تعليم الصغار إلى إلهام أكبر علماء الذرة والتقنيات الحديثة، ويرفعونه فوق مستوى الفلاسفة والمفكرين من صنوه على وجه الخصوص.

في داخل الصين الموقف أكثر تعقيداً لأن تهمة معارضة تعاليم ماو توجّه الى رفاقه الذين عُرفوا طوال حياتهم بالولاء التام والطاعة العمياء.

كان ماو منذ صغره متمرداً على تقاليد مجتمعه، استطاع أن يكسب مئات الملايين من الفلاحين ليقود معركة تحرير ضد المحتل الياباني، استمرت لأكثر من عقد من الزمن، عرفت بالمسيرة الكبرى، تكللت بتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949،فكان ماو أول رئيس لها.

أدرك ماو حقيقة المجتمع الصيني الذي يشكّل فيه الفلاحون الفقراء نسبة 80 بالمائة منه، هذه الحقيقة قادته الى الخروج عن التقاليد النظرية الجامدة في كلاسيكيات الماركسية، حين اصطدم بالتطبيق العملي للنظرية، واكتشف قوانينه العملية في الثورة، وواقع الحال يشير الى أن ماو تسي تونغ شخصية مثيرة للجدل، وهو معروف باسم (المفكر والمنظّر والستراتيجي السياسي والعسكري، والمؤلف والشاعر) .

القليل من يعرف ان ماو الأديب كان شاعراً، وأقلّ منهم اولئك الذين قرأوا قصائده ورأوا فيها وجهاً آخر للصين، ومن البديهي أن يتساءل القارئ عن البدايات الأولى والمؤهلات الثقافية التي قادت ماو لكتابة الشعر، متى وكيف تمكن وسط المهمات الثقيلة ليخلو مع نفسه كشاعر يخوض التجربة الشعرية بتجلياتها وانفعالاتها؟ بأي دافع كتب ماو الشعر؟ بقي علينا أن نسأل عن مزاجية الشاعر ، كيف يستحضر القصيدة، يعيش طقوسها وتفاصيلها، ليمسك بطيف كلمة أو يصطاد معنى؟

بامكان الدارس أن يستشهد بمقاطع عدّة من قصائده، ليدرك الظروف التي وقع تحت تأثيرها ماو كي يكتب شعراً لا يعبّر عن تجاربه الذاتية، ولا أحزان الانسان وضياعه الوجودي، بل هو شاعر كان تلهب خياله قضايا شعبه وأمله في الحرية والعدالة الاجتماعية.

قدمت الصين أدباً قومياً ثورياً، ووجد الكثيرون من عامة الناس الذين لم يخطر في بالهم أن يكتبوا شعراً أو أثراً أدبياً، وجدوا في خضم المعارك التي يخوضها شعبهم أن يعبروا عن روح أمتهم في تلك الظروف، وان يكتبوا بلغة تفصح عن إرادة شعبهم وتوقه للحرية، أن يكونوا لسان الواقع الجديد للصين الذي يولد بين نيران المعارك لتحقيق وجوده على الرغم من هولها المرعب.

كان ماو واحداً من هؤلاء الذين كتبوا الشعر تحت هذه الظروف، لم تكن لديه الرغبة في النشر أول الأمر، لسببين، أولهما اعتقاده أن شعره لا يرتقي الى مستوى الشعر الجيد وليس فيه أي إمتياز فني خاص، والثاني خشيته من تأثر الجيل الشاب سلباً في شعره الكلاسيكي.

في قصيدة (الزحف الطويل) يعبّر ماو عن فخره بالفلاح الصيني ويضرب المثل ببطولته التي فاقت كل خيال:

لا يخشى الجيش الأحمر عناء مسيرة طويلة/ ألف    جبل، مائة ألف نهر لا تعني لديهم شيئاً/ قمم الجبال في نظرهم كتعرجات أمواج البحر الصغيرة/ يجتازون سلاسل الجبال مثلما يجتازون أكواماً من الطين/دافئة هي السحب العالية المغسولة بنهر الرمال الذهبي*.

ماو يحب الفلاحين حباً غريباً أولئك الرجال الذين قهروا الصعاب وهزموا الطبيعة تعلو الابتسامة الندية شفاهم، ووسط تلك المعارك، في لحظات راحة منها يسترجع ماو الماضي عندما كان في قريته صغيراً لم يعر معنى الحياة بعد، ولا ما يخبئه له القدر من دور في تاريخ الصين، وهو لا يستغرق في ذلك التأمل الرومانسي لذاته، انما تتوارد على ذاكرته خلال ذلك التأمل صور المقاتلين يعبر عنها في قصيدته( زيارة الى القرية) إذ يقول:

مازالت ذكريات الماضي حيّ في قلبي/ سأظل أناشد الزمن الدفاق أن يعود الى الوراء/ أنا الآن في قريتي، والأيادي السوداء ترفع سياط الملّاك القساة/حتى أننا لنجترئ على أن نأمر الشمس والقمر باطلاع يوم جديد/الأبطال عائدون من كل جانب مع ضباب المساء.

في قصائد ماو تبرز عدّة ملامح تكاد تميز انتاجه وتصبح خاصية ينفرد بها دون سواه، غير انها لا تظهر الا بالقراءة المتأنية للقصائد، أول هذه الملامح تأثره بالتراث الشعبي الصيني، فقلما تخلو قصيدة له من تضمينات تشير الى هذا التراث، وغالباً ما يجعل الدلالة الرمزية للقصة الشعبية تعبر  عن موقف سياسي يريد أن يقول عنه شيئاً. ان ارتباطه بموروث شعبه كشاعر وثيق جداً، إذ يشكل عالمه الرحب المليء بالرموز والمعاني والتجارب المكثفة،

والملمح الثاني في شعر ماو هو طابعه الكلاسيكي، متأثراً بالثراث القديم الضارب جذوره عميقاً في الأدب الصيني، مما يجعل شعره استمراراً طبيعياً للشعراء الكلاسيكيين، وحرصه في الربط بين المعاصرة والقديم، علماً ان هذا التأثر جاء على حساب الشكل وحده لا المضمون، إذ يعدّ ماو في وقته منتمياً لجيل الشعراء الذين تأثروا بحركة التجديد في الأدب التي واكبت حركة الرابع من مايس 1919**، والتي أسقطت نهائياً الأدب الكلاسيكي القديم ذا المضمون الاقطاعي، ودخلت بالأدب مرحلة التجديد والتعبير عن  حياة ومصير الانسان بلغة مفهومة.

وهناك ملاحظتان جانبيتان تنبغي الاشارة لهما، الاولى تتمثل بقلة انتاجه الشعري، والاخرى تتعلق بقصر القصيدة.  كمحاولة للابتعاد عن التعقيد، في تكثيف عبارته وشحنها بلغة موحية ومؤثرة، وعلى العموم لم يحظ شعر ماو بقدر معقول من اهتمام النقاد، وحتى المقالات التي تناولت تجربته كانت سريعة، اختلفت حول قيمة القصائد فنياً، لكنها اتفقت على انها ألقت الضوء على شخصية الشاعر الضاربة في جذور الصين، وتعبّر في ذات الوقت عن مواقفه تجاه قضايا شعبه المصيرية.

الصين اليوم لم تعد لها علاقة بصين ماو، على الرغم من ملايين الزوار الذين يأتون سنوياً يحيّون تمثال (القائد العظيم)، يقطعون آلاف الأميال الى  مسقط رأسه في مقاطعة هونان، هؤلاء ليس لديهم استعداداً لسماع قصائد ماو ولا تعاليمه الثورية والنظرية، انما لالتقاط صور (السيلفي) مع التمثال.

صحيح ان الريح لا ترجع القهقرى، لا حاجة أن ترجع، لم تولد فجأة من دون مقدمات، انها ليست الهنا والآن، فهي تحمل بعد الماضي وراءها في قرارتها، كذلك، لنفترض ان الماء لايعود الى منبعه،، لا حاجة أن يعود، فالنبع مستمر فيه، رفض النبع هو رفض للماء نفسه.

***

   جمال العتّابي

.........................

* أشكر ولدي د. فرات الذي ترجم النصوص الشعرية عن اللغة الصينية الى العربية، ومراجعة بعض الوقائع التاريخية.

**حركة الرابع من مايس 1919: حركة ثقافية جديدة وسياسية انبثقت عن الاحتجاجات الطلابية في بكين، المطالبة بالتحرر وانهاء النفوذ الاجنبي.

 

في المثقف اليوم