قراءات نقدية

صخب يمزق سكون الليل.. مجموعة قصصية من وحي كورونا

المبدع فرد من المجتمع يتطلع إلى تفاصيله ويتابع مستجداته بعين فاحصة وناقدة، يسجل أدق الوقائع بأسلوب فني يغري القارئ الذي تناط إليه عملية الفهم والتأويل؛ في هذا السياق تقدِّم مجموعة (صخب يمزق سكون الليل) خمسا وعشرين قصة قصيرة نتيجة لتفاعلِ القاص أحمد بلقاسم مع قضايا الواقع أبرزها ما ألمَّ بالعالم وأدخلَ البشرية في تجربة فريدة مسّت مستويات مختلفة، منها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي... إنه ظهور فيروس كورونا أو كوفيد 19 الذي أرعب البشرية بمضاعفاته الخطيرة التي أودت بحياة عدد هائل من الناس، والذي خصص له القاص سبع عشرة قصة يتناول فيها كل التفاصيل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المستجدة مع هذا الوباء المستجد الذي حيّر العلماء والأطباء والمسؤولين، وأرعب الناس العاديين ولم يفرق بين غني وفقير أو كبير وصغير، أو رجل وامرأة؛ إنه الوباء الذي شغل سكان الكرة الأرضية، فكيف لا يثير اهتمام المبدع الذي يُفترض فيه أن يكون شاهدا على عصره بقلمه المبدع الذي يستقصي الوقائع والتغيرات الطارئة على المجتمع في ظل الجائحة.

إن القاص أحمد بلقاسم على غير قصصه السابقة يدخلُ تجربة جديدة تتسم بكثير من التحدي الذي يتجلى في تحويل (ظرف مستجـد معقد) إلى مادة إبداعية يخصص لها عددا مُهِمّا من القصص بروح مرحة ولغة أنيقة، وسخرية هادفة؛ هنا يمكننا أن نسأل لِمَ لَمْ يقتصر على عدد محدود من القصص؟ ذلك لأن الظرف المستجد خَلْخَلَ حياة الأفراد بكل فئاتهم وتناسلَ منه ما لا يمكن حصره في قصة أو قصص محدودة؛ وهذا نستشفه من استعانة الكاتب بمعجم متنوع مرتبط بأحداث ومواقف مختلفة ومرتبطة بشخصياتِ فئاتٍ مختلفة من الناس، لكنها كلَّها خرجت من رحم كورونا، وهذا يدل على أن الكاتب استوعب جيدا ما طرأ على المجتمع وما أصبح حديث الناس بكل فئاتهم وشغـل مسؤولين في قطاعات مختلفة، من ذلك مثلا (كورونا – الفيروس – عقار – أنبوب الأكسيجين – الحظر – طير الليل [الخفاش] – السعال – درس عن بعد: الواتساب، الكاميرا – المستشفى – القايدة: [ممثلة السلطة التنفيذية داخل نطاق نفوذها] - الكمامة – التعقيم – ممرضة – السرير – الطبيب – النظافة بالماء والصابون – التلفزة الكورونية – أعوان السلطة والقُيّاد والشرطة – حظر التجول – صندوق كوفيد 19 – رخصة التنقل – حالة الطوارئ – الحجر الصحي – الإسعاف -الحقنة – مركز تلقيح ضد كورونا - القبر – حفار القبور - العلاج – الخطر – عملية).

يمتد هذا المعجم في أغلب قصص المجموعة، وهو الخيط الرابط بينها، والنسيجُ الذي يحوك القصص كتبها المبدع أحمد بلقاسم تحت تأثير حدثٍ طارئ ومباغت ومحيِّـر لا يحسنُ التهاونُ إبداعيا في تحويله إلى شهـادة أدبية على الظرف الاستثنائي الذي أوجد خطابا مهيمنا على الشارع بشكل يومـي.

يتنقل القاص أحمد بلقاسم في (صخب يمزق سكون الليل) بقلمه المبدع من موقف إلى موقف ومن مجال إلى مجال، ومن وسط إلى وسط، حيث اكتسح الفيروسُ المستجدّ كل مناحي الحياة الاجتماعية بشكل خلل الاستقرار النفسي للأفراد وبث الرعب والهواجس في النفوس، ولم يَفُتْه أن يُحَوِّل بعض المواقف إلى مادة فكاهية دالة على الحالة الهستيرية التي انتابت عددا من فئات المجتمع التي لم تستوعب حجم الكارثة وأصبحت تُفزع بمجرد سماع سعال أو عطاس خوفا من انتقال العدوى، وتأثرت بأخبارٍ بعضُها أُسيءَ فهمُه، وبعضها زائف مثل "نسبة سبب ظهور فيروس كورونا إلى الخفافيش"، و" أن هذا الفيروس مذكور في القرآن"، و"ظهور مشعوذين يَدَّعون إيجاد عقـار فعال ضد الفيروس" وأن هناك " خطة للقضاء على المسنين من أجل تشبيب المجتمـع"....

يرصد الكاتب أيضا محاولة الناسِ التأقلمَ مع ما أفرزه الوضع الجديد من حَجْرٍ صحي (المعقل الإجباري)، وحظرٍ للتجول، ومنعِ التجمعات، وارتداء الكمامة، والتباعد، وعدم التصافح والتزاور، وضرورة الحصول على رخصة للتنقل للإدلاء بها لرجال السلطة الذين يجوبون الشوارع من أجل مراقبة تطبيق التدابير الاحترازية المفروضة على المواطنين، والبحث عن أنشطة ترفيهية لمقاومة الملل، والحملات التحسيسية عبر (التلفزة الكورونية) التي تدعو المواطنين إلى اعتماد النظافة بالماء والصابون، والإقبال على أخذ حقنة التلقيح والتوجه إلى المستشفى فورا في حال الإصابة بالعدوى، وما رافق ذلك من وقائع غريبة ومضحكة أحيانا أبطالها ناسٌ بسطاءُ يخوضون في تفسير ما يجري بوعيهم البسيط فتنقلب الحقائق لديهم، وأحيانا يتداولون الإشاعات التي تنتشر كالنار في الهشيم، وأحيانا أخرى يقعون بين يدي السلطة فيكون عليهم تبرير خرقهم حظرَ التجول.

ولأن (الفيروس اللعين) لم يستثنِ قطاعا من القطاعات التي لم يعدْ سيرُ العمل فيها عاديا كما كان في الأيام العادية؛ فإن قطاع التعليم أيضا لم يسلم من تبعات هذا الوباء، فكان أنْ تَوَقَّفَ (التعليم الحضوري) واعتمد ما سمي بــ(التعليم عن بعد) ليدخل رجلُ التعليم تجربة مفاجِئة يكون فيها التواصل مع المتعلمين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها تطبيق (الواتساب/ whatsapp) الذي يَعتمد على بعث الرسائل الصوتية والكاميرا، هنا يجد المدرسُ حديث العهد بمثل هذه التطبيقات والأجهزة الذكية العجيبة صعوبةً في التكيُّف مع الوضع الجديد، ويتواصل مع تلامذته من محل إقامته وهو بين أهله الذين يستغربون طبيعة التعليم الجديد الذي تتخلله مواقف تثير الغرابة والضحك أحيانا:

" الزوجة من المطبخ:

- ما سر هذا الصمت!

- الأستاذ: أي صمت؟

- صمتكَ عن مواصلة درسك مع مستقبليك من التلاميذ!

- الأستاذ: فاصل إشهاري ونواصل!

- كيف؟ حتى الواتساب يدرج الإشهار!؟

- لا.. لا.. يا عزيزتي.

- ما مصدر الفاصل الإشهاري؟

- فقط أحد تلاميذي طلب مني مهلة استراحة..

- استراحة وهو غارق فيها!؟

- استراحة للمراجعة.

- مراجعة ماذا؟

- مراجعة الثلاجة، ولم يطفئ الكاميرا، بل صحب اللوحة معه، وجاب بها المنزل...." (درس عن بعد).

يمتد هذا الاهتمام بالواقع وإشكالاته فيما تبقي من قصص المجموعة، بالعين الفاحصة ذاتِها وبالنقد المبطن بالسخرية أحيانا لكلِّ ما هو منافٍ للعقل والعدالة الاجتماعية والإنسانية، إنه أسلوب درج عليه عدد من كبار السرد العربي الحديث مثل زكريا تامر.

أما من حيث البناء فالمجموعة استمرار للأسلوب القصصي الذي عهد القارئُ عليه قصصَ المبدع أحمد بلقاسم فالشخوص من البسطاء الذين يجد الكاتب فيهم ضالته في الكشف عن القضايا البسيطة في ظاهرها والعميقة في جوهرها، يستنطقُها ليُشَكِّل رؤياه النقدية بأسلوب مرح ولغة غاية في الأناقة والصفاء، يعتني بها عناية الأب بفلذات كبده فتبدو مرآة لما يشغل الناس في شتى مناحي حيواتهم، فاسحا لهم المجال في الكلام ليقربهم إلى القارئ فيكون التكثيف موحيا، ويكون الحوار أداةً مهمة لديه للتعريف بهم وبصفاتهم النفسية والفكرية والاجتماعية وبقضاياهم والتحديات التي تواجههم.

هكذا يكون المبدع أحمد بلقاسم في هذه المجموعة الجديرة بالاهتمام، قد أضاف لبنة مهمة إلى مُنجزه الإبداعي القصصي، الذي دأب على تشكيله عبر خمس مجموعات قصصية استطاع من خلالها أن يُشكل صوته المتميز ويثابر على تطويره من دون السقوط في التكرار والنمطية.

***

بقلم: ميلود لقـــاح

في المثقف اليوم