قراءات نقدية

قراءة في رواية الأرملة للكاتبين المقدسيّين ديمة السمّان وجميل السّلحوت

رواية الأرملة للكاتبين ديمة السمّان وجميل السلحوت، الصادرة عن مكتبة كلّ شيء-الحيفاوية- تُعالج موضوع الترمّل لدى النساء وما يعترضهنّ من صعوبات وعوائق، وتحديداً النظرة للأرملة من قبل الذين يحيطون بها، وكثرة الهمز واللمز كلّما مرّت مطلّقة أو أرملة، لأنّها وبحسب ما ترسّخ في العقول القاصرة "صارت مشاعاً" وكأنّ الذي كان يردعها ويدفعها لاحترام كيانها وإنسانيّتها وجسدها غشاء أواسم رجل تُلحَق به.

اللافت في هذه الرواية، وكأنّ المرأة ضُربت من بيت أبيها، بمعنى أنّ نظرة الخوف أو الرفض للأرملة، أتت بصورة أكثر إيذاءً من بنات جنسها، فها هُنّ سلفات المسكينة خديجة الأحمد هاجمنَها بالهراوات، على كلّ أجزاء جسمها، لأنهنّ يخفنَ على أزواجهنّ منها، وكلّ منهنّ تخاف أن يتزوّجها زوجها ليرعى أبناء أخيه.

تتطرّق الرواية إلى النظرة المختلفة للمرأة الأرملة وإعتبارها من المخلّفات، وانطلاقاً من هذه النظرة، نجد أنّ زميل وردة الأرملة الأستاذ شادي، ومن باب نيله الثواب على حدّ زعمه، يخاطبها بالقول: "لا حياء في الدّين، أنا أعرض عليك الزواج فإن وافقت سأطلبك من والدك، وسأشترط أن تبقي مقيمة في بيت والديك، وأن لا تنجبي، فلديك طفلان يشبعان غريزة الأمومة عندك" وكأنّه بهذا الطرح المغلّف بغلاف دينيّ، يريدها محظيّة أكثر منها زوجة كاملة الأوصاف والحقوق. وعندما رفضت عرضه المشبوه أبدى استهجانه وأردف قائلا: خيراً تعمل شرّاً تلقى. وكأنّه هو صاحب الفضل والمُضحّي. وكأنّ رجال هذا الزّمن يطمعون في الأرامل والمطلّقات ويريدونهنّ خليلات دون زواج – كما تقول إحدى زميلات وردة في المدرسة- 36.

وإمعاناً في هذه النظرة للمرأة الأرملة واعتبارها نوعاً من أنواع الخردة، تأتي زميلة وردة بعرض لها بزواج غير متكافىء من ابن عمّها الذي يعمل ”ميكانيكي“ سيارات، توفّيت زوجته قبل ثلاثة أسابيع، وله ثلاثة أولاد وبنت، أكبرهم في الخامسة عشرة من عمره، ويبحث عن زوجة جديدة، وعندما جوبِهت برفض وردة، أجابتها ساخرة "إبن عمّي سيتزوّج فتاة عذراء أجمل وأصغر عمراً منك، وعجرفتك هذه ستكون وبالاً عليك".

إن حالة الرفض والاستنكار لمن يريد الإرتباط بأرملة، تكاد تكون شائعة لدى فئات المجتمع كافة، وغالباً ما يتأتّى هذا الرفض من قبل الأمّ، وللمفارقة فهي إمرأة أيضا، فعندما أبدى المهندس سامر رغبته بالاقتران بالأرملة وردة، جاء الرفض على لسان والدته بعبارات أقرب إلى الحطّ من إنسانيّة وكماليّة المرأة الأرملة، إذ ضربت والدته كفّاً على كفّ.وسألته من هي؟ هل هي وردة؟ هل تقصد أرملة عودة؟97 يا خيبتك يا هيام أنتِ وإبنك الذي انتظرته طويلاً، لتفرحي بزفافه هل انقطعت البنات؟ ماذا ينقصك حتّى تتزوّج أرملة؟. لديك زهور بنت خالتك تتميّزعلى بنات جيلها، فهي طبيبة تعمل في مستشفى المقاصد.

وكما هو شائع في بعض المجتمعات والبيئات فإنّ الأرملة قد تُعتبر في بعض الأحيان من الميراث الذي يتركه الزوج المتوفّي لعائلته، ولذا نجد في الكثير من الحالات إصرار أهل المتوفّي على تزويج أرملته من أحد أشقّائه، إدّعاءّ منهم بحرصهم على عدم تشتيت شمل الأسرة وضماناً لرعاية أيتامه. وهذا ما أفصح عنه والد المتوفّي عودة لإمام المسجد "أخطّط أن أزوّج وردة بعد انتهاء عدّتها لولدي عمر ليرعى طفلَيّ شقيقه41. وغالباً ما يلقى هذا الطرح القبول من أهل الطرفين دون الالتفات للمشاعر الإنسانيّة والعاطفيّة للأرملة، وما إذا كانت توافق أم لا، معتمدين على المثل القائل: «جمل مطرح جمل بَرَخ«.

في جانب آخر وقد يكون الأهم والأكثر إيذاءً للمرأة الأرملة، يكمن في حال التوّجُس من التعامل معها ومصادقتها خاصّة من قبل النساء أنفسهنّ، واتّهامها بسوء السلوك، تقول إحداهنّ عن المرأة الأرملة "ما دامت أرملة فمن المؤكّد أنها عملت السّبعة وذمّتها لأنّها تعوّدت على ممارسة الحبّ، ولا تستطيع الإستغناء عنه، خصوصا وأنّه لا يوجد لديها ما تخاف عليه. أما جارة الأرملة ندى فهي تحذّر جارتها الأخرى أمّ العارف من كثرة اهتمام زوجها بالأرملة ندى، وتقول لها "لم أرَ أجهل منك يا أمّ عارف، أنت تضعين البنزين بجانب النّار، ندى لا زالت شابّة جميلة، وكلّنا نلحظ اهتمام أبي عارف بها وبأبنائها. صدّقيني، لن يطول الأمر وسيأتي بها ضّرة لك.139.

كما انّ الأرملة ندى لاحظت ابتعاد النسوة عنها بعد ترمّلها، تقول لابنتها براء : لم أعد أحتمل يا براء، كلّ من أتعامل معه ويعرف أنّني أرملة، إمّا أن يتعامل معي بشفقة جارحة، أو إذا كان رجلا أشعر انّه ينتظر فرصة ليتجاوز حدوده معي. أما النساء المتزوّجات فأشعر أنّهنّ يتجنّبنَني ولا يتحمّسنَ لبناء علاقة صداقة معي. كما أنّها في إحدى المرّات بعد أن اتّصلت بوالد أحد الأطفال في الروضة التي تديرها لتعلّمه بحالة ابنه الصحّيّة، تعرّضت للتوبيخ من زوجته بحجّة انّه يوجد في الإدارة رقمان: رقمي ورقم زوجي. كُفّي عن أساليبك هذه. اذهبي يا امرأة وابحثي لك عن رجل آخر غير زوجي.

كما تتطرّق الرواية إلى بعض الممارسات الشاذّة والمستنكرة التي تطال المرأة الأرملة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى ما يُسمّى زوراً جرائم الشرف، ناهيك عن كمّيّة الشائعات التي تلاحقها، فعندما قتلت وضحا غدراً، وهي أمّ لِ أربعة أطفال على يد أخيها وعلى خلفية شرف العائلة، ومع أنّ نساء القرية أصِبنَ بالهلع من هول الجريمة، إلا أنّهن لم يتورّعن عن إطلاق إشاعات الرّذيلة عن وضحا المغدورة، فمَن تُفرّط بشرفها تستحقّ الموت".

ولم تغفِل الرواية الإشارة الى الدراما العربية التي تسيء للمرأة بشكل عام، وللمطلّقة والأرملة بشكل خاص. لأنّ ما تقدّمه هذه الدراما من مسلسلات بهذه الخفّة، فإنّها ترسّخ المعتقدات البالية عند المجتمع وتثبّتها في عقول المشاهدين، بدلاً من أن تقدَّم الأرملة كبطلة تتصدّى لكلّ العقبات وتتغلّب على جميع التّحديات لتسجّل قصّة نجاحها.

السلطة الذكوريّة كانت حاضرة في هذه الرواية من خلال شخصيّة صخر والد براء، الذي أوسعها ضرباً فقط لظنّه أنّها التقت دون علمه بالشابّ أمير الذي تقدّم لخطبتها، وإمعاناً في تسلّطه، طرد هذا الشاب ولوّح لإبنته بعقاب تمثّل بقراره بأنّه سيزوّجها لجارهم الأرمل الستينيّ أبو الفضل.

يبقى أن نشير الى أنّ عدم تقبّل الزواج الثاني للأرملة الأمّ، غالباً ما يأتي من قبل الأبناء أيضاً بغضّ النظر عن المستوى التعليميّ لهم، فهذه براء الجامعيّة إبنة ندى، لم تتقبّل فكرة زواج أمّها من صديق العائلة عنان، فعلى الرغم من العلاقة المضطربة التي كانت تربطها بأبيها جرّاء سوء سلوكه ومعاملته لهم، إلا أنّها لا تستوعب أن يكون غيره سيّداً للبيت. وفي هذا إشارة إلى أنّ أنانيّة بعض الأولاد قد تسبّب الأذى للأهل دون قصدهم.

لم تخلُ الرواية من بعض الطرائف التي تصبّ في خانة أحقيّة المرأة الأرملة بالزواج، فعندما التقى الشيخ بأحد الأبناء الذي يصطحب أمّه لعرضها على الطبيب، قال له الشيخ آمرا: دبّر لها زوجاً وستشفى. استغرب الابن ما قاله الشّيخ وأجابه مستنكراً اتّق الله يا رجل، فلا مجال للمزاح بهكذا أمور، فهل امرأة عجوز مريضة كأمّي بحاجة إلى زوج؟ فلكزته والدته على مؤخّرة رأسه وقالت له: اخرس ولا تتذاكى، واسمع كلام الشيخ الحكيم.

نشير إلى أنّ الرواية تطرح بعض الأسئلة التي تحتاج لأجوبة شافية ومقنعة ومن هذه الأسئلة نعرض ما يلي:

- هل تكون في بعض الأحيان وفاة الزوج رحمة للزوجة، فبعض الأزواج وجودهم لعنة في حياة زوجاتهم، والخلاص منهم غنيمة فالعزوبيّة ولا الزّيجة الرديّة.

- كيف ستستمرّ حياة الأرملة والمطلّقة بسعادة وهناء خصوصا وأنّ الرجال يعزفون عن الزواج منهما؟36

- هل نجحت براء إبنة ندى بالإجابة عل هذين السؤالين عندما قالت لأمها:" أمّي، لا أحد يستطيع أن يحمي أيّ امرأة إن لم تكن قويّة من الداخل، لا أب ولا أخ، ولا ابن عمّ، عليها أن تؤمن بدورها وطاقتها، وتستمرّ في عطائها".

لا بدّ من التنويه أنّه وبالرغم من كون الرواية تعالج موضوعاً اجتماعيّاً وهو حالة الترمّل، إلّا أنّ الكاتبين قدّما لنا جرعة تذكيريّة لبعض معاناة الشعب الفلسطيني جرّاء الإحتلال، وأيضاً تُعرِّج الرواية على ذكر بعض الأماكن التاريخيّة في فلسطين وتحديداً في مدينة القدس والجوار، فتذكر مثلاً مسجد المئذنة الحمراء، الذي هو مسجد أثريّ يعود تاريخه للحقبة العثمانيّة، ويقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، وتشير إلى كثرة المساجد في حارات القدس القديمة، لتسهيل الأمرعلى المسنّين الذين لا يقوون على الوصول إلى المسجد الأقصى. كما تستذكر الرواية من خلال الإشارة إلى البناء القديم الذي كان يسكنه الحاج ّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة زمن الإنتداب البريطانيّ. ومن ممارسات الاحتلال التي لا تتوقّف، تعيدنا الرواية الى ذلك اليوم الذي استشهد فيه القائد عبدالقادر الحسيني في معركة القسطل، كما تذكرأيضا مذبحة دير ياسين وكيف أتى القتلة بعدد من نساء القرية في شاحنة وألقوا بهنّ في شارع المصرارة أمام باب العامود.

وتستمر ممارسات الاحتلال الذي لا يراعي حتى حرمة الموت، وأحياناً كان يصرّ على إنزال الجثمان لتفتيشه. كما تلفت الى تعسّف الإجراءات وعمليّات التضييق على المواطنين لناحية عرقلة تنقّلاتهم لدرجة أن المعزّون من خارج المدينة العتيقة لا يستطيعون الوصول إلى بيت العزاء، حتّى أسرة وردة، لم تستطع المشاركة لتقديم العزاء بالمرحوم عودة وهو صهرهم، رغم أنّهم يسكنون في شعفاط على بعد أقلّ من كيلومرتين.

وعن استمرار عمليّات الإعتقال التعسّفي تشير الرواية إلى ما تعرض له عنان عندما وجد ثلاثة من جنود الاحتلال يضربون فتى مقدسيّا، لا يزيد عمره عن ثلاثة عشر عاماً، وأمّه تصرخ مستنجدة بمن حولها لإنقاذ ولدها. فاندفع محاولاً تخليص الفتى من بين أيدي الجنود وانتشل الفتى، فرفع الجنود السّلاح نحو عنان وكبّلوا يديه واقتادوه نحو خارج البلدة القديمة، وتركوا الفتى.

وفي إشارة الى رفض عمليّة التهويد وتزوير التاريخ، تتطرّق الرواية الى ليلة 25 سبتمر 1996 التي توصف بالسوداء بكلّ المقاييس، عندما افتتح المحتلّون نفقاً يمتدّ تحت المسجد الأقصى من حائط البراق إلى طريق الآلام قريبا من المدرسة العمريّة. وهم يسمّونه نفق ”هحشمانوئيم“، وقد خرج المقدسيّون دفاعاً عن مسجدهم المبارك. لأنّ ”القدس معتقد دينيّ لا مجال للمساومة عليه أو تغييره مهما حاول الطرف الآخر تزوير التاريخ والحقائق والآثار، كما حاول الإدّعاء بأنّ حجارة القصورالأمويّة هي حجارة الهيكل. وللدلالة على وحدة الصفّ الفلسطينيّ وتعاضد أبنائه بمختلف طوائفهم، تذكر الرواية كيف أنّ بطاركة ومطارنة القدس أصدروا بياناً دعَوا فيه إلى احترام دور العبادة في القدس، وأكّدوا أنّ المسجد الأقصى هو مكان عبادة مقدّس للمسلمين، ويجب احترام ذلك. كما قاموا بزيارة تضامنيّة للهيئة العلميّة الإسلاميّة، واجتمعوا مع عدد من رجالات الدين المسلمين.

وتأكيداً على هويّة القدس، أدرجت الرواية قيام كلّ من ندى ووردة بتأسيس روضة أطفال لحاجة القدس إلى رياض أطفال ومدارس وطنيّة تلتزم بالمنهاج الفلسطينيّ، الذي يحاربه الاحتلال الإسرائيلي، ويعمل جاهداً على فرض مناهجه المزوّرة للتّاريخ والمروّجة لروايتهم الصّهيونية التي تخدم أهدافهم الاحتلاليّة.167

بالرغم من أن الرواية قاربت حالة الترمل عند النساء في بعض جوانبها، إلا أنني كنت أتمنى لو توغلت أكثر في يوميات المرأة الأرملة وما يواجهها من صعوبات، مما قد يعزز عنصر التشويق والإثارة لدى القارىء فمثلا:

- لم نشهد مضايقات حسيّة إعترضت الأرملة في حياتها العملية، كحالات تحرش أو محاولة استغلال من قبل رب العمل أو الزملاء الذي يجعل الأرملة في وضع وظيفي غير مستقر ويضطرها للتنقل من عمل لآخر صوناً لكرامتها وعفّتها، بل ما رأيناه هو عكس ذلك تماما شهدنا استقرار وظيفي في حياة وردة وندى وأكثر من ذلك تقدماَ في العمل فوردة انتقلت من كونها مُدرسة لتصبح صاحبة روضة من رياض الأطفال بالاشتراك مع الأرملة الأخرى ندى التي بعد وفاة زوجها أكملت دراستها الجامعية.

- لم يتم التركيز على تمسك أهل المتوفي عودة بضرورة زواج أرملته من أخيه لضمان رعاية أيتامه، ولم نرَ على سبيل المثال تهديدهم لها بحضانة الأطفال إذا لم توافق لأنهم يرفضون أن يعيش اولادهم في كنف رجل غريب.

- لم تظهر الرواية بشكل صريح عزوف الرجال عن الارتباط بالمرأة الأرملة، بل أن المهندس سامر عاند رغبة أمه وأصرّ على الزواج بوردة، وأيضا عنان أبدى رغبته بالزواج من ندى.

- انتظار سامر لوردة سبع سنوات على أمل الارتباط بها فيه نوعا من المبالغة.وأيضا علاقة الصداقة التي ربطت الشاب الجامعي عنان بالمتهور المشاغب صخر قد تكون غير مقنعة.

وهذا يدفعنا للسؤال هل أنّ الأعمال الكتابيّة المشتركة تخضع لمعايير مختلفة عن الكتابة المنفردة، بمعنى هل الكتابة المشتركة تخضع لتسويات معيّنة تفرض على كلّ من الكاتبين التنازلَ ولو بشكل بسيط عن بعض قناعاته للتوصّل الى لغة مشتركة تجمعهما. ختاماً، نبارك للأديبَين الصديقَين الأستاذة ديما السّمان والشيخ جميل السّلحوت على نتاجهما المشترك.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنـان

في المثقف اليوم