قراءات نقدية

بلدُ العميان.. روايةٌ بين الحقيقةِ والعالمِ الافتراضي

يوحي للقارئ منذ الوهلة الأولى الى عنوان الكتاب او الرواية ان هنالك بعداً فلسفياً يتماهى مع العنوان، أو يتوارى خلف هذا العنوان بعداً درامياً مليء بالصراع الإنساني، أو كأن هنالك شيء يلامس القلب حال مطالعة العنوان، وهذا ما نجده في بعض الروايات او الكتب، ولكن في القليل منها.

تعتبر رواية بلد العميان للروائي البريطاني هربرت جورج ويلز الذي كتبها في عام 1904 هي واحدة من الروايات العالمية التي ظلت ترسم في الآفاق صدىً لا يزال يطفق على عالمنا السياسي والاجتماعي، والذي عُرف بكتاباته عن الخيال العلمي، ولا شك فأن روايته المشهورة (آلة الزمن) التي كتبها عام 1895، شكلت انعطافاً كبيراً في أدب الخيال العلمي حين صدورها.

إن جزءً من أسرار هذه الرواية، يسعى في النظر بين زوايا الانسان المخفية، التي تتصارع داخل الانسان في كل عصر وزمان، فتكون نتائج هذه الصراعات، ارهاصات تخرج لنا بتجربة إنسانية، هي من تراكم معرفي او نظري ليحدد شكل العالم الافتراضي، الذي ربما نعيشه في يوم ما، او كرؤية مستقبلية يحدد ملامحها المبدع في كتاباته، وإذا ما سرحنا في أغوار النص الروائي، لاكتشفنا في أبطالها شخصيات تماهي الواقع أو ما نعيشه اليوم في عصرنا الراهن.

إن رواية بلد العميان، التي ركز فيها جورج ويلز على عالم بطله (نيونز) الذي رماه قدره ان يقع بين مهاجرين تعرضوا الى طغيان الأسبان فهربوا منهم بحثاً عن الخلاص، إلا أنهم وخلال هروبهم ومسيرتهم الجماعية، تعرضوا الى انهيارات جبلية حجرية، مما عزلتهم عن عالم البشر، في واد عميق مجهول، في رؤية خيالية صنعها الكاتب الذي عرفناه في كتابته السابقة بأسلوبه المتقن في الخيال العلمي، ومن جراء ذلك، أصاب هؤلاء المهاجرين مرض وهو نوع من العمى ظلوا يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولأكثر من خمسة عشر جيل من الزمن، فيكتشف بطل الرواية (نيونز) فيما بعد إن هذه الأقوام غريبة الأطوار والعيش والتعامل مع طبيعة الحياة والتقاليد في كل تفاصيل حياتها، ولا يعرفون شيئاً عن نعمة البصر، وعندما يرميه القدر في العيش أو طلب الزواج منهم فيما بعد، وبين اقناعهم بالحياة وبهجتها، وإن هنالك شيء أسمه البصر او العين البشرية، إلا انه يفشل بأقناعهم فشلاً كبيراً.

لقد أراد هربرت جورج ويلز ان يمنح رؤيته العبقرية الى أهمية العقل وسموه في التعامل مع البشر مقارنة بالعين البشرية، لقد أراد ان يرمي بإسقاطاته على روايته، فهو يريد ان يقول عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً او ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى.

فهو يسعى لتكريم العقل البشري وقدسيته ليعطينا دلالة واسعة وواضحة بقدرته واهميته الذي من خلاله يفرق الانسان بين الخير والشر، والحقيقة والخيال، والخطأ والصواب،.. هنا يحاول الكاتب بتوظيف عالٍ الدقة والصياغة الفنية، ان يسقط أفكاره المستقاة من الكتب السماوية التوراة والانجيل والقرآن، عن الأقوام التي تعرضت الى غضب إلهي، ولكن بتحوير في بناء النص الروائي، وهنا يكمن التحوير التقني الدرامي بين أسطر البناء الروائي ليعطي بعداً لحبكة الصراع وذروته كلما تقدمنا في ثيمة النص.

فيمنح بطله (نيونز) في الرواية الذي عاش صراعاً داخلياً بين ان يظل على قناعته بقبول الواقع الذي يفرضه عليه بالتخلي عن بصره بين هؤلاء القوم من العميان، الذين ولدوا من سلالة من أجيال متعاقبة عُميان، أم ينصاع إليهم لما أرادوا منه بقلع عينيه مقابل الزواج من (مدينا ساروته) التي أحبها.

فالعمق الدلالي الذي يقتنصه الكاتب في شخصية الانسان الذي يعيش بين عالم غير طبيعي او غير مألوف وخارج عن قياسات الزمن، وعالمه الحقيقي الذي هو عاشه، إنما يسعى للوصول الى المعادل الموضوعي مع الحياة الحديثة التي يعيشها الانسان، فيعطي لنا صور مقاربة لما نصارعه نحن في حياتنا المعاصرة.

فالرواية تبحث بعمقها الفني والدراماتيكي عن أشياء تتشابه أو تكاد تتطابق مع ما يعيشه الفرد اليوم في مجتمعاتنا على كوكب هذه الأرض، لقد سعى جورج ويلز أن يغوص في رمزية ابطاله ويحاول ان يؤول الواقع الذي كان ينظر اليه نظرةً متشائمة، وهو الذي عاصر أكبر حربين عالميتين الأولى والثاني في تأريخنا المعاصر.

فإذا أردنا اسقاطها على واقعنا الاجتماعي، لنجدها تعبر عن ضعف الحق أمام الباطل، عندما لم يجد الحق من ينصره في عصرنا الراهن، وما تعيشه مجتمعاتنا اليوم من اضطرابات تفرض عليها بالإكراه كما هو الحال مع بطل رواية بلد العميان.

فهي رواية الفلسفة التي تبحث في صراع الحياة، وليس المشكلة بالعمى الذي يصيب العيون، إنما العمى الذي يصيب القلوب والنفوس، وبالتالي فهو نتيجة الجهل الاجتماعي الذي يتقبل الخطأ على أنه هو الصواب بعينه، أو عندما يجد الجهل الأرض الخصبة التي تمنحه النمو والانتشار السريع وتقبله العقول الجوفاء.

فالجهل هو من يقود للتيه بالمجتمعات، إذا ما تخلت عن عقولها وهي تجري وراء اللامعقول، لقد أراد الكاتب ان يبعث فكرة رائدة الى كل مجتمع جاهل ومتخلف وتسوده الفوضى والفساد السياسي، فضلا عن انتشار العنف والطائفية والقبلية فيه.

بلد العميان هو كل مجتمع يسوده الجهل والفوضى والفساد والتخلف والفقر والعنف والتعصب بسبب أفكار مدمرة وهدامة، ومُهيمنة عليه، أو دعوة تنويرية تواجه برفض وريبة وعنف.

إن الأسلوب الذي قدمه هربرت جورج ويلز في هذه الثنائية العالية بين العمى ونعمة البصر ومنحهما قوة أدبية في جسد الرواية، إنما لتعبر عن النزاع القيمي والثقافة الإنسانية، فالكاتب يخفي وراء النص الروائي بعداً آخر، ألا وهو ان الانسان الأبيض الذي يعنيه بالرجل الأوربي، هو منقذ البشرية على كوكب الأرض، وهو القادر بحكم تمكنه (كما يرسمه لنا الكاتب) من قدرات تتفوق على الجنس الآخر من البشر، وهو يستطيع التغلب على معظم الصعاب كما هو الحال في الرجل السوبرمان وغيره.

لقد لعب كتاب كثيرون على هذه اللعبة بتورية فنية، توزعت بين الرواية او القصة او الدراسات الفلسفية والإنسانية، بتوظيف قيم غربية، وبسط مفاهيم القدرة العقلية من الذكاء على بقية الشعوب الأخرى بدول العالم الثالث..

ورغم ما يقدمه الكتّاب بكل الفنون الإبداعية، لابد من الأخذ بعين الاعتبار، إن الفن والادب كثيرا ما يوازي في طروحاتهم بعداً فلسفياً يتوارى بين دفتي الرواية، لكن ما أراد هربرت ويلز أيضاً، ان يرمي على روايته ليقول: عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً أو ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى، فهي أسقاط على واقعنا الاجتماعي الذي يعيشه عالمنا المعاصر، فليس العمى عمى العين، إنما هو العمى عمى القلوب، وبالتالي يجعل الانسان جاهلاً فيضيع المجتمع حينذاك بجهله وفوضاه.

***

د. عصام البرّام

 

في المثقف اليوم