قراءات نقدية

الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لفولتير.. دراسة مقارنة (13)

على الرغم من أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) يُصنَّف، في أدبيَّات الثقافة العقديَّة، على أنَّه ملحِد، أو كان، على أقلِّ احتمال، شاكًّا غير متألِّهٍ، فإنَّ ما في قِصَّته "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "من تصوير الإيمانٍ بالقضاء والقَدَر، وبالقُوَّة الإلهيَّة الخارقة- التي تتحكَّم في مصائر البَشَر والأشياء، والتي كانت المِحْوَر الأساس للقِصَّة- يحمل إشاراتٍ تَشِيْ بحالٍ ذهنيَّةٍ مغايرةٍ لما عُرِف عن فِكْره واعتقاده.  وربما كان هذا بتأثُّرٍ بما اطَّلَع عليه من التراث الشرقي، ومنه قصص "ألف ليلة وليلة"، التي كثيرًا ما تتمركز حول هذا المِحْوَر.

ومثلما كان التشابه بين "ألف ليلة وليلة" وقِصَّة "صادق" في (فِكرة القَدَر)، كان التشابه بينهما في موضوعة (المرأة والعِشْق).  فقد كانت المرأة محرِّكًا للأحداث القصصيَّة في الليالي العربيَّة، وهي تلعب الدَّور نفسه في قِصَّة "صادق"؛ من حيث إنَّ النِّساء في النصَّين أكثر من الرِّجال، وأفعالهن أكبر شأنًا في الأحداث غالبًا، وهنَّ مِحورٌ يدور حوله الصِّراع، في أغلب الأحيان.  والنِّساء، في النصَّين معًا، منهنَّ المَلِكات والأميرات ومنهنَّ الإماء والجواري.

وكذا فإنَّ العِشق الذي تدور حوله معظم الليالي العَرَبيَّة، له المكانة نفسها في قِصَّة "صادق".  فالمرأة إمَّا عاشقة أو معشوقة.  والحُبُّ يأتي من أوَّل نظرة، كما حدث بين (صادق) والمَلِكة (أستارتيه)، فيما هو شبيهٌ بالعبارة كثيرة الترداد في الليالي العَرَبيَّة: "فنظرَ إليها نظرةً أعقبتْه ألف حسرة".  ليأتي، بعد شهقة الحُبِّ الأُولَى، الفِراقُ والأَلَم، الذي قد يتعدَّد ويتشعَّب، إلى أنْ يسنح اللِّقاءُ مرَّةً أخرى، مثلما في قِصَّة "قمر الزمان بن المَلِك شهرمان"، وغيرها من قصص الليالي. 

ومواقف الفِراق والرحيل متشاهبة هنا وهناك. مثل فِراق (صادق) أرضَ العَرَب إلى (سرنديب)، إذ جعل يقول في نفسه: ""وا حسرتاه!  أَيَجِب أنْ أُمعِن في السَّفَر حتى أجعل بين (أستارتيه) وبيني أبعد الآماد!  ولكن يجب أن أخدِم مَن أحسنوا إليَّ."  قال ذلك، ثمَّ بكَى، ثمَّ ارتحل." (1)

أضِف إلى ذاك تلك المبالغات المجنَّحة في وصف العواطف.  كقوله: "ومضَى هذا الهارب العظيم، حتى إذا بلغ تَلًّا مُشْرِفًا على (بابل)، التفتَ إلى قَصر المَلِكَة، ثمَّ أُغمِيَ عليه، ولم يُفِق من إغمائه إلَّا ليسفح الدمع ويَتَمنَّى الموت... ثمَّ صاح قائلًا: "ما حياة الناس إذن؟..."."(2)  فهذه الإغماءات ليست بفرنسيَّة خالصة، بل هي عربيَّةٌ مألوفةٌ في قصص الليالي العَرَبيَّة، كأنْ تقرأ في (الليلة 326): "لمَّا سمِعَ شِعر الجارية، صرخَ صرخةً عظيمة، وشَقَّ ما عليه من الثياب، وخَرَّ مغشيًّا عليه...".(3)  ومثلها في "صادق" قوله: "فلمَّا نُمِيَ إليه هذا الخبر، خَرَّ مغشيًّا عليه، وانتهى به الألم إلى حافَّة القبر..."(4)، في وصفٍ لما انتابه من وقْع الخبر عن زواج (أوركان) بـ(سمير).  ومثل هذا كثير.

ومن هذا القبيل المبالغةُ في وصف جمال المرأة، كأن يقول: "ولم يرَ الناس قَطُّ قَلبًا أشدَّ تأثُّرًا من قَلب (سمير)، ولا رأى الناس قَطُّ فـمًا أشدَّ سِحرًا، يُعْرِب عن شعورٍ ساحرٍ، بألفاظٍ من نارٍ، يُمليها الاعتراف بالجميل."(5)

ومن أوجه الشَّبَه بين "صادق" و"ألف ليلة وليلة"، في وصف المرأة، ذلك الوصف الحِسِّي وتشبيهاته الذي كتبه (فولتير) عن الشابَّة العَرَبيَّة (المُنَى)، مجسِّدًا جمالها أمام الكاهن الشيخ.(6) هذا إلى جانب اتِّخاذ الإغراء الجِنسي سلاحًا في بعض المواقف لمواجهة الأعداء، كما في احتيال (المُنَى) على رئيس الكهنة وأتْباعه، من أجل عفوهم عن (صادق).  وهو ما تنبثُّ نظائره في "ألف ليلة وليلة". 

وفي مقال الأسبوع المقبل نتتبَّع محاور أخرى تتوازى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة"، بالإضافة إلى علاقتها بقِصَّة "السندباد البحري".

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

....................

(1)  فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 81. 

(2)  م.ن، 55- 56.

(3)  (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 619.

(4)  فولتير، 18.  وكذا يُقارَن ما فيه، 103- 104، بـ"ألف ليلة وليلة"، 4: 598.

(5)  فولتير، 17.

(6)  يُنظَر: م.ن، 78- 79. 

 

في المثقف اليوم