قراءات نقدية

قراءة في رواية (ريحانة والآخر) لعبدالحميد صافي العاني

لهيب المكابدة في جسد ملتبس

أنقرة

من المدهش حقا ان يتصدى كاتب لمعضلة سايكولوجية شائكة و بلغة رصينة ووصف آسر وهو يجوس في دخيلة نفس معذبة مشحونة بالغضب والضنك والرفض لطبيعتها الفسيولوجية فيؤدي الكاتب دور الطبيب النفسي الذي يجتهد للنفاذ الى تلك الذات الموجوعة والثائرة ويعبر بعمق عن هواجسها ورغباتها ومشاعرها الدفينة بإقتدار مشهود.

فالكاتب والشاعر عبدالحميد صافي العاني في اخر كتاب روائي له والذي يحمل عنوان (ريحانة والآخر) المطبوع في القاهرة في العام 2019 تصدى لموضوع شائك متفرد قد يندر مثيله في المكتبة العراقية من خلال محاولته الجريئة للكشف عن أستار نفس مضطربة لفتاة إسمها (ريحانة) تنتمي فسلوجياً الى بني جنسها وكان يجب أن لا تكون كذلك، لكنها بسبب خلل عضوي ولادي في جهازها التناسلي وجدت نفسها في أتون ازدواجية مؤلمة بحيث يتعذر توصيفها بين الرجولة والأنوثة رغم إصرارها وبعناد غير مجدي على فرض ذكوريتها عبر سلوكها واحاسيسها الناضحة باليأس والمكابدة المريرة.

وريحانة وهي شخصية حقيقية عاصرها العاني (فتاة تجاوزت العشرين عاما من عمرها.. نحيفة ذات وجه طفولي، أطلت على الدنيا في غرفة شبه مظلمة بسبب انقطاع الكهرباء في خضم صرخات الأم نتيجة عسر الولادة فجاءت عليلة وحجمها صغير بحجم (قطة صغيرة) عاينتها القابلة فأكتشفت أنها ذات عيب خلقى فى موضعها التناسلي، فعاهدت الأم بعدم اذاعة السر حتى لأقرب الناس.) لكن الطب عجز فيما بعد في علاج الحالة وبقي العائق العضوي حائلا دون ممارستها الوظيفة الطبيعية كذكر، فإستحالت الى كائن إنساني فاقد النوع لا هو ذكر ولا هو انثى!

من هنا ومنذ إدراك ريحانة محنة حاضرها وغدها الغامض المفجع. نشب في داخلها صراع رهيب كان الوحش الضاري في اعماقها يفتت قدرتها علي الاحتمال، ويحيل ليلها الى كابوس محرق.

(هكذا هي..أو هي والآخر روحان في جسد.. رغبتان متصارعتان، متقاتلتان، جنسان متنافران.. الواحد يأنف الآخر.. ريحانة الأنثى وريحانة الذكر.. كل يريد تدمير الآخر.. ما أعجب هذا الجسد.. وما أقسى تلك الرغبة الجامحة كجواد بري لا يقوى أحد على تسييسه وامتطائه.. وما أعجب ذلك الشيء الرابض في أحشائها كذئب حاصره الجوع حد الاستغاثة والغثيان)

ويواصل العاني رصد محاولات ريحانة المضنية في محاولة إقناع الاسرة والبيئة المحيطة بها بتخطى مظهرها وسماتها الانثوية أوالانتماء الى عالم الذكور، إلا أن هذه الارادة جوبهت بالرفض التام لانعدام المعطيات العضوية في جسدها، وهي في سبيل تحقيق هذا الهدف المستحيل تحدت انوثتها المفروضة عليها وأشعلت صراعا سايكولوجيا زلزل كيانها داخليا على جبهتين، مع نفسها ومع المجتمع معاَ لإرضاخهما وإجبارهما على التعامل مع قناعتها الراسخة بغض النظر عن اعضائها الحيوية الملتبسة التي تخونها وتفتقر الى تحديد هويتها الذكورية ونوعها الانساني.

ويخوص العاني الى أعماق ريحانة ويلتقي مع المحللة النفسية الالمانية كارين هورني التي ارجعت مثل هذه الحالات إلى الصراع النفسي باعتباره ظاهرة ملازمة للإنسان وأن هذا الصراع يرجع إلى القلق الأساسي الذي يعاني منه بصورة دائمة ومستمرة نتيجة إحساسه بضعفه وعجزه عن مواجهة القوى الطبيعية والاجتماعية..

وتتوالى الاحداث والوقائع المثيرة والمتضاربة في حياة ريحانة.. ويسبر العاني غور هذه النفس الملتاعة سواء بتشريحها وكشف دوافعها العميقة او من خلال زجها في أتون مواقف تضج بالحرمان والشبق والتمرد على انوثتها.. فهناك تارة (ريم) الجارة المحرومة التي افلحت في غوايتها بعد اكتشافها بالغريزة وجود وحش ذكوري داخل ريحانة، وتارة اخرى صداقتها المتينة مع (نرجس) تلك الفتاة الجميلة ذات العينين اللوزيتين والقوام الممشوق والتي كانت الاثيرة لديها اثناء زمالتهما في الكلية ، فعشقتها بقوة وحاولت ان تبوح لها بلواعج قلبها المكلوم لكن نرجس تزوجت وهاجرت مع زوجها، وتارّة أخرى بعد تعينها وعملها في المكتبة العامة بعد تخرجها وسط دهشة العاملين فيها كون هويتها واوراقها الرسمية تشير الى أنها انسة في حين ان مظهرها الخارجي يشي بكونها ذكراََ بعد ان تزينت بزي الرجال وقصت شعرها وصارت تجلس وتدخن في المقاهي وتلج صالونات الحلاقة الرجالية وإختيار اسم ريحان لمناداتها، كل ذلك جاء امتدادا لواقعة إقحامها الغريب في الماضي اثناء عملها كصبي يتصيد الرجال في الشوارع ويجلبهم الى احدى النساء التي حولت دارها الى مرتع للباحثين عن المتعة !

ويتجلى كل هذا الدفق المتشنج ليرسم العاني سمات شخصية مأزومة تتقاذفها عواطفها المتناقضة وتدفعها إلى ردود أفعال متباينة تصل إلى حد الغرابة أحيانا. فحالما تعود نرجس من رحلة الهجرة بعد فقدان زوجها في حادث، تلتقي بها ريحانة بالصدفة وتتلقفها بفرح طاغ ولا تدع الفرصة الذهبية تضيع من بين يديها وهي منهارة تبكي بحرقة لما ال إليه حالها، فحاولت (أن تمسك بيد نرجس الرقيقة الأنامل ثم تراجعت في اللحظة الأخيرة وسألتها بتوسل بعد أن قرأت الأمان فى عينيها: نرجس.. بحق كل غالٍ عندك.. وبعد أن استمعتِ إلى كل ما سمعت أجيبيني بصراحة عن سؤال ظل يداعب روحي الحيرى العطشى..هل تقبلين بي زوجا لك ؟!)

(هل جننت؟ أأنت مخبولة؟ أنت بحاجة إلى طبيب نفساني لمعاينتك، ابتعدي عني.. ابتعدي!

أمُسكت ريحانة بيد نرجس لتهدئتها وإسكاتها. لكنها دفعتها بقوة فهوى جسد ريحانة النحيل على الأرض مخذولاً وعيناها الغائرتان بالألم والحرج تطاردان نرجس التي هرولت كالمجنونة متوارية عن أنظار ريحانة الكسيرة.. فيما دمعة حائرة قد طفرت وأفلتت من محجرها..!!)

الخلاص الدراماتيكي

ويركن العاني الى تصعيد وتائر الاحداث الى نهاياتها القصوى باسلوب سلس ومدهش يتسم بالمهارة والدفق والعنفوان، وفي بحث الذات المكدودة لريحانة عن راحة مفقودة وأمن ضائع، تلج غرفتها وتتناول علبة السجائر لترتشف سيجارة بإشتهاء غريب، إلا أن باب الغرفة إرتج وفُتح على مصراعيه فإذا بها أمام شقيقها الأكبر الذي (إندفع إليها كثور هائج وهو يرسل صفعة إلى وجهها ارتدّت لها جدران الغرفة ولطمة أخرى أقسى وأعنف!! والدم يتسرب دفاقاً من أنفها والتبغ تمازج مع الدم وتناثرا سوية فوق السرير.. أيتها الساقطة.. أتدخنين..؟؟ صفعة أخرى.. ولا زال الدم ينبجس من فمها راعفاً فوق السجادة القديمة‏. -أنا رجل! رجل.. رجل.. رجل!!… الصفعات تترى وتتهافت على وجهها سراعاً ولم ينقذها من تلك اليدين إلا صرخات الأم :(كف يدك عن هذه المسكينة. -  دعيه يثبت رجولته..ها نحن رجل لرجل! تجيب ريحانة بتحدٍ وصراخ مجنون تضج به جدران الغرفة).

في خضم هذا المشهد المدوي تختار ريحانه قدرها المحتوم.. فتتجاهل دقات امها الباب مرات ومرات.. آنذاك يناديها شقيقها بحزم وتحد : ريحانة!!.. ريحانة !! افتحي الباب وإلا سأحطم رأسك ولم تجب ريحانة.. (فدفع الباب بقوة فانفتح محدثاً ضجةً عالية، كانت الغرفة معتمة إلا من نور مندلق من حوش الدار الذي أضاء شيئا نحيفا متأرجحاً ومتدلياً بحبل من قماش.. إنه جسدها.. جسد ريحانة القتيل والذي كان يدور مع دوران المروحة ! صراخ الأم وعويلها مع ابنتيها أنساهن الجسد المدلى الذي كان يرتدي ثوبا نسائيا فضفاضاً ويعتلي الرأس شعرٌ صناعي طويل…).

قد يرى الكثيرون الان ان هذه المشكلة لم تعد معضلة حقيقية في المجتمعات الغربية الحديثة، بل وأصبح المثليون يتمتعون في العديد من الدول بحماية قانونية، لكن العاني تصدى في هذه الرواية لقضية مختلفة تماما. ففيها تناول موضوعا من المواضيع المهمة في مجال التحليل النفسي وما يترتب عليه من اشكالات النقص في التكوين الجسدي والجنسي والذي يشعل في داخل صاحبه صراعا ضاريا وشعورا عارما بالنقص مقارنة بالاشخاص العاديين فضلا عن ان ظاهرة زواج المثليين ذاتها مرفوضة في مجتمعاتنا العربية او الدينية المحافظة والتي تحكمها الشرائع السماوية والمصدات الاجتماعية الصارمة. وكان انهاء ازمة ريحانة  بتلك النهاية المأساوية والتي أسدل بها العاني الستار على هذه الملحمة الإنسانية الدامية منطقيا، ورغم بعض المآخذ على بعض احداث الرواية مثل تخفي ريحانة بهيئة صبي في ماخور أو عرض الزواج المستحيل على صديقتها، إلا أنها لا تقلل من قيمة الرواية الريادية كونها اضافة نوعية مهمة، وانجاز ابداعي لحالة نادرة تناولت موضوعا فريدا يساهم في إثراء المكتبة العراقية التي تفتقر لمثل هذه المعالجات الجادة في مجال الصراع والجنس الملتبس وتداعياته النفسية الموجعة على حياة الإنسان.

***

محمد حسين الداغستاني

في المثقف اليوم