قراءات نقدية

فيوض التجلي الإلهي في شعر عبدالله عباس

شاعر غزير الإنتاج، له ثمانية وعشرون كتابا في الشعر والسياسة والصحافة والمذكرات والدراسات الأدبية باللغتين العربية والكردية، وكأني اكتشفه للمرة الاولى وأنا أتنقل بين نصوص مجموعته الشعرية (قصائدي) التي هي من إصدارات مكتبة زيان في السليمانية (٢٠٢٢).. مجموعة تعج بالصور والرؤى المتقدة، وتحتشد الرموز بين سطَورها الناضحة بالمفردات الصوفية أوالملتصقة بالارض وكأننا نجوس في عالم مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والرهط الصوفي .. مخيلة حية ونابضة بالعشق الإلهي، وبالبحث عن الذات الانسانية وأسرار الوجود الفاني، إنه الشاعر والصحفي عبدالله عباس:

وإذا تحركتِ تتوجه عينيكِ .. الى عيني

فأن وجودي في روحكِ

فقط أنت تفهمينه: کیف هب؟

كيف تروين عطشه؟

كيف، انت وانا كلينا،

روح واحدة وسماء واحدة وغيم واحد،

ومطر واحد؟

هبة للعشق من الله ....

ورغم إنني أقرأ للشاعر منذ سنوات مديدة إلاّ انني لم اتوقف عند تداعياته الصوفية، ربما لأنه كشف عن نهجه في وقت متأخر، لكن الإقرار بدرايته الفذة بتوظيف الفكرة والمفردة تبرهن على باعه الطويل في هذا المضمار، فالحلم الذي يقود الى الأعلى والإنصهار في أتون العشق، وإنغمار الكون بالنور الإلهي، وقلبه الذي يستحيل الى فراشة لا تكل عن الدوران حول النار المتقدة حد الإحتراق، واليقين الذي لا يتزعزع ويتقد في اعماقه، كلها تشكل لب حواسه لرؤية العالم من حوله، وإكتشاف الاسرار الربانية في الكون في خضم الحياة والموت، والعقل والروح والقلب، وهي بلا شك تجربة مغايرة إلاّ أنها تلهم شعره بدلالات صوفية غنية كالخوف والطمأنينة والصخب والسكون والإنس والحق والجمال، دلالات معجونة بلهفة الوصل مع الحبيبة الأثيرة على الفؤاد:

روحك قنديل مشتعل َ..

عندما تلتقي بحبيبة قلبك

لا تسمح بغير نور الهدوء أن يقترب من إحساسك..

لا تنتظر من أحد أن يحمل هدوء حزنك.

عندما تشتعل روحك تصبح في حالة الذكر،

تنفذ كل حواجز الظلام..

ويقع الكون كله

ويمضي الشاعر في تجليه نحو السماء بعزم لا يلين. انه لا يبالي بتبعات هذا الاختيار في التنصل من إضطراب عالمه المادي، مرتقيا سلم السمو، ومتجرعاَ سطوة الوجع الرهيب لكي يتحول الحلم الى حقيقة مطلقة:

أما كنت انت صاحب الحلم

لبناء مدرج من بيتك باتجاه مصدرالشمس؟

تاتي الايام وتمر

يغطيك ظل حلمك

ويتحول مستقيم الدرج للصعود

إلى مسمار مغروس في قلبك. !!

استلهام آيات القران الكريم

ولا ينفرد عبدالله عباس في إقتباس صياغات من القران الكريم بإعتباره رافداَ مهماَ من روافد الشعر العربي الحديث والمعاصر، فقبله ومعه لا يكاد يخلو خطاب شعري حداثي من استعارة الأيات القرانية أو مضامين دينية مختلفة في مسعى لتوظيف لغة جديدة غير مستهلكة في متن القصيدة، كذلك قدرة هذا الخطاب الفريد على تجسيد المعاناة والاحساس الشفيف وتضمينه معانٍ رفيعة من الوحي الالهي. فمن سورة الكهف يقتبس شاعرنا من الآية الكريمة (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين..). منفتحاَ على عالم جديد يتوائَم مع معطيات الطبيعة، وينبض بالعطاء الإنساني والنخوة والبذل النبيل:

واتبع السبب..

باب مفتوح على مدى الكون

ورغبة، عاصفة إلهية

من الروح ... الى الروح

ليختلط بالثلج و المطر ونسمة الريح

ثم أتبع السبب ! ..

وفي المسار ذاته يورد الشاعرالآية الكريمة (وخلق الجان من مارج من نار) مستلهما من الشعلة الساطعة ذات اللهب المشع إبتلاء إنسان بما يحيط به من النفاق الاجتماعي، ويعمق مشاعر الحزن في داخله:

يبكي العشاق، في هذا الزمن الرديء

المختفي في ثوب فضاض ملون كذباً

بالعشق العصري ! ...

وخلفه يتحرك صديق مخلوق

(من مارج من نار)

ولكن مآل هذا الاختبار العسير سيتمخض عن مراجعة الذات واليقين بحتمية التغيير وبالتبشير بجمال الطبيعة والاسى لما ينتظرالمتخلفين عن ركب العشق المقدس:

دون ارادة منا سنعود مرة اخرى

الى ظلال الشجرة المباركة

ونجلس على العشب الاخضر

كيفما يتغير الزمن وباي اتجاه

سيحدث هذا…

اسفا للذين خسروا السماء مبكراً

دون ان يتذوقوا العشق

ولا يكتفِ الشاعر بنبوءة العودة الى ظلال الشجرة المباركة فحسب وإنما يستلهم من عبير استذكار صورة أمه.. وتجلياتها العفوية المضمخة بالتوق الى السمو والرفعة الروحانية، أمه تلك المرأة التي (كانت نسمة جبلية منعشة، وضوءا تنير ليالي قريتها النائية شهربازار وتنوء تحت جَلَد الصبرالمرّ وتتضرع لله ان يهب ابنها أسرار العارفين والدراويش):

وفي صبر جميل ومر …

كانت أخت ايوب !

كانت صوفية قد ملأ قلبها نورالله

وقبل الذهاب إلى الفناء ... كان دعاءها من (المولى)

(أن لاترى موتك .. وتسمع شهرتك)

وترجو ان يهب لك لغة خاصة

كأنها تعلم…

سيأتي يوم تكون أيضاً درويشاَ للهموم

مضيئا بالحب المبارك.

في الرحلة العسيرة والشائكة في عالم الزهد واليقين، تنتشلنا نصوص المجموعة من ادران الارض وإفرازاتها المظلمة الى عالم السماء المشرق حيث فيوض الرجاء والرضا الرباني والأمان والسكينة المفتقدة، متوائمة مع مقولة شاعر داغستان الخالد رسول حمزاتوف التي تزين مقدمتها بأن (الشعراء ليسوا طيورا مهاجرة، والشعر دون التربة الأم شجرة بلا جذور، وطائر بلا عش) وهذا ما سعى اليه شاعرنا الكبير عبدالله عباس .

كلما حدقت بشغف الى وجهك

تتساقط علامات الشيخوخة من وجهي ! ..

وتعود روحي الى حديقة خضراء

العاشق الصادق هو من

(يواجه الله بقلب سليم).

***

محمد حسين الداغستاني

في المثقف اليوم