قراءات نقدية

تعدد الأفكار وسوداوية الواقع في رواية "فضاء ضيق" للكاتب علي لفته سعيد

"فضاء ضيق" الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع/2019،  رواية الأحلام الموءودة في حضرة الحكايات التي لم تكتمل في بيوت بلا حنين أسفل عتباتها لأرواح تحتضر على تقاطعات اليأس والموت. 

تُعد هذه الرواية عملا فنيا بأبعاد تاريخية سياسية واجتماعية. حيث قدمت لنا صورة حقيقية للواقع في العراق.وما لفتني فيها قلة الأحداث وتعدد الأفكار وسط واقع سوداوي. وهذا أمر طبيعي، إذا أن ما حدث في العراق الذي احتضن على مدار عقود أحداثا ساخنة من حروب وغيرها أدى بأفراده إلى الشعور بالتهميش والطبقية وتضيق الأفق بالإضافة إلى اهتزاز بعض الثوابت. ولأن الأديب جزء من المجتمع فقد جاءت فضاء ضيق للكاتب علي لفته لتمثل عالما يضيق فيه فضاء التنفس، فالهواء آسن خانق.إنه عالم الفوضى حيث البقاء فيه للأقوى أما الضعيف فإنه منغمس في رذائله للحصول على ما يقوّم به الجسد. ولا قواعد تضبط غرائز ساكنيه، تختلف طرق السرقة وتتعدد، السياسة، الدين، السلطة.

التقى في هذا الفضاء الضيق أصدقاء بأفكار متضاربة.فمحسن يحمل نظرة نيتشة وعلاء يحمل فكرا شوبنهاريا وحليم يتمسك بالدين أما مجتبى فيرفض السلطة الأبوية ويركل العمامة. لكنهم يعيشون معا التهميش الطبقي، يرون السلطة التي تمارسها الدولة بأجهزتها القمعية المسؤول عن تفشي كل ما هو غير أخلاقي.

وما بين المقدس والمدنس والمقدنس وكآبة الواقع وبؤسه تدور الأحداث في قتامة مفرطة في فضاء ضيق. ففي ص8 على لسان السارد (ماذا ستنفعنا الإنتخابات والوجوه ذات الوجوه والحرب ذات الحرب والأرامل يزداد عددهن والأيتام بلا مأوى؟ وربما هو جلد الذات كما تسميها، لكنها الحقيقة التي تبحث عن معادلها في تحقيق العدالة، والسؤال الذي لا يحقق المصالحة مع الذات، وكأن البلاد لا تستيقظ إلا على المتناقض المتسرب من بوابات تحكّم العقول والمهيمنة على مخارج الأفكار).

إن النزعة السوداوية التي أطرت فضاء ضيق جاءت نتيجة واقع مأزوم أصبحت فيه الشخصية تعاني من مختلف الجهات، سواء على المستوى النفسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي لدرجة أن مفهوم الوطن تغير في ذهنها.ويتضح هذا فيما جاء على لسان السارد عن مجتبى الذي حرم الورثة بسبب رفضه ارتداء العمامة ص37( لا يشعر بضرورة النسب أة الانتماء إلى المدينة فهذه الأشياء بحسب رأيه لا تعطيه الحرية ولا تمنحه العدالة في اختيارته).

وأبطال فضاء ضيق ضحايا الواقع،  وأكثر الضحايا كانت المرأة التي ضاق عليها هذا الفضاء بسبب الحروب وترملها في سن صغيرة تلجأ إلى الجمعيات تجر خلفها أيتامها تبحث عن كفيل يؤمن لقمة شحيحة لهم، ففي ص53 (الأرملة التي تغطي حاجتها بالصمت تبحث عمن يمد يده ليمنح عدالته لتعيش بعد أن يئست من إيجاد من يمنحها العيش تحت سقف غرفة دون ذلة). وإن تعسر عليها ذلك وقعت ضحية شهوة الذكور لتتحول إلى بغي ساقطة.ويتضح هذا ص 96(فثمة ما هو يستغل العوز للحصول على أنوثة صارخة إذا ما تمكن من صيدها). ومن خلال ذلك يفضح علي لفته تلك التشكلات الأيديولوجية التي كونها العقل الذكوري عن المرأة وأنها مجرد جسد يفرغ فيه نزواته وشهواته بطريقة حيوانية. فنجد الكاتب يغوص بنا على طريقة نيتشة فيزعزع ما هو مقدس ويفكك ما هو أخلاقي عن طريق شخصية محسن التائه ما بين القبور والأرامل والأيتام، تضمد جراحه كلمات تملأها الأحلام،  تمنحه لقاء مع سلوى التي خانت زوجها جريح الحرب التي قطعت ذكورته بقصف أمريكي. سلوى السراب الذي تلاشى كما تلاشى الوطن وذهب دون رجعة.

محسن الذي يظل طيلة صفحات العمل يبحث عن سلوى ويتقصى أخبارها.محسن الجنوبي الذي لم يبقى أحد له سوى طيف أمه ففي ص84 (كنت تنظر إلى النجوم، إلى شئ أبيض يقترب منك قادما من عمق السماء، يقترب منك يمسد على رأسك..). محسن المغترب داخل وطنه الملئ بالخوف والاضطراب، يعيش مأزق الذات الذي لم يجد سبيلا للخروج منه إلا حينما التقى بسلوى ووقع في حبها، فصنع له هذا الحب عالما ساعده على طرح الأسئلة، هذه الأسئلة المطروحة تثير الكثير من الإشكالات المتعلقة بالهوية ورحلة البحث عن الذات الضائعة، تتحرك داخل فضاء تتصارع فيه مجموعة من القيم تعكر حياة الشخصية وتجعلها تشعر بالعجز وعدم القدرة على فهم ما يجري.ويتضح هذا على لسان السارد وهو يخاطب محسن ص19-20 (منذ أن غادرتها هاربا وأنت بلا سبيل أو هدف... لأنك تعيش روحانيات متناقضة، وأدرك عدم قدرتك على أن تكون باتجاه واحد). إنه الضياع الذي يؤدي بالذات إلى التشتت والفتك بالهوية. 

وحمدية التي يتقصى محسن أخبار سلوى منها، حمدية التي تعرضت في طفولتها إلى قمع بطريقة سادية عند تعرضها للتحرش الجسدي، ص175 (تقول لك تعودت على سماع كلام الجنس منذ كان عمرها خمس سنين..وتعودت قرص أصابع من تتسول منهم في ذراعيها وفخذيها وبخاصرتيها ووصلت مؤخرتها وأسفل بطنها حيث ما تصل الأصابع.. ولم يكن أمامها إلا الرضوخ، فالتفكير منصب على كم ستحصل). فأي سوداوية أكثر من ذلك؟ ما الذي دفعحمدية لتمارس البغاء والسقوط في الرذيلة مع من يدفع أكثر في سن كهذه غير الجوع؟ ما الذي دفعها لممارسة الجنس مع متسول قذر في حفرة داخل مقبرة ثم يتناوب بقية أصدقاؤه عليها؟ من المسؤول؟.

بلد تقتل مفكريها ومثقفيها بهدف القضاء على الفكرة، وإلا لم كانت ثلاث عشرة رصاصة التي أنهت حياة علاء صديق محسن والذي أنهى الكاتب روايته بها مع حكاية لم تكتمل باختفاء سلوى..فمن هي سلوى بالنسبة للكاتب؟ وماذا تمثل؟ 

فضاء ضيق للكاتب علي لفته جمعت حكاية شعب عاش البؤس والفقر والموت والضياع .شعب يبحث عن وطن عصفت به الأزمات ونهشته العصابات التي تقاتل باسم الدين. ولقد أبدعت شخصات الكاتب في تمثيل الشعب العراقي الذي أنهكته الحروب المتتالية. وعلينا أن نعترف كقراء بأن هذه الرواية تحمل شهادة صادقة عن زمن الخراب وتشوه المكان وتهميش الإنسان وطمس الهوية والسبب بشاعة الواقع.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم