قراءات نقدية

مزهر حسن الكعبي شاعر عراقي يعانق آلهة الشعر بروح بابلية

حين يراقص الشاعر قلمه يمارس كل طقوس البوح، فتتحول الكلمات إلى ترانيم في معبد مقدس يقف عشاق الحرف امام آلهة الشعر يرتلونها ترتيلا، لا فرق بين الشاعر وبين المنشد الروحي (المرنم) وهو في معبده يستسلم لموسيقى روحية تحني لها ملائكة الشعر، عيونهم معلقة نحو المعبود، ذلك ما لمسناه في قصائد الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي العروبيُّ صاحب القلم الذهبي، فقد جمع الشاعر مزهر حسن الكعبي بين الإدارة والإبداع، وكلاهما تؤديان دورا جليا في النهوض بالأمم، فالتسيير إبداع وفن وثقافة أيضا، ولعل من لم يقرأ شعره يجهله خاصة من خارج العراق، فهو إلى جانب منصبه المهني كمدير لمركز الدّراسات للكليَّة التّربويّة المفتوحة ثم وزارة التربية، فهو ناشط جمعوي في العراق وفي الوطني العربي، حامل شهادة ماجستير لغة عربية، وحاليا يحضر لشهادة الدكتوراه في المجال نفسه، ولم تلهيه دراساته العليا عن المشاركة في الهيئات التي لها علاقة بالإبداع، حيث تم اختياره لترأس لجنة التحكيم لمسابقة " أبابيل" الدّولية للشّعر العمودي وكان في عضوية اللجنة شعراء عرب من مصر ولبنان.

استطاع الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي أن يجلس على عرش الإبداع في قلاع تقيّم الحرف والمبدع مهما كانت جنسيته، لأنها تعبر عن روح طاهرة تحلق في سماوات هذا الكون، ما مكنه من أن يكوّن له رصيدا أدبيا كلها دواوين مثل: (ديوان صلوات لعينيها، ديوان حين يستنطقون الصَّمت، ديوان براعم من صهيل الشمس، ديوان أزاهير الزّغاريد، ثم ديوان تنهدات ثُريا الفلق، ديوان حبل على رقبة المطر)، كما كانت له مشاركات في أعمال أدبية جماعية مثل ديوان النخلة لا تنحني للريح، وديوان في رحاب كربلاء السلسلة الأدبيّة وقصائد بصرية من الأدب البصري الحديث وبحوث منشورة في مجلات عربية مُحَكَّمَة، والمُطَّلِعِ على كتابات مزهر حسن الكعبي يقف على أن الرجل ليس شاعرا فحسب، بل هو لغوي مُجَدِّدٌ، حيث دأب على البحث في الظّواهر اللغويّة في استعمال الفعل الأصَم والسلم الصوتي العربي قديما وحديثا كما نقرأ في (حَبَّ.. حُب َّ.. وأحَب َّ) في الاستعمال اللغوي وله دراسات في الأفعال المُضَعَّفَة في القرآن الكريم.

وقد حظيت مؤلفاته إعجاب القارئ العربي من المحيط إلى الخليج، فكان أكثر اهتماما بما يبدع، ومن خلال ما كتبه النقاد عنه نجد أن مزهر حسن الكعبي ليس من الذين ينزوون على أنفسهم، رغم أنه قليل الكلام ويغلب عليه طابع التأمل، فهو أكثر انفتاحا على الآخر وعلى العالم، لا يجد صعوبة في ان يفصح عن ذاته كما قال عنه الأديب ناظم المناصير، فقد عمل على صقل قلمه وفق ما يقتضيه الذوق والجمال، فالشاعر الذي لا يجعل من شعره موسيقى فهو يفتقر الى الذوق، فالجمال والروح الإبداعية نلمسها في شعره، مما قرأناه من أعمال مزهر حسن الكعبي يلاحظ أن ما يكتبه يشبه " الهايكو" فمثلا يقول في إحدى أعماله سمّاها ناقوسيّات من النّثر الفنّي

حين َ يداهمُني الظّمأ ْ لابد ّ أن ْ أعبرَ إلى ضفَة ٍ أنت ِ فيها.. فهاتي يدَيك

حين َ يَلُف ُّ بُردتي الظّلام ْ لابد ّ أن أفترش َ الحَصَى بنور ِ شمسِك

حين َ تَستَغلِق ُ روحي بالحنين، لابدّ أن أنقل َ فيضَها، إلى أكُف ِ الملائكة ِ وأتوسّد زَغَب َ جناحيك

حين َ تدور ُ الأرض ُ خارج َ المسار ْ لابد ّ أن ْ أبحث َ في وجهك الوضئ عن ملاذي َ اللذيذ ْ

حين َ تغادر ُ العصافير ُ أعشاشها، أمد ّ يدي إلى صغارها بالدّفء، فيلثُم ُ الزّغَب ُ المبتل ّ بالحنان ِ أناملي

حين تغتلي الأرض ُ بالطّوفان.. لابدّ من الفرار إلى زورقك ِ والضّفة العاشقة

حين تغادر ُ عيناك ِ قبو َ فكري أشعر ُ بظلام ٍ مخيف

كوني معي كي لا تحتطب َ الدهشة ُ أصابع يديك ِ وقودا ً لدفء ِ حياتي

لا مكان للموت سعيدا ً إلّا بين يديك وناقوس ِ قلبك

خُذي حَذَرا ً مِن البرق ِ ولا تحترسي مني، فأنت ِ.. في قلبي متى أشاء

لابد ّ أن أضع قدمي َّ على مواضع ِ قدميك ِ تَبرّكا ً.. وموافاة

.. لا أُحس ّ بالجوع ِ في الزّمن الصدئ " فليس َ بالخبز وحده يحيا الإنسان

غريب ٌ ألّا تعبري معي وكلانا ينشد ُ البحث َ عن فضاء يعج ّ، بالضّباب ِ والمطر ْ وشمس ٍ لاتغيب

لماذا تُتْرَك ُ العصافير ُ تغادر ُ أعشاشها وتموت..؟

في ليلة ٍ.. تَوَحّد َ وجهك ِ ونور السّماء، فصلّيت ُ لله ِ ركعتين

لأنّنا لا نولَد ُ مرّتين ِ ولا نموت ُ ميتَتين ِ.. ودِدت ُ أن ْ نظل ّ معا ً.. متلاصقَين

في إبريق محبتك ْ أستنشق ُ عطر َ حياتي، وفي نجوم السّماء ِ أرى عينيك ِ توقظاني

بالأمس ِ.. أغرَقَني الحنين ْ، فالتفَفت ُ بعطر صوتك ِ، وَفَيْضِ حَناني ونمْت ُ احْلُمُ بكَفّك ِ توقِظُني للرّحيل

في لَيالي الشتاءْ أَتَعَرَى اِلّا مِنْ حُبكِ الَّذِي يَكُونُ مَلاذِي َ الوَحيد

أَن َّ الماء َ بلا لون ٍ، ولا طعم ٍ، ولا رائحه، أُحب ّ السّباحة َ فيه ِ، مُعْتَنِقا ً صفاءك ِ وجَسَدا ً بلا ألوان

لا يستَوْطِنُ جَوْفَ الليلِ اِلّا حُبُّك ِ، وجنوني

غادرت ُ مُعتَمرا ً، وعدت ُ مُعتَمِرا ً وبين َ جوانحي.. حبّك ِ في الرّحلَتَين ِ أنيسي

و نحن نبحر مع هذه الكلمات ينتابنا شعور وكأننا طيور النورس تراقص الأمواج وهي تردد نشيد البحر، فنحن نلمس في كلمات مزهر حسن الكعبي الجمال والرقة والعذوبة كما نلمس فيه شغفه، فالشاعر يجب ان يكون إنسانا قبل كل شيئ، عاشقا لكل شيئ، يرى الحياة بلون وردي، لا يوجد فيها سواد، يعانق الطبيعة، يرقص كعصفور يغني على فنن شجرة في يوم ربيعي، هكذا هم الشعراء لا يتكلمون لكن حين يكتبون تقرأ في قصائدهم كلاما كبيرا، يكبرنا، لأن لغتهم تختلف عن لغة الناس العاديين، فقد نجده يتناجي بين فلكه ودائرته وهو يعيد رحيق الماضي، هو ما لمسناه في هذه "الناقوسيات"، فعلا كانت كلمات تشبه إلى حد ما ناقوسا يدق في عالم النسيان، وهو بذلك يستحق تكريما خاصا ومميزا، للإشارة أن الشاعر مزهر حسن الكعبي تم تكريمه بجائزة "أديب النخيل" التي تقيمها رابطة شط للثقافة والإعلام في طبعتها الأولى بالتعاون مع إنجاز بمحافظة البصرة وذلك بعد فوزه بالمركز الأول لعام 2022، كما حصل على عدة شهادات منها شهادة خاصة من طرف منظمة السلام والثقافة الدولية، وينتظر الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي صدور دواوينه الجديدة وبحوث لغوية وكتب، لتكون إضافة إلى المكتبة العراقية وتكون في خدمة القارئ والباحث العربي، ما يمكن اقتراحه هو أن تترجم أعمال هذا الشاعر إلى لغات أجنبية حتى يقف الشعراء الأجانب على الشعر العراقي (البابلي) في أبعاده الحضارية.

يذكر أن مزهر حسن الكعبي فاز بالمركز الأول لجائزة "أديب النخيل" لعام 2022 في نسختها الأولى

***

ورقة قدمتها علجية عيش من الجزائر

 

في المثقف اليوم