قراءات نقدية

حضور الجنس وغياب الحب.. في رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره)

نمهّد بالقول ان الرواية العراقيّة لم تعرف عملا روائيّا انشغل بالقتلة والعاهرات والمثلييّن والغلمان واللواطييّن ومتعاطي المخدّرات ومربي طيور المهارشة.. كما هو الحال في رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره، للروائي وحيد غانم، الصادرة عن منشورات دار الجمل - 2016). بمعنى انها صادمة في موضوعها وليس فتحا روائيا، فهناك الكثير من الروايات الاجتماعيّة، المختلفة ادبيا، قد خاضت في الكل العراقيّ ولم يكن فيها العالم الجواني لهذه الشريحة المنبوذة سوى عارضا يستدعيه المشهد. خصلة الرواية هذه قد تعطي الانطباع بأنها "فضائحية" تميل إلى الشهرة وتسرد حكايات بعيدة عن الواقع وصراعاته الاجتماعيّة، ولكن مع تقدم السرد نحو عالم المهمشين والشاذين نجد أنفسنا امام رواية متماسكة، سلسة وخالية من الاغواء، تزامن موضوعها مع غروب شبح الديكتاتوريّة ودخول الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقيّة وهروب الاف السجناء من القتلة والشواذ الذين اجتاحوا المدن وأطلقوا العنان لرغباتهم المكبوتة، اشارت فيها ممارساتهم البشعة إلى ان خلافهم مع المجتمع وليس مع السلطة الحاكمة.

احداث الرواية تجري في أمكنة كئيبة؛ سجنٌ للمجرمين وبيتٌ للدعارة وسوقٌ لبيع الطيور احالت ممارسات زبائنه القبيحة إلى مَعانٍ اضعفت مرجعيته التجاريّة وصوّرته مكانا مكروها. المؤلف يصف المكان لكنه يركز على العالم الداخلي لشخوصه وهم يتجولون بملابسهم الرثة في سوق الجمعة ويتابعون حفلات مهارشة الديوك ويتنافسون على صبيان حلوين. شخوص لهم مواض صاخبة ساهمت في رسم ملامحهم لاحقا ووضعتهم خارج الدائرة "الأخلاقيّة" للمجتمع، بقيت فيها سكاكينهم قرب أيديهم تنزلق بخفة ودربة للفتك بمن يعترض سبيلهم لأتفه الأسباب. اشارت التلقائيّة واللغة المتدفقة في بناء المشاهد الروائيّة إلى جرأة المؤلف ومعرفته العميقة بأمزجة شخوصه وبمتعهم المنفلتة وبمتعهم المقيدة شكليّا وبتلك المتع المنحطة والمركونة في جارور الذاكّرة الاجتماعيّة. وهي كلها، المتع، منتجات محليّة لمجتمع محافظ ومنافق يستعين على مصائبه بالكتمان لم يعمل الكاتب سوى على ابرازها والانشغال بها. وغني عن القول ان الرواية التي تعبر بصدق عن واقع معاش وتتناول بدراية موضوعاته الشاذة والمنحرفة هي ليست بالضرورة رواية منحطة، فالانحطاط جذوره في المجتمع وليس عند الفرد او عند الكاتب الذي التقط الشخصيات والظواهر الاجتماعيّة. والقارئ يستطيع رؤية ان المؤلف في تناوله لهذه الثيمات لم يدنس بها معلما او مقدسا، وتوقف طويلا عند الممارسات اللاأخلاقية لوجوه المجتمع الدينيّة والأمنيّة باعتبارها جزء فاعلا في الخراب المجتمعيّ؛ توقف عند استغلال العقيد (عبود زماطة) لموقعه الأمنيّ، وعند الدور التخريبي لرجل الدين (سيد علي) وعند الانفلات المجتمعيّ في غياب مؤسّسات الدولة بعد الاحتلال..

تميزت رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) بتنوّع شخوص الهامش وتناقضهم وازدواجيتهم، كما هو شأن العالم السفلي. فيها السرد تنقّل بين زمنين؛ الماضي عبر تقنية الاسترجاع وتذكّر البدايات الصعبة للشخوص، والحاضر الذي يكشف عن استمرار مأزقهم في بلد مضطرب ومحتل، وفي الزمنين نجد العنف القسوة والفظاظة هم الذين يحركون الاحداث. الشخوص هم العنصر الأهم في الرواية، الشخصية المحورية "عباس الأعور" قاتل منحط ينتمي لفترة صعود الديكتاتوريّة بالعراق، يتسم بملامح باردة وبهياج داخلي مفرط، لم يبتسم أو تسقط دمعة حزن على خده طوال صفحات الرواية، فغياب العواطف مسألة جوهرية في رسم صورة شخص مهووس بالقتل والاغتصاب. "عباس الأعور" بعد ان غادر بيت امه الممرضة في سن السادسة عشرة بات السجن والاسواق وأحياء الفقر هي أمكنته المفضّلة، وبعد سقوط النظام السلطوي وخسارته وظيفته كقاتل محترف في الاجهزة الأمنيّة، بات يمارس العنف في أي مكان وضد أي شخص؛ سياسي، فنان، غجرية، عابر سبيل، تاجر في السوق، عجوز عمياء. شخصية "عباس الأعور" العنيفة تجعل كل الذين من حوله موضوعا للشك او البطش أو الجنس، وضرباته السريعة والجروح الصغيرة القاتلة التي يتركها على أجساد ضحاياه تشير إلى طبيعته الغادرة وإلى قدرته على قتل حتى مَن يمارس الجنس معهم. الجنس بطبيعته حالة إنسانيّة، حيوانيّة، فيها الكثير من الحب والقسوة والقلق، ولكنه في رواية "الحُلْو الهارب إلى مصيره" نجده أكثر غموضا من ممارسات بهيمية اخرى. وكان كلما حوصر "عباس الاعور" وشعر بالخطر تهوش شياطين شبقه الجنسي، ثم يهيم على نواصي الشوارع لإفراغ توتره السادي في اول جسد يصادفه دون إحساس بالجمال والانوثة؛ يفرغ توتره في زوجته المهملة " حنّون" أو في سجين كان معه في الزنزانة أو في العاهرة المترهلة التي احتمت به او يفكر بإفراغه في ابنتها المراهقة أو في أبن جارتها الصغير السن. وهو "عباس الأعور" مع كل تجربة منحطة يعود بقوة مضاعفة وبشبق مستطير لممارسة الجنس والانتقال من فراش إلى آخر ومن دبر إلى فرج. غالبا ما تصاحب هذا الشبق شهوة القتل بعد ان ينتهي من افراغ حاجته، دون إحساس بالذنب او شعور بمن يفرغ فيهم حاجته، كما فعلها مع أم صديقه "ستار ماما" (لم يفكر طويلا، لثم عنقها بتروٍ ناهلا لذته من حرارتها وخوفها، ثم سحب مسدسه الكاتم ونسف دماغها.. اهتز جسمها بعنف تحته وشعر بتقلص لحمها وانقباضه على عضوه وكأن روحها هي التي تشبثت به، ارتجفت تحته ثم خمدت أنفاسها صــ 32). إن الحاجة المنفلتة للإفراغ الجنسي عند "عباس الأعور" مرتبطة بالعنف أكثر منها بالجنس، فلقد ساهمت تجربته القديمة، كقاتل محترف في أجهزة الأمن السْريّة، في ان يعيش اسير نزواته الآنية والسيطرة على ضحاياه عبر ممارسات مرعبة وصادمة لا يمكن فيها معرفة المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال. ومع افتراض توهج وتشاؤم مخيّلة المؤلف في رصد الاحداث فإن الرواية لا تخلو من ظل ممارسات حدثت في الواقع، في مدن غير البصرة وبغداد، وبالتالي فإن وضع "عباس الأعور" في خانة البهيمية وإطلاق الاحكام الجاهزة عليه ليست إجابة مقنعة عن أسئلة ما برحت تشغل عقل القارئ: هل "عباس الأعور" نموذج انتقالي من مرحلة الديكتاتوريّة السياسيّة إلى مرحلة الفوضى السياسيّة التي وهنت فيها الأفكار والقيم؟ أم هو اختلال في شخصيته ضارب في عمق المجتمع العراقيّ؟ أم أن التغييب المجتمعي لهذه الشريحة هو الذي أفلت جنونها وأمدّها بسلوكيات قبيحة؟

الرواية، ومنذ صفحتها الأولى ودخول "مهنّا يسر" الحمّام للعناية بجسده الخنثوي، تمهّد لسياق جنسي سيجتاح الرواية حتى صفحاتها الأخيرة، وسيرتبط ذلك على الدوام بالخوف والإكراه والفظاظة. يتصاعد فيه السرد أحيانا إلى مصاف التحليل النفسي في وصف عمليات القتل والاغتصاب والاختطاف، إذ لا يمكن تناول هذا النوع من الموضوعات دون دراسة الخلفيّات النفسيّة والاجتماعيّة للشخوص. "مهنّا يسر" الواقع في ورطة جسده المائع، حيث تنتشر انوثته على جسده ومشيته وعطره، هو نتاج عائلة بصرية هانئة، تعرض مبكرا لعملية اغتصاب أدت إلى انجرافه نحو ميول منحرفة رافقته طيلة حياته. مخيّلته الرخوة صارت تهرب بعيدا عن واقعه المزري، فهو لا يريد الاقتناع بان زمنه قد ولى بعد عبوره سن الاربعين وتراجع عدد الفحول الذين كانوا يتزاحمون من حوله. وكان كلما ذهب للحمّام وزاد من كمية المساحيق وفترات التدليك، زاد حزنه وتلفته لماضي جسده الناعم. وعنوان الرواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) يلمّح إلى ذلك. رغم غرابة شخوص الرواية إلاّ ان سياق الاحداث استمر يسير مع الشخوص، حافظت فيه اللغة على طراوتها وعنفها، والاحداث على انسيابها الصادم من دون القفز على الواقع أو اغراء القارئ بتغيير مستقبليّ أفضل لشخوص الرواية المنبوذين، كما عودتنا الروايات الاجتماعيّة. نلمسه في خلو السجناء تماما من الأمل بحياة محترمة بعد هروبهم من السجن، وفي استمرار "عباس الأعور" على ممارسة العنف حتى السطر الأخير من الرواية، وفي تأثر البنت الصغيرة بسلوك أمها العاهرة، وفي تحوّل المثليّ "مهنّا يسر" إلى مهنة الدعارة وتعاطي المخدرات والاحتماء بالشقاوات، بعد عبوره سن الأربعين واصفرار اسنانه.

رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) التي رويت بالضمير الثالث هي رواية الواقع وضده، رواية الصراع على النفوذ والمال والجنس، الأمر الذي استدعى زيادة جرعة العنف للتعبير عن طبيعة الحراك الداخلي للعالم السفلي؛ عنف في اللغة والافعال والاسماء (جبار طلقة، قاسم الشرير، واثق كبسلة، عباس الأعور). صفحاتها الــ (375) تشي بفحولة طاغية، فيها الكثير من الممارسات الجنسيّة الخالية من الحب والعواطف، إلى جانب عمليات اغتصاب في السجن لا يمكن هضمها، إلاّ انّنا لا يمكننا القول انها رواية قضيبية، فالمؤلف دأب على الاشارة إلى رموز حسيّة وشهوانيّة، وضحلة أحيانا، من دون الذهاب بعيدا في الوصف أو في تسمية الأعضاء بأسمائها. ففي السجن يتذكر "عباس الأعور" كيف أحبّ (نيّل الفتية الوسخين واخافتهم بسلاحه وشاربيه وتحشيش النارگيله، تمتع بجلودهم الرطبة ورائحة النتانة التي حرم منها صــ 34) وفي رسمه صورة "مهنّا يسر" المثليّ في عزلته يقول (في عزلته كان يعشق ملاسة بشرته فلا يرى سوى شعيرات شقر في ابطيه وعانته، وهي الشعيرات التي أحبها عشاقه.. كان يملّس ذراعيه وصدره، بمتعة قطة تلعق نفسها صــ68) في الحقيقة صفحات الرواية مليئة بمشاهد عاصفة رويت بلغة ليست مفخمة لكنها صريحة في نقل الواقع المر للشارع العراقيّ، لغة راوحت بين اللهجة الشعبية واللغة الوسطى، بين الشعر والنثر، واتسمت بشذرات فلسفية تلمع احيانا بين السطور (أحيانا لا يتعرف الموت على أحد حتى تنبعث إشارات خاطئة منه صــ11) لكن المؤلف لا يفتعل العمق الفلسفيّ، فشخوصه تمتعوا بوعي انسجم مع عالمهم السفلي (عباس الأعور يرى ان المرأة يجب اذلالها من أول يوم في حين الصبي الحلو يحتاج وقتا أطول لترويضه صــ104)

ينبغي الإشارة هنا إلى تمييز سلوكي بين شخوص العالم السفلي؛ بين مَنْ يلهون بإيذاء الآخرين وبين مَنْ يقنعون بمصيرهم المأساوي. فالعاهرة والمغنية العجوز و "مهنا" المخنث والسجين صغير السن.. هم جزء من هذا العالم الجواني لكنهم غير ميالين للعنف، ولذلك نجدهم أكثر واقعية، يستظلون بحماية الاقوياء ويستمدون حضورهم من لحظات ضعفهم الحميمة. لقد نجح المؤلف في توزيع القلق على شخوص الرواية بحياد حسب موقعهم وقوتهم، كل منهم أخذنا إلى نوع مختلف من الكبت والقسوة، إلاّ ان النجاح الفني الأكثر وضوحا في الرواية يبقى هو التأمل العميق في التفاصيل الصغيرة لحياة شريحة تعاني فقدان الحب والأمل بحياة أفضل. غاب فيها المثقف نهائيا عن صفحات الرواية، وحضر السياسيّ بصورة متقطعة نلمحها فقط في شخصية "صبري العياش" الخياط الوسيم واليساري صاحب المكتبة الصغيرة والأفكار "المجرمة" والذي سيختفي في ظروف غامضة وإلى الأبد. ومع غياب المثقف والسياسي تحتشد الرواية بكائنات فرعية هي جزء من المنظومة الاجتماعيّة، في اسفلها "ستار ماما" الذي عمل في أجهزة الامن السْريّة والذي ينقلب صوته الغليظ إلى حشرجة نابحه لحظة تنفيذه عمليات الاغتيال. "سيد علي" الذي يدير حفلة مهارشة الديوك بكوفية حالت زرقتها تحوّل بعد الاحتلال إلى قائدٍ سياسيّ ودينيّ تحت أمرته العشرات من المسلّحين والعاطلين. العقيد "عبود زماطه" الذي تتيح خفارات الليل له العبث مع النساء الموقوفات وابتزاز أي شخص تطأ قدمه المكتب. وهناك "جبار طلقة، قاسم الشرير، واثق كبسلة.. وغيرهم ممن تضيق في عالمهم المضطرب مساحات الحب والنعومة والجاذبية لصالح العهر والاغواء، وتساوقا مع ذلك غابت عن الرواية مفردات الحب والجمال والتمتع بوجه المرأة وتضاريسها لتحل محلها مفردات الاغتصاب والقتل (كأنما الشهوة والموت متلازمان دوما في عاصمة الليالي القديمةصــ142)

نختم مقالنا بختم الرواية الذي لم يكن متوقعا، فطوال السرد لم يكن "عباس الأعور" اعورا، لا أحد يعرف كيف وأين اكتسب اللقب، ربما اكتسبه من ديكه الهراتي الذي فقد عينه في مهارشة، ولكن الغجرية العمياء التي غرزت اصابعها بعينه واطفأتها، في نهاية الرواية، هي التي أعطت اللقب حضوره المادي. كانت الغجرية قد شمّت رائحته في واحدة من جولات تسكعه (ورأته بعينها العتيقة المليئة بالحزن والغضب والثأر، هو، هو نفسه، صاحب السيف الثقيل قاتل بنتها ورفيقاتها الغجريّات.. ربما احست بلحظة فرح تعادل عمرها عندما امسكت بالسياف القديم وخدشت وجهه بأظافرها، فقأت عينه، تحت انظار جمهور متعطش للحياة والموت والانتقام واللذة صــ375).

***

نصير عواد

في المثقف اليوم