قراءات نقدية

الهاوية المتنقلة في رواية "رائحة الوقت" للعراقي هاشم مطر

تعمل رواية "رائحة الوقت" لهاشم مطر على جبهتين.

الأولى حرب العراق مع إيران.

والثانية الغليان السياسي وتصفية المعارضة في بلد عربي غير محدد.

مما يعني أن نصف أوراق الرواية مفتوحة ونصفها الآخر سري أو مكتوم.

يدير الأزمة العلنية شخصية مريم. وهي ابنة لعائلة رحلها النظام إلى إيران قسرا. ويمثل المحور الثاني شخصيات كثيرة ومتشابهة تشترك بثقافة عالية وبتجارب أوروبية (مثل الدراسة في أوروبا وغالبا يتخللها الحب المحرم وغير العفيف)، بالإضافة إلى مشاكل مع الأمن. وأشهر هؤلاء أمير مسلم وهو أستاذ جامعي معارض يهرب بهوية مزورة لينجو من الموت.

ومن الواضح أن الرواية تعنى أساسا بالهم السياسي. حتى أنها تستهل المشاهد المبكرة بصور للمقاومة المسلحة التي تأخذ شكل مبادرة فردية. وهذا لا يدل على فهم لآلية المقاومة بقدر ما يعبر عن عاطفة مضادة ومناوئة للنظام. ويمكن أن تفسر ذلك إذا نظرت لحالة سامر - يقتل في مواجهة بطولية مع كتيبة للجيش قرب الحدود. فهو أقرب ما يكون لنموذج ثائر مولود قبل الأوان (كما يقول فائق المحمد عن "فهد" حيدر حيدر). والتشابه والتحويل تفرضه ظروف العمل. فبطل حيدر ينتفض ضد رجال النظام في المرتفعات، بينما ينتفض سامر ضدهم في منطقة منخفضة (ما يسمى باللغة الاستراتيجية الثغور - بؤر الاحتكاك مع العدو ص62). ويترافق ذلك مع اهتمام فيزيائي بالمرأة (التي تعبر غالبا عن تضاريس وجغرافيا وطنية). هذا عدا المواقف الارتجالية التي يحرضها سلوك تدميري وانتحاري. وتذكرني هذه العنتريات بصورة الفدائي التي أدمن عليها الشارع العربي بعد نكبة 1948 وحتى نكسة 1967. ثم خمودها ليحتل الصورة القائد المخلص. ولكن أكثر ما يلفت النظر هو عدم ارتهان الرواية لأي أسلوب معروف. حتى أنها تبنت شخصية "مركزية" هي مريم وغلفتها بحبكة "لامركزية". وقد سبقه لذلك سعد محمد رحيم في واحدة من أفضل أعماله وهي "فسحة للجنون". غير أنه آزر بطله المركزي بأداتين. 1- تعطيل الوعي أو إدراك الأشياء بطريقة من فوق الواقع (من خلال الجنون). 2- استبدال الكائنات الاجتماعية بكائنات طبيعية. فقد عاش في أحضان الطبيعة مثل روبنسون كروزو آخر. بمعنى أنه قتل المفهوم القديم للمجتمع وأحل محله مفهوما بديلا للطبيعة. ويمكن أن نقول إنه اكتشف موت النظام - الاجتماعي وبنفس الوقت ولادة الإنسان المطبوع. - إنسان تنتجه الطبيعة وليس المعرفة. إو إنسان يدرك نفسه بالخبرة.

وليس هذا هو اتجاه هاشم مطر. فقد فضل أن يضع ماضيه وحاضره في سلة واحدة. وبضوء ذلك كانت شخصياته غير عضوية ومشرذمة. ولم تخرج من وعي تلقائي بنفسها. وقد شاركت الظروف في صياغة وعيها المتحول. وإذا كان بطل رحيم بأبعاد ملحمية حقيقية مثل بطل دانييل ديفو فإن شخصيات مطر (ومن ضمنها مريم) ذات مواصفات تراجيدية. فقد استوعب بطل رحيم الطبيعة الحاضنة له مع أنها غابوية، ورفضها أبطال مطر - وبالإجماع. وهذا ينطبق على المرتفعات - رمز صخرة سيزيف، والمجتمع الافتراسي رمز العائلة الأوديبية المنافسة. وفي الحالتين أصبحوا مثل شخصيات أدب "الطريق"، لا يمكنهم الركون لمكان ثابت، كما لو أن الهرب عقيدة اختيارية فرضتها الظروف، فقد سكنت مريم في فندق -محطة مؤقتة، وفي بلد دون اسم - مكان مجهول.

وأثرت هذه الرؤية على بنية الرواية. فقد كان القفز بين المشاهد واضحا، وإذا افترضنا (باستعمال القرائن) أن نقطة بداية الأحداث ببن 1979 -1980 فهذا يعني أن المشاهد التالية كانت تجري بعد 1996 (والدليل على ذلك اقتناء مريم وأمير ووليد للموبايل وتبادل الرسائل القصيرة بينهم ص46- واستعمال المقدم طارق للحاسوب ص105). وهو ما يترك فجوة تبلغ أكثر من 15 عاما بين مشاهد الرواية. وإن كان لا بد من إضفاء معنى زمان تاريخي على مفهوم الوقت الذي ورد في العنوان يجب أن يكون بمعنى حالة أو معايشة روحية لذات الكاتب في شخصياته (ما يسميه باختين كل البطل الزماني). بلغة أوضح لم تقدم الرواية لنا نفسها موضوعيا كما فعل فؤاد التكرلي في "الرجع البعيد" على سبيل المثال وإنما خلطت أوراق الكاتب مع أوراق شخصياته - انظر مثلا ما ذكره عن رواية "والفجر هادئ هنا" لبوريس فاسيليف، مع أنها رواية عسكرية وبعيدة كل البعد عن أوجاع ودرب آلام مريم. ثم ماذكره عن "الأمير الصغير" لسانت دو أكزبري وهي رواية كونية عن حدود الإدراك لمشكلة الوجود اللامتناهي. ص 76.

وإن تفكير مريم بفاسيليف وأكزوبري بوقت واحد دليل على أن شخصيتها مجزأة وأن وعيها تأملي وغير إجرائي. وهو ما يضفي على كل أفعالها إدراكا جماليا. ويمكن لأي قارئ أن يلاحظ التواطؤ غير المتعمد بين جغرافيا المكان وخطاب الرواية. في الثاني فراغات وفي الأول خسوف وانهيارات. ثم يضيف الراوي وربما انقطاعات ص 76. وكأنه يؤكد أن طبيعة الذاكرة مرايا مهشمة، وترى بها الشيء الواحد من عدة زوايا ووجهات نظر.

ويمكن أن نعمم ذلك على شخصية سمية الضعيفة والطامعة بالمجد. لكن الصراع بين الأخلاق وأحلام المستقبل يأخذ طابعا ميلودراميا بشر به قبل نصف قرن إحسان عبد القدوس في الرواية ونزار قباني في الشعر في مجموعة أعمال ركزت على مشكلتين.

الأولى الطبيعة الذكورية للسلطة في المجتمع العربي، والنظر للمرأة وكأنها سلعة معروضة في السوق. وعوضا عن أن تتطور الرواية باتجاه وطني يكشف اللعبة السياسية والخطر الوجودي الذي تواجهه شعوب المنطقة، وبالتحديد شعوب المثلث الشرقي: روسيا والصين والشرق الأوسط، تتحول لهجاء الأنظمة المستبدة (ولدي اعتقاد شبه مؤكد أنها تقصد بلاد الشام). وبالتدريج تدخل الرواية في مسائل شديدة الحساسية كعلاقات القرابة (الدم والنسب) والروابط العرقية (ويعزف على هذا الوتر عدة مرات و في أمكنة متقابلة ومتعاكسة: أمام الضابط في المكتب الأمني، وأمام مريم وصديقتها في جلسة مخملية ص144).

وهو ما يرجح كفة ما يسميه جورج طرابيشي بالفيتامينات الشرقية التي تحول الصراع على السلطة من المؤسسة إلى غرف النوم. وتستعيض عن الكرسي والمكتب بالسرير وفرج المرأة. أو بلغة أوضح تجعل الخلاف خارج المؤسسة وضمن مربع الغرائز، وتخفض رتبة العاطفة من الرغبة المحرمة إلى الاغتصاب.

ويترافق ذلك مع حبكة تحاول جهدها تقليم أظافر الأب. فوالد مريم يسقط في الهوة أثناء الترحيل، ومعه تسقط وجوه كل الآباء. لكن تلتقي بهم مريم لاحقا في عدة مواضع بأسماء وصفات اجتماعية متعددة. وتذكر الرواية في إحدى المناسبات أن هؤلاء الآباء الصغار والوسيمين ينظرون إليها كطيف لرؤيا أو حلم يقظة. ص 190. وهو ما يرشح كل الواقع ليكون كليا، تنمحي فيه الحدود بين المادة والطاقة، أو لإلغاء الواقع الفعلي واستبداله بواقع احتمالي. أو كما تقول بلسانها: إحساس يعصى على التصنيف. ص 190. والعصيان هنا يدل على التمنع وليس التمرد، والتمني وليس المبادرة.

ولذلك يغلب علي الجميع صفة الانتحال وسلوك الاستعراض والتحرش. ليتحول في مىحلة تالية لدى الأم الضعيفة إلى طقس اقتصادي يحركه دافع واحد وهو الخوف.

ولذلك تختار الرواية للأم عدة رموز أو استعارات.

الأولى هي الأرض. وتسميها الرواية الوطن الأم (ويدل على مسقط رأسها) والبلد الأم أو الثاني (مكان إقامتها المؤقت).

الثانية هي الخيمة. وهي وطن بديل ضعيف، ولا يقدم أي وعد بحل نهائي. وربما تشبه مغارة الساحرة العجوز التي تحتجز الصغار المشردين لحين وقت التضحية بهم.

الاستعارة الثالثة والأخيرة تعتمد على أسلوب التحويل ويمثلها كامل الزوج الشرعي الذي تختاره أمها. وسرعان ما يتخلى عنها ويعود لنسائه الدانمركيات.

ولا شك أن الرواية تضع على الطاولة ورقتين. أبيض وأسود. أو شرق وغرب. الشرق بفرض على سكانه التغريب (من الترحال تحت مظلة وهمية ومزيفة تحاول أن تعيد تركيب العقل الغربي بأدوات محلية وهو ما يؤدي لتشكيل نوية صلبة تذكرنا بكل بؤر التوتر في التاريخ ابتداء من الكونتونات وانتهاء بالغيتو) . والغرب الذي يستعمل عدة أقنعة وألسن ولكنها تعبر عن مفهوم واحد لمعنى الغواية أو الإكراه (مبدأ السعادة المستحيلة أو إشباع اللذة الفرويدي - نفس المبدأ الذي خرجت من معطفه الرواية العربية - ومثلما كان العربي المذكر الموهوم بعضلاته وأمجاد ماضيه الميت والآفل يتهالك على الملذات في "نهم" لشكيب الجابري حتى يكتشف عجزه بمرآته الذاتية والخاصة، يكرر كامل في "رائحة الوقت" نفس السيناريو ويدخل في لعبة صد وجفاء لا تليق إلا بالغواني حتى يرى نفسه بمرآة الآخر ويسقط على شكل إله عاجز ومقصر و أناني وفاسد - ونائب للأم الضعيفة والمستهترة). وبالنهاية تقترح الرواية أن الأب هو الملاذ الوحيد لبناته. وهو الحامي الأخير لهن من الواقع الفاسد ومن الأم التي لعبت دور العذول وعرضت بناتها لأهوال التشرد (تسميه الرواية الوحدة والترحال والسفر إلى المجهول) ص195.

***

د. صالح الرزوق

...................

* صدرت الرواية في مطلع عام 2023 عن دار العالي في بغداد. 436ص.

 

 

في المثقف اليوم