قراءات نقدية

جمعة عبد الله: الحالة الكابوسية التي مر بها العراق بعد الاحتلال

في المجموعة القصصية (كابوس في لوحة) للكاتب ضياء الخالدي

بعد الاحتلال طفحت على سطح الواقع طفيليات هجينة، وخلقت أزمة اجتماعية وسيكولوجية، أثرت بشكل سلبي على بنية المجتمع، وأدت الى تغيير وجه الحياة والواقع اليومي، عمقت الشرخ الاجتماعي في اوجه الاشكال السريالية الغرائبية، في الانفلات الأمني والسلاح المنتشر بيد الجماعات والعصابات المسلحة من أجل الاستحواذ على النفوذ والمال.

المجموعة القصصية (كابوس في لوحة) تؤرخ لاصعب فترة زمنية عصيبة وحرجة مر بها العراق أيام الرعب الارهاب الدموي، في المعاناة المتشظية التي تطايرت نيرانها، واحرقت الاخضر واليابس، وأصبح مصير الانسان في مهب الريح. فقد تميزت أحداث السرد القصصي، في الإيغال بالعمق في الصراعات الداخلية والخارجية في الأزمات اليومية في هذه الفترة الخطيرة في عمر العراق السياسي والاجتماعي، وفي رصد الظواهر الجديدة في الحياة اليومية، في لغة سردية متمكنة في التناول والطرح في الاتجاه الواقعية الجديدة، وفي لغة مرهفة تشد القارئ الى المتابعة الحالة الدراماتيكية في الواقع اليومي، من خلال عشر قصص التي احتوتها المجموعة القصصية، وهي بمثابة عشر لوحات كابوسية في مجريات الأحداث اليومية، عبر أحداث متفرقة، وجدت صداها وانعكاساتها في سياق الأحداث الفعلية، التي تجرع علقمها الإنسان العراقي بشكل يومي، من خلال الارهاب الدموي وانتشار عصابات الجريمة واللصوصية دون رادع أو رقيب، هذه المتغيرات احدثت شرخاً عميقاً في بنية المجتمع، مما جعلت المواطن يعاني الإحباط والهزيمة، وهذا يدل على غياب دور الدولة والقانون والنظام. لنأخذ بعض العينات من اللوحات الكابوسية في المجموعة القصصية.

1- قصة: رسائل الليل

معضلة أزمة السكن تفاحلت وتضخمت في العهد الجديد، في انتشار البيوت العشوائية في أراضي الدولة المهجورة، بما فيها المقابر القديمة والمعسكرات المهجورة، أصبحت مأوى سكني للشرائح الفقيرة والمعدومة، في السكن في البيوت المتهالكة والمتداعية للسقوط ، يلعب بها الريح وخاصة في الليل، تدخل من شقوق النوافذ والجدران والابواب، وتصدر اصوات مزعجة في ضجيجها، اضافة الى نباح الكلاب، مما يثقل الحياة بالمعاناة والحزن على رب العائلة، يتصور بأن الضجيج والصخب يرن في أذنيه وحده، لا يسمعه الآخرين، هذه هي الحالة الواقعية للاحياء العشوائية. اضافة انها تستقبل زائرين غير مرغوب ومرحب بهم، من المجنون و الشحاذ والمتسول والعجوز المسنة والشيخ المسن، ومن هب ودب حتى زيارة الاشباح، مما يشكل مصدر إزعاج، كأنهم في زيارة للقبور، ويحذرون الساكنين بأن هذه البيوت مسكونة بالأشباح تتجول بحرية داخلها. لذلك عليهم هجرها قبل وقوع المحذور.

2 - قصة: عالم مقلوب

من الواقع السريالي القائم فعلاً، يناقض العقل والمنطق. هل يعقل رجل أمن يخاف من اللصوص ويهرب منهم هو في حالة خوف ورعب، ويركض هنا وهناك، يفتش عن مخبئ ينقذه منهم، ووجد ضالته في باب مفتوح ودلف الى حديقة الدار واختبئ فيها، ولكن ضبطته طفلة من البيت، تلعثم بوجودها، وهو يحاول ان يضبط اعصابه واتزانه امامها وقال لها (- اللصوص يبحثون عني، كانوا في الزقاق قبل قليل) ص24، وعرف بهويته بأنه شرطي ورجل أمن، هذه الغرابة بدلاً من رجل الشرطة أو الامن المفروض هو الذي يقوم بدور مطاردة اللصوص، لا العكس تماماً. فقالت الطفلة في براءتها (- هل أنت جبان؟) و (لماذا لا تمسكهم أذن؟ لا تملك مسدساً، صحيح؟) ص26. وحين ابتعدوا اللصوص عن المكان تنفس الصعداء وخرج من حديقة البيت، والطفلة تراقبه وتحدق في مؤخرته الملطخة بوحل ساقية الحديقة.

3 - قصة: كابوس في لوحة

وهي تحمل عنوان المجموعة القصصية. دلف الى داخل كوخ صغير مهجور. وجال نظره في الداخل، وجد كل الأشياء من حاجيات البيت مرمية مبعثرة ومتناثرة، ولكنه فوجئ بصوت اقدام تضرب الأرض في إيقاع مرتب ومنتظم، ليقف أمام رجل عجوز طاعن في السن وفي شعره ولحيته البيضاء. حاول زرع قسمات ابتسامة على ملامح وجهه، رأى الرجل الطاعن في السن، يرتدي ثوباً قصيراً بالكاد يغطي عورته، وبالوان فاقعة غير متناسقة، ظنه مجنوناً في هيئته الغريبة، كأنه عائد من القرون الوسطى، ورأى الناس يدورون في حلقات منتظمة على أصوات الإيقاع ورنينها المرتب. فقال الرجل المسن (- سترسم المكان، ألست رساماً؟

- نعم، كلا، رسمت كثيراً !

- خذ قطعة القماش وجسد ملامحنا بدقة، واياك ان تنسى تقطيبة حزن واحدة) ص42. وناله لونين فقط ليرسم بهما، وهما اللون الاسود، الذي يدل على حالة الحزن والدموع والبكاء، واللون الأحمر، وهو يدل على سفك الدماء نتيجة الارهاب الدموي والطائفي،والرجل المسن ذوب الثوب القصير، العائد من القرون الوسطى، هي حالة العراقي بكل تفاصيلها بالكمال والتمام.

4 - قصة: حبيبتي أماني

اصبحت التفجيرات الارهابية التي تطال الناس الابرياء في الأماكن المزدحمة. في الأسواق والمحلات العامة والمقاهي وتجمعات الناس في الارصفة المكتظة بالمارة، حالة مألوفة من الظواهر الجديدة. شاهد سيارة زرقاء اللون واقفة بين السوبر ماركت و المقهى المزدحم بالناس، ماهي إلا ثواني حتى دوى الانفجار في المكان وتطايرت أشلاء الضحايا الى مسافات بعيدة، كأننا امام محرقة الشواء البشري من الانفجار الدموي. هذه حالة بغداد المأساوية، وهو يتجول في شوارع بغداد ومعالمها البارزة، وجدها تلبس ثوب الحداد والشحوب والفوضى، في الانفلات الأمني، وانتشار المسلحين الذين توزعوا على شوارع بغداد ومناطقها.

5 - قصة: الوصول الى شارع أبي نؤاس.

أصبحت لعبة السلاح، اللعبة المفضلة حتى لصبيان بعمر العاشرة والرابعة عشرة، يخرجون من ثكناتهم العسكرية، بضجيجهم وهم يحملون المسدسات، بدلاً من ان يخرجون من المدارس محملين بالكتب المدرسية. وظيفتهم القتل والسلب والنهب ورعب الناس. يستغلون غياب دور الدولة والقانون والنظام. يقتنصون صيدا تهم البشرية بعد منتصف الليل، وغامر وخرج من فندقه في شارع ابي نؤاس، ليتجول في شوارع بغداد ليلاً، التي كانت تعج بالحركة حتى الصباح، ووقع في مصيدة الصبيان المسلحين.

(- تريد الموت؟

- لا.

- تريد العيش؟

- اكيد، من أنتم؟

- مسلحون؟) ص102.

تيقن بأن الموت بات يلوح فوقه حتماً، بهذه المجازفة الرعناء، الخروج من غرفة الفندق بعد منتصف الليل، كأنه يتذكر ماضي شارع ابي نؤاس الذي كان حدائقه تعج بالمارة حتى الصباح، يتسامرون على السمك المسكوف والنيران تتراقص أمامه، وتتطاير الأحلام مع كؤوس الويسكي والعرق المحلي. لكن بغداد خلعت الماضي الجميل ولبست ثوب الانفلات الامني وانتشار الجماعات المسلحة، حتى الصبيان والأطفال جندوهم على تدريب السلاح. تنفس الصعداء حينما اطلقوا الصبية سراحه ونجى من الموت المجاني، لكن المصيبة الثانية المعوقة كيف الوصول الى غرفة الفندق في شارع أبي نؤاس؟!

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

في المثقف اليوم