قراءات نقدية

حسني التهامي: تاريخ الهايكو

"كل يوم هو رحلة، والرحلة ذاتها وطن"

"ماتسو باشو" (Matsuo Basho)

الهايكو شكل شعري ياباني غير مقفى، يتكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيا (5/7/5)، ترجع نشأته الأولى إلى القرن الثاني عشر  (1127م) كجزء افتتاحي من شعر "الرنجا"[1] الذي كان يتألف من مائة وصلة، يتناوب على كتابتها مجموعة من الشعراء. اشتق الهايكو من "الهايكاي  haikai))، المقطع الأول للرنجا؛ وهو عبارة عن شكل فكاهي والمقطع الثاني، الهوكو (hokku) وهو المقطع الأخير للرنجا. في القرن السادس عشر أصبح الهوكو فنا شعريا قائما بذاته، وظل يحمل نفس الاسم حتى بداية القرن التاسع عشر حين بدأ الشاعر والناقد "ماسوكا شيكي" (Masoka Shiki 1867-1920)  حركة الإصلاح فى الهوكو وأطلق عليه مُسمى الهايكو.

يرجع الفضل للشاعر "ماتسو باشو Matsuo Bashō 1644- 1694) في الارتقاء بالهوكو - الذي كان يغلب عليه روح الدعابة - إلى نصوص تأملية عميقة تتناول تفاصيل العالم الطبيعي المدهش. كان لتعاليم الزن [2]، أثر كبير في تجربة باشو الشعرية وصفاء لغته؛ ذلك ما جعل أشعاره تستدعي حالات ذهنية وتأملات روحية خاصة لدى القارئ.

يعكس اهتمام باشو بالطبيعة وتبدُّل فصولها فكرة التغيير التي تنادي بها الزن، لذا أتى شعره تعبيرا عن لحظة جمالية عابرة. يقول ماتسو باشو:

بتلات الورد الصفراء

رعد-

شلال [3]

يبتدئ هذا النص الموجز بفصل الربيع المفعم بالجمال والحياة عبر تفتح (بتلات الورد الصفراء)، ثم ينتقل إلى فصل الشتاء (رعد)، وأخيرا  ترمز كلمة "شلال" إلى فصل الصيف، أحيانا يخلّف هذا التغير الدائم في الفصول إحساسا بالفجيعة، لكنه أيضًا يجعل لكل لحظة قيمة ومعنى، أليس الإحساس بقصر الحياة هو الذي يدعونا إلى التماهي مع العالم والابتعاد عن [4]تصوير كل ما هو ذاتي، يؤدي هذا التوحد مع الطبيعة إلى حالة من الصفاء الذهني والكمال الروحي"ساتوري" (Satori)[5]، كما يعكس هذا النص المكثف والمختزل أيضا جمالية "سابي- وابي" ([6] (Sabi wabi التي ترمز إلى جمال الأشياء غير المكتمل وتقبٌّل الأشياء على علاتها وشوائبها وترهلاتها، فباشو من خلال وثباته بين الفصول يدعونا للاستمتاع باللحظة الجمالية الهاربة عند رؤية بتلات الورد الصفراء وسماع دوي الرعد وتأمل تدفق مياه الشلال؛ كل هذه المشاهد تخفف وطأة تقلبات الحياة السريعة والمفجعة.

أصبح شعر باشو شائعا ومتاحا لقطاع عريض من المجتمع الياباني، وساعد على هذا الانتشار عدة عوامل منها: ثراء تجربته الشعرية نتيجة رحلاته وسط الطبيعة اليابانية، وتصويره الحسي لجمالها وتماهيه مع تفاصيلها الفاتنة المدهشة، أيضا اتسام شعره بالبساطة التي كان لها بالغ الأثر في النفاذ إلى روح القارئ وإذكاء حالة الاستنارة بداخله، بالإضافة إلى جماليات فنه وعذوبة قصائده التي ساعدت على ترسيخ شكل الهوكو باعتباره الشكل الأكثر شيوعًا في الشعر الياباني آنذاك.

وعلى الرغم من الانتقاد الذي وجهه الشاعر والناقد (ماسوكا شيكي) لشعر باشو لخلوه من الصفاء الشعري واحتوائه على الوصف والجمل النثرية المُملة على حد تعبيره، فقد اعتبره أول شاعر واقعي تتسمُ قصائده بـ"السمو والعظمة".

في القرن الثامن عشر برز الشاعران  "يوسا بوسون" (1784-  1716   (Yusa Buson  و"كوباياشي إيسا" (Kobayashi Issa   (1763-1828، فقد تأثر بوسون بباشو، وقام بإحياء شعره، الذي وجد فيه روح البساطة، عن طريق الرسم؛ لذا قدَّم كتابه النثري "الطريق الضيق إلى عمق الشمال" مصحوبا بلوحات تصويرية تهدف إلى إيصال فنه لأكبر عدد ممكن من الجمهور، وقد انعكست براعة بوسون في الفن التشكيلي على طريقته في الكتابة الإبداعية، لذا فأغلب نصوصه غنية بالمشاهد البصرية والأساليب التصويرية التي تُعبّر عن حس فني فريد.

فيما عُرِف َ"كوباياشي إيسا" بجنوحه العاطفي تجاه الكائنات المُهَمًشة كالذباب والحشرات الأخرى، تلك العاطفة كان مبعثها شعور داخلي بالمعاناة الذاتية في هذا العالم، وكأنه يرى نفسه حاضرة في روح تلك الكائنات، لذلك أَضْفَتْ هذه الأحاسيس الدافقة على شعره ميزتي الرقة والبساطة اللتين بدتا جليتين في مجموعته الشعرية "الربيع" الصادرة (1819م) والمشتملة على مذكراته الشعرية التي صورت حياته أثناء الطفولة، وهو يعاني مرارة العزلة والوحدة:

تعال والعب

معي ...

أيها العصفور اليتيم[7]

حاول إيسا هنا أن يُخفّف من وطأة عزلته، فلجأ إلى مخاطبة العصفور ودعوته لمشاركته اللعب؛ تعكس هذه الدعوة حالة اليتم التي يعاني منها كل من الشاعر والعصفور ومدى تعاطف الهايكست مع الكائنات البسيطة من حوله وحبه لها.

في القرن التاسع عشر انفتحت اليابان على الغرب واطّلع شعراؤها على الواقعية الأوروبية التي أحدثت ثورة في شعر الهايكو الذي بدأ يتخلى عن بعض خصائصه الكلاسيكية، وتوسع نطاق موضوعاته إلى ما وراء الطبيعة، وأصبح فنًا يتناول الكثير من التفاصيل الجديدة والصور المبتكرة، ونتيجة لهذا التطلع الجديد نحو التجريب نشأ ما يسمى بالـ"موكي" هايكو الذي تنحى تماما عن الكلمة الموسمية التي تُعدّ أساسا جوهريا في كتابة الهايكو التقليدي، كما بدأ الشعراء يكتبون الهايكو الحر دون تقيد بالمقاطع السبعة عشر (5-7-5).

الهايكو الحداثي:

ارتكزت رؤية الشعراء للهايكو حينئذ على منظور حداثي مغاير للأنماط والمواضيع السائدة في القرن السابع عشر؛ فقد استوحوا  كتاباتهم من التجارب الذاتية والتأملات الفردية في عالم الطبيعة، غير أن هذا المنظور الحداثي للهايكو جاء نتيجة حتمية للواقعية الأوروبية السائدة في هذه الحقبة التي أعيد تصديرها لاحقا إلى الغرب كـ"شيء ياباني خالص".

من أهم هؤلاء الشعراء الحداثيين الذين تأثروا بالواقعية الأوروبية "ماسوكا شيكي"، - أحد الأربعة الكبار في تاريخ الهايكو الياباني (باشو، يوسا بوسن كوباياشي إيسا) - والذي أدى تأثره بالكتاب والرسَامين الأوروبيين إلى تبنيه طريقة جديدة في الكتابة أطلق عليها” (Shasi) الرسم من الحياة “التي يهدف من خلالها إلى تصوير التجربة الواقعية والابتعاد عن الخيال والزخرفة اللغوية، وبهذا يمكن للقارئ معايشة المشهد والغوص في تفاصيله بناء على واقعيته ومصداقية "الهايجن"[8] في نقل ذلك المشهد الآني كما هو، في حين لم ينكر استخدام الخيال كلية، بل دعا إلى تناوله بعد أن يتمكن الشعراء من تكوين تصور حقيقي للعالم؛ هكذا انتقل شيكي من المناداة بـ" الرسم من الحياة" التي خص بها الشعراء المبتدئين إلى " الواقعية الانتقائية"" وكان يعني بها أصحاب الخبرة في الكتابة الإبداعية .

الحركة التصويرية:

أسس الشاعر"توماس إرنست هولم" (Thomas Ernest) Hulme 1883-1917 ) ما يسمى بالحركة التصويرية التي أخذت عن الهايكو الياباني الكثير من خصائصه، وهي في ذلك تهدف إلى تجديد الشعر من خلال التركيز على الصورة المبتكرة وبساطة اللغة، والابتعاد عن اللبس والغموض، والقيام بتوثيق التجارب الحسية، والكتابة الشعرية الواعية التي تبتعد عن سذاجةِ الرؤيةِ والمفاهيم.

كتب شعراء الحركة التصويرية نصوصا أشبه بالهايكو خاصة في المراحل الأولى التي تولى زمامها "إزرا باوند"، ثم تخلَوا بعد ذلك عن الخصائص التقليدية لقصيدة الهايكو كالالتزام بالثلاثة أسطر والموضوعة الموسمية وخاصية التنحّي في الفترة التي تولَّت الشاعرة "آمي لويل " (1925 - 1874 Amy Lowell ) أمور الحركة، ودعت إلى التحرر من الأنساق التقليدية لقصيدة الهايكو اليابانية والكتابة بطريقة تتيح للشعراء التعبيرَ عن تجاربهم ومشاعرهم الخاصة.

الهايكو العربي:

انتقل الهايكو إلى عالمنا العربي مؤخرا في النصف الثاني من القرن العشرين، وطبيعي أن يفتتن المبدعون العرب - شأنهم شأن بقية المبدعين في الأقطار الأخرى من العالم - بكل ما هو جديد في فن الشعر، وقد ساعد على سرعة انتشار هذا الفن الجديد والافتتان به بساطتُه التي تنأى بالنص الإبداعي عن  التكلف في التعبير والإفراط في استخدام المجاز.

ومع التطور الحالي في مجال التكنولوجيا نشأ العديد من المواقع الإلكترونية والنوادي المختصة بالهايكو مثل "عشاق الهايكو"، "هايكو سوريا"، "هايكو مصر"، "نبض الهايكو"، "الهايكو العربي"، "الهايكو الحر" وغيرها من المنتديات التي تحرص على نشر مقالات ودراسات وترجمات ونماذج من شأنها التعريف بهذا اللون الشعري الموجز وكذا خصائصه وجمالياته.

وقد يتساءل القارئ: هل تشكلت بالفعل معالم الهايكو العربي؛ بحيث يمكن للمتلقي عند قراءة نص ما لشاعر عربي أن يستكشف خصوصية البيئة العربية المتنوعة الآسرة؟ ومما لا شك فيه أنَه قد بدأت تتشكل هوية للهايكو في عالمنا العربي وأصبح له سمتٌ خاص ومميز، على الرغم من ندرة الأصوات القادرة على التجريب والإبداع، واستمرار معاول الهدم الممَثلة في بعض المواقع الالكترونية غير المكترثة بقيمة وجماليات الهايكو في نشر النصوص الرديئة وتقديمها على أنها نماذج للهايكو الفريد.

يُعدّ الهايكو إضافة جمالية إلى المشهد الشعري العربي جنبا إلى جنب مع القصيدة الكلاسيكية والتفعيلية وقصيدة النثر، والإبيجرام[9] وغيرها من الأشكال الشعرية المختزلة، وهو - بلا شك- يخطو خُطى حثيثة نحو التفرد والكمال؛ فإلى جانب سعي الشعراء إلى تبْيئة الهايكو من خلال نقل أحداث الشارع وتفاصيله المتشابكة، استطاعت اللغة العربيةُ خلق هايكو عربي أصيل، وذلك "بعبقريتِها وخصوصيتِها وتنوع إيقاعاتها وبميزة الاشتقاق التي تهبها تفردا عن بقية اللغات"، كما أمْكن لهذه اللغة الفتية "أن تستوعبَ جماليات قصيدةِ الهايكو، بل وتُضفي عليها طابعاً عربيا آسراً ومميزاً، تلك اللغة المعروفة بقوتها وثراء مفرداتها - والتي مكّنت الشاعر العربي من أن يكتب نصوصا طويلة مفعمة بالخيال وأساليب البلاغة الجامحة- قادرة على أن تروض نفسها وتكبح جماح المجاز المفرط الذي يحول دون بساطة الهايكو." [10]

يبقى أن نشير إلى جمود الحركة النقدية في عالمنا العربي ومدى قصور الأكاديميين بشكل أساسي وغيرهم من القائمين على المؤسسات الثقافية والإعلامية في أداء مهمتهم الأساسية، وتتبَع ما يُقدّم من إبداع وتحليله وتقييمه كي يتسنى للقارئ أن يطّلع على تجربة الهايكو العربية الوليدة، وعلى الرغم من قتامة المشهد النقدي، يبدو أن بارقة أمل لاحت في الأفق كان من شأنها أن تبدد بعضا من العتمة؛ فقد تم نقاش أطروحة الدكتوراه للباحثة الجزائرية "آمال بو لحمام" في (جامعة باتنة1) بعنوان " الحداثة الشعرية وبلاغة الإيجاز – الهايكو العربي بين الخصوصية والغيرية"، يُعدّ هذا البحث الأكاديمي أول مغامرة جسورة تخوض غِمار تجربة الهايكو العربية عبر مقاربة وتحليل العديد من النصوص لشعراء الهايكو من شتى الأقطار العربية: (مصر، فلسطين، المغرب، ليبيا، تونس، سوريا، الأردن، العراق، الجزائر، لبنان) والذين لهم إسهامات واضحة في تشكيل هذه التجربة الناشئة، وعلى الرغم من أن ما قُدّمَ من تجارب نقدية وأبحاث حول الهايكو غير كاف، إلا أننا نأمل أن يرتقي المشهد النقدي ليسير بموازاة مع هذا التراكم الإبداعي الهائل الذي يستحق الدراسة والتحليل.

***

حسني التهامي

................... 

1- الرنجا نوع من الشعر كان يتناوب على كتابته عدة شعراء، يكتب أحدهم المقطع الأول الذي يتكون من ثلاثة أسطر بإجمالي سبعة عشر مقطعًا، ثم يضيف الشاعر التالي مقطعا آخر يتكون من زوج من سبعة مقاطع لفظية في كل سطر، ويكرر المقطع الثالث الشكل الأول والرابع يكرر النمط الثاني، ويستمر الشعراء بالتناوب على هذه الوتيرة حتى نهاية القصيدة.

[2]- الزن هي مزيج من البوذية الهندية والطاوية، بدأت في الصين، وامتدت إلى كوريا واليابان، وذاع صيتها في الغرب في منتصف القرن العشرين. يرتكز جوهر الزن على الفهم المباشر لمعنى الحياة دون أن ينخدع بالفكر المنطقي أو اللغة.

[3] Matsuo Bashō’s haiku poems in romanized Japanese with English translations

[4]الساتوري: من أهم جماليات الهايكو، وهي لحظة تأملية من خلالها يتماهى الهايكست مع الأشياء من حوله فيدرك كنهها وطبائعها ويكوّن رؤية جديدة للعالم.

[5] "سابي وابي" مصطلح ياباني يرمز لفلسفة جمالية نشأت في اليابان وتركز على رؤية الجمال وسط كل شيء، وتعرف على أنها "" إيجاد الجمال في عدم الكمال" أو "الاكتفاء بعدم الاكتمال". 

[7]Kobayashi Issa, HaikuPedia, The haiku Foundation Encyclopedia of Haiku

[8] الهايجن هو كاتب الهايكو

[9] الإبيجراما هي نوع شعري قديم عرف في الآداب اليونانية القديمة والأوروبية والعربية؛، كانت تعني في الآداب اليونانية الكتابة المنقوشة؛ أما في الآداب الأوربية فقد تحولت في القرن السابع عشر من قبل جون دن، وأسكار وايلد إلى فن شعري قائم بذاته له سماته ومعاييره التي يمكن أن يتم الاحتكام إليها، عرفها  الشاعر الرومانسي الإنجليزي كولردج بقوله: «إنها كيان مكتمل وصغير.. جسده الإيجاز، والمفارقة روحه»، كما عرفت الإبيجراما في الشعر العربي باسم "التوقيعة".

[10] حسني التهامي – مزار الهايكو 

في المثقف اليوم