قراءات نقدية

فيصل عبد الوهاب: الرؤية العبثية في نص (فرار إلى العدم) لضرغام عباس

يستوقفنا هذا النص المنشور في العدد (80) من جريدة أوروك الصادرة عن وزارة الثقافة العراقية، وفي صحيفة المثقف يوم 19 – 4- 2023م. تتراوح لغة النص بين التقريرية المباشرة والمجازية والمزاوجة بينهما بطريقة لا تبعدنا عن الصيغة المقالية ولكنها تجعلنا نقترح على الشاعر لو اعتنى بالمجاز وركز عليه بدلا من الابتعاد عن الشعر نحو النثر. وقد ظهر ذلك جليا ابتداء بعنوان النص ، فكلمة (العدم) الواردة في العنوان هي مفتاح نثري للنص حيث أنه أحد المفردات المهمة في الفلسفة الوجودية  وكتاب (الوجود والعدم) لسارتر يشير لذلك في عنوانه أيضا.

كما أن السطرين الأول والثاني من النص يبدآن بكلمة (عبثا) والتي تشير إلى نفس الموضوع أو المحتوى:

عبثًا أُحاول...

عبثًا أفتّش عنك أيتها المُثل العُليا

لكن المتحدث في النص يوحي لنا بثلاث كلمات أنه (جندي) وهي على التوالي في النص (فرار) و(الشجعان) و(إجازة) وهذا المسار المجازي يختلف عن المسار التقريري في بداية النص:

عبثًا أُحاول...

عبثًا أفتّش عنك أيتها المُثل العُليا

يا صنيعة الشجعان

وأول المثل العليا المرتبطة بالحروب هي الشجاعة أو البطولة والتي يبحث عنها عبثا الجندي في هذا النص. ويبدو لنا هذا الجندي مثقفا وكأنه أخذ قسرا إلى ساحة المعركة :

إن كل ما تعلمته من الكتب؛

تعبٌ هي الحياة

تعبٌ هو الموت.

فالجندي المثقف لا يجد نفسه في الحروب وساحات المعارك وهو لم يخلق لها أساسا لذلك يشعر بتعب الحياة إضافة إلى تعب الممات في تلك الساحات وهو يواجه قدره وقدر زملائه في كل لحظة. ويبدأ الجندي بالتساؤل عن قيمة الشجاعة والبطولة في مواجهة المصير وهل هي حقا مبعث للسعادة:

ولكن هل لهذا أكون سعيدًا

هل لهذا رضيّت المجيء؟

ثم يخاطب المتحدث المكان الذي يربض فيه متمثلا بالصخور الشامخات حيث يوحي لنا أن المكان أرض جبلية وعرة مكسوة بالجليد:

أيتها الصخور الشامخات، يا سليلة الرفض الأول

فلنتبادلْ أدوارنا، ولأمتدحنَّ لك الجليد

الذي روى ظمأك.

ويؤنسن المتحدث الصخور أو الجبال ويقترح عليها تبادل الأدوار لأنها تمثل رمز الشجاعة والشموخ والرفض!! لكن عبارة (سليلة الرفض الأول) تبدو مثيرة للجدل وتوحي لنا بمعان عدة منها إن الجبال أو الصخور الشامخات شكلت دائما الملاذ الآمن للمتمردين والرافضين وربما تشير كلمة (الأول) إلى أولوية الصخور بالرفض وكأن مهمتها الأولى هي الرفض. أما عن تبادل الأدوار فالمتحدث يشبه نفسه كجندي يعتمر الخوذة الحديدية القتالية بالصخرة في قمة الجبل وهي تعتمر الخوذة الجليدية ويحسدها على ذلك لأنها ترتوي حين تعطش من تلك الخوذة بينما لا يتوفر له ذلك. والعطش هنا يعني التعطش لكل شيء ويترادف في معناه مع الجوع في النص:

قالت: الطرقات في كل مكان

ولكنك لن تصل.

قلت: غريبٌ أنيَّ لن أصل

قالت: غريبٌ هذا الجوع الدائم إلى شيءٍ لا تعرفه.

الأنبياء صامتون..

والبشريُّ يحمل على ظهره صخرة سيزيف.

آهٍ، ما أثقلها

تلك الحيوات التي تشبه بعضها.

ويسبب التعطش والجوع للمعرفة التغرب والتغريب إذا لم يجد السائل أجوبة وافية لأسئلته المحيرة فيما يتعلق بالحياة والموت وفك ألغاز الكون. وهنا يقارن المتحدث بين تلك الصخور التي يخاطبها وصخرة سيزيف الأسطورية  التي ترمز لعبث الجهود الإنسانية ويشير المتحدث إلى الانسان ب(البشري) الفاني مقارنة ب (الإلهي) الخالد وتلك لب المشكلة. فالمتحدث لن يصل إلى هدفه على الرغم من أن "الطرقات في كل مكان" مثلما تنبأت له تلك الصخور سليلة صخرة سيزيف العبثية. كما أن حيوات البشر متشابهة وتثير الملل ومع كل ذلك فالأنبياء صامتون ولا يدلون بدلوهم لمعرفة الحقيقة حسبما يقول المتحدث. والأنبياء الذين ارتبطوا بالصخور والجبال عديدون في الديانات الثلاث لكن المتحدث على ما يبدو في النص لا يجد في تعليماتهم ما يسد به جوعه المعرفي ويبدون له صامتين وتبقى الغاز الحياة والموت طلاسم لا سبيل إلى تفكيكها:

في أعماق الخير والشر

البوصلة تشير إلى القبور

الخرائط كلّها تشير إلى القبور

يا إلهي، أأنا صنيعة اليوم الثّامن؟

طفلٌ هرول إلى أمه باكيًا، فقابلته بصفعة !

وهنا تتجلى الرؤية العبثية فالخير والشر متساويان ما داما يؤديان إلى مسار معين لا سبيل إلى سواه وهو القبور. أما أن يكون المتحدث "صنيعة اليوم الثامن" فالسياق يشير إلى اليوم الما بعد الأسبوع وهو اليوم الثامن أي خارج مدى الزمن بالمعنى المجازي أو هو غلطة الزمن بمعنى آخر. وتكتمل هذه الصورة العبثية بصورة أشد حيرة وألم وهي صورة الطفل الذي لا يجد ملاذا للمواساة سوى أمه التي تصفعه بدلا من أن تواسيه. والأم هنا ترمز للحياة الصعبة الملغزة أو الأرض القاسية التي تحتضنه. ويعاود المتحدث بنثريته المعهودة ليقرر أنه لا يمكنه فهم قيم البطولة أو الشجاعة في ظل هذه الأجواء اللامنطقية:

آهٍ، أيتها المُثل العُليا، يا صنيعة الشجعان

يصعب على عقلي القياسي أن يتقبل فكرة وجودك

وتصب عبارة "عقلي القياسي" مقابل "الوجود" في السطر أعلاه في جوهر الإشكالية الفلسفية التي يتناولها المتحدث في خطابه. عقل المتحدث القياسي لا يؤمن بالمثاليات أو الميتافيزيقيا التي تجره إلى عالم الوهم:

فأستميحك عذرًا..

أستميحك - أنا متعفّن بالأحلام.

لذلك ينهي المتحدث خطابه ويحسم الأمر بطريقة دراماتيكية بهذه الأمنية التي تشبه محاولة الانتحار:

أتمنى أن أنزع رأسي كما ينزع الطفل حقيبته

وأنامُ.. في إجازة أبدية.

فالإجازة القصيرة من وحدته العسكرية لا تنهي المشكلة لكن الموت هو الحل الذي يطفيء جميع الأسئلة التي تدور في رأسه. 

تنتمي هذه القصيدة إلى ما يسمى بأدب الحرب وإلى الأدب المناهض للحروب الذي مثله بعد الحرب العالمية الأولى الشاعر الانكليزي ولفريد أوين في مقابل الأدب المساند للحرب والذي مثله الشاعر الانكليزي أيضا ريوبرت برووك الذي ساند موقف بلاده في تلك الحرب. وقد شكل هذان الشاعران مدرستين مختلفتين في شعر الحرب انتهجت سبيلهما قوافل عديدة من الشعراء في شتى البلدان. أما هذه القصيدة فتظهر لنا عبثية الحروب بطريقة فلسفية تشربت فيها مفردات الفلسفة الوجودية التي تتلاءم مع طبيعة النص.

***

فيصل عبد الوهاب

في المثقف اليوم