قراءات نقدية

عبد الله الميالي: عنف السلطة في الرواية العربية.. رواية عروس الفرات أنموذجاً

(الأصعب هو امتلاك الفكرة، والأسهل قطع الرؤوس)... دوستوفسكي.

رواية «عروس الفرات» للكاتب علي المؤمن، صدرت عن دار روافد في بيروت في العام 2016، وتقع في (240) صفحة، وتتألف من ثمانية فصول.

ملخص الرواية

الرواية تحكي مأساة عائلة عراقية نجفية (أباء، أبناء وأحفاد) من سكنة محلة الحويش، يتم تصفيتهم بالكامل من قبل رجال الأمن بعد تعرضهم للاعتقال التعسفي، نتيجة اشتراك عدد من الأبناء في تنظيم سري إسلامي معارض للنظام الحاكم في ذلك الوقت. تتألف هذه العائلة من الأب (عبد الرزاق حسين الموسوي) وزوجته (حليمة نوفل جاسم) وأولادهما:

ــ (الدكتور عادل) وزوجته (نور) وطفليهما (هشام وآمنة)

ــ (أحمد) الموظف في مديرية شرطة النجف، وزوجته (ياسمين) وطفلهما (علي)

ــ (صلاح) خريج كلية الهندسة، حديث عهد بالزواج، وزوجته (زهراء)

ــ (ياسر) طالب في المرحلة المتوسطة

ــ (شيماء) طالبة في المرحلة الثانية في كلية طب الكوفة.

بعد أن يتم اكتشاف خلايا التنظيم، يهرب دكتور عادل مع زوجته وطفليه من النجف إلى بغداد، وعندما يحاولان الهرب خارج العراق بجواز مزوّر، يتم القبض عليهما، ليُعدما لاحقاً مع طفليهما في أحد معتقلات الأمن. صلاح هو الآخر يُلقى عليه القبض أيضاً ليُعدم سريعاً. أما أحمد فيحاول التخفي عن أنظار رجال الأمن، ولكن يُلقى عليه القبض، ثم يُفرج عنه لعدم وجود أدلة واعترافات ضده، ولكنه يُساق للاشتراك في جبهة الحرب بين العراق وإيران، ومن هناك يقرر الهروب إلى إيران وينجح في ذلك. وفيما كانت قوة من رجال الأمن تحاول اعتقال بقية عائلة عبد الرزاق، يتعرض ياسر للقتل بعد أن حاول المقاومة.

في المعتقل تتعرض العائلة لأبشع أنواع التعذيب والتعسف وهتك الأعراض، بإشراف النقيب (فلاح) أحد أشرس ضباط جهاز الأمن، وجلاوزته الغلاظ، فيُخنق الطفل علي من قبل أحد رجال الأمن كوسيلة ضغط على العائلة، ويموت الأب عبد الرزاق كمداً وغيضاً وهو يرى ابنته شيماء تتعرض للاغتصاب أمامه، ليتم إعدامها هي الأخرى لاحقاً، وتفقد الأم رشدها بعد صدمتها جراء ما حدث، ليتم تسفيرها مع كنّتها ياسمين إلى إيران بحجة التبعية والخيانة؛ فتموت الأم نتيجة إصابتها بلغم عند الحدود، وتصل ياسمين سالمة بعد معاناة كبيرة، لتلتقي بزوجها أحمد لاحقاً في أحد مخيمات اللاجئين العراقيين في إيران.

العُنف والقمع والاعتقال في الرواية العربية

رحم الله نزار قباني الذي عُرف بنقده اللاذع لسياسات الانظمة العربية، وبسخرية تقترب من الكوميديا السوداء:

(هل تعرفون من أنا؟

مواطن يسكن في دولة قمعستان..

فأرض قمعستان جاء ذكرها في معجم البلدان

ومن أهم صادراتها

حقائباً جلدية

مصنوعة من جلد الإنسان)(1).

يلجأ النظام الحاكم غالباً في منظومة العالم الثالث، ومنها منطقتنا العربية، للعنف والقمع والاضطهاد لمواطنيه، لضمان تشبّثه بالسلطة واستمراره بالحكم إلى أطول فترة ممكنة، وكأنه يتعامل وفق القاعدة الميكيافلية: (الغاية تبرر الوسيلة).

موضوعة (ثيمة) العنف والاضطهاد السياسي والاعتقال وممارسات التعذيب وثنائية الجلاد والضحية الذي تطرقت له رواية «عروس الفرات»، سبق وأن تم تناوله كثيراً من خلال عشرات الروايات العربية، ولعل أهمها: رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، رواية «الوشم» لعبد الرحمن الربيعي، رواية «مكان اسمه كُميت» لنجم والي، رواية «خضر قد والعصر الزيتوني» لنصيف فلك، رواية «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ، رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، رواية «الحياة لحظة» لسلام إبراهيم، رواية «مقامة الكيروسين» لطه حامد الشبيب، رواية «سيرة الرماد» لخديجة مروازي، رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلّون، رواية «المدغور» عمل مشترك لبشير الخلفي ورحمة بن سليمان، وغيرها من روايات أخرى. هذه الروايات رسمت للقارئ العربي صورة السادية البشعة وشهوة القتل التي تتمثلها أجهزة المخابرات والأمن وخفافيش الظلام في البلدان العربية بصورة عامة. وإذا كانت بعض هذه الروايات كـ«شرق المتوسط»، و«الوشم» لجأت إلى لغة التشفير، فلم تكشف هويتها المباشرة والبيئة الحقيقية التي تناولتها، وتركتها للقارئ أن يكتشف ذلك بنفسه على اعتبار أن البيئة العربية متشابهة لتوظيف هكذا (ثيمة) ، فإن روايات أخرى قد كشفت ذلك القناع مكاناً وزماناً واسماً صريحاً، كروايات «الكرنك»، و«العسكري الأسود» في مصر، ورواية «المدغور» في تونس، ورواية «سيرة الرماد» في المغرب، وروايات عراقية كثيرة، ومنها رواية «عروس الفرات».

تحليل الرواية

(ليس المطلوب من النقد أن يشرح أو يوضح، مطلوب منه أيضاً أن يضيف، أن يعيد صياغة الجمال ضمن مقولاته الخاصة)(2).

تدور أحداث رواية «عروس الفرات» بدرجات متفاوتة بين النجف، وبغداد، ومعتقل الأمن، والحدود العراقية الإيرانية، ومعسكر اللاجئين العراقيين في إيران. وزمان الرواية بين الأعوام 1979 و1982. تناوب أدوار البطولة في الرواية عدّة شخصيات بدرجات متفاوتة أيضاً: الأب عبد الرزاق، الابن دكتور عادل، الابن الثاني أحمد، البنت شيماء، زوجة أحمد ياسمين، والنقيب فلاح في جهاز الأمن، وهو ما يُعبر عنه في أدبيات النقد بـ(البطل الضد).

اتسمت الرواية بالبساطة والوضوح والمباشرة والواقعية والتسجيلية، وهي تعد وثيقة مهمة لحقبة قاسية مرّ بها العراق وهو يرزح تحت ثقل نظام يحبس الأنفاس، ويحكم بقبضة من حديد؛ حيث كشفت الرواية (وهذا ليس خافياً على أحد) الأسلوب القمعي لذلك النظام الشمولي الذي يسحق الناس كأنما يسحق نملة، من دون رحمة ولا شفقة كما جاء على لسان فلاح النقيب في جهاز الأمن: ((السيد الرئيس منع دخول الرحمة إلى أجهزة الأمن والمخابرات، لا طفل.. ولا عجوز.. ولا شاب.. ولا فتاة.. الكل سواسية.. مجرمون.. جواسيس.. عملاء. بشرفي سنسحقكم كالنمل.. أولاد العاهرات.. يريدون أخذ الحكم منا!))(3).

لقد عبّرت الرواية وبصدق عن موضوعة الاضطهاد السياسي في العراق خلال حقبة النظام البعثي الفاشستي، وتداعيات هذا الاضطهاد من معاناة وتوترات وانفعالات نفسية حادة، تجسّدت بشكل واضح على حياة شخصيات الرواية. كما جاءت الرواية لتكون شهادة حقيقية ومهمة من صور التضحية والبطولة لمعتقلي الرأي.

تناول السرد في رواية «عروس الفرات» ثلاث شخصيات: الراوي العليم وله حصة الأسد في السرد، وأحمد الابن المطارد من قبل أزلام السلطة، وزوجته ياسمين. ولكون هذه الرواية تنتمي لما يُسمى بالرواية السياسية من جهة، ولأدب السجون من جهة أخرى؛ فمن الطبيعي أن ترصد الرواية الأبعاد النفسية والسيكولوجية لشخصياتها، من خلال كشف انفعالاتها وشعورها وهواجسها، وهي تعيش أزمة الصراع مع السلطة المتمثلة بجهازها القمعي (رجال الأمن) وقبضتهم الحديدية.

نجح الكاتب علي المؤمن في رسم وتصوير شخصيات روايته وسبر أغوارها، واستخدام لغة الحوار المناسبة لها، غير أننا نشكل عليه انحيازه الكامل لاتجاه فكري واحد (التيار الإسلامي)، كأنّ لا غيره في الساحة العراقية والعربية، حيث تتعدد التيارات والايديولوجيات والانتماءات بشكل واضح، وظلت الرواية حبيسة البعد الواحد؛ فلم تستثمر الجدل الثقافي والفكري المتعدد الأبعاد، الذي يتمظهر من خلاله الحوارات والآراء المختلفة، ولم تتخلص من تقليدية التجربة الشخصية الأحادية وضغوطها وصراعها غير المتكافئ مع السلطة؛ فجنحت الرواية إلى ما يُسمى برواية الصوت الواحد، الذي يقف خلفه الكاتب مهيمناً بأيديولوجيته وفكره.

شيماء: عروس الفرات

(في السجن، كل شيء يُعرض أمام أعين الجلاد وسياطه، ويكون الجسد هو الموضوع الذي يمارس عليه الجلاد ساديته)(4).

يُعد محو الجسد وقمعه، أحد تمظهرات رواية ما بعد الحداثية التي يلجأ إليها الكاتب العربي؛ فيستدعي الواقع السياسي المأزوم الذي يُدار من قبل أنظمة شمولية مستبدّة، تقوم على مصادرة الآخر وتهميشه وإلغائه وإذلاله، وصولاً إلى محو جسده بصورة نهائية؛ فتكون التصفية الجسدية هي جزء رئيس من سياسة السلطة المستبدّة.

عنوان رواية «عروس الفرات» يشي بوجود ضحية، وهو عنوان يتناص مع أسطورة (عروس النيل)، عندما كان المصريون القدماء يلقون بأجمل الفتيات في نهر النيل في موسم الفيضان كقربان له. والقربان في رواية «عروس الفرات» هي شيماء عبد الرزاق الموسوي، وذنبها أنها شقيقة لشخص مطلوب للنظام وهارب خارج البلد.

في فضاء المعتقل وهو بحسب أدبيات النقد، المكان المغلق والمعادي، يتم انتهاك جسد (شيماء) بشكل صارخ عندما يتجرد الجلاد من طبيعته الإنسانية ومن كل القيم، ويتحول إلى ذئب كاسر يفتك بالضحية متجاوزاً كل الخطوط الحمراء التي وضعتها الشرائع السماوية والقوانين الدولية والأعراف الاجتماعية؛ فتقدم لنا «عروس الفرات» هذا المشهد المؤلم: ((أعطى النقيب مساعديه إشارة البدء؛ فاندفعوا نحوها بشوق، وبحركات ماجنة، وراحوا يتناوشون ثيابها بأيديهم شدّاً وتمزيقاً واستلالاً، حتى عرّوها تماماً من كل ملابسها.. وهي تستنجد بالله ورسوله وأهل بيته. وقفوا ينظرون بعيونهم الشرهة إلى جسدها المرتعد الأوصال خوفاً واستحياء. غمز النقيب إلى أحد مساعديه، الرجل القصير، الضخم الجثة، المفتول العضلات، ذي الكفين السميكتين، والرأس الأصلع.. همهم النقيب هاتفاً بالأمر: أنا بشوق لأمتع ناظري. ابتسم المساعد ابتسامة صفراء، كأنه يعد نفسه لتنفيذ أمر رئيسه بلهفة. كمّوا صوت شيماء بخرقة قماش لفوها على فمها الدامي، فلم يعد يدوّي في أنحاء الغرفة، ولا في أرجاء المبنى، لكنه بقي مدوياً.. يصرخ في طوايا الضمائر.. لا يخرس الزمن صداه..))(5).

وإذا كانت بعض الروايات العربية قد عبّرت عن انهزامية السجين السياسي أمام الجلّاد، مثل روايات «شرق المتوسط»، و«الوشم»؛ فإن رواية «عروس الفرات» عبّرت عن الموقف البطولي والثبات على المبدأ، من خلال موقف الإباء والشموخ لدى شيماء: ((شيماء كانت أشبه بالثورة المتأججة، بالبركان المتفجر، وهي تشاهد ابن أخيها قتيلاً، فاختلطت صرخاتها مع صدى ضرباتها العنيفة للجدار برأسها: يا ذئاباً نتنة.. يا كلاباً مسعورة.. أتكتبون سطوراً في الولاء لرئيسكم القذر.. بدم الطفولة المسفوحة.. هاكم دمي يا قتلة فخذوه. كانت هذه الكلمات كافية لتستحيل شيماء إلى كتلة من الدماء حتى أغمي عليها))(6).

جاء اغتصاب (شيماء) في زنزانة الأمن وإعدامها لاحقاً، وإعدام أفراد عائلتها، ليعبّر عن اغتصاب وإعدام للوطن وللأرض وللمجتمع، وجاء كمحاولة ساذجة وسخيفة ومتهورة لاغتصاب ذاكرة الشعوب ومحوها من الوجود. أقول ساذجة وسخيفة ومتهورة لأن ذاكرة الشعوب لن تموت، الجلاد هو من يموت في نهاية المطاف، طال به الزمن أم قصر. ولا شكّ أن استدعاء رواية «عروس الفرات» لفعل الاغتصاب، إنما هو إدانة صارخة للنظام السياسي الذي سمح وشرّع لهذا الفعل. ((في هذا العصر العربي الزنيم العاهر، وفي مواجهة هذه الكوكبة المتألقة، والتي تملأ سماء الوطن، وفي ظل أعتى القوى والأساليب الهمجية؛ فإن كلمة (لا)، هي البطولة بذاتها. وكلما كانت (لا) مصقولة أكثر، نافذة أكثر، قوية أكثر؛ فقد قلت لعصرك ما يجب أن يقال، وقلت (للأقوياء) رأيك فيهم، وسميت الأشياء بأسمائها الحقيقية.))(7).

***

عبد الله الميالي - كاتب وناقد أدبي من العراق

...................

الإحالات

(1) نزار قباني، ديوان (قصائد مغضوب عليها) ص24، منشورات نزار قباني، بيروت، 1986.

(2) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84، أكتوبر 2015.

(3) علي المؤمن، عروس الفرات، ص171.

(4) سعيد بنگراد، مجلة علامات، العدد 23، يناير 2005.

(5) علي المؤمن، عروس الفرات، ص204 ـــ 210.

(6) المصدر السابق، ص184

(7) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84 ، أكتوبر 2015.

في المثقف اليوم