قراءات نقدية

محمد رحو: الملمح الدرامي في المجموعة القصصية "محض خيال" لاحمد بلقاسم

تتضمن المجموعة القصصية "محض خيال" لصاحبها أحمد بلقاسم مواقف، ووجهات نظر، وأحكاما في شأن قضايا متعددة: اجتماعية وسياسية وثقافية، معلنة بشكل صريح أحيانا، وضمنية مبطنة أحيانا أخرى، في شكل رسائل لمن يهمهم الأمر. ولست هنا في حاجة إلى تمحيص هذا المعطى وتدقيقه، فنصوص المجموعة شاهد علي ذلك، إذ يمكن للقارئ أن يطلع مثلا على قصة "نصيحة" التي ينتقد فيها الكاتب سلوكات بعض مدعي الثقافة الذين يبيحون لأنفسهم الخوض في مختلف المواضيع، وخاصة تلك التي يظنون أنها المطية الذلول، كالدين والسياسة، مفحما إياهم بلسان صريح: "أنصحك أن تترك الأدب للأدباء ...أنصحك أن تترك الدين لله" ص: 33.

وأما ما جاء من رسائل ضمنية، فيمكن تلمسها من خلال الحوار الدائر بين الأب وابنته العائدة من حقول التوت الاسبانية، وهي محملة بالعملة الصعبة، تطلب منه السماح لها باصطحاب أختها الصغرى إلى هناك، بعد أن استشعرت سعادته ورضاه على عائدها من العملة الصعبة. ولكي تكون الغلة مضاعفة، تقترح عليه ما يلي: "لو سمحت لشقيقتي بمرافقتي إلى هناك، لازددنا كيل بعير/ أيه نعم، لكن ألا ترين أنها لم تنضج بعد؟/ صحيح، ولكن يا أبتي هناك يعشقون الفاكهة قبل نضجها عشقا لا يقاوم" ص: 9. وهي رسالة تكشف المستور والخفي من وضع هؤلاء العاملات الموسميات، وضع مأساوي تداوله الاعلام، وصدحت به حناجر القهر لبعض الأبيات من العاملات، معبرة عن رفضهن لما تتعرضن له من مساومات في أجسادهن، واستغلال جنسي.

هذه الرسائل القوية، جعلتنا نؤكد منذ البداية أن الشكل الإبداعي في قصص أحمد بلقاسم مرتبط بالفكرة، وبرؤيته للقضايا والظواهر. لذلك فبدهي أن تجد هذه الأفكار ما يناقضها ويخالفها، وتولد نوعا من التصادم والصراع، شكل بنية درامية داخل نصوص المجموعة، لم يجد القاص من معين لإبرازه والتعبير عنه غير الإفادة من جنس المسرح شكلا ومضمونا. وليس الصراع بمعزل عن القصة والغريب عنها، فهو أحد مركباتها الداخلية، وأرفع الخيوط التي تقيم نسجها وهي ترتفع بالأحداث إلى قمة التوتر والأزمة، غير أن ما يلفت الانظار في قصص أحمد بلقاسم ويجعله خاصية من خصائص مجموعته "محض خيال" يكمن في العدة الدرامية التي استعان بها، والتي يعد الحوار أكثرها حضورا، مما جعله يدخل في جدلية مع السرد، وأحيانا يطغى عليه حتى ليكاد ينسينا إياه، بالإضافة إلى تعدد الأصوات المؤدي إلى تصادم فكري بين الشخصيات.

1- الشكل الحواري الدرامي:

يشكل الحوار في "محض خيال" علامة بارزة، وملمحا يستوقف كل متصفح لها، جثم على جل النصوص إلى حد تشكيله البنية الأساس في بعضها، كما في: "قصة سيلفي" ص: 11، و"أفراح" ص: 15، و"محض خيال" ص: 21، و"موطئ حبة بن" ص: 61، "وشيء يستحق الذكر" ص: 87" بل إن بعض النصوص افتتحت حواريا، واختتمت كذلك. وليس هذا الانجذاب نحو الحوار والإغراق فيه على حساب السرد والوصف اللذين شكلا الخطاب الأساس في مجاميعه القصصية السابقة إلا استجابة لواقع صار أكثر درامية، واقع لم تعد الذات الساردة قادرة على أن تحكيه، ولم يشف غليلها أن تسرد تفاصيله، وإنما صارت منجذبة إلى مسرحته، وعازمة على إظهار مأساته، تلك المأساة التي لن تقدم في صورتها الحقيقية، وبالحجم الذي وصلت إليه إلا باستعارة وسائل المسرح وآلياته، وعلى رأسها الحوار الذي مكن المبدع أحمد بلكاسم في الكثير من الأحيان من التعبير عن رأيه إزاء أعطاب المجتمع، وتشكيل صورة درامية كاملة منها، وأنساه في المقابل الاهتمام بالمتن الحكائي، فكانت الأولوية للمبنى على حساب الحدث، كما في قصة "بلا جواب" ص: 77 التي اقتصر فيها المتن الحكائي على حدث عابر، جاء عبارة عن "برولوج مسرحي" يتمثل في عدم تجاوب المتعلمين مع السارد الذي سيشكل بعد ذلك أحد أطراف الحوار، ويعطي للقصة بناء دراميا من خلال أسئلته لهم عن مهن المستقبل، فيكفون عن الجواب، ويرفضون كل اقتراحاته، رفض ينبئ السارد المحاور في النهاية إلى رغبتهم في اعتلاء كرسي داخل قبة البرلمان. وهذا الاهتمام بالمبنى، أي الحوار، كان فعالا في إبراز مأساوية الواقع المتمثلة في صورة السياسة لدى الناشئة، لم يكن بمقدور المتن الحكائي وخطابه السردي أن يقدماها بهذا الشكل المؤسف.

ومن حسنات توظيف الحوار أيضا أن أتاح للقارئ تمثل شخصيات القصة التي ليست إلا نماذج مجتمعية في أزماتها وصراعاتها، وتمثل الأفكار التي تحبل بها النصوص القصصية، سواء أكانت أفكار الكاتب أم الشخصيات الأخرى، وهي أفكار تتباين ما بين حداثية تنويرية، ورجعية متخلفة، اختارها الكاتب من الواقع المعيش محاولة منه مصادمتها وفضح المتخلف منها. وتعد قصة "منك نستفيد" مثالا صارخا لهذا التوظيف، فهي تصور لنا شخصية الخطيب وثقافته التي يمجها العقل السليم، ويرفضها المنطق، حين عزا عدم خشوع المصلين في صلاتهم إلى المعاصي، في حين يردها السارد الذي يفكر بكل واقعية إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية، معارضا الخطيب بقوله: "لا، ليست المعاصي وحدها المسؤولة عن هذا المشكل العويص.../ المسؤول الخطير هي فواتير الماء والكهرباء، وأقساط البنك الطويلة الأمد، والمواعيد الطبية البعيدة الأجل، وأحكام القضاء القاسية جورا" ص: 80/ 81. وهكذا يصبح الحوار في المجموعة القصصية وسيلة لإخراج القارئ إلى الحياة، وإدماجه في حمأة الصراع، واتخاذ موقف من هذه النماذج المعروضة عليه، شخصيات كانت أم فكرا متداولا، ويتجاوز كونه مجرد سؤال وجواب .

إن الكاتب لم يجد بديلا عن الحوار، وهو يسعى إلى الإسهام- من موقعه- في تأسيس ثقافة مغايرة ومجتمع ديموقراطي حديث، فقد كان سبيله إلى توصيل الأفكار المتضمنة في المجموعة القصصية وتأصيلها لدى المتلقي، خاصة حين يكون هذا الحوار مشحونا بطاقة مؤثرة كالسخرية والتصوير والترميز. فحينذاك يجعل من هذه الأفكار البديل لثقافة "تجار الدين...وتجار المبادئ الذين يتاجرون في المعاطف الحزبية" ص: 85. وقد نحا هذا المنحى، وامتطى صهوة الحوار قديما، أهل الفلسفة والفكر، وهم يهمون إلى إنشاء عوالم جديدة ذات تأسيس في فكر الإنسانية، فاتخذوا لرسائلهم ومؤلفاتهم الفكرية والفلسفية شكلا حواريا.

وهذا المعطى نفسه، هو ما يزيدنا يقينا أن العناية بالشكل الحواري الدرامي في هذه المجموعة مرتبط برؤية الكاتب الفنية والفكرية للعالم، وهي رؤية أحمد بلكاسم الإنسان للواقع والوجود الإنساني، وموقفه من القضايا المجتمعية المختلفة محليا وعالميا التي لا يفتأ يعبر عنها في مجالسه وكتاباته المتنوعة، كالأحكام الجائرة، والتهم الملفقة، والمحاكمات السياسية، وحرية التعبير والتظاهر، كما في قصتي "محض خيال" و"حراك".

2- تعدد الأصوات:

ينصب هذا المحور على قضية تعدد الأصوات في المجموعة القصصية، في علاقتها بتعدد وجهات النظر على المستوى الفكري والإيديولوجي، مبتعدا ما أمكن عن المنظور السردي وعملية التبئير المرتبطة أشد الارتباط هي الأخرى بتعدد الأصوات، علما أن الفصل بينهما على مستوى الممارسة النقدية أمر بالغ الصعوبة، نظرا لتواشجهما. وليس الدافع إلى ذلك سوى الرغبة في إبراز الصراع الدائر بين شخصيات القصة على المستوى الفكري والايديولوجي، صراع كان فيه للحوار ولعبة الضمائر الدور الأساس.

فالتعدد الصوتي لا يتشكل من خلال التوظيفات اللغوية المتنوعة التي تجري بألسن مختلفة، والتي تعبر بها الشخصيات عن وجدانها ومشاعرها، بل بخروجها من الصوت الواحد، وما يخلقه هذا الخروج من حركية على مستوى الرؤى والأفكار التي تخلق بدورها مجابهات وصراعات بين الذات الساردة والذات المتلقية المتوجه إليها بالخطاب. فالسارد في أغلب النصوص ابتعد عن الصوت الواحد الذي قد يكرسه خطابا السرد والوصف مهما اختلفت المنظورات السردية، ولم يستفرد برأيه، وإنما عرض الرأي والرأي الآخر، حتى وإن كان في الأخير لا يحتفظ إلا بوجهة نظره، ويسفه ما عداها.

ويظهر انشغال الكاتب بالآخر من خلال مخاطبته ومحاورته مباشرة، أو من خلال إجراء الحوار بين مخاطبين، الشيء الذي سمح ببروز ضميري المتكلم والمخاطب. هذا المخاطب الذي يجسد في مختلف الأحوال وضعيات درامية، إما من خلال درجة وعيه، أو سلوكه، أو رؤيته للمجتمع وقضاياه. فيجعل منه السارد محط تهكم وسخرية، وكأن بالكاتب يقول مع سارتر: إن الآخر هو الجحيم، أو بالأحرى هو المسؤول عما آلت إليه أوضاعنا. وأبرز مثال على ذلك ما جاء في قصة "كلام موظفين لا غير" من آراء الرجل الذي انتقد كل شيء، فكان يتحول في رمشة عين من مهندس معماري إلى مثقف ضليع إلى مندوب لإدارة السجون...لكن بالرغم من نزقه الظاهر فهو يؤيد في النهاية تأييدا أعمى قرار الحكومة في كل ما تقوم به، يقول: "الحكومة أدرى بمصلحة الشعب، أما ما تقولونه أنتم مجرد كلام، كلام موظفين لا غير" ص: 76. أو في قصة "لا جواب" المشار إليها سابقا التي تظهر الصورة البئيسة التي آلت إليها المسؤولية السياسية ببلادنا، والتي أصبحت الطريق القصير الموصل إلى الاغتناء وجمع المال، وهي صورة صنعتها سلوكات السياسيين الحاليين وتصرفاتهم الذين بدت عليهم آثار نعم السياسة من سيارات فارهة، وسفريات في مختلف بقاع العالم، وتقاعد مريح...نعم لم يكن لهم أن يحلموا بها، لولا ريع السياسة وسحتها.

هذا ما يتعلق بالمخاطب، أما مقابله ضمير المتكلم، فهو يجسد في جل النصوص السارد الحاضر الذي ليس إلا الكاتب أحمد بلكاسم نفسه، الشاهد على ما يجري في محيطه، وأمام عينيه، أي أنه شاهد عيان على الأحداث، ومعايش للشخصيات، وبذلك فهو يشكل مادته الإبداعية من صلب الواقع بعيدا عما يمكن أن يجنح به الخيال الإبداعي. لهذا، أجد أن العنوان المقترح للمجموعة عنوانا مراوغا ومخادعا، فدرامية المواقف والأحداث التي يحكيها السارد ليست محض خيال، وإنما هي محض واقع، لكن بصياغة أدبية جمالية، جعلت النصوص القصصية "وشيا لا وشاية" على حد تعبير الكاتب أحمد بوزفور. ولا أعتبر لجوء القاص أحمد بلكاسم إلى هذا العنوان نوعا من التخفي والتستر، فلو شاء ذلك لما اعتمد ضمير المتكلم الفاضح الكاشف للذات الساردة، ولعوضه بضمير الغائب البعيد، والخارج عن دائرة الأحداث. إنه في نظري عنوان تهكمي جعل من الأحداث المسرودة والشخصيات الموصوفة سلوكاتها ووضعياتها مجرد كائنات متخيلة أو شخصيات "كارتونية" لا يعول عليها في تغيير الواقع والنهوض بالوطن، ووصفها بالمتخيلة هو استصغار لها، وتقزيم لأدوارها.

إن الكاتب لم يترك الآخر المخاطب على رسله، ولم يقف من تلك الوضعيات الدرامية التي جسدها موقف المتفرج، وإنما لجأ إلى مواجهته فكريا، ومدافعته إيديولوجيا لزعزعة قناعاته وتصحيح المغالطات لديه، الشيء الذي يؤكده اختياره تنويع الأصوات والحوار. فأمام التراجعات التي يعرفها المجتمع على مستوى الفكر والقيم، وبعد أن استعصى عليه تبصرة الآخر بالحقيقة في الواقع، سلك الكاتب مسلك الابداع والحكي، لعله يجد سبيلا إلى فكره المتصلب. ويعتبر الشخص الذي أصر على اعتبار السجن مدرسة بدل الأم، رغما عن أنف حافظ إبراهيم، في قصة "كلام موظفين لا غير" دليلا على ذلك. ص:76

لقد ساهمت مزاوجة الكاتب بين صوت المتكلم وصوت المخاطب وانتقاله بينهما في خلق "مساحة سردية معبأة برغبة الذات في اكتشاف كنهها المهدم، وحقيقة اغترابها في ظل الشعور بالضياع الذي يمارسه المكان بوصفه مسرحا للوجود" . والمكان هنا يضيق ليعبر عن الفضاء المحلي، ويتسع ليشمل الفضاء العالمي، لما تعرفه الأمكنة والأزمنة من تداخل وتأثير وتأثر في ظل القرية الكونية، أما الاغتراب عند الكاتب فهو اغتراب فكري وسلوكي على وجه الخصوص، عبر عنه في قصة "يقطينة" ص: 67. فقد تغير مفهوم الوطنية وحب الوطن، فأصبح المغربي ينقم على وطنه، بمجرد عبوره المتوسط، وجمع بعض الأورويات التي أضحت تتحكم في الوضع الاعتباري للأشخاص، فيصبح "رأس اليقطينة" المجوف الفارغ ذا قيمة اجتماعية، بينما يظل المثقف بالرغم من امتلائه الفكري والعلمي في الدرجة الثانية، إنها سلطة المال والجاه التي جعلت المثقف بما يحمله من قيم ومبادئ مغتربا في وطن تغيرت فيه المفاهيم، وتطبع فيه الانسان مع الفساد بشتى أنواعه، فأصبح الغش والخيانة والكذب عنوانا للذكاء والحذق، والأمانة والوفاء والصدق صفات للسذاجة.

بناء على المعطيات السالفة المتعلقة بالملامح الدرامية والتجليات المسرحية باعتبارها وسائل فنية، ثم الاعتناء بالفكرة والموقف باعتبارهما معطى موضوعيا ارتكزت عليهما المجموعة القصصية، تكون الكتابة الإبداعية عند أحمد بلقاسم كتابة واعية، تجمع بين الوعي الثقافي والوعي الفني اللذين لن ينتجا في النهاية سوى شكل إبداعي تجريبي أصيل، بعيدا عن الحذلقة اللغوية والتعمية الفنية التي تقترف في حق القصة والإبداع عموما تحت شعار التجريب. وإذا كان أحمد بلقاسم يختار من الوسائل الفنية ما يلائم الواقع الراهن الغارق في دراميته، فإني أعتقد جازما أن ذلك منتهى الصدق والالتزام في الكتابة الإبداعية لا بمفهومها الأخلاقي والسياسي، وإنما بمفهومها الفني الإبداعي الذي يعبر عن أصالة الكتابة الإبداعية وانخراطها في الشأن المجتمعي والإنساني.

***

الدكتور: محمد رحو

في المثقف اليوم