قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: الذِّئب في الشِّعر العَرَبي (6)

دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات

لئن كانت طبيعة الصِّراع التي انطوت عليها صُورة (البُحتري) للذِّئب قد وجَّهتها وجهةً معيَّنة، اتَّسَمَت بملامح التوحُّش والشراسة، فإنَّ طبيعة العلاقة التي كانت بين (الفرزدق) وذِئبه قد وجَّهت الصُّورة وجهةً معاكسة، اتَّسَمَت بهدوءٍ حَذِرٍ من الطَّرفَين، في محاولةٍ لكسب الودِّ والصداقة. ويبدو أنَّها قد أفلحت- على الأقلِّ- في الإبقاء على السَّلام بينهما:

وأَطْلَسَ عَسَّالٍ، وما كانَ صاحِبًا،

دَعَوْتُ بِناري(1) مَـوْهِـنًـا فأَتـانِـي

فلمَّا دَنا قُلْتُ: ادْنُ دُونَكَ، إِنَّـني

وإِيَّـاكَ فـي زادِي لَـمُشْـتَرِكـانِ

فبِتُّ أُسَوِّي الزَّادَ بَيْـنِـي وبَـيْـنَـهُ

عـلى ضَـوْءِ نَـارٍ، مَـرَّةً ودُخَـانِ

فقُلْتُ لَـهُ، لَـمَّا تَـكَـشَّرَ ضاحِكًا

وقائمُ سَيْـفِيْ مِنْ يَـدِيْ بِمَكـانِ:

تَعَـشَّ فإِنْ واثَقَتْنِـي لا تَخُـوْنُنِـي،

نَكُنْ مِثْلَ مَنْ، يا ذِئْبُ، يَصْطَحِبَانِ

وأَنْتَ امْرُؤٌ، يا ذِئْبُ، والغَدْرُ كُنْتُما

أُخَـيَّـيْنِ، كانا أُرْضِعَـا بِـلِـبَـانِ

ولَوْ غَيْرَنا نَبَّهْتَ تَلْتَمِسُ القِـرَى

أَتَـاكَ بِسَـهْـمٍ أو شَبَـاةِ سِـنَـانِ

وكُلُّ رَفِيْقَي كُلِّ رَحْلٍ، وإِنْ هُما

تَعاطَى القَنا قَـوْماهُما، أَخَوَانِ(2)

فبدا (الفرزدق) كمَنْ يدعو (الذِّئب) بناره- بخِلاف (البُحتري)- وكمَنْ يستقبله ضَيفًا. في حين دنا الذِّئب من زاده دُنُوًّا، لا هجومًا. فباتا متسامرَين بالرغم من الحَذَر، حتى إنَّ الشاعر ليكاد يرَى في تكشيرة الذِّئب ضَحِكًا، إلَّا أنَّه لا يغترُّ به؛ لأنَّه يعلم أنَّ الذِّئب والغَدر أُخَيَّان. وقد ذَكَّرَهُ مَعْرُوفَهُ، وامتنَّ عليه بطعامه- مع أن الذِّئاب «كواسب لا يُمَنُّ طَعامُها»، كما قال (لَبيد)(3)- ليَسْلَم من شَرِّه. وأجمل ما في صورة الذِّئب هذه ما خلعه الشاعر على الذِّئب من أَنْسَنَةٍ؛ فحاورَه، وسامرَه، وهو ما لم تتضمَّنه قصيدة البُحتري. وكأنَّ (الفرزدق)، ببيته الأخير، يُعبِّر عن رمزيَّة حكايته هذه. ولئن صحَّ ما قيل عن واقعيَّة حكايته مع الذِّئب- كما يؤكِّد ذلك خبرٌ سيق قبل القصيدة- فما يمنعُ ذلك من أنَّ الشاعر قد وظَّفها رمزيًّا، إمَّا للتعبير عن توحُّشه بعد فِراق صاحبته (نَوار)، التي يبكيها بعد أبيات الذِّئب مباشرة(4)، أو للتعبير عن سماحة قومه- الذين يذكرهم من بَعْد- وعن شجاعتهم، أو عن كلا هذين الموضوعين. ولعلَّ ذاك كان من أسباب الاتِّجاه الإنسانيِّ في تصوير الذِّئب وتعميقه.

-2-

ومن الشُّعراء مَن أَحَسَّ حُزنًا في عواء (الذِّئب)؛ فعبَّرَ عن ذلك قائلًا:

بِهِ الذِّئبُ مَحزونًا كأنَّ عُواءَهُ

عُواءُ فَصيلٍ آخِرَ اللَّيلِ مُحْثَلِ(5)

وآخَرون أحسُّوا لصوته طَرَبًا، قال (مغلِّس بن لقيط)(6):

عَوَى مِنهمُ ذِئبٌ فطَـرَّبَ عادِيًا

على فعليات(7) مُسْتَثَارٍ سَخيمُهـا

إذا هُنَّ لم يَلْحَسْنَ مِن ذي قَرابةٍ

دَمًا هُلِسَتْ أجسادُها ولحُومُها

وقال (الأُحيمر السَّعْدي)(8):

عَوَى الذِّئبُ فاستأنستُ بالذِّئبِ إذْ عَوَى

وصَـوَّتَ إِنـســانٌ فـكِــدتُ أَطِــيـرُ

وفي لوحةٍ إنسانيَّة صوَّر أحدُهم حُزن (الذِّئب) على فَقْد جِرائه، إذ يستقبل الرِّيحَ لعلَّه يجِد ريحها، فقال:

كسِيْدِ الغَضَى العادِي أَضَلَّ جِراءَهُ

على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الرِّيحِ يَلْحَبُ(9)

و(ذِئب الغَضَى) هو أخبث الذِّئاب، كما كانوا يصفونه. (10)

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

............................

(1) رواه (المبرِّد، (1986)، الكامل، تحقيق: محمَّد أحمد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة، 1: 473): «رَفَعْتُ لناري»! ثمَّ خاض يحتجُّ لهذه الرواية، على أنَّها على سبيل القَلب. وما هي، في أغلب الظَّن، إلَّا على سبيل التصحيف من «دعوتُ بناري»، كما في ديوان الشاعر. وقد قاس (المبرِّد) روايته المقلوبة على قول العَرَب، تعبيرًا عن الكرَم: «رَفَعْتُ لَهُ ناري». غير أنَّ موقف (الفرزدق) مختلف؛ فهو لم يَرفع ناره (للذِّئب) ليستضيفه، بل فوجئ به آتيًا، لمَّا رأى ناره، كأنها دعته، فأطعمه، اتقاءً لشرِّه، كما أورد في قصيدته، وكما جاء في سياق حكايته مع الذِّئب، الواردة قبل القصيدة. (يُنظَر: (1983)، ديوان الفرزدق، بعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة)، 2: 590). والقول بالقَلب هاهنا تكلُّف، يسوِّغ إفساد الصياغة، بلا مُسَوِّغ، وفوق هذا يُفسِد شِعريَّة النصِّ. ذلك أنَّه لو صحَّ أنَّ الشاعر قال كما زعم المبرِّد، لكان التأويل على ظاهر البيت- بلا قَلبٍ- أشعَر؛ وكأنَّه يقول: إنَّه رفعَ الذِّئبَ لنار شِعره، لتُصوِّره، وتُؤَنْسِنه. غير أنَّ هذا ضربٌ حداثيٌّ من الشِّعريَّة، لا يحتمله مذهب الفرزدق، وليس من شِعر عصره في شيء. على أنَّ كثيرًا ممَّا يُنسَب إلى القَلب لا قَلب فيه، ومنه الآية القرآنيَّة ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُوْلِـيْ القُوَّةِ﴾، التي استشهد بها (المبرِّد، 1: 475). فالمفاتح لثقلها تنوءُ بالعُصبة بالفعل، أي تَنُوْد بها وتَميل، وتُبعِدها عن سَويَّتها. فلا قَلْبَ، إذن، في الآية، بل هو تعبيرٌ جارٍ على ظاهر معناه. وهذا ما رجَّحه (الطَّبَري، (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر، 18: 318- 319/ سُورة القصص: الآية 76)، إذ قال: «وكان بعضُ أهلِ العَرَبيَّة من الكُوفيِّين يُنكِر هذا الذي قاله هذا القائلُ [أي القَلْب]... وقال آخرُ منهم في قوله: ﴿لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾: نَوْءُها بالعُصبة: أنْ تُثْقِلهم. وقال: المعنى: إنَّ مفاتحه لَتُنِيءُ العُصبةَ، تُميلُهن [كذا! والصواب: تُميلهم، أو تميلها] من ثِقْلها. فإذا أدخلتَ الباء، قلتَ: تَنوءُ بهم... وهذا القول الآخَر في تأويل قوله: ﴿لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾ أَولَى بالصَّواب من الأقوال الأُخَر؛ لمعنَيين: أحدهما، أنَّه تأويلٌ موافقٌ لظاهر التنزيل، والثاني: أنَّ الآثار التي ذكَرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت، وإنَّ قول مَن قال: معنى ذلك: ما إنَّ العُصبة لتَنوءُ بمفاتحه، إنَّما هو توجيهٌ منهم إلى أنَّ معناه: ما إنَّ العُصبة لتَنْهَض بمفاتحه، وإذا وُجِّه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنَّه أُريدَ به الخبرُ عن كثرة كنوزه على نحو ما فيه إذا وُجِّه إلى أنَّ معناه: إنَّ مفاتحَه تُثقِلُ العُصبةَ وتُميلُها؛ لأنَّه قد تَنْهَض العُصبةُ بالقليل من المفاتح وبالكثير. وإنَّما قصَد جَلَّ ثناؤه الخَبرَ عن كثرة ذلك، وإذا أُرِيدَ به الخَبرُ عن كثرته، كان لا شكَّ أنَّ الذي قالَه مَن ذكَرنا قوله، من أنَّ معناه: لتَنوءُ العُصبةُ بمفاتحه، قولٌ لا معنى له! هذا مع خلافه تأويلَ السَّلفِ في ذلك.» ويبدو الأمر واضحًا لكلِّ ذي سليقةٍ عَرَبيَّةٍ سليمةٍ من تحذلق النُّحاة، وشقشقة اللفظيِّين، ممَّن قد يحرِّفون المعاني من بعد مواضعها.

(2) الفرزدق، ديوانه 2: 590- 591.

(3) (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 308/ 38.

(4) يُنظَر: الفرزدق، 2: 591.

(5) (1982)، ديوان ذي الرُّمة، (شرح: أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي- صاحب الأصمعي، رواية: أبي العبَّاس ثعلب)، تحقيق: عبدالقدوس أبي صالح، (بيروت: مؤسَّسة الإيمان)، 3: 1488/ 62. ومن معاني «المُحْثَل»: الذي لم تُرضِعه أُمُّه.

(6) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 1: 378- 379.

(7) كذا، دون ضبطٍ من المحقِّق ولا شرح. وجاء في هامش (المرزباني، (2005)، معجم الشُّعراء، تحقيق: فاروق اسليم، (بيروت: دار صادر)، 364): «جاء في الهامش: أنشد الجاحظ، في «الحيوان»:

عَوَى مِنهمُ ذِئبٌ فطَـرَّبَ عاوِيًا // له مُجْلِباتٌ، مُسْتَثَارٌ سَخيمُهـا.»

والبيت هكذا أقرب إلى الصواب؛ لما يبدو أنَّه مسَّه من تصحيفٍ في نسخة «الحيوان» المطبوعة.

(8) يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 1: 379.

(9) يُنظَر: م.ن، 4: 132.

(10) يُنظَر: أبو حنيفة الدينوري، (1974)، كتاب النبات، حقَّقه وشرحه وقدَّم له: برنهارد لفين، (فيسبادن- ألمانيا: فرانز شتاينر)، 155.

في المثقف اليوم