قراءات نقدية

قراءات نقدية

استطاع الدكتور جمال العتّابي أن يوثق ضحايا أحداث انقلاب 8 شباط 1963 من خلال روايته (منازل العطراني) الصادرة مؤخراً عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وبواقع (253) صفحة من الحجم المتوسط، وبتصميم رائع للدكتور فرات جمال، وهي الرواية الأولى للكاتب جمال العتابي.

حين علمت بإصدارها وأنا بشوق للاطلاع عليها، وكان قلبي يرشدني أن الدكتور سيرسلها اهداءً، وكان ذلك، استلمتها وأنا اتمعن بتفاصيل أدوار أبطالها، وأماكن أحداثها وهذا ما كان، فقد كتبها من القلب، وهو ينقل لنا الأحداث بشكلٍ مفصل ومذهل للأماكن والأحداث.

بطل الرواية محمد الخلف المعلم من مدينة الخضر جنوب مدينة السماوة والسجين السياسي الهارب من السجن وهو يواجه أحداث انقلاب شباط 1963م. يروي لنا العتّابي اصداء سور السجن التي تنشد لنا نشيدهم (السجن ليس لنا نحن الأباة... السجن للظالمين الطغاة). ثم ينقلنا بحوار حول نتائج الانقلاب ومقتل الزعيم قاسم والثرثرة في الباص الخشبي ص14: (الزعيم ما زال يقاوم من مقره في الدفاع، معه عدد قليل من معاونيه. فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب. عبد الكريم قاسم كان لا يثق بالشعب وحتى في أصدقائه المقربين إلى آخر لحظة. والله يبين الأمور محسومة لجماعة الانقلاب... الفلاحون البسطاء يدركون مقدار حماقة القائد العسكري). بهذه الكلمات ينقلنا لواقع حال ساعة الانقلاب، والدكتور العتّابي قد عايش تلك اللحظات، وهو الذي يحلل النتائج وينقلها لنا بحوارية رائعة من خلال بطل الرواية محمد الخلف المولود في قلعة سكر.

لقد انصف الدكتور العتّابي ضحايا الانقلاب، والقتلة المتعطشين للدماء، وهو يصف لنا لحالة مقتل الزعيم في دار الإذاعة. وبسياحة ممتعة جمع العتاّبي أساليبه السردية المتعددة بصفحات الرواية، وهي مزيج من الأحلام والانكسارات، فكتبها بذهنية ممن استوعب التاريخ. أجد في رواية منازل (العطراني)، يرغب الروائي فيها أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. فرواية (منازل العطراني) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي العتّابي بعد انقلاب 1963م، وذلك العالم المجهول بعد الانقلاب، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (محمد الخلف)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص.

ففي ص19 يربط الروائي (رائحة الدخان المتعالي من أطراف المدينة، برائحة نفط أسود مشتعل لشواء الطين في كورٍ بدائية تصنع الفخار، توارثها العراقيون من أجدادهم السومريين)، بهذه الكلمات يؤكد لنا الربط بين صناعة الفخار الموروث من قدماء العراقيين، ثم ينقلنا بلحظات خاطفة وبطيئة إلى قرية العطرانية ومنزل اخته (أم عباس) الملجأ الأخير للهروب من عناصر الحرس القومي.

الرواية فيها الكثير من الأوصاف الأدبية الجميلة التي لا تتكرر أمثال ("مزموم الفم"، "الريح نحسٌ في الشتاء تسرق نعاس الأطفال في الليالي"، "النجوم الشفيفة كانت تضيء"، "أسمع صرخاتها كبكاء النوارس في صباحٍ شاحب"، "الويل لمن يتنصت على قلبه أو يسترق السمع لرئتيه، هذا البلط يقتل الصمت"، "ليرى مشهد المدينة المسوّر بالخوف والترقب"، "أعمدة تلغراف صدئة يحوم حولها غرابٌ أسود").

فالروائي كان متمكناً من أدواته في السرد والتسلسل التاريخي للأحداث، ليجد القارئ نفسه يعيش تلك الأجواء كحقيقة مرعبة، ينتقل مع بطل الرواية عبر تسلسلها الزمني، خائف عليه ليسقط في أيدي عسس الليل أو عناصر الحرس القومي. نجد الروائي يعاني من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. ومع ذلك فإنه لا يستطيع إلا أن يكتب من خلال طموح الاعتراف بموهبته التي لن تفارقه، فيتعلق بالهدف من خلال روايته التي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ونجد ذلك في صفحات روايته ص33: حين تلومه والدته على دخوله المعترك السياسي (خلّي سلاتين يسلتكم!!)، ترددها كنوع من العتاب لأم متلهفة لإبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، و(سلاتين) هنا تقصد به القائد الشيوعي (ستالين)، أو في ص40 حينما ينقلنا الروائي لحال عائلة محمد الخلف حينما تتحدث زوجته لأبو عباس المرسل كي يجمع اطراف العائلة في قرية العطراني: (كما ترى يا ابن عمي، انقطع خالد عن الدراسة لا أظن أنه سيعود إليها، لديه خشية من الاعتقال، البقاء في البيت بعيداً عن عيون العسس أسلم له من التجوال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجاتنا اليومية، عامر يلفّ الأزقة في دراجته منذ الصباح الباكر يبيع الصمون قبل الذهاب إلى المدرسة، أما عادل فما زال صغيراً لديه رغبة بالمشاركة). هذا هو واقع حال عائلة السياسي في عراق الثورة والثروة، ثم ينقلنا الروائي في ص43 إلى حال العاصمة بغداد وكثرة نقاط التفتيش للبحث عن أخوة الأمس وخصوم اليوم.

شخوص الرواية قد صاغها ونسجها بتأني وبدقة عالية ليظهرهم من الواقع الذي جعلنا ندور مع افلاكه وهم يتعذبون بسياط الدكتاتورية أمثال: محمد الخلف صالح كيطان، نوار، خالد، عويد، رضية، فطيم،  وغيرهم.

الرواية تتسابق الأحداث فيها بوصف تنقلك من حدث إلى آخر، وتوثق الواقعية التاريخية والأدب الحقيقي. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين. وتشكل موضوعة الرواية الضحية والجلاد وجوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. من عادة العتّابي أنه لا يترك ثيمّةً أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (منازل العطراني) التي يتكون عنوانها من كلمتين. فضلاً عن أن الرواية تحمل موقف استشهاد (عامر)، كذلك موقف الزوجة (زهرة) التي تمثل الزوجة العراقية المضحية.

الرواية تمثل سيرة ذاتوية بعد ربط الرواية بمذكرات الأديبة والصحفية منى سعيد الطاهر (جمر وندى) الصادرة عن دار سطور، والمتزوجة من الشهيد سامي العتّابي، والمتمثل بالرواية باسم (عامر). فالسرد الذي تسير به الأحداث حين تعرض منى سعيد الطاهر رحلة الخوف هذه، والهروب والتخفي من الاعتقال حتى تنال الأجهزة الأمنية من زوجها، و(سما) هي يمام ابنتها كانت في عمر الشهرين وبدسائس لا تجد للآن تبريراً لها ينال سامي حصته من التعذيب والشهادة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل

بحرف ينبؤ عن دقة التوصيف جاء به شلال عنوز في قصيدته (جنون العواصف) ليضعنا في خضم بوح الحالة التي تشعر القارئ بالانقلاب على لاشيء، على كل شيء، يدفعنا بحرفية مايوظفه من صورة تنطق بجمال الوصف عبر تكريس التنافر في الدلالة والمعنى عبر الزمن باختلاف تقلباته مابين الانتظار والضياع الذي تمثله الخيبات التي عبر عنها ب(تذرع الوقت وتحصي مطارق الخيبات) تلك الخسارات التي يحصيها بحساب الوقت، ضياع في ضياع.

أي أن عنوز ادخل عنصر الوقت لأحصاء الزمن ومايتركه على الإنسان بحسابات الخسارة والربح مخلفا حالة من الضياع أو الشتات في الفكر الذي يتجاوز الحاضر وينشغل بما كان.توصيف دلالي رائع هو أقرب للفلسفي في توظيف الشعر الوجداني، فالخسارة حالة وتجربة حياتية، وكلاهما معايشة إنسانية تترك أثرها على كل ماله علاقة بالإنسان، اجاد شلال عنوز بمدخل وصفي دلالي استطاع من خلاله أن يترك أثره المغاير على طبيعة القراءة السائدة عند المتلقي، ويحفز عقله للخوض في تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل الذي ترك فيه عنوز الحرية للمتلقي من أن يبحر خلاله عبر الصمت الذي وشحه بطيلسان يلف فيه مواطن ما تخلفه العاصفة من وجع.

في عُنف جنون العواصف

كنت تذرع الوقت

وتُحصى مطارق الخيبات

تُلملم أذيال الاغتراب مُنهكا

تُدثّر مكامن الوجع

بطيلسان الصمت

وحين أراد أن يصور مواسم الدهشة في قصيدته، أوقفنا شلال عنوز عند منعطف الاستفهام فأورد تساؤل دلالي ب (مَن) الاستفهامية، ليضع القارئ في حيرى السؤال وحيرة الإجابة، فليس من بيننا من يعرف جواب ذلك الاستفهام (من القائل) وتلك حركة تصاعدية في توظيف الصورة الناطقة في القصيدة ليضفي على شكلها العام جمالية مزدوجة تنبؤ باستمرار التخيل والقراءة في آن، والتصاعدية في التوظيف الدلالي تتوج أبيات عنوز بغموض موشح بالغيبيات التي غالبا ماتضع القصيدة في خانة الاستفهام الدلالي الذي جاء به بدلالة الزمان (النهارات وسكنات الليل).

مَن قال أن للعواصف حَين

ومواسمها مُطلَقة النزول

هي تأتي حيث لا يشتهيها

بَوح النهارات

وقد لا تشتهيها سكنات الليل أيضا

صور شلال عنوز الشعرية في قصيدته جنون العواصف لم تخرج من فراغ، بل على العكس سعى جاهدا من خلالها وبخبرته وتجربته الشعرية الفذة ليضع بين يدي القارى مصارف التوظيف الدلالي فذهب لاستخدام الدلالة العلمية (علمنا) أي أن هناك تجربة للتعلم عاشها الشاعر ووظفها في أبياته، فجاء ب (علمنا الدهر) نانجة عن فعل التعلم والجمع (نحن) جماعة المتكلمين، اي تجربة عامة، جمالية الصورة التي وصفناها بالناطقة فعلا، ومنها ادخل عنوز الوصفية الدلالية فقال (عاصفة تسر وعاصفة تضر)، أراد منها تقلب الأحوال وانطباعات الناس فيما تجسده من اختلاف وهنا الجمالية الحركية للصورة التي ترك من خلالها عنوز فسحة الأمل لمن يتضرع لينجو ممن اسماهم ب(الخائفون).

استطاع عنوز عبر صوره تلك رسم لوحة شعرية مطعمة بالتوصيف والدلالة الحسية والمكانية وصور التخيل الوصفي من أن يسحب القارى نحو استنطاق المشهد الشعري برمته في قصيدته ليضعه على مكامن التقلبات الحركية التي أبدع فيها عبر توظيف عناصر البناء الشعري بما يخدم التصور والتخيل، ثم ليستبدل ذلك كله بمشهد شعري رائع ينفي فيه كل ماكان فجاء بحقيقة كونية جسدها الإيمان القطعي بالإستفهام حيث قال متسائلا في ختام قصيدته (وهل صدق المنجمون)؟!!

تساؤل يجسد حقيقة المقولة المأثورة التي تقول :(كذب المنجمون ولو صدقوا).

متلازمة شعرية رائعة بأبعاد دلالية وصفية حسية جمالية رسم من خلالها شلال عنوز قصيدته الجميلة (جنون العواصف) فأبدع بما جاء من صور شعرية احتوت في الكثير منها على التناقض الممتع الذي يخدم المشهد الشعري بشكل عام.

عَلّمنا الدهر أنّ العواصف نوعان

عاصفة تَسرّ وعاصفة تَضرّ

ومابينهما يتضرع الخائفون

بالنجاة

من أعاصير تأكل آمالهم

وأنت المٌقيّد بسلاسل القهر

تُمعِن النظر في عين السماء

وترفع كفّيك بالدعاء

عَلّ العاصفة تنجلي

عن بريق فرح

في خضمّ وِفادة

عام قادم

وهل صدق المُنجّمون ؟!!

***

سعد الدغمان

إن الكاتب ولاعب رقعة الشطرنج كلاهما يلعبان (العقلانية) على رقعة جغرافية الواقع في مواجهة الحدث، وهكذا أقتحم العبيدي(الواقع) بجرأة وثقة كبيرة في كشف أفرازات القرن العشرين التعيسة وما تبقى من فواتير الخيبات والنكوصات لتلك الحروب العبثية الملوثة بالحصار الأقتصادي الظالم، نعم (غداً) سوف تسددها جراحات الشعب العراق .

إن سيمياء العنوان "كم أكره القرن العشرين" يحمل كل مفردات السيمياء والتي هي (أداة) لقراءة السلوك السايكولوجي للذات البشرية في عموم مظاهرهِ المختلفة بداً من الأنفعالات مروراً بالطقوس الأجتماعية والأنتهاء عند الآيديولوجيات، وتدور أحداث الرواية في ثمانينيات القرن الماضي وتحكي حياة أبطالها من جيل الشباب الغض مرغمين ومدفوعين  إلى محرقة الموت حيث المجهول والضياع . 

أبرر كراهية الروائي العبيدي للقرن العشرين وأشاطرهُ الرؤى فيها لكوني تعايشتُ مآسيها وخيباتها ومطباتها التأريخية مثل (الحرب العراقية الأيرانية 1980 ، ضرب حلبجة بالكيمياوي 1988، حرب الكويت 1991، قمع الأنتفاضة الشعبانية 1991الحصار الأقتصادي 1991)، وأبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد تلك الحرب بمسلسل درامي في هجرة آلاف من الأ سر البصرية وتألم الروائي البصري من أوجاع البصرة وما أصابها من شظايا تلك المآسي والويلات لتلك الحروب المجنونة، ودخل العراق في القرن الواحد والعشرين بأم النكبات التي هي الأحتلال الأمريكي البغيض في 2003، لذا أثني على رؤية الروائي عبدالكريم العبيدي في كراهيتهِ للقرن العشرين ولآن الرواية تحكي عالم أبناء جيلنا وطفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا الممنوعة ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، إنها الرواية الواقعية ذات النهايات المفتوحة بأسئلة وأرهاصات سوداوية لم تتم الأجابة عليها، لقد أقنع المتلقي بكونها منجز أدبي وثقافي متكامل من بنية معمارية وهندسة لغوية ونصية نثرية برصانة أدبية شكلاً ومضموناً، وهو يريد توصيل القاريء إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل عبر مطحنة الصراع الطبقي التي أجهزت على الطبقات الفقيرة بلا رحمة وكأنها هي المعنية وحدها بفواتير الحرب الثقيلة، فهي حكاية تراجيدية مأساوية لتلك الزمكنة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة، وبحبكة سردية رصينة يلقي ضوءاً كاشفاً على صيرورة وكينونة جيل القرن العشرين على أنهُ : فقد الأحساس بالزمن ولم يعي لديناميكية الظواهر السوسيولوجية عدا الدموع والجنائز وخيم الفواتح والجدران الموشحة بيافطات سوداء تحكي أسماء دافعي فاتورات تلك الحرب المجنونة وهم يتعايشون خلال فراغ زمني موحش يجتر الغيبيات في تقديس القديم بعفوية فطرية بسبب فوبيا المجهول، وهو شيءَ طبيعي حين تنحوالطبقات الفقيرة البائسة إلى ما هو معروف بألعاب الحظ ولو إنها من أختراعات مافيات المال والفساد للوصول إلى المال السهل .

نجح الروائي العبيدي في أظهار مأساة جيل الحرب العبثية ومقصلة الحصار الأقتصادي والتآسي للذين ولدوا أبان تلك المطحنة البشرية وأكتوت طفولتهم المبكرة بمآسي حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، حقاً هو كاتب محترف بميتافيزيقية الكينونة البشرية وأعماقها المظلمة بتوليفة نهايات براكماتية تعكس الواقع .

اسلوب الروائي عبدالكريم العبيدي

-يلقي الضوء الكاشف برشاقة وشفافية متناهية على سرديته النصية وترويج تكريس " السلام العالمي. "، ونبذ الحروب والنظم الشمولية وهو القائل: ومن قال : إن الحرب فيها منتصر!؟ وهي تسرطن النفوس .

- وبروايته يحتفي بقضايا الرأي والثقافة والتأريخ .

- توظيف تجارب أدباء عالميين في الصبر والمطاولة القيمية المعرفية متقارباً مع صبر همنغواي في روايته الشيخ والبحر.

- توظيف تصارع الأضداد (العقل والجنون، الحرب والسلام، الخير والشر، الرحمن والشيطان، الحقيقة والزيف) .

- تمكن من رسم السعادة بأرق معانيها وعرى واقعية الحرب بكل جرأة مبيناً عبثية الحياة في جغرافية أتون الصحراء الملتهبة والمستلبة للروح البشرية، لذا اراهُ يلقن أبطال روابته معايشة الجفاف الروحي .

- وجدت في قراءة الرواية: بروز الملامح وحركية الأبداع والتجريب في الخطاب الروائي، حينها أبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد أوجاع تلك الجريمة بمسلسل درامي في أستلابات الحرب وهجرة الآلاف .

- أعتمد الروائي على سيمياء العنوان كما هو أسلوب أكثر الروائيين عموماً نموذج رواية ماركس في العراق للروائي فرات المحسن في أستعماله أسما بارزا، وربما تنحو عند ألآخرين إلى السعة والتنوع كما في رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي والنخلة والجيران لغائب  طعمة فرمان، والثلاثية لنجيب محفوظ، ربما ترى سلبية عادية في سريان اليأس في أدبيات الروائي الفذ العبيدي في الفصول الأولى وهو شيء طبيعي يظهر في أغلب الروايات العالمية، وهويقول: كثيراً ما أذلني اليأس من مرارة التجوال داخل أزقة غدت عزوفة عن تقبل أي أحساس يداهمني من خارج خوائها شاخت البصرة يا (بالاجاني) غادرت ماضيها بلا رجعة، وتحولت نهاراتها إلى مترادفات مبهمة قبيحة الوجوه وفاقدة للوضوح، أيضاً لم يعد فيها ما سيستوجب التمعن أو يستحق أي رثاء لقد بدأ الأمر وكأن البصرة قديمة تنزاح مقسمة لمعاول الخراب، رسم ركام دولة جديدة من دويلات أواخر القرن، وببراعة الروائي نقل الفعل من واقعه الحقيقي إلى عمل فني يترك للمتلقي خيال الم مزدوج بنوع من الأضطراب والقلق المتأتية من فوبيا جمهورية الخوف والأستدعاءات الشبه أسبوعية من قبل دوائر الأمن وليس بالضرورة أن يعود إلى البيت لحماً حياً أو يبتلعهُ الثقب الأسود لجمهورية الرعب .

- وشكل العبيدي في رواته الرائعة " كم أكره القرن العشرين " نسيجاً محكماً في سداه ولحمته من خلال الأحداث الواقعية على جغرافية العراق في الحرب والسلم والحب والكراهية والرعب والأمان والموت والحياة .

- وأجمل ما في الرواية وجدتُ بمجمل فصولها شعبية واسعة من الجمهور المتلقي والأعجاب الشديد بفصول الرواية لتسلسل الأحداث وتراكيبيتها التأريخية ربما تأثر الروائي ببعض الفلسفات كالفلسفة اليونانية والفلسفة الماركسية من خلال معالجته للأحداث وهي مارة بالصراع الطبقي وحتمية التأريخ .

- ويتألم العبيدي من بؤس ووجع البصرة الفيحاء ويقول في فصله الأخير: لابد أن أقر بهزائمي لم يعد العقل أعدل الأشياء توزعاً بين الناس يا " ديكارت " في هذه المدينة المجنونة هو بيت الداء المسكون بالجن، النخل شاص مبكراً وبات في أعنف نوبات شكوكك يا "ديكارت "وتكون مسؤولاعن أول ضربة معول في فوضى هذه الحواس .

***

عبد الجبار نوري - كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

ديسمبر2023

 

إقامة المهرجانات والعروض والمعارض الفنية والندوات والمؤتمرات ظاهرة ثقافية حضارية مهمة تتضمن دلالات تعافي المجتمعات، وارتقاء الوعي وتنمية الذائقة والحس الجمعي، وإكساب الإنسان المزيد من التوجهات المفيدة، والقدرة على فرز النتاجات ذات المضامين والأساليب الراقية عن النتاجات المتدنية.

قدم في مهرجان مسرح الشارع في كركوك - الدورة السابعة بتاريخ ١٩- ٢١/ ١١ / ٢٠٢٣ أكثر من عشرين عرضا مسرحيا متنوع الطروحات والتوجهات الفكرية والفنية، وهذا أمر طبيعي في المهرجانات كافة، ولكن ما تفرد به المهرجان هو فتح بوابة جمالية جديدة نأمل أن تحذو حذوه فيها المهرجانات الأخرى اللاحقة، وذلك حين جعل للمهرجان بأربعة مسارات:2039 مسرح كركوك

المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.

المسار الثاني: العروض العامة ذات المضامين الموجهة للمجتمع المحلي.

المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات / الشباب.

المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال.

وذلك استنادا إلى أن مسرح الشارع واحد من أنواع المسارح التي:

1. تسعى إلى جذب المتلقي بالذهاب اليه، ولا تنتظر قدومه إليها.

2. تقدم مضامين تمس حياة المتلقي بصورة مباشرة ومكثفة.

3. تسهم في صناعة جمهور مسرحي وتنمي ذائقته الجمالية.

فيما يلي عرض لنموذج أو أكثر من المسارات الاربعة:

نموذج المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.2040 مسرح كركوك

قدمت فرقة (كويا) من مدينة كويسنجق - اربيل مسرحيَّة (رسائل البحر) أداء (هونر محي طاهر - دكتور كيفي أحمد عبدالقادر - فريدون حمد أمين) في مجمع (بوليفارد) للتسوق.

بدأ العرض مع الموسيقى، دخول اثنين من الصيادين، يسيران بحركة إيقاعية، يحملان أدوات الصيد (دلو وسنارة) ومفارقات كوميدية بسبب صعوبة تفاهم الشخصيتين، فهما يسيران، يصطدمان ببعضهما، وعندما وجدوا شيئا مهما في حوض النافورة أحدهما يطلب الصمت والآخر يصدر ضجيجا، أحدهما يجد صعوبة وشقاء وعناء لفتح الكرسي المحمول لغرض الجلوس والآخر يأتي إليه ويفتح الكرسي ببساطة وسهولة، وعندما ينوي الجلوس على الكرسي يسحبه الآخر من تحته فيسقط أرضًا، وحالما يقشر موزة ليأكلها يأتي صاحبه ويأخذها منه فجأة ليعطيه قطعة صغيرة منها ويأكل هو الباقي، وهكذا تستمر المفارقات.

شخصيتان تم طلائها بلون ذهبي من أعلى الرأس وحتى الحذاء، انهما صورة جمالية للصيادين جميعا، يبدأ الصيد بواسطة السنارة، ولكنهما يتركان الصيد، ويسحبون شبكة صيد، لا يستطيعان سحبها من الماء بمفردهما، تتم دعوة اثنين من الجمهور للمساعدة في سحب الشبكة، المفاجئة هنا هي أن ما موجود في الشبكة ليس سمكًا -كما هو متوقع- بل علب مشروبات غازية وقناني ماء فارغة وأحذية تالفة وقطع بلاستيكية وبعض الكائنات البحريّة المشوهة بسبب ما ابتلعته من نفايات.

ثمة تركيز واضح على وجود النفايات في المياه مما يقتل الكائنات البحريَّة ويجعل المياه ملوثة، لم يقل الممثلون كلمة واحدة ولكنهم أوصلوا رسالة بليغة.

استند العرض إلى فكرة موجودة ومتداولة كثيرا في العديد من المجتمعات، وتعمل عليها الحكومات والمنظمات بالندوات والمؤتمرات والملصقات الدعائية، وجميعها صيغ وطروحات مباشرة، أما العرض المسرحي (رسائل البحر) فقد عمل على تأطير الفكرة بجماليات جعلته جاذبا ومتفردا، فقد حضرت الكوميديا ووحدة الحدث وسادت فكرة أساسية على وفق ايقاع محكم، فضلا عن توظيف المكان.2041 مسرح كركوك

نماذج المسار الثاني: (العروض العامة) وهي التي تتناغم مع اتجاه الرأي العام وتوجهه:

عرضت في باحة المركز الثقافي يوم ١٩ /١١ مسرحية (مسافر من غزة) تمثيل (موختاري محمدي) وإخراج نجاة نجم، تناول العرض القضية الفلسطينية وتضحيات غزة وصمودها، وهو عرض مونودراما باللغة الكردية ، امتلك العرض وضوح الفكرة من خلال مفردات العرض غير الحوارية مثل الطفل المضرج بالدماء، العلم الفلسطيني، تعطير الجو برائحة البخور، طغيان صرخات غاضبة موجهة إلى الجمهور مباشرة، ومثيرة للتفاعل الوجداني، في نهاية العرض وزع الممثل طرود بريدية ملطخة بالدماء على عدد من المتفرجين وعند فتحها، كانت الصدمة، اذ كان في كل طرد حذاء ممزق ومدمى.

وغزة كانت حاضرة أيضا في عرض مسرحية (رسائل) الذي قدمته شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية المقدسة يوم ٢٠/ ١١،باللغة العربية، توليف وإخراج صادق مكي وتمثيل جعفر الأمير، قدم العرض في مجمّع (بوليفارد) للتسوق، وقد استخدم مفردات الكوفية الفلسطينية، وفرش مساحة التمثيل بالتراب واستخدم عبوات الدخان في إشارة واضحة للحرب، وقطع قماش بيضاء للدلالة إلى الأكفان والموت المحيط بالمكان فضلا عن لغة الحوار التي أفصحت عن الصراع مع الاحتلال وفيض مشاعر الغضب الممزوجة بالحزن والتحريض على الاستمرار بالمواجهة واستنهاض الهمم.

وعرضت مسرحية (كفى) من جمهورية سوريا تناولت قضية غزة (يحتفل عروسان بليلة زفافهما، يقصف المكان، يستشهدون) وهو عرض قصير وصادم.

توضح هذه النماذج الثلاثة أن مسرح الشارع يتناول القضايا الإنسانية الساخنة التي يعيشها المجتمع والعالم ويقدم رؤيته لها، فقد أفصحت العروض عن مشاعر التضامن والغضب، وطرحت المضمون نفسه ولكن برؤى متعددة.

نموذجين من المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات/ الشباب، وتم تقديم العروض للطلبة في (جامعة الكتاب)

عرضت مسرحية مونودراما لمعاناة امرأة في مجتمع الاستغلال الذكوري، فهي تفرح بزواجها ولكن بعد الترمل يظهر الوجه القبيح للتعامل مع المرأة /الأرملة، ويباع جسدها من أقرب الناس إليها وتتعرض للمهانة، استعان العرض بمفردات بسيطة ودلالات عميقة مثل الاستعانة بقطع ملابس رجالية من الجمهور لتكوين جسد الرجل الذي تفرح وترقص بزواجها منه، وتشارك الجمهور بورق لعب القمار عندما يصبح جسدها سلعة رخيصة، وقد شهد العرض تفاعلا جماهيريا بفعل تمكن الممثلة من تحريك المشاعر قوة خطاب الشخصية.

والنموذج الثاني هو عرض مسرحية (نخاسة) انتاج كلية الكنوز الجامعة، تأليف سعد هدابي، وإخراج علي الأحمد، تمثيل (أحمد الشمالي - احمد محمد - مصطفى مكي - احمد الغانمي) الموسيقى المؤثرات الصوتية الحية لحسام المبارك، شباب ملؤهم الحيوية جاءوا من مدينة البصرة، تناول العرض قوى السلطة التي تعمل على تحويل الناس إلى عبيد، وتدعي تمكنها من بيعهم في سوق النخاسة ولكنهم في النهاية يثورون على السلطة الغاشمة، سادت مفردة شد الحبال والتفافها بقوة السلطة على رقاب الناس وتحكمها بهم مثل الدمى المتحركة بواسطة الخيوط، وعندما يعيدون اللعبة بوعي آخر جديد، يتحررون من حبالهم ويطرحون السلطة ارضاً و يستعيدون حريتهم، تميز العرض بصوت تحريضي على خلفية من الإيقاعات الشعبية.

ومن نماذج المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال قدمت فرقة (اتحاد فناني كوردستان - فرع حلبچة) في مجمع (بوليفارد) للتسوق عرض مسرحية (العمل سحرية كاتا وكالي) باللغة الكردية، تأليف وإخراج (هه ردى هادى) اشتركت في أداءه ثلاث فتيات (توران وبيتا وبارين) أبرز ما عمل عليه فريق العرض هو الإيقاع الصوتي الحركي الذي تناغمت فيه الموسيقى مع استلام وتسليم حوارات فردية وجماعية وغناء وعزف حي من قبل (ياسين علي و ئاكار مصطفى) مع الحركة المعبرة المتنوعة، التي شغلت أرجاء مساحة العرض، وكانت خلفية العرض هو مسرح دمى خرجت منه الشخصيات في البداية، لتعلم الحضور بصيغة درامية عادات حميدة وسلوك جميل بواسطة الفعل وليس النصح والإرشاد المباشر، ثم عادت إلى بيت الدمى بعد أن أكملت مشاكساتها وحكايتها في النهاية، حضرت في هذا العرض الأجواء الاحتفالية بزيارة بابا نويل وهداياه الجميلة وأداء الدمى.، شكل هذا العرض علامة بارزة بالمهرجان لما تضمنه من متعة وتشويق وتعليم وتثقيف.

وإذا ما تم تعريف مسرح الطفل: بأنه مؤسسة اجتماعية تربوية.

وتعريف مسرح الشارع: بأنه مسرح المجتمع/ الشعب.

بناء عليه يمكن الجزم على أن مسرح الشارع ومسرح الطفل يعدان مدخلين للعمل على إعداد وصناعة الجمهور، فكيف هو الحال إذا قدمت عروض موجهة للأطفال في الشارع، ربما هي حالة فريدة من نوعها، تنطوي جرأة على فتح أفق جديد في المسرح.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

"رحلة إلى ذات امرأة" رواية تطرح العديد من النقاط، سأتناول في هذه المقالة بعضها:

المازوخيّة في الأدب: المازوخيّة هي مصطلح يُستخدم لوصف الشخصيّة التي تَشعر بالمتعة أو الإثارة عند تعرّضها للألم أو الإذلال. وقد تمّ استخدام هذا المصطلح في الأدب لوصف بعض الشخصيّات.

علاقة المازوخيّة في الأدب:

تتعلّق علاقة المازوخيّة في الأدب بالاستخدام المتعمّد لهذا المفهوم كجزء من تصوير الشخصيّات أو الأحداث في القصص والنّصوص الأدبيّة. وعادة ما يتمّ استخدام المازوخيّة كجزء من النزعة العاطفيّة للشخصيّات في الأدب.

على سبيل المثال، قد يتمّ استخدام شخصيّة مازوخيّة في الأدب لتصوير شخص يشعر بالإثارة عند تعرّضه للألم أو الإذلال، وعادة ما يتمّ تصوير هذا الشخص كشخصيّة مضطربة عاطفيًّا أو مريضة نفسيًّا، وقد يتمّ استخدام هذا المفهوم كجزء من النزعة الخاصّة بالشخصيّة أو كوسيلة لتعزيز القصّة بشكل عامّ.

يمكن أيضا استخدام المازوخيّة في الأدب كجزء من دراسة الإنسان ونفسيّاته، إذ يمكن استخدامها لتصوير العلاقات العاطفيّة المعقّدة بين الأشخاص، أو لإبراز العواطف الخفيّة التي تتحكّم في سلوك الشخصيّات.

على الرّغم من أنّ المازوخيّة قد تكون مثيرة للجدل وقد تثير بعض الانتقادات، إلّا أنّ استخدامها في الأدب قد يكون ذا معنى وفعاليّة إذا تمّ استخدامها بشكل صحيح وبدقّة، وعادة ما يستخدم المفهوم كأداة دراميّة لإثارة الاهتمام بالشخصيّات والأحداث في القصّة، وقد يُساعد في إضافة العمق والتعقيد إلى النزعات العاطفيّة للشخصيّات.

حنان تمثّل المازوخيّة بتجلّياتها المؤلمة، لدرجة التساؤل المُستهجَنة: لماذا ترضى حنان بكلّ هذا الألم ما دام باستطاعتها منعه، بل وتجنّبه منذ البداية؟ مازوخيّة حنان تعكس ساديّة المجتمع. مازوخيّة الفرد هي انعكاس لساديّة المجموع الذي فرض عليها الخضوع لئلّا تخالف التقاليد، هي قيود كبّلتها لتُمسي المازوخيّة نهجًا.

الخطّان المتوازيان في الأدب:

يُشير مصطلح "الخطّان المتوازيان" في الأدب إلى تقنيّة أسلوبيّة تُستخدم في الكتابة الإبداعيّة، وتتمثّل في استخدام جملتين متوازيتين في الشكل والمعنى والايقاع والنغم، ويتمّ تقديمهما في نفس السياق أو بنفس الوزن. وتُستخدم هذه التقنيّة الأسلوبيّة في الأدب لإبراز المعنى وتعزيز الصورة الشعريّة أو الروائيّة، وتتيح للشاعر أو الكاتب إيصال رسالة معيّنة بطريقة جذّابة ومثيرة للاهتمام.

فيما يلي مثال لاستخدام الخطّين المتوازيين في الأدب: "كانت الشمس تشرق على الأفق الرقيق، تصير أشعة شمسها الذهبيّة بينما تمسح الليل الظلاميّ عن وجهه". في هذا المثال، تمّ استخدام الخطّين المتوازيين بين عمليّة شروق الشمس وتغيّر لونها، وعمليّة تمسح الليل الظلاميّ، واللتين تمثّلان تغيّرين متوازيين في الطبيعة. تُستخدم هذه التقنيّة الأسلوبيّة في الأدب بشكل واسع، ويمكن استخدامها في الشعر والرواية والقصّة القصيرة وغيرها من أشكال الكتابة، ويساعد استخدامها على إضافة قوّة وإثارة للنصّ، ويمكن أن يساعد في توصيل الفكرة بشكل فعّال وجذّاب للقارئ. وهنا تستخدم صباح بشير تقنيّة الخطّين المتوازيين: الخطّ الفرديّ والخطّ الجمعيّ، مسيرة أنثى ومسيرة شعب، يتماثل الخطّان تارة، ويتوازيان تارة أخرى.

زمنان في الرواية:

"زمنان في الرواية" يُشير إلى استخدام مزيج من الزمن الحاضر والماضي في السرد الروائيّ. ففي العادة يستخدم الكاتب الزمن الماضي في السرد الروائيّ لوصف الأحداث التي حدثت في الماضي، بينما يستخدم الزمن الحاضر لوصف الأحداث التي تحدث حاليًّا أو في المستقبل. من خلال استخدام الزمنين في الرواية يمكن للكاتب إضفاء بعد إضافيّ على النصّ، وجعله يتمتّع بحيويّة وواقعيّة أكثر.

ويعتمد استخدام الزمنين في الرواية على الغرض الذي يريد الكاتب تحقيقه، إذ يمكن استخدام هذه التقنيّة السرديّة لتسليط الضوء على أحداث الرواية وجعل القارئ يعيشها بشكل أكثر حيويّة، كما يمكن استخدامها لإبراز بعض الجوانب النفسيّة للشخصيّات.

في بعض الأحيان، يستخدم الكاتب الزمن الحاضر لوصف الأحداث الرئيسة في الرواية بينما يستخدم الزمن الماضي للتركيز على تفاصيل أكثر دقّة، وقد يتمّ استخدام الزمن الماضي في الرواية للعودة في الزمن والتركيز على أحداث تاريخيّة مهمّة أو لتصوير الذكريات والتجارب السابقة للشخصيّات.

ويمكن استخدام الزمنين في الرواية بشكل متناوب، إذ يتمّ تبادل استخدام الزمن الحاضر والماضي بين الفقرات أو حتّى الجمل، وقد يمنح هذا التنوّع في استخدام الزمنين النصّ جاذبيّة خاصّة، ويجعل الرواية أكثر تنوّعًا وإثارة للاهتمام.

لكنّ الكاتبة بشير تستخدم زمنين متوازيين هما زمن حنان وزمن شعبها، أو زمن حنان كما تودّ أن تكون وحنان التي تعيش القهر غصبًا عنها في كلّ ما يدور حولها وتدور هي فيه. إنّهما زمنان يعكسان ذاتين: الذات الفرديّة والذات الجمعيّة، والذات الفرديّة والذات الجمعيّة هما مصطلحان يستخدمان في العلوم الاجتماعيّة لوصف الطبيعة الاجتماعيّة للإنسان وسلوكه. الذات الفرديّة هي الشخصيّة الفرديّة للإنسان، وهي الصفات والمعتقدات والقيم التي تميّز الفرد عن الآخرين. وتتأثّر الذات الفرديّة بالخبرات الشخصيّة والتربيّة والتعليم والثقافة والتعالقات والعلاقات الاجتماعيّة الشخصيّة، بينما تعكس الذات الفرديّة تجارب مجموع من الناس: مجموعة أو شعبًا، فتميّز السلوك الجمعيّ والثقافة الجمعيّة لهذا المجموع.

قصًة البعث في الرواية:

" قصّة البعث" هي مصطلح يُستخدم في الأدب، ويُشير إلى الحياة بعد الموت والعودة إلى الحياة مرّة أخرى بعد القيامة، وقد تمّ تصوير هذه الفكرة في العديد من الروايات والأعمال الأدبيّة. وفي أدبنا الفلسطينيّ والعربيّ شهدنا، وما زلنا نشهد هذا البعد في الكتابة.

في هذه الروايات، يتمّ تصوير الحياة بعد الموت والعودة إلى الحياة مرّة أخرى بعد القيامة، ويتمّ وصف المشهد الذي يظهر فيه الجميع يوم الحساب، والميزان الذي توزَن به الأعمال، والتصوّرات المختلفة حول العذاب والجزاء في الآخرة.

يعتبر هذا الموضوع من الموضوعات الهامّة في الأدب، إذ يحرص الكتّاب على التركيز على الإيمان باليوم الآخر وعلى أهمّيّة العمل الصالح والابتعاد عن الذنوب والمعاصي، ويعتبر هذا الموضوع جزءًا من العقيدة الإسلاميّة والمسيحيّة التي تؤمن بوجود الآخرة ويوم الحساب والجزاء والثواب. الكاتبة بشير تأخذ الموضوع إلى منحى أبعد، فحنان تعيش حالة من الموت، يشبه الموت السريريّ بمعنيين كاسم الحالة المرضيَّة، وكحالة رفض زوج لا تربطها به أيّة علاقة أو مشاعر، لكنّ هذا الموت ينزاح إلى حالة من البعث، وكأنّها بطل ينهض من رماده وينتصر بعدما كانت مثالًا للّابطلة ذات الضّعف المزعج.

إذًا فالشخص الذي يواجه الصعاب والتحدّيات يمكنه النهوض والانتصار، حتّى لو كان قد خسر سابقًا أو فشل في إحراز تقدّم. ويعني "البطل" هنا الشخص الذي يكافح ويحارب من أجل تحقيق أهدافه وأحلامه، والذي قد يواجه عراقيل وصعوبات على طول الطريق.

وتعبّر "ينهض من رماده" على القدرة على الاستفادة من الأخطاء والتجارب السابقة، وتعلّم منها، وقدرته على تحويلها إلى قوّة ودافع للنجاح في المستقبل. وفي النهاية، يعبّر "ينتصر" عن تحقيق النجاح والتغلّب على التحدّيات والصعاب التي واجهها الشخص على طول الطريق. حنان تنهض من رمادها، وتشبه آلهات ورد اسمهنّ في الميثولوجيا.

إنّها الآلهة التي ترفض الموت، وهناك العديد من الآلهة في العديد من الثقافات والأديان التي يتمّ تصويرها على أنّها ترفض الموت أو تتمتّع بالخلود، ومن بين هذه الآلهة:

1. آنانكي: هي الآلهة القدر والحظّ في الأساطير الإغريقيّة، وتعتبر رمزًا للخلود والبقاء.

2. تشايو تشينغ: هي إلهة الخلود والحياة الأبديّة في الثقافة الصينيّة.

3. أماتيراسو: هي إلهة الشمس في الأساطير اليابانيّة، وتعتبر من بين الآلهة القادرة على الخلود.

4. أبولو: إله الشمس والفنون والآداب في الأساطير الإغريقيّة، ويتمّ تصويره على أنّه يتمتّع بالخلود.

5. أودين: إله الحرب والحكمة في الأساطير الإسكندنافيّة، ويعتبر من بين الآلهة القادرة على الخلود.

6. قوبيل: إلهة الخصوبة والزراعة في الأساطير الكنعانيّة والفينيقيّة، ويتمّ تصويرها على أنّها تتمتّع بالخلود.

7. كريشنا: إله في الأساطير الهندية، ويعتقد أنّه يتمتّع بالخلود والبقاء إلى الأبد.

يمكن القول إنّ هذه الآلهة تمثّل رموزًا للقوّة والخلود والبقاء، وتعكس تقاليد ومعتقدات الثقافات والأديان التي نشأت فيها.

حنان ببساطتها تحاول أن تكون مخلوقًا يرفض الموت، وتحاول أن تكون الأنثى البطلة، أنثى البطولة، أنثى لدى جميع الشعوب.

الأدب المرآة:

الأدب المرآة هو مصطلح يستخدم لوصف الأدب الذي يعكس ويعبّر عن المجتمع الذي ينشأ فيه، بمعنى آخر، فإنّ الأدب المرآة يعكس الأحداث والمواضيع والأفكار التي تشتغل الناس في الحياة اليوميّة، ويعرضها في شكل قصص وروايات وشعر ومسرحيّات، ويمكن التوسّع بدراسات لوكاتش.

ويمكن القول إنّ الأدب المرآة هو وسيلة لتصوير الواقع والتعبير عن مشاعر وآراء الكاتب تجاه العالم من حوله، ويساعد الأدب المرآة في فهم المجتمع والثقافة التي ينشأ فيها وفي إبراز القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والنفسيّة التي تقع في المجتمع.

وبشكل عامّ يمكن القول إنّ الأدب المرآة يساعد على فهم المجتمع وتاريخه وثقافته، ويعكس الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانيّة التي تشغل الناس في المجتمعات المختلفة.

بشير ترفع الأدب مرآة تعكس قهر المرأة وقهر مجتمعها وشعبها لها، هي مرآة لا تكذب ولا تُجَمِّل، مرآة أصدق من البشر، فكلّ من حولها حاول خداعها، بل خدعها، إلّا مرآتها، لهذا تختار الأدب مرآة في بحثها عن الصدق والمثاليّة المفقودة.

مبارك للكاتبة صباح بشير في رحلتها إلى المرأة وإلى الذات، ومبارك للمرأة صدور رواية ترحل منها إليها.

***

د. أليف فرانش

كتاب "حكايات من فوق الغيمات" مجموعة قصص موجّهة للطفل للكاتبة الفلسطينية هدى ثابت، صدر في طبعتين. الأولى باللّغة الانجليزيّة من ترجمة الكاتب السوري محمّد صالح عن دار صافي للنشر بواشنطن سنة 2016، والثانية باللغة العربية عن دار الاتحاد للنّشر والتوزيع بتونس سنة 2017. وعنه نقرأ في صحيفة دنيا الوطن الالكترونيّة أنّ" القصص هي عن حياة وأحلام أطفال غزة في الحرب الأخيرة على المدينة والتي أدّت إلى استشهاد الكثير منهم مع أحلامهم الكبيرة. هي قصصهم وهم يتلونها علينا في بيوتهم الجديدة فوق الغيمات". هي إذن قصص من قطاع غزّة وعنه بمُستوييه: الأرضيّ والسماويّ.

يتضمّن هذا الكتاب مقدّمة وإحدى عشر حكاية مرفقة بنفس العدد من الصور رسمتها الفنانة عدلة ثابت.

المقدمة ليست مدخلا نظريّا نقديّا ولا تفسيريّا، بل هي نفسها حكاية لا تختلف في البناء الفنيّ والأسلوب عن غيرها سوى أنّها كانت ذريعة سرديّة بسطت من خلالها الكاتبة مشروعها: تخليد قتلى الحرب عبر الحكاية حتى لا يكونوا "على لسانهم مجرّد أرقام"، كما يسعى إلى ذلك كيان الاحتلال الإسرائيلي. تقول بتلة زهرة عبّاد الشمس في المقدّمة/ الحكاية :" والله يا زهرتي لقد سمعتهم يذكروننا أرقاما، ألا يعرفون أنّ الشهداء ليسوا مجرّد أرقام؟"(ص7) ثمّ تقول: "سأوشّم جبينك الطّاهر بأرقامهم والأسماء، بحكاياتهم التي طرّزوها بالدّموع وصارت غيمات حملتهم بعيدا إلى السماوات." وما زهرة عبّاد الشّمس هاهنا إلاّ القدس، "زهرة المدائن" وما بتلتُها إلاّ هدى ثابت نفسَها في سعيها إلى مقاومة الوحشيّة الصّهيونية عبر إعادة إحياء الضّحايا من الأطفال في سماء القطاع وتخليدهم من خلال سردهم للحكايات، وعبر كتابتها ونقلها على أجنحة الأحرف للعالمين. أمّ الصور ومن ضمنها صورة الغلاف فتنقسم إلى منطقتين ومستويين من الإضاءة وفق مبدإ التناظر الأفقيّ. منطقة قاتمة في الأسفل تغلب عليها الألوان الحارّة الأزرق والأحمر والأصفر مع تكثيف درجة الظلّ والعتمة بتوظيف تقنية المزج بين الألوان. إذ لا حياة في منطقة الظّلمة والظلال والأدخنة. ليس إلاّ "وجهَ طفل من دون ابتسامة، ذلك أنّنا لا نبتسم حين تكون الحياة على تراجع، وحين يضعف القلب بضربات مرعبة." (أناندا ديفي)

إنما الحياة في مستوى أعلى. وهي منطقة مضاءة بشكل جيّد تتدرّج فيها الألوان المتعدّدة من القتامة إلى النّور، باتجاه البياض والشّمس. وفيها نجد الأطفال والفَراش والغيم المبتسم. وجوه الأطفال هناك كلّها بلا ملامح، فلا شيء يُرى منها غير ابتسامة مشرقة. إنّهم غيمات أخرى، ذوات مشكّلة من بياض الغيوم، يتحرّكون في عالم من ضباب، وأرواح مشبعة بالطفولة والحلم والجمال الأبديّ، يقاومون النسيان بالبسمة والحكاية. وهذا التقسيم الأفقيّ هو ما سيحكم منطق السّرد في هذا الحكايات رغم مظاهر الوحدة المختلفة

1) الوحدة في الحكايات:

وحدة الرّاوي: يرد في الصّفحة 11 من الحكاية الأولى التي بعنوان "الرّاوي: " هتف جميع الرّفاق: نعم أيّها الراوي. أخبرت النّاس عن حكاياتنا، حان دورك، نريد أنّ نسمع حكايتك" انطلاقا من هنا وحتى النهاية سترد كلّ الحكايات على لسان هذا الراوي حالما يفرغ من سرد حكايته. لكنّه لن يستأثر بفعل الحكي على معنى الراوي العليم، بل سيقوم بدور الراوي الجوّال على ظهر غيمته رقم (1) من مكان إلى آخر في "سماء القطاع" بحثا عن مناسبة ملائمة للسّرد كأن يثير انتباه الأصدقاء إلى غياب أحدهم (دبدوبة السّمينة التي أخفت عمدا رقم غيمتها عن الجميع) مثلا أو إلى غضب أحدهم من الآخر أو انتهاز مناسبة قادم جديد يروي حكايته أو يتعرّف إلى غيره: "وقعت غيمة عمر في مركز الوردة فكان عليه أن يعيد سرد قصّته ليتعرّف السّاكنون الجدد إليه" (ص 98)، حينها ينزاح الراوي قليلا عن أنظار القارئ ويسلم "الميكروفون الضبابيّ" للشّخصية حتى تروي حكايتها بنفسها. والسّرد هاهنا، هو معبر الرّجوع الوحيد إلى أرض القطاع لهؤلاء المهاجرين الصغار قسرا إلى السماء، معبر لا يمكن لجيش الاحتلال غلقه أو منع العبور منه أو تقنينه على نحو مجحف بأبناء الأرض الأصليين.

وحدة الموضوع وذريعة السّرد الواحدة: وهي ما سبق بسطه في معرض حديثنا عن مشروع الكاتبة في المقدّمة.

وحدة مصير الشّخصيات: كلّ الشّخصيّات الرئيسيّة أو أصحاب الحكايات هم من الأطفال ساكني الغيمات بسماء قطاع غزّة. تتراوح أعمارهم بين الأشهر الجنينيّة مثل بائع الحلوى الذي "كان جنينا صغيرا لا يزال حبله السُريّ مرتبطا به" (ص75) وبين من لا يتجاوز السنّ الثانية عشر فيما نُقدّر. نقرأ في الصفحة 11: "محمّد تصله الكرة، لكنّه مازال صغيرا. صغيرا إلى درجة أنّه لا يستطيع تحديد الهدف بدقّة." وفي ص32: وفي علاقة بمحمّد أيضا: "ما أجمل أن يكون الإخوة وأبناء العمّ بنفس العمر". من حيث الجنس: هناك خمس إناث، أربعٌ فتياتٌ: أريج، ياسمينة، أماني، ودارين، والأنثى الخامسة هي بتلة زهرة عباد الشّمس. وعشرة ذكور أي بنسبة الضّعف كما نلاحظ، ستة كأفراد (الرّاوي، أكثم، محمّد، عبد الله، عمر، وبائع الحلوى وهو الجنين) وأربعة يشكّلون فريق كرة الشّاطئ. كلّ هؤلاء المختلفين من حيث الجنس والصّفة والوضعيّة الاجتماعيّة والأحلام والهوايات يشتركون في مصير واحد يتربّص بهم: هو الموت جرّاء الحرب، وما يليه من هجرة فرادى وجماعات إلى سماء القطاع عبر غيمة دائما ما تكون قريبة بانتظار أحدهم " لأنّهم في أيّ وقت قد يمتلكون غيمة" (17ص). ذلك أنّ كلّ الأرواح التي تسقط أرضا مضرّجة بدمائها "دائما تجد طريقها إلى السّماوات.( ص9). والموت هاهنا ليس فقط مصيرا موحّدا لجميع الشّخصيات الآن وغدا ومدى ما ظلّت فلسطين محتلّة. إنّه كذلك مصير الحكاية الأرضية ونقطة انغلاق خطّ السّرد الدّائريّ على ذاته: في السّطر الثاني من المقدّمة (ص5) نقرأ" يأتيها الموت في كلّ حين لأنّها تعشق الحريّة والحياة" وفي السّطر الأخير من الحكايات ( ص 104) ننهي القراءة بـ: "قتلوا انتظاري للفرح".

2) التثنية أو التقسيم الأفقي في الحكايات:

على غرار التقسيم التشكيلي للغلاف تمّ تقسيم الفضاء السّردي للحكايات إلى مستويين متوازيين: فوق- سماء / تحت –أرض

أمّا الفوق مكانيّا فهو سماء قطاع غزّة. فضاء للحلم والمرح والطفولة الأبديّة. مكان واسع لا يضيق بأحد من القادمين الجدد، مفتوح للحبّ والصّداقة والمشترك، فـ " أصحاب الغيمات مستمتعون جدّا باللعب، لا يتعبون ولا يملّون، ولا ينفكّون عن اختراع المزيد من الألعاب". لكنّه ليس نقيضا حدّيا للعالم الأوّل/ الأرض بل امتداد آخر له مخلوق من مادّة الضباب وطينة التخييل المرنة، يرتبط بالأسفل عبر سكّة عموديّة متينة مفتولة من نعومة القطن، يسير عليها قطار الغيم لكن في اتجاه واحد: من تحت إلى فوق محمّلا بأرواح الشهداء الصغار وبقايا عالمهم غير المكتمل. مظاهر كثيرة من الحياة اليومية الأرضية ارتفعت إلى السّماء كـ "الزّحام الشّديد" وترقيم الغيمات وتحوّلها إلى أحياء سكنيّة وشقق متجاورة سكّانها من الأطفال فقط: يقول الراوي: سمعت تصفيقا حارّا يصدر من مالكي الغيمات المنتشرة على امتداد سماء قطاع غزّة" ص63)  فضلا عن تحوّلها إلى مراكب تنقل الأطفال من مكان إلى آخر، وإلى وأراجيح وملاعب كرة ومنصّات للغناء والاحتفال وحلقات لرواية الحكايات الشّخصية والتعارف بين السّكان القدامى والقادمين الجدد، والمجال الزّمني هناك هو المطلق حيث يظلّ الطّفل أبدا طفلا يتجوّل حرّا وآمنا نفسيّا وجسديّا وسعيدا "لأنّه لا توجد انفجارات في السماوات" (ص53) ولا يعتريه ما يعتري الطفل السّاكن في العالم الموازي له، كلّما سأل محتجّا" ما علاقتي أنا بالحرب" يجيبه القصف. فأرض القطاع مكان منذور للموت والسّواد والحزن وبلا أفق للسعادة في سماء التوقّع، فليس سوى ألم الفقد المستمرّ على إيقاع الحروب المتتالية التي يشّنها العدوّ الصهيونيّ على غزّة مستهدفا المدنيين العُزّل وما يملكون: "استشهدت البيوت فلم تعد تملك سقفا للحبّ ولا حائطا لتعليق صور الأهل والخلاّن، اغتيلت البيوت فلم يعد هناك نوافذ للأمل بغد يرسمه الأولاد والبنات بكلّ الألوان"( 7ص). وزمن أرض القطاع هو اليوميّ الجريح والمروّع، الموقّع على أصوات الانفجارات وجنون القصف وموسيقى الساعات الجنائزيّة: "كانت إسرائيل قد بدأت بقتل العائلات المجتمعة معا" حكى محمّد نافخ البالونات. إنّ عالم الفلسطينيّ على الأرض غابة ظلماء تعجّ بالوحوش الآدميّة والذّئاب المسعورة. فمن هو الذّئب في حكايات هدى ثابت؟

لا تخلو أغلب القصص الموجّهة إلى الطفل وأوسعها انتشارا من الذّئب أكان في هيئته الطبيعية المباشرة كما في قصّة "ذات الرّداء الأحمر" أو قصّة "الذّئب والخراف السّبعة" مثلا لا حصرا، أو بصفته خطرا عائليّا كأن يكون زوجة أب غيور تكيد لابنة زوجها الجميلة وتحاول قتلها بطرق عدة (بيضاء الثّلج)، أو تحرّض زوجها على ترك صغاره نياما في الغابة لغرض التخلّص منهم (عقلة الإصبع)، أو قد تكون ساحرة شريرة تمسخ الأميرة بجعة (إخوة البجع) أو تحوّل الأمير إلى ضفدعة أو غول (جميلة والوحش)، وقد يكون رمزا للمخاطر الاجتماعية التي تهدّد الطفل في حياته كالاختطاف والحروب العالمية والأهليّة واليتم والتشرّد والتعصّب والعنصريّة وغير ذلك، وهذا الخطر/ الذّئب عنصر ضروريّ في القصّة فهو محرّك للأحداث، وبداية لمرحلة فقدان التوازن( امبرتو إيكو)، بظهوره يخرج السّرد من دائرة الهدوء النّمطي أو الاستقرار الذي يولّده الخير أو تشيعه الشّخصية الخيّرة إلى حيّز التوتر الدراميّ الباعث على التّصعيد والتّشويق من أجل تحفيز القارئ وتحريك سواكن الأسئلة لحثّه على المتابعة حتى النهاية.

في حكايات هدى ثابت حيث التباين بين عالمين سماويّ وأرضيّ، يختفي الذّئب كلّية في العالم الأول/ السماويّ ويحضر بشدّة مرعبة في العالم الثّاني، لا بصفته الرمزيّة أو التخييليّة الوظيفيّة، بل بما هو واقع مأساويّ معيش وحقيقة فظيعة. قطاع غزّة السّماويّ ليس غابة على أيّ معنى من المعاني التي سبق عرضها. ذلك أنّه عالم الثبات والهدوء التامّ والأبدية، "مكان آخر" " حيث في إمكان الطّفل أن يصطفي مملكته الشّخصيّة وأن يبني فيها يوما بعد يوم كلّ أحلام طفولته"( أناندا ديفي) وحيث كلّ شيء مثاليّ وتامّ ونهائيّ: الفرح والأمن والسّعادة واللعب والأمنيات. والطّفل هناك هو طفل أبدا، فمن مات سائق قطار أو بائع حلوى أو جنينا سيظلّ كذلك إلى أبد الآبدين مثلما ستظّل ياسمينة الدّبودوبة سمينة دائما. حتى المجتمع الغزّاويّ سيظلّ هو نفسه في السّماء، في مدن الغيم، يلتزم فيه أفراد المجتمع بعادات المجتمع الأرضيّة وقوانينه الدّاخليّة كأن تُفرد للمرأة مهن بعينها ويختصّ الرّجال بمهن أخرى هي خارج المنزل بالضّرورة. فنحن لا نلاحظ فقط هيمنة الذّكور في هذه الحكايات ( نسبة الشّخصيات من البنات هي النّصف مقارنة بعدد الأولاد، وهناك امرأة واحدة ذكرت في الحكاية الأولى " الراوي" " تعمل خارج المنزل، في المكتب الخاص بإحصاء السّكان في قطاع غزّة"، هي "السيّدة هدى" والبقيّة هنّ أمهات وربّات بيوت) بل نلاحظ ذلك كذلك في نوع المهن وخاصّيّة الطموحات التي يحلم بها الأطفال، فللأولاد: مهن وأحلام من قبيل: سائق قطار، صحفيّ، بائع بالونات( تاجر) لا عب كرة، موظّف في مركز الإحصاء بغزّة، وللبنات: الحلاقة، والرّسم والتهام الحلوى بشراهة.

في السّماء يكون السّرد بطيئا رغم ما بدا من حركيّة ظاهرية في الأحداث وتعدّدها وتعدّد الشّخصيات التي تجتمع هناك بعد أن كانت متفرّقة في الأرض. والبطء في تقديرنا ليس تقنية في القصّ بقدر ما هو واقع حال تفرضه "البيئة الجديدة" التي انتقلت إليها الشّخصية: فالمكان: مكان للمطلق والزّمان زمن المطلق والشّخصيات في اكتمالها النّهائيّ والأحداث هي نفسها في تكرّرها المستمرّ أبدا. والمجتمع مجتمع أطفال عُزلوا في مدن الغيم بعيدا عن النّجوم التي يسكنها الكبار فصاروا بذلك "مجموعة نوعيّة" مستقّلة بذاتها ومعزولة عن غيرها فيما يُشبه المستوطنة المغلقة على الغيم والضباب. فلا ذئب يجبر الخطى على الرّكض إذ لا غابة هناك، ولا مستذئب يهدّد الحياة إذ لا حياة بالمعنى المتعارف عليه في سماء القطاع، وبالتالي وعد بانعدام الحرب وأهوالها، ووعد كذلك بانتفاء المغامرة والشجار والعبث تحت المطر وفي الوحل وعلى الرّمال، وفي الحالين لن يكبر الطفل الفلسطيني ولن يغامر أو ينضج بفعل التجارب ولن يجد ما يقاومه أو ينمّي البعد البطولي في شخصّيته.. لقد حقّق سعادته القصوى بخروجه من الحياة الدنيا وحقّق أيضا سعادة الصّهيوني بالتخلّص منه وإلحاقه بالسّماء من أجل أن ينعم طفله هو وحده بالأرض أرض فلسطين. كلّ ما على الطفل الفلسطينيّ، على ما لاحظنا في هذه الحكايات، هو أن يحلم بأن يغادر الأرض سريعا ليكون هناك خاليا من الواجبات والهموم والمخاطر جميعها منشغلا بحلمه الصّغير الذي لن يكبر.

بالمقابل قطاع غزّة الأرضيّ عالم متسارع يركض على إيقاع الحرب المتسارع، غابة ظلماء تعجّ بالذّئاب والمستذئبين وتحيط بها الوحوش المفترسة من كلّ صوب. كبيرة الذّئاب هاهنا هي الحرب. حرب الكيان الاسرائيليّ المحتل على غزّة. هي الغولة بعينها. تقول أريج: "قامت الغولة بصبّ شلال من الموت العنيف على بابا وعربته"، وهي الشرّ المستطير:" يشمّر عن ساقيه القبيحتين وينهال عليها ضربا وركلا ورفسا ثمّ يقوم بتكويم الرّكام على وجهها الجميل" (ص 5). وهي " ظفر الشّيطان اللعين" كلّما حلّ " حصل الجميع على كسور وحروق وأطراف مبتورة" (ص20)، وهي المستوطن الهمجيّ يخوض حربه الفرديّة العبثية إزاء أطفال عُزّل ثم يُكرَم من قبل سلطة الاحتلال مثلما نقرأ في قصّة "فريق كرة الشّاطئ المحترف". في أرض القطاع "العنف المفرط أصعب من أن يوصف"،" كأنّ غزّة تحوّلت إلى دولة نوويّة تهدّد أمن إسرائيل (ص 35). إذ " حتى الخضراوات اختفت، يقول عمر، الخضراوات طيّبة وتخاف من الصّهاينة"(ص99). وأينما ولّى الطّفل الفلسطينيّ وجهه من أرض القطاع " كانت الحرب، كان الدّمار، وكان الموت. حرب دمّرت وأبادت وقتلت الجميع، جميع من في مربّعنا السّكنيّ." (ص14). مقابل كلّ هذا القتل المستفحل هل من شخصية منقذة في أفق هذا الطّفل؟ في الواقع الإجابة سريعة وجاهزة. لا. لا صيّاد يقتل الذّئب ويخرج الطّفل من بطنه المظلم، ولا خير ينقذه من براثن الشيّطان، لا أمير ولا جنيّة ولا صديق ولا زورو ولا بابا سنفور، إذ لا أمل في التخلّص من وحشيّة الحرب/ الغولة آكلة لحم البشر التي تبدو كما لو كانت أبديّة ولا نهاية لها في أفق التوقّع.. العزاء الوحيد هو أنّ أطفال غزّة سيرتفعون شهداء أحياء في مدن الغيم يُرزقون السعادة.

لقد تُرك الطّفل الفلسطينيّ وحيدا للموت والهلاك. تُرك لشرشبيل يصرخ على الدّوام في السنافر الصّغيرة " أنا أكره السنافر، سأنتقم منكم ولو كان ذلك آخر يوم في حياتي"، بل لم يُمنح في هذه الحكايات ولو على سبيل التخييل فرصة للمغامرة والنضال والمقاومة والأعمال البطوليّة على غرار ما يجول في مخيلة كلّ طفل وما هو عليه في حقيقة الأمر أيّا كانت ظروف معيشه. وحدها الغيمات كانت قريبة منه وجاهزة لحظة يسقط لترتفع به إلى السّماء" حيث تبدأ هناك (فقط) حياة نظيفة خالية من الاستهتار والحمق."( قصة رائحة في السّماء)، ووحده مشروع الكاتبة المعلن عنه في المقدّمة، هو الذي طغى وهيمن: الكتابة عن الأطفال القتلى. كلّ الأحلام قُتلت في الواقع كما في الحكاية الأرضيّة. في الصّورة المرافقة لحكاية" فريق كرة الشّاطئ" نقرأ ما يلي: كنّا سنبهر العالم بمهاراتنا لكنّهم فضلوا منظر أشلائنا". الكاتبة أيضا فيما بدا لنا لفرط ما روّعها منظر الأشلاء ولشدّة حرصها على إسماع العالم الآخر/ الغربيّ صوت هذه الصرخات والآلام، "فضّلت " بوعي أو دونه الكتابة عن الأشلاء بدل الكتابة عن عرق الحياة النّابض فيها. يشغلها فيما تكتب عادة وتنجز من مشاريع تربوية وتعليمية الجانب التربويّ، وهي هنا سعت إلى تخفيف وطأة الموت على الطفل بتزيين فكرة الشّهادة التي ستنقله من عالم البؤس والشقاء والجحيم/ عالم الأرض الفلسطينية والحياة الدّنيا فيها إلى عالم الخير والنعيم والجنّة/ عالم السّماء- سماء القطاع.

***

بسمة الشوالي- تونس.

- جاء بالاستهلال ليختصر المعنى العام وحمل قصيدته الكثير من الصور الشعرية

 - ذهب ظافر البياتي إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات

تبقى ميزة الشعر الحر( شعر التفعيلة) كما يسمى، أن صاحب القصيدة فيه ينتهج نهجاً يسير من خلاله نحو أفاق الكلمة وأبعادها اللامحسوبة، ويمكن من خلاله للشعراء أن يرسموا ما شاؤوا من صور، نعم المخيلة الشعرية تمنح الشاعر الإبحار على متون الأمواج ليتجاوز من خلالها حدود التناظر والتناغم، لكن وفق أصول العملية الشعرية وقواعدها ليكتب برصانة الكلمة ووقعها على مسامع المتلقي بثقلها وموسيقاها وشجونها وحتى ألامها وأمالها في الكثير من الشعر المستتر بخفايا الاحاسيس والعواطف والمواقف والمحن.

أردت أن أسوق تلك المقدمة المبسطة لأدلف إلى ما كتب الشاعر ظافر البياتي في قصيدته التي وقعت بين يدي (غربة) والتي ذهب من خلالها ظافر إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات، والتي سعى وبجهد واضح أن التمسك بالجوهر الذي حفه بتقنيات ورؤى جمالية أثرت ما كتب من حيث الجنس والنوع لينتقل من خلالها إلى مراحل التطوير والتشكيل الصوري ليخلق نموذجه الشعري الذي احتوى صوراً عدة لايحار المتلقي بتلمسها في القصيدة والوقوف على أبعادها ومعانينها، وتلك خاصية قصيدة ظافر البياتي والتي كتب أبياتها ببساطة المفردة ودلالة معانيها.

غربة

ويأتي الليل ...

فتصب العيون

دموع العتاب

تصب الآلام ...

ووجع العذاب

تصب الظنون

تناول الشعراء صورة الغربة كل حسب رؤياه وتفاعلاته وما عاشه وما سمعه، لكن أن تقل صوراً للغربة من الوطن، فتلك هي المأساة التي تمثلها كلمات ظافر، قرأنا صوراً شعرية لشعراء مغتريبن عاشوا عقوداً بعيدين عن أوطانهم وكتبوا الشعر لما عاشوه من لحظات ألم وحنين وفراق وهم خارجه في الغربة، وهو شعر وجداني مؤثر وغاية في الروعة، لكن الصورة الشعرية الظاهرة في القصيدة عن (غربة الوطن) من داخله، وأنت تعيشه في أنفاسك، وتستشعر حنينه أكثر بشاعة من الغربة الأخرى التي تتماسك وتمتلك فيها نفسك وحرية التصرف والتجوال والعمل، أما الأولى فلا خيار لك فيها سوى (الغربة) بمعانيها الشاملة المملة الممنهجة لقتل النفس والوطن.

تلك هي غربة ظافر البياتي، ومحنته التي أسس عليها أبياته التي احتوت الوصف وألقة والنسق الموحد الذي يفضي إلى التعبير الصادق عن ما يستشعره من ألم وهو في وطنه، بل في بغداد التي باتت غريبة على أهلها ومحبيها.الاستهلال الذي جاء به ظافر البياتي في قصيدته أختصر المعنى العام، وعبر عن القصيدة بشكل مجمل، بل كان قصيدة بحد ذاته، تحمل عشرات الصور التي يسطتيع القارئ أن يلمسها بقلبه لا بيده، فتجسدها العين صورة ناطقة بالإحساس والشجن، ( ويأتي الليل)، ولك أن تسرح في متاهات الصور التي يسلط هذا البيت ضوءه على فحواها، فالليل قاتل في الغربة، أجاد ظافر في هذه، لكنه أخفق فيما بعدها (فتصب العيون، دموع العتاب، ووجع العذاب، تصب الظنون)، كان لابد لهذه الصورة ان تكون مخفية على القارئ لأنها مجسدة في قدوم ليل الغربة، وفيها أن العيون تصب دون إشارة، بل هي يجب أن تكون ضمنية لا حسية، يعني خافية عن عين القارئ، يستشعرها حين يريد، فكثرة الشجن تثير القارئ وينفر من القصيدة.

ثم أنها تحدد، والتحديد مرفوض في فناءات الشعر، إلا الاستثناء، (ولكل قاعدة شواذ)، لذلك تنجح (قصائدالمدح) وبخاصة في الشعر الشعبي حين يمتدح الشاعر و يعرف بالعامية (المهوال)وهوالذي اتخذ من المدح منهجاً محدداً لمسارات شعره يمتدح شخصيات بعينها من اجل المال او لقضاء حاجة معينة، لكنه لاينجح في غير المديح، وذلك هو (التخصيص).

ومن تلك السمة التي أقحمها ظافر في الاستهلال، يعود ليخرج من التخصيص إلى فضاء القصيدة المفتوح حين جاء بـ(تحكي) إشارة واضحة بتوظيف الدلالة حين استخدم الزمن الحالي ملحق بالتاء، وهي ضمير المتكلمة المؤنث، لكنها هنا مجهول جيء به للدلالة على حركة الزمن وانفعالات القصيدة وإرهاصات الفعل الدال على أن ثم حركة ستحدث تغييراً ملموساً في ال\مشهد الشعري.

لكن ظافر البياتي لم يفصح من تلك التي تحكي عن الغريب، هل هي الغربة أم من عاشتها، أم ما يتطلبه السياق العام للقصيدة التي جعل منها في مشهدها الثاني (جواب شرط) عن دالة الحكي، فأستخدم عوضاً عنها الإشارة ليُثَبت الدلالة (ذاك الغريب)، ولاستكمال كونها تفيد بالاستفهام، ومنها ليُضمن المشهد الشعري دلالة الاستفهام فقال (هو الجنون)، وتشعب في مابعده في الاستفهام ( أو من يكون، تراه الغياب؟)، دون أن يحرر جواب عن تلك التساؤلات المفردة والجمعية التي ضمنها القصيدة في مشهدها الثاني، حتى أني أطلقت عليه (مشهد التساؤل)، ليتمه بوصفية حاول البياتي أن يختم بها ذلك المشهد، وأظنه لم يخرج فيه من الإبهام والتساؤل والحيرى، فجاء ليورد وصف الليالي وشجونها وما تخلفه من ألم الغربة، فأفرد لها التوصيف ب (الثكلى) .

تحكي ....

عن ذاك الغريب

هو الجنون

جاء يبحث الأسباب

تراه نبياً أم رسولاً

او مَنْ يكون؟ !

تراهُ الغياب ..؟

وتظل الليالي بالآه ثكلى

وألم الشجون

وتسالوني نبض

السنون

ضاعت أوماتدرون؟!

ومن تلك التساؤلات وتضمنين المشهد بالاستفهام والمبهم، والتي خرج ظافر البياتي منها بحصيلة دالة على الحقيقة التي بنى مشهد برمته عليها، حين أورد جواباً للسؤال الأخير الذي ضمنه المشهد الثاني ومثله بالضياع نتيجة تلك الغربة والألم الناتج عنها، (ضاعت أوما تدرون)، ليختم المشهد بتوظيف حقيقة مجسدة للفقد الذي يعاني منه الكثير في عالم تسوده عدم المبالاة وسيطرة قطاع الطرق على مصائر الناس.

من هذا التوصيف يدخل ظافر للمشهد الأخير لقصيدته ليقف على دهشة الحقيقة وثبات التوصيف (ستظل أغنيتي الحزينة) تاكيد يتطلبه المشهد بعد تلك التساؤلات والليالي المثقلة بألآم الغربة وشجونها ومرارتها و(المجون)، (جواز اغتراب) كل ذلك التوصيف يدفع لوصف ما كتب ظافر بالوجدانية المطلقة، والتي لاتقف عند حد التوصيف ورسم الصورة الشعرية التي تجسدها المشاعر، بل دقة الدلالة (مدن الضيم الدامي)، (بين السجون) على اعتبار أن الغربة في الوطن هي سجن مفتوح على غربة الروح، واغتصاب للمعنى السامي للحياة.

ستظل أغنيتي الحزينة

والمجون ...

جواز اغتراب

في مدن الضيم الدامي

بين السجون

يبقى أغتصاب .

القصيدة بمشاهدها الثلاث احتوت توظيف عناصر البناء الشعري بشكل جمالي يتناسب والمعنى العام والوقفات الدلالية التي جاء بها ظافر البياتي كانت متناسقة وموسيقى القصيدة، ومنها انتج شكلاً درامياً يوحي من خلال وصف الغربة بأن صعوبة ما يعانيه الناس كشعور إنساني يتمثل في غربتهم داخل أوطانهم، والتي تفوق الغربة عنها على الرغم من أن الغربتين تمثلان مآساة دائمة لايحبذنبل من الجرم أن يعيش الإنسان تجربتها بسبب الكثير من المتسلطين العابثين بالأوطان ومصائر الناس.

فحوة القصيدة رائع وموضوعها أروع بوصفه يشير لحالة ومشاعر إنسانية نبيلة، ناهيك عن ما تحمله من مشاعر وطنية خالصة.

***

سعد الدغمان

استكشاف التأثيرات المتعددة للتقارب الأدبي

كان الأدب بكل أجناسه وضروبه ساحة للتجريب والابتكار منذ أزمان بعيد، وربما كان الشعر أبرز تلك الأجناس الأدبية التي كثر حولها الجدال في أدبنا العربي، إذ كان دائما محط اهتمام وبحث وابتكار، ربما منذ كسر (عمود الشعر) الذي يصفه أحد النقاد بأنه (يشبه عمود الدين، الحياد عنه بدعة من البدع، أو ضلال يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحيانًا حد التحريم)، إلى الزمن الحالي والجدال حول قصيدة التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر والنص المفتوح وغيرها، لذلك كان الشعراء هم المبادرين دائما، في الخروج عن الأطر التقليدية، وهذا لا ينكر أن هناك بعض تلك المبادرات في الأجناس الأخرى، لكنها كانت دوما ضعيفة وخجلة، وقد برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة ملفتة للانتباه، هي كثرة الشعراء الذين توجهوا إلى كتابة الرواية، حيث أخذ التجريب منحى آخر بخروجهم عن حدود الشعر وإطاره، ليغامروا في عالم الكتابة الروائية، وهناك نماذج عالمية معروفة، حيث كتب فيها بعض الشعراء العالميين الرواية أمثال (مارغريت أتوود، وسليفيا بلاث بروايتها (الناقوس الزجاجي)، ومايكل أونداتجي وروايته المشهورة (المريض الأنجليزي)، و د. ه. لورنس، وبول أوستر.. وغيرهم)، وهناك من الروائيين الذين كانت بداياتهم مع الشعر كـ( ميلان كونديرا، وغونتر غراس، وماركيز .. وأخرين)، أما الشعراء العراقيين الذين كتبوا الرواية فعلى سبيل المثال لا الحصر (فاضل العزاوي، وصلاح نيازي، وجواد الحطاب، وعبد الزهرة زكي، وعارف الساعدي، وأحمد الشطري، وحسين القاصد، وسنان أنطوان، وعلي الأمارة.. وأخرين لا يسع المجال لذكرهم)، ومن الشاعرات العراقيات (فليحة حسن، رسمية محيبس، بلقيس خالد، هدى محمد حمزة... وإخريات).

غالبا ما يتم الاحتفاء بالشعراء باعتبارهم لاعبين ماهرين باللغة وصناعة الكلمات، وقدرتهم على إثارة المشاعر، وصناعة الصور الحية، لذلك فقد يبدو لنا -على أقل تقدير- إن هذه المهارة قد تدفع أغلب الشعراء إلى أن يجربوا كتابة أشكال إبداعية أخرى، وأجناس أدبية مغايرة، ومنها الرواية، التي قد أخذت حيزا كبيرا من الاهتمام في الآونة الأخيرة، ففي عالم تتغير فيه الحدود الفنية للأجناس الأدبية باستمرار؛ يجلب الشعراء الروائيون منظورا جديدا للمشهد الأدبي، لا يثري عالم السرد فحسب، بل يرفع الرواية أيضا إلى أفاق جديدة من الجمال اللغوي والصدى العاطفي، فنحن محظوظون كقراء، أن نشهد هذا الاندماج بين البلاغة الشعرية والابتكار السردي واتساعه، مما ينبهنا الى أن الجوهر الحقيقي للأدب يكمن في الاستكشاف لأنماط وأشكال تعبيرية متنوعة وجديدة.

يُظهر الشعراء الذين يغامرون بكتابة الرواية مزيجا فريدا من المهارات الأدبية، التي تضفي غالبا على رواياتهم جودة غنائية مميزة، بلغة مشبعة بإحساس شاعري، يوفر للقارئ مساحة جمالية واسعة، وفرصة كبيرة للتأمل، فالتزاوج بين الحساسية الشعرية واتساع السرد الروائي، هو تعزيز للصدى العاطفي والفكري في السرد، إذ أنَّ قدرة الشعر على إثارة المشاعر ومناطق التفكير والخيال من خلال بناء الصور البلاغية الحية، وتوقع غير المتوقع؛ تثري البناء السردي، الذي يخلق تجربة قرائية متميزة، فعندما يكتب الشعراء الروايات، فإن فهمهم العميق لكيفية بناء الكلمات عاطفيا وفكريا، يُمكنهم من صياغة الشخصيات والمواقف والأَحداث التي يتردد صداها لدى القراء وبمستوى عميق، إذ أنَّ هذا التقارب لا يجذب القراء على المستوى الفكري فحسب، بل يجذب أيضا أحاسيسهم ومشاعرهم الإنسانية، مما يخلق علاقة قوية بين الرواية ومتلقيها.

يجد الشعراء، من خلال هذا التقارب والاندماج، مساحة تتشابك فيها سيولة اللغة الشعرية والبناء السردي المرن، والذي يقود إلى نصوص تطمس الخطوط الفاصلة بين الأجناس الأدبية، والتي دفعت بعض النقاد والباحثين للتأكيد على أهمية انتقال الشعراء إلى كتابة الرواية، كشكل من أشكال التجريب، الذي يدفع حدود البنية السردية إلى مناطق جديدة، لكن عملية الانتقال من الشعر ببنائه المكثف إلى اتساع السرد، تتطلب اتباع أسلوب جديد في الكتابة الروائية، من خلال قيام الشعراء بتكييف تقنياتهم الشعرية مع الأشكال الروائية، ليقدموا بناء سرديا جديدا، ووجهات نظر غير تقليدية، متحدين بها المعايير التقليدية للكتابة الروائية، ولكن نرى إن أغلب التجارب التي أطلعنا عليها - على أقل تقدير- انساقت مع الرؤية التقليدية للكتابة الروائية، ولم تستطع أن تتخطى حدودها، وأيضا على الرغم من الصورة الجميلة التي يمكن أن نتصورها لما يمكن أن يقدمه الشعراء للكتابة الروائية، بعيدا عن انسياقهم وراء البناء التقليدي، فهي سلاح ذو حدين، فقد تنتج من هذه العملية نصوص روائية متميزة، مكتملة فيها كل عناصر الرواية، أو ربما تتغلب على الشاعر صنعته الشعرية ولا يمكنه عقد توازن بين صنعته هذه والمجال المغاير الذي يجرب فيه، لأنَّ الكتابة الروائية عملية معقدة ومختلفة تماما عن كتابة الشعر، لها قواعدها وأعرافها التي يحيط بها صناعها، لذلك قد لا يستطيع الشاعر- الروائي أن يحقق هذا التمازج والتقارب المنشود بصورة متوازنة، تحافظ على كيان كلا الجنسين وبنائهما، الذي ينتج لنا ربما نصا هجينا، لا يمتلك هوية إجناسية واضحة.

قد يعتقد ربما بعض الشعراء الذين تحولوا إلى روائيين، أو الذين كتبوا الرواية كتجربة إبداعية جديدة، إن لديهم القدرة على التعمق في الموضوعات المعقدة، بما يمتلكونه من حساسية شعرية؛ تساعدهم على بناء روايات تدرس التجربة الإنسانية من زوايا مختلفة، حيث العواطف والأسئلة الفلسفية، والتعقيدات المجتمعية، ولكن هذه الحساسية غير كافية لبناء روايات تغوص في النفس البشرية، وتحول كل تلك التعقيدات التي تحيط بها إلى شخصيات واحداث مفعمة بالحياة والمشاعر الإنسانية، لأن الرواية هي عملية بحث وتشريح لتلك النفس البشرية، ضمن بنى وعناصر ربما لا تتشابه مع بنى الشعر وعناصره وخطابه، وإن كانت تستوعبه ضمن خطابها.

يستعير بعض الشعراء الروائيون جزءا من التقنيات الخاصة بالشعر، ويحاولون استخدامها في الكتابة السردية، كالتقطيع والتكرار، والبناء غير الخطي للأحداث.. وغيرها، مما قد يدفع بهم إلى الجنوح بعيدا عن الحدود الإجناسية للكتابة الروائية، بصورة مقصودة كنوع من التجريب وكسر القوالب التقليدية، أو بصورة غير مقصودة نتيجة عدم إدراكهم للفروق العميقة بين خطاب الرواية والخطاب الشعري.

تُظهر لنا ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين مدى تنوع الكتابة الإبداعية، والقدرة على دمج الشعر بكل نسيجه الفني والبلاغي في نسيج الكتابة السردية الروائية، من خلال روايات تتشابك فيها عوالم الشعر والسرد، لتشكل نسيجا أدبيا آسرا.

***

أمجد نجم الزيدي

يظن البعض إن الكاتب والروائي التشيكي ميلان كونديرا هو روائي مثل أي روائي آخر، لكن المطلع على أغلب ما كتبه كونديرا وتحديدا في سنواته المتقدمة من عمره، هو سعيه ولجوءه الى فلسفة كتاباته الروائية، ليمنح فكرة الصراع مستويات متعددة من التداخل السردي الذي يأخذ شكل البناء الروائي.

إن ميلان كونديرا هو فيلسوف الأدب الروائي إن صح التعبيرـ فضلاً عن بقية الروائيين الآخرين الذين سبقوه من أجيال مختلفة ومن جيله أيضاً، لقد حظي كونديرا بتقدير واهتمام كبير من قبل النقاد والأدباء حول العالم، بسبب أسلوبه الفريد والمميز في كتابة الروايات، إذ تتميز رواياته بالفلسفة والأفكار المعقدة والأبعاد المتعددة، فهويتناول الشخصية ليمنحها جدلية التعايش مع حركة النص الروائي الذي يكتبه، كذلك يبتعد في محور الشخصية التى منحها شكلاً  للوهلة الاولى بأنها عادية هزلية أو لا مبالاية او هامشية ..الخ، ثم يفاجيء بها القاريء بغرائبيتها وعمقها الفلسفي ودلالاتها المتعددة.

بصفة عامة، كانت روايات ميلان كونديرا تحظى باهتمام كبير ليس فقط من قبل النقاد بل حتى المراكز الثقافية في العالم، حيث اشتهرت رواياته بالتفكير الفلسفي العميق الذي يتناول فيه العديد من المواضيع الإنسانية، وقد عُرف بتقديمه لتحليلات دقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية والتعامل مع المواقف الحياتية المتشعبة.

ومن الجدير بالذكر أن الرأي الفردي للنقاد والأدباء قد يختلف في التقدير والتفسير، لذا يلجأ الكثير من الباحثين للأخذ بالدراسة المقارنة لرواياته واسلوبه مع من يماثل طروحاته الفلسفية داخل النص الروائي، كما يُعتبر كونديرا من الأدباء الذين تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات وانتشرت شهرته حول العالم رغم تأخرها بعض الشيء، وتُدرس أعماله في الجامعات والمدارس الأدبية، حيث تميّزت القراءات والتحليلات لأعماله بالإشادة بالأفكار الفلسفية المعاصرة التي يقدمها للعالم، والتي تتناول صراع الانسان المعاصر بين الحرية والتحرر والبحث عن كينونة الاشياء وصراع الوجود الأبدي وماهيته وغيرها من قيم إنسانية وبأسلوب سردي مميز، الذي ينقل القارئ إلى عوالم مختلفة تجعله أكثر التصاقاً بواقع يتوزع بين التمرد تارةً وبين البحث عن معنى الحياة المتجددة في عالمنا المعاصر.

وفضلاً عما تقدم، الى إن روايات ميلان كونديرا، غالبًا ما تتناول مواضيع غير تقليدية او رتيبة وتقدم تحليلات عميقة للشخصيات والمجتمعات العالمية والانسانية.

 ولكي نعطي تفسيراً أكثر دقة، يمكن تلخيص الأبعاد النفسية لرواياته بشكل عام، حيث إن روايات كونديرا غالبًا ما تتناول مشكلة الهوية الشخصية والوجدان البشري، وتبحث شخصياته في أسئلة مثل من أنا؟ وما هي أهدافي ورغباتي؟ وكيف يمكنني تحقيق السعادة؟  كما تمتزج العديد من شخصيات كونديرا بين العقلانية والجوانب العاطفية والجدل الفلسفي، إذ تتيح للقارئ فرصة التفكير في أفكار مثل الحرية والقيم والوجود والزمن، إن رواياته تستكشف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، مثل الحب والصداقة والخيانة والغيرة، حيث يعرض كونديرا طروحاته بابعاد مختلفة واصوات متعددة،  وكيف يمكن أن تؤثر هذه العلاقات على الأفراد نفسياً وتغير مسار حياتهم، فضلاً عن، يصبغ أسلوب كتاباته بالسخرية والفكاهة تارة، فيقدم تحليلاته العميقة بلمسة من الفكاهة، مما يساعد في جعل قراءته أكثر تشويقًا ومتعة، وبالتالي تشجع رواياته القراء على التأمل والتفكير العميق في معاناة الإنسان والبحث عن المعنى في الحياة تارة أخرى، فالمتابع لروايات كونديرا  يعرف بكتاباته الفلسفية والأدبية التي تتطلب تفكيراً عميقاً واهتماماً بالجوانب النفسية للشخصية البشرية.

وللخوض في قراءة أحدى روايات ميلان كونديرا التي شكلت أهمية أدبية في عالم الرواية الفلسفية المعاصرة،  هي رواية "رقصة الوداع" التي تعتبر من ضمن أعماله الادبية المهمة والتي سلط الضوء عليها عدد من النقاد في العالم لما تمتلك من خصائص  في الهندسة البنائية السردية التي أبدع بها كونديرا، والتي نُشرت لأول مرة في عام 1994، هذه الرواية تتميز بالأسلوب الفلسفي والأدبي العميق الذي يُعتبر عملاً مميزًا لكونديرا، فهي عمل أدبي يشكل تحقيقًا أدبيًا معقدًا يتناول مواضيع فلسفية وإنسانية، كونها تركز على حياة الشخصيات الرئيسية فيها هما توماس وتيريزا، كما تتقاطع مع أحداث التأريخ السياسي في تشيكوسلوفاكيا، وانعكسات أحداث براغ عند دخول الاتحاد السوفيتي السابق عام 1968. الرواية تتحدث عن التناقضات في العلاقات الإنسانية والحب، وكيف يتأثر الفرد بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي يعيشها، فيطح أفكاراً فلسفية حول الحرية والقدر وتأثير القرارات الفردية على مجرى الحياة، كما يتمثل الوداع في الرواية في مواقف الفراق والفهم العميق للحياة ومعناها.

يتميز السرد في الرواية عند كونديرا بالتشعب والتفاعل بين الأحداث والشخصيات، وتشكل الرقصة عنده رمزًا لتعقيد العلاقات وتلازم الحياة، حيث يستخدم كونديرا أسلوبه الأدبي بمهارة لاستكشاف الجوانب العميقة للحياة البشرية بمنظور فلسفي.

ففي هذه الرواية، يقدم ميلان كونديرا نظرة عميقة على التأريخ السياسي والاجتماعي، هذه المنحنيات منحت كتاباته البعد السياسي والاجتماعي والفلسفي في معترك الحياة، والتي أنعكست في روايته (رقصة الوداع) مما أضافت له تجربة غنية في معظم ما كتبه فيما بعد هذه الاحداث، خاصة بعد أن هاجر الى فرنسا والاستقرار فيها لمدة طويلة.

أما شخصياته وأبطاله، فأن كونديرا يتميز برسم شخصياته بعناية فائقة وإعطائها عمقًا جدلياً كأن الفلسفة هي ديدنه، فعنده  الشخصيات في الرواية، تمثل رموزًا لمفاهيم مثل الحرية والحُب والسلطة والوجدان، كما تمثل تجاربهم الشخصية لأبطاله تصاعد هارموني للصراع بين الفرد والنظام من جهة، وبين الأنا للبطل ومنظوره الفلسفي للحياة وصراعه معها بشتى الطرق، أوأي وسيلة يسعى من خلالها لأجل التغيير.

كذلك، فأن  كونديرا يقدم في رواية رقصة الوداع مجموعة من الأفكار الفلسفية حول الحرية والتفكير والوجدان والمسؤولية الاجتماعية، كما يتناول أيضًا التناقضات والصراعات الداخلية في النفس البشرية التي ما أنفك عنها بجدلية تسكن أبطاله بنزعة يخلط فيها الدراماتيكية المتوزعة بين الفرح والألم، أو التراجيدي والكوميدي.

وإذا ما عرجنا الى التدقيق والغوص أكثر في أسلوبه وحواراته والمنلوج الداخلي، فيضعنا أمام تساؤلات وجودية متعددة على لسان أبطاله، ذلك لأن كونديرا يستخدم اللغة بشكل جميل لتجسيد الأفكار الفلسفية والمشاعر البشرية، لينقلها الى المتلقي دافئة ناضجة عميقة المعنى قريبة من القارئ، وكأن يشعره بأنه قريب منه أي القارئ، ويفهم ما يريد منه القارئ، فهذه الرواية  تحديداً تتميز بالعديد من المقارنات والرموز التي تعزز من تعقيد الرواية، ولكن بالتعقيد الذي يعطيك التحفيز نحو متابعة سلسلة أحداثه بشكل تفاعلي متناغم ومتطور مع صعود الاحداث داخل البناء السردي للرواية.

وهو كغيره مثل أكثرالمبدعين الكبار في الرواية العالمية، يمنح القارئ التفافاً حوله، ويسعى لزرع بكل ما يملك من أدواته الابداعية التي يرسمها بيانياً في سطور روايته، لكي يقول؛ إن الإلهام جزء أساس وحيوي في جسد كل رواية،  ويريد  أن يلهم في رواية رقصة الوداع القراء للتفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية المعقدة وتحفيزهم على البحث في المعاني العميقة للحياة والإنسانية.

ولاشك، فأن ميلان كونديرا لا يخلو من الانتقادات، فاستخدامه المفاهيم الفلسفية العميقة تكون عصية أحياناً لبعض القراء، أضافة الى أنه يميل إلى التفكير العقلاني الزائد، مما قد يؤدي إلى إبراز جوانب باردة وغير عاطفية في رواياته، كما أنتقدت بعض الآراء السياسية التي طرحها كونديرا في أعماله، والتي قد تكون مثار جدل لبعض القراء.

بأختصار، إن رقصة الوداع هي واحدة من روايات كونديرا التي تبحث لفك عقد الحياة الساكنة في الروح البشرية، تقدم نظرة عميقة على الإنسانية والعالم السياسي والثقافي وصراعاته وجدلية الانسان، والبحث عن الاستقرار، إنها تحتاج إلى وقت لفهم وتقدير جميع الأفكار والرموز المدرجة فيها، وهي قراءة مثيرة للعقل الانساني ولمحبي الأدب الفلسفي.

***

د. عصام البرّام

الإبداع السردي يمثل تنفيس لهموم واشجان الاستاذ (واثق الجلبي / شاعر وقاص) ويقتحم اصعب التقنيات التقنيات الحديثة في براعة الابتكار والتجنيس الأشكال الادبية في الصياغة السردية واللغوية، ان تجنح في أعالي الأفق بجناحين (النثر والشعر) هذا التجنيس يمتلك براعة ممن امتلاكه الإمكانيات لغوية وشعرية وبلاغية. وهناك تجنيس اعتقده الاهم، ان الحدث السردي تسيره جملة أو منطلقات من الأفكار الفكرية والفلسفية وهي التي تكون المقود والمحرك، وتلعب دوراً حيوياً في المعنى والمغزى والرمز بشكل عميق وبليغ، يوظف معارفه في نواحي الحضارة والدين والتراث، أو بمعنى تشريح الواقع القائم، او بشكل أعم ماديات ومعنويات الحياة والوجود والعدم، في صراعهم القائم بشكل ايجابي أو سلبي. ليس هناك ممنوعات في تناول الثلاثي في (الحضارة والدين والتراث) بعمق وبشكل رصين وهادف، أي يضع في مجهره الإبداعي بشجاعة في مخاطبة العقل من أجل إيقاظه من سباته، حتى يملك قدرة الوعي على مقارنة الأشياء والمكوناته، التي دأب عليها واعطته ميزة اسلوبية متمكنة، في الفرز بين السلفية المغلقة والانفتاح في العقلية، بين الخرافة والحقيقة، بين الدجل والزور والوعي الناضج، بين التصديق والتشكيك في المسلمات الظاهرة، التي تحرث في تخريب الواقع والعقل، لمآرب خبيثة شيطانية للضحك على عقول البسطاء والجهلة. أي يعزف في مرايات الواقع والحياة والوجود، المرئية و اللامرئية، يوظف رسائله المشفرة في الرمزية والدلالة، حتى في المسلمات الموت والحياة، يقتحم معادلتهما بطرح الصور التعبيرية والافكار والاحلام والامال، اي بكل بساطة لا يستسلم وانما يتسلح بقوة التمرد الهادف، ويحشر القارئ أن يتفاعل ويتأثر أن يمتلك ناصية التفكير والتأمل، لان المعروض على سطح الواقع، هو بضاعة مستهلكة غير صالحة، وإنما هي قشور الملح، أو فضلات الملح، مثل فضلات القمامة، لأن غايتها انهزام الوعي والعقل ان يغرقان بطوفان الخرافات المدمرة أو بثقافة التجهيل، يجري إنتاجهما بشكل مجدد وبشكل طاغٍ، والمجموعة القصصية القصيرة (قشرة الملح) تعزف في هذا الاتجاه، في المحاججة والحوار أو ما يسمى بحوار الجدل (تكلم حتى اعرفك / سقراط). بكل تأكيد انها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن ليس هناك بديل الى الوصول الى (إيثاكا) حتى لو أغلقت الطرق بالأفاعي والوحوش الكاسرة، ولكن لابد من الوصول. مهما كان الثمن.

لنسنرتشف بعض السرديات القصيرة من المجموعة القصصية:

× في القصة القصيرة (أبر وقرون): هي تتناول رحلة الحلاج الشاقة والصعبة في إيقاظ العقل من سباته وتمزيق تراتيل أهل الكهف، ليستنشق الحياة روحها، في جمالية العيش والسلام والمحبة، وقدم حياته، حتىى لا تنطفي شريعة السماء النورانية، وظلت شعلته خالدة بالسجود للعظماء.

وفي (قبلة واحدة):

(دعوني أخبر الموتى بأنهم ليسوا بأحسن حال، مما عليه نحن الآن.. ودعوني أخبار الأحياء بأنهم ليسوا بأحسن حال مما عليه الآن... نحن في منطقة بين الموت والحياة) يعني الحياة والوجود في منطقة رمادية، يعني لا تبشر بالخير لا للاحياء ولا للاموات. طالما الحمقى بيدهم الجاه والنفوذ والمال و يلوحون بالسيوف المتلهفة لإجهاض الحياة والوجود بالدم .

في سردية (قشرة الملح):

هي مغامرة في إيقاظ العقل من سباته وانقاذه من الطوفان (نم على الأنفال لتجد وسيلة تسترد بها نفسك.... هكذا كان السطر الأول) العمل على موت العقل وتسفيه الوعي، لتكون الحياة في قعر البئر. أما بقية سطور الرسالة. نصفها ابتلعتها المعدة، والنصف الآخر عبارة عن ورقة بيضاء، تغوص في الوحل لتنتج قشور الملح، مستهلكة لا تصلح للحياة.

سردية (شجرة موسى):

(اذا كان الكفر الخروج من العتمة فأنا أول الكافرين.. هكذا بدأ سطره الذي اراد أن يخرج... كل مردفات العصر ميتة كانت ولادته العادية.. حد التقيؤ لم يستطع أن تنجيه) لأن السلطة الالهة بالارض، مطلقة تميت وتحيا البشر، وبكل بساطة ترسل الاحياء الى القبور.

في سردية (الخاسر):

(سأكتب ما اقول.. ويقول.. وتقول) ولكن هموم القرن ومصائبه هي أكبر ما أقول وما يقول وما تقول. وهي اكبر من ما افعل ويفعل وتفعل. لأن شريعة القتل والدماء، تخنق كل شيء، وحتى جدارية فائق حسن في (ساحة الطيران) التي رسمت الخيول العربية انهزمت من الجدارية.

المقطوعة الشعرية (مفاتح):

هي تمثل الرؤية الفكرية والفلسفية للمجموعة القصصية بأحسن تعبير.

كل شيء عار..... ي

حتى الذي في ردهة الملكوت

خان الليالي...... لوحة الأرقام

كل شيء خالد الأضداد.......... إلا بغداد

كل شيء عار.... ي... الطفل والخمار

لا تستر الأشجار .... أصابع العذراء تنهشها الدماء المستضيئة.

لم يعطب الناي..... بل وسوسوا للقرد أن يعطيه درس الغناء

كانت تجاربنا بطوناً في الظهور.. عشنا نخيلاً في زمن اللانخيل.

هكذا راى كل شيء فعزيَّ بذكره يا بلادي.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد ومترجم

 

(ما بين الفيلم و الرواية)

صدر الرواية:

في البداية و قبل الدخول في تفاصيل النقد الأدبي لهذا العمل العملاق والذي هو من تأليف المبدع / دوستويفسكي والذي تتمتع كتاباته بالعمق المتداخل بين جنبات النفس الإنسانية،  يجب عليك العلم بأنني لست أول من تطرق للنقد لهذا العمل الكبير والذي وصف من قبل كبار الشخصيات بأنه من اعظم الأعمال الأدبية علي الأطلاق.

ــ في عودة سريعة للنقد الادبي يتطرق الكاتب في صدر الرواية إلي التعريف بالشخصيات الاساسية للرواية وهم الأب أفانوف كارامازوف وهو شخصية نرجسية ممزوجة بشيء من المكر والدهاء بجانب تخلية عن الجانب الانساني في حياته فهو لا يهمه إلا نفسة،  عربيد لا يكاد يفيق من السكر وهو شخصية غنية.

الابناء

ديمتري وهو ضابط في احداث الفيلم  / الراهب إيفان / المفكر أليكس / والابن الغير شرعي سماردياكوف وهو يعاني من صراعات نفسية بداخلة لديه إيمان قوي بأخيه أليكس.

الاحداث

يحدث صراع بين الأبن ديمتري الضابط وبين والده علي المغنية الشهيرة جروشنكا ويستغل شخصية أخري وهي سماداركوف هذا الصراع الناشب بين الأبن ديمتري الضابط و أبيه ويقوم بقتل الأب مستغلاً ذكائه في توجيه الاتهام إلي الضابط ديمتري والذي يحكم عليه بعشرين عام خلف القضبان.

ــــ ليموت سماداركوف بعد ذلك وتموت معه الحقيقة إلي الأبد.

بين يدا الأحداث

تتمتع الرواية بالعديد من الفلسفات الاجتماعية والدينية من خلال الابناء الأربعة ليغوص الكاتب الرائع دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية ليقدم لنا عمل متفرد في أحداثه اقرب ما يكون إلي دراسات علم النفس والكتابات الإنسانية لتقول لنا ما الذي يحدث داخل هذا الخضم من الاختلافات الإنسانية في صورة فلسفية ترتقي في سموها ارتقاء الذات الإنسانية متمثلة في الراهب إيفان وورعته وزهده في سياق الأحداث ضارباً المثل والقدوة لرجل الدين علي اختلاف الأديان فليس شرط أن تكون رجل دين مسلم او يهودي او مسيحي او أي ديانة اخري لتسمو نفسك فوق الأنا.

وليس هذا فحسب بل هناك صراع بين الخير والشر في محاولات المفكر أليكس للعودة بوالده إلي طريق الخير ولكن رغم فكره الراقي ومحاولاته المتعددة إلا أنه يفشل في ردع ذلك العربيد والقضاء علي النرجسية داخل نفس والده.

ــ ولكن هل بائت محاولات الأبناء بالفشل مع هذا المتغطرس السادي والذي يجري طوال الأحداث وراء شهواته وملاذه ليفاجئنا ممثل القانون الضابط ديمتري لمحاولة أبعاد المغنية جردشكا والتي تريد الاستلاء علي امواله وليست رغبة فيه من خلال استغلال مميزاته كشاب لاستقطاب المغنية بعيدا عن والدة ولكن يأتي صراع آخر من الصراعات الإنسانية وهو الانتقام ليقتل الأب ويتهم فيه الأبن وتموت الحقيقة مع موت القاتل الحقيقي إلي الأبد  .

ــ من الجدير بالذكر أن هذا العمل تناولته السينما العالمية ففي مصر مُثل في أحداث فيلم الأخوة الأعداء وفي المغرب مُثل كعمل درامي تحت عنوان:  تريكة البطاش كما تناوله المسرع ايضا.

رؤية الناقد

الفلسفة الإنسانية لا حدود لها فمهما طرقها الكتاب من جميع الأجناس تبقي سر دفين لا يعلمه إلا من خلق تلك النفس و اودع فيها الحياة ففي كل يوم تطالعنا الأحداث الإنسانية بكل ما هو غريب وعجيب بين جنبات ذلك النفس البشرية من جديد لم تري الإنسانية مثيلا له إنها فلسفة من نوعاً متجدد كتجدد تلك العملاقة بين جنبات الأنسان.

لقد جاء العمل الأدبي (الأخوة كارامازوف)  كمصنف أدبي من الطراز الأول تطرقت أحداثه إلي فلسفة انسانية جمعت بين شخصيات متباعدة في مخاضها الإنساني تبعد كل البعد عن بعضها البعض متأثرة في ذلك بشخصية الأب النرجسي السادي المنبوذ من قبل المجتمع فسلكت كل شخصية درب من دروب الشخصية الإنسانية في محاولة منها إلي تغيير ذلك الأب و لكن تأبي النفس التي جلبت علي حب الذات إلا أن تبقي في مستنقع الرزيلة ضاربتاً بالأعراف الإنسانية عرض الحائط عابسة بكل القيم الجيدة و الرصينة لتنتهي النهاية الحتمية إلي حتفها بين طيات النسيان رغم الأثر السيئ الذي تركته في نفوس الأبناء معلنة في ذلك عن فلسفة انسانية تسأل عن التوجه النفسي و ليس الكيف الإنساني.

***

بقلم الناقد الأدبي / احمد عزيز الدين احمد

عضو اتحاد كتاب مصر

مقدّمة: ندرك أنّ المراحل الأولى من حياة الطّفل تعمل على تشكيل شخصيّته، في هذه الفترة يتشكّل نمط حياته اليوميّ، وتترسّخ عاداته وتوجّهاته ومعتقداته وقيَمه، هي مرحلة حيويّة تتطلّب التّثقيف والتّعليم والتربيّة السّليمة، فالطّفل في حالة نموّ مستمرّ، وكلّ ما يتلقّاه من تأثيرات على مستوى العقل والقلب والرّوح يلعب دورا حاسما في تكوين شخصيّته المستقبليّة.

من هنا يأتي الدّور الحيويّ للأدب بشكل عام، وأدب الأطفال الجيّد المُعدّ والمدروس بشكل خاص، الذي يلعب دورا حيويا في إعدادهم للمستقبل، يؤثّر في سلوكهم وفي بناء القيَم التّربويّة الإيجابيّة لديهم، يطوّر  لغتهم ويسهم في تثقيفهم وتلبية حاجاتهم المعرفيّة.

رواية "جبينة والشّاطر حسن" للأديب الشيخ جميل السّلحوت، صدرت هذا العام (2023) عن مكتبة كل شيء في حيفا، وهي رواية مُوجَّهة إلى الجيل الصّاعد من الفتيان والنّاشئة، تقع في (112) صفحة من القطع المتوسّط، يتداخل فيها السّرد الواقعيّ مع الخيال المشوّق ومع الحكاية الشّعبيّة والأسطورة على غرار حكايات ألف ليلة وليلة. وما بين الحقيقيّ والمتخيّل، يعيد الكاتب خلط الأوراق، يعيد تشكيلها برؤية جديدة، يستدعي فيها الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة؛ للتّفاعل معها وإعادة إنتاجها من جديد، وذلك لإعطاء النّصّ لمسة إبداعيّة من الحكايا المتجذّرة في تاريخنا الشّعبيّ. والأديب الشّيخ جميل معروف عبر مسيرته الطّويلة، حاز على جوائز عديدة، وفي رصيده الأدبيّ الكثير من الرّوايات، كتب للكبار والصّغار، وكتب في أدب السّيرة وأدب الرّحلات، ولنا في أدب المراسلات كتاب مشترك بعنوان: "رسائل من القدس وإليها"، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المختصّة في التّراث، وسنوات طويلة من الكتابة الصحفيّة وكتابة المقالات السّياسيّة، والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

الأحداث والشّخوص:

تحكي الأحداث قصّة جبينة التي ولدت بعد معاناة وطول انتظار، وكانت تتمتّع بذكاء حادّ وجمال واضح.

تسكن أسرتها في بلدة القدس القديمة، تطلب من والدتها "بثينة" إنجاب أخت لها، فيتعذّر الأمر على الأمّ التي تقترح على زوجها "كنعان" الزّواج بامرأة ثانية؛ لتحقيق رغبة ابنتها في الحصول على أخت، لكنّ كنعان يرفض ذلك، ويتّخذ قراره لاحقا بتبنّي الطّفلة "زينب".

زينب هي ابنة لامرأة أرملة فقيرة جاءت إلى بقّالة كنعان بحثا عن فرصة عمل لطفلتها، وبدلا من ذلك قدّم لها كنعان اقتراحا بالاعتناء بزينب والاهتمام بها، وبعد موافقتها، أخذ الطّفلة لتعيش مع أسرته.

بهذا القرار الكريم، أصبحت زينب جزءا من الأسرة وأختا لجبينه، عاشوا سويّا في بيت واحد، ممّا منح زينب حياة أفضل وأكثر تلاحما مع العائلة.

في أحد الأيام، قامت الأسرة برحلة إلى البراري، وهناك أُغويت جبينة بفضولها لاستكشاف إحدى الكهوف، دخلت وجلست في زاوية الكهف وأسندت ظهرها على الحائط؛ لتنعم بالرّطوبة، نظرت إلى يمينها فرأت رقعة ناشزة في الحائط، تفحّصّتها جيّدا، وخرجت تخبر والدتها وزينب بما رأته، وقفت وأشارت لزينب إلى الرّقعة البارزة في الحائط، لم ترَ زينب شيئا وهي واقفة، وبحركة عفويّة منها ضربت المكان الذي أشارت إليه جبينه بقدمها؛ فانهارت الرّقعة، هرعت أمّ جبينه على صوتهما، وقفت مشدوهة أمام ما رأت، نظرت إلى الحفرة التي ظهرت فرأت جرّتين نحاسيّتين مزخرفتين، مدّت يدها وأزاحت غطاء إحداهما، وتوقّفت تتمعّنها وهي تتهيّب من إدخال يدها إلى باطن كل منهما؛ لترى ما فيها، لكنّ زينب مدّت يدها وغرفت ملء كفّها، فإذ بها تُخرج من الجرّة بعض القطع الذّهبيّة.

بعد ذلك بفترة اقتحمت المنطقة عصابة من اللّصوص، اختطفت زينب وجبينة، فأعلن الأب كنعان عن منح خمسين ليرة من الذّهب مكافأة لمن يجدهما ويعيدهما إليه، خرج "الشّاطر حسن" وشقيقه "حسين"، ابنا شاه بندر التّجار للبحث عن الفتاتين. انطلقا إلى مدينة أريحا، رافقهما سرب من الطّيور الذي ظلّ يحوم فوقهما ويتّجه شرقا، فهم الشّاطر حسن أنّ هذه الطّيور مرسلة إليهما؛ لتقودهما إلى مكان الفتاتين. وبالفعل قادتهما الطّيور إلى شمال أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظلّان بظلّ دالية، عرفت جبينه الشّاطر حسن؛ فانشرح قلبها وقابلته بابتسامة، أردفها خلفه على الفرس في حين قفزت زينب خلف حسين، وأطلقا العنان لفرسيهما عائدين بجبينه وزينب.

أعلن الأب كنعان عن خطبة ابنته جبينة إلى الشّاطر حسن، وخطبة زينب إلى حسين، لكنّ الأخوين قرّرا تأجيل الزّواج إلى أن يتمّ القبض على اللّصوص ومعاقبتهم.

الخصائص الفنّيّة في الرّواية:

تصنّف هذه الرّواية ضمن الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين الأسطورة والحكاية الشعبيّة بالواقع الحالي بشكل إبداعيّ، وربطها بالواقع الإنسانيّ بطريقة فنيّة وجديدة في أسلوب التّعامل مع الفكرة والحدث، وفي بناء الشخصيّة وتطويرها. احتوت على مجموعة وافرة من المعلومات التي تعرّف النشء على أماكن في بلادنا وجغرافيّتها وطبيعتها الغنيّة وأماكنها التاريخيّة، فمثلا تمّ ذكر معلومات وافرة عن "دير مار سابا" الموجود شرق مدينة بيت لحم، أيضا تمّ ذكر بعض أسماء الأعشاب والنباتات والحيوانات، وبعض المعلومات عنها، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا تثقيفيّا خاصّا.

المفاهيم والقيَم التربويّة:

مع التقدّم التكنولوجيّ وتفجّر المعلومات والتّقنيات، نشهد اهتماما من المربّين بدراسة القيَم التي تحدّد مسار السّلوك الإنسانيّ، وتكوّن ثقافة المجتمع، من هنا يحضر الأدب كعنصر جوهريّ في عناصر الثّقافة المجتمعيّة وقيَمها، يتجلّى كمحور هام يعبّر عن القيَم، ينقلها ويعزّزها، وكما أسلفت في المقدّمة، أدب الأطفال وسيلة تربويّة ضروريّة، تساهم في تشكيل شخصيّة الطّفل منذ المراحل الأولى.

يتوجّه المؤلّف في هذا العمل إلى مراحل الطّفولة الأعلى سنّا - من العاشرة فما فوق- وذلك لإشباع حاجات هذه المرحلة الوجدانيّة والفكريّة، واستثارة خيال الفتيان وتحفيزهم على التّفكير، وتبصيرهم بتاريخ أجدادهم، وتعريفهم بالقصص التراثيّة، وبالتّالي تحقيق الفائدة والمتعة والتسليّة دون إغفال بعض المقاصد السلوكيّة والتعليميّة. وعن المفاهيم والقيم التربويّة التي جاءت في الرّواية:

تجلّت فيها مساعدة المحتاج والمعاملة الحسنة، وذلك من خلال المعونة التي قدّمتها عائلة كنعان لوالدة زينب، تجلّت كذلك علاقة الاحترام والتّآخي الإسلاميّ المسيحيّ القائمة منذ عهود طويلة، وذلك حين تبرّع الشّاطر حسن ببعض الحافلات لإرسال الأطفال وذويهم في رحلة إلى البراري، ثمّ اقترح على إمام المسجد التّنسيق مع بطريرك الكنيسة لتنظيم وترتيب الرّحلة.

هي رواية متعدّدة الأهداف، نجد فيها الأمانة والوفاء بالوعد، وذلك حين وعد كنعان زينب بحصّتها كاملة من الكنز الذي عُثر عليه في المغارة، نجد أيضا ما يعلّم الطّفل أهميّة التمسّك بالأرض والتّاريخ وتراث الأجداد، وكذلك الصّدق وحسن الضّيافة الذي تحلّى به الأب كنعان، والكرم الذي اتّسم به البدو، الذي شكّل جوهرا أساسيا في طابعهم الاجتماعيّ.

الأسلوب واللّغة والسّرد:

يقوم الكاتب بإعادة نسيج عالم متخيّل، وتقسيمه داخل الحبكة التي تجلّت فيها الحكاية التّراثيّة، والرّحلات والجولات التي قامت بها الأسرة، نقرأ ذلك عبر سلسلة من المشاهد التي تحرّكت بحيوية في النّص، وارتكزت على مجموعة من الصّور المخزّنة في ذاكرة المؤلّف، تلك التي استحضرها وتعامل معها بوعي الحاضر؛ ليخرج العمل بسرد مشبع للفضول، تتلاحم فيه العناصر الرّوائيّة في وحدة وانسجام، ضمن منطق التّضمين السّرديّ للحكاية الرئيسة، التي تتفرّع منها الحوادث والقصص؛ لتشكّل بذلك عنقودا من الحكايات القصيرة التي تتداخل وتتمحور حول الخيط الأساسيّ للقصّة الرّئيسة.

أمّا اللّغة فهي منمّقة ومتقنة، تميّزت بسلاستها وبساطتها وبعدها عن التّكلّف والتّعقيد، أبرزت حيويّة السّرد ودور الشّخوص وصفاتهم، خاصّة بطلة الرّواية جبينة والشّخوص المُقرّبة منها.

اعتمد الكاتب على الكلمة في عمليّة التّجسيد، حيث اتّخذت مفرداته مواقعها الفنيّة فشكّلت العناصر الرّوائيّة وكوّنت الأجواء والمواقف والحوادث، وعرضت المعاني والأفكار، وأثارت عواطف القارئ الصّغير وانفعالاته، وحرّكت العمليّات الذّهنيّة لديه؛ كالإدراك والتّخيّل والتّفكير.

الرّاوي:

يشكل الرّاوي جزءا من بنيّة النّص، فهو من يتولّى عملية الحكي أو القصّ، يعرّف بالحكاية وينقلها إلى القارئ، ويأخذ مهمّة السّرد والوصف والتّقديم والنّقل، والتّعبير عن أفكار الشّخوص ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبذلك يعيد إنتاج الحكاية. في رواية جبينة والشّاطر حسن كان الرّاوي العليم يمسك بكلّ خيوط السّرد، كان على دراية بالشّخوص ومكنوناتها، ظواهرها وبواطنها، سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها وما ستؤول إليه مصائرها، عبّر عن مشاعرها وأحاسيسها، تجوّل معها، وعرّف بالأحداث والمجريات والأمكنة، سرد أدقّ الأمور والتّفاصيل، وجال ودار في ذهن أبطال الرّواية وأفكارها.

المكان:

حضر المكان بأنماط متعدّدة، المكان الواقعيّ، المكان المتخيّل، المكان المغلق والمفتوح، وقد ساهمت جميعها في تشكيل فضاء النّصّ وكشفت عن طبيعة الأحداث، وفرضت الأساليب السّرديّة واللّغويّة، مع ذلك، احتلّت الأماكن الواقعيّة الحيّز الأكبر في النّصّ، فأضفت بذاك طابعها الحيّ، أمّا الأماكن الخياليّة فقد ظهرت كأماكن حقيقيّة، وذلك لإيهام القارئ بالواقعيّة. كشفت هذه الرّؤية عن قدرة الكاتب الّتصويريّة في نقل الأحداث والتّفاصيل والأمكنة، خاصّة وأنّ الأحداث دارت في مدينة القدس التي وُصِفَت أهميّتها الدّينيّة والمعنويّة.

هذا وقد رسم الكاتب بقيّة الأماكن، من خلال تجاربه وذاكرته وملاحظاته ومشاهداته، عمل على صياغتها فنيّا لتناسب الأحداث والوقائع، والشّخوص بحركتها وتفاعلاتها، ولا ننسى ثقافة الكاتب وأثرها العميق في تشكيل تلك الأمكنة ورسم أبعادها وأنماطها، لتتحوّل بذلك إلى رموز بدلالات جديدة مثيرة للفعل، يمكن إدراكها من خلال العلاقات الجماليّة والرّوابط التي كوّنت نسيج العمل وعناصره.

وبعد.. هو عمل أدبيّ مغاير، يحمل سمات الأدب المعاصر، ويرتدي ثوب الحكاية الشّعبيّة، والأديب السّلحوت له دوافعه في استدعاء التّراث في نصوصه الأدبيّة، ربّما لقناعاته أنّ التّراث مصدر إلهام يجب استحضاره في متون الأعمال الأدبيّة، أو لأنّه التفت إلى تراث أمّتنا الثّريّ بما يحمله من قيَم وتجارب إنسانيّة ومعتقدات وطقوس وملامح للهويّة، فاستلهم منه شخوصه وموضوعاته، منبها بذلك إلى أهميته وخصوبته.

نجده يحيك أعماله بإضافة الأمثال الشعبيّة المحفوظة في ذاكرة المكان الوجدانيّة والثّقافيّة، كما نلمس حرصه على استخدام بعض المفردات من اللّهجة المحلّيّة أحيانا، أو قد يوظّف بعض المرويات التراثيّة أحيانا أخرى. هو نموذج حيّ لاستثمار التراث والمحافظة عليه، وزرعه في نفوس أبنائنا من خلال الأدب والفنّ.

أبارك للأديب جميل السّلحوت هذا العطاء، وأتمنى له المزيد من التّألّق والإبداع.

***

صباح بشير

اختط الأديب الأردني الراحل مؤنس الرزاز مسارًا آخر غير رواية السيرة الذاتية في سرد أحداث رواية "اعترافات كاتم صوت" رغم أنها جاءت عن أحداث حقيقية كانت ضمن تداعيات القضية المعروفة بقضية قاعة الخلد عام 1979، واحدة من أهم القضايا السياسية في تاريخ العراق الحديث، البلد العربي الذي استقر فيه المفكر القومي منيف الرزاز، الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي، آخر درجة حزبية تقلدها قبل إصدار قرار الإقامة الجبرية بحقه وعائلته إثر معارضته إصدار أحكام سريعة، عبر محكمة صورية، على 55 من قيادات الحزب والدولة...

مفارقات ومعلومات كثيرة صارت في متناول الكثير من من متابعي الشأن العراقي في كل مكان بعد سقوط النظام الديكتاتوري عام 2003، بالإضافة الى مؤلفات وسيرة حياة المناضل العروبي، كان يمكن أن تكون مادة دسمة لرواية طويلة، وقد تكون متعددة الأجزاء، تسرد الكثير عن مرحلة مهمة في تاريخ العديد من البلدان العربية، إلا أن الروائي مؤنس الرزاز اختار أن يكتب عن عمق المأساة التي انتهت إليها رحلة "التجربة المرة"* من منظور مختلف تمامًا، عبر صفحات رواية قصيرة نسبيًا، شأن روايات الأديب الأردني الأخرى، خاصة وأنه لم يكن مع أسرته خلال سنوات المحنة التي انتهت إلى وفاة الوالد، فاستعاض عن ذلك برؤية مغايرة تمامًا اتخذت من الكوميديا السوداء وسيلة لالتقاط تفاصيل حياة أسرة رجل مسؤول وجد نفسه فجأة معزولًا عن الحياة بعد أن كان من ضمن القيادات العليا للبلاد، دون ذكر اسم البلد، وكأنه يشير بذلك إلى أن مثل تلك الأحداث يمكن أن تتضمنها الكواليس السياسية للكثير من البلاد التي اعتادت التغيرات السياسية المفاجئة، عبر انقلاب عسكري أو إسقاط النخبة السياسية واستبدالها بأخرى تناسب المرحلة القادمة للقيادة العليا للبلاد، والتي يتم اختزالها عادة بشخص الديكتاتور، تم التطرق إليه في النص عبر إشارات تكاد تكون خفية عن إدراك القارئ غير المتفاعل مع سياق الأحداث وثنايا السرد، ومفارقات المواقف التي رصدت مناحي مختلفة من حياتنا، بكل ما ألفت من ازدواجية وما فرضته علينا الأنظمة الشمولية من عزلة عن أحلام كثيرة ترفعها الشعارات السلطوية كما لو كنا جميعًا ضمن إقامة جبرية عامة، وغير معلنة، تفرض علينا الصمت المطبَق والمتخوف من نزعة الجهر بأي اعتراف سرعان ما يمكن اغتياله من قبَل كاتم صوت، لا تدركه الأبصار، معد لاغتيال الألسنة من قبل أن تتفوه بكلمة، بل من قبل أن تصدر إيماءة أو تعبير وجه مستاء، لذا لا بد من التكيف مع واقع الحال، الذي لا يجب الانشغال بكيفية تغييره كي لا يتم اقتناص الأفكار الشاردة أيضًا.

الإقامة الجبرية سجن لأمدٍ غير محدود داخل سجن أكبر، على امتداد وطن بأسره، اعتاد مواطنوه/ نزلاؤه تربص مصائد الترصد بكل خطوة يخطونها، متوجسين من مجرد النظر نحو بيت رجل السلطة المعزول، وعيون الحراس تكاد تخترقهم كي تعرف بواطن ما قد يهفو إلى تفكيرهم، لكن حتى أولئك الحراس يتحيرون في صيغة التعامل مع المسؤول السابق والذي كان في مكانة مرموقة تفرض سطوتها على الجميع.

أجواء مخابراتية كان يمكن أن تُشعر القارئ بالسآمة منذ الصفحات الأولى للرواية، لولا طبيعة الشخصيات الساعية إلى اقتناص السعادة البسيطة التي قد يهبها دخول عامل النظافة فلا تدعه العائلة يغادر بسرعة حمل أكياس الزبالة، بل تحاول إغراءه بالبقاء أطول فترة مؤانسة وجه غريب ممكنة، عبر تقديم المأكولات والمشروبات وبعض الثياب التي لم يعد من ضرورة لها لديهم، ففي وحشة السجن تتساوى أهمية الجميع، كما تصير الكثير من الاعتبارات المتعارف عليها بلا معنى، ويصير كل التاريخ النضالي معلقًا بعدة جمل تتناقلها الأفواه وإن كانت بلا معنى، أو مجرد نكتة عابرة لا قدرة لها على الإضحاك طويلًا كي لا تستدعي شيئًا من الريبة بما قد تنطوي عليه من مقاصد.

شخصيات أخرى تناولتها الرواية ضمن أحداث تفرقت بها الأمكنة لكنها تظل تمضي في سرد الأحداث ضمن بودقة واحدة، وبنفس الوتيرة، ووفق ذات أسلوب السخرية المتفجرة بالصرخات الخفية عن الأسماع، مثل رجل الأمن الذي لا يجد مكانًا في أرجاء المدينة كي يختلي بزوجته بعيدًا عن كاميرات المراقبة، وهو على معرفة تامة بأنه غير مستثنى من تلك المراقبة، بل ربما على العكس، إذ أن وظيفته الحساسه تضعه تحت المجهر السلطوي أكثر من سواه في دولة الفرد الواحد، لا النظام الواحد حتى، فلا يجد في النهاية غير الجرائد الملأى بأخبار الإنجازات والانتصارات كي تحتمي بها شهوته وزوجته من العيون المترصدة في كل مكان، ليجسد الموقف ازدواجية السلطة الحاكمة ما بين المواطن والمسؤول من زاوية مختلفة ترسم خطًا محوريًا آخر ضمن سرد لا تفوته فرصة درامية دون استغلالها.

أجواء بوليسية من الخوف والترقب عايشها جيلي منذ الصغر، رصدت أبعادها الرواية ضمن دلالات رمزية معبرة استطاعت أن ترسِخ لها خصوصية في ذهن القارئ رغم رصدها ذات المنظومة الديكاتورية التي جسدها الكاتب الانجليزي جورج أورويل في رواية "1984" والتي أوجدت شاشة كبيرة للمراقبة في كل مكان، تحديًا للخصوصية التي تعد هاجس خطر لأي نظام استبدادي، كذلك عبر التوغل في أعماق الشخصيات المحتجَزة في رهبة جنون التقارير السرية والصادرة عن أقرب المقربين ليضمنوا بقاءهم ضمن المرضي عنهم، ولأطول فترة ممكنة، خاصة أولئك الرفاق الذين حتى لو تكلموا لا ينطقون سوى الصمت، فأي صوت يمكن أن يصدر عنهم لا بد أن يتم اغتياله كي تضاف أسماؤهم إلى قائمة من ضمن سلسلة قوائم لا تتوقف الآلة الديكتاتورية عن إصدارها عبر نشرات تبعث المزيد من الخوف وتفسح حيزًا أكبر للصمت.

رغم كل ما تم تناوله من إرهاصات الجنون، وكل الإحباط الذي تسلل إلى نبض القلوب، وما تشظى عنه من انكسار يعكس هاجس الريبة وبواعث الخوف في بلاد فقدت بوصلة الأمان، إلا أن الرواية تظل منتصرة لذلك الصمت المدوّي في الخفاء، يخاتل الأوامر الصارمة ويسخر من العيون المترصدة كل فعل أو رد فعل، تتوعد بالمزيد من القتل والاعتقال والتهميش والإقامات الجبرية، بينما تتوعد الشخصيات المطارَدة داخل وخارج أوطانها بالمزيد من الاعترافات العصية على الكتمان.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

17 ـ 11 ـ 2023

.............................

* كتاب "التجربة المرة" من مؤلفات المفكر منيف الرزاز.

الاستحضار: أتساءل كما يتساءل بعض المثقفين والمسرحيين، كيف يمكن إعادة حَرارة الفعل الثقافي والإبداعي الذي تم افتقاده بناء على غياب الحضور الجماهيري في عدة أنشطة فنية وفكرية وإبداعية، وشبه انعدام المتابعة الجادة للشأن الثقافي والفني، مرفقا بشلل النقاش الساخن بين الفعاليات والمهتمين والمريدين، والعزوف الواضح والمكشوف لمشاهَدة العروض المسرحية، وبالتالي طبيعة الوضع، تفرض أن تعود بنا الذاكرة لتلك الأيام التي كان حضور القضية الفلسطينية في معمعان الركح المسرحي العَربي/ المغربي، حضورا متميزا من خلال حضور فصائل طلابية وأحزاب وإن اختلفت توجهاتها باعتبار أن القضية الفلسطينية أعيدت للمشهد السياسي/ الإجتماعي، بقوة الفعل لتختلط كل الأوراق التي رتبت بناء على عَودة واستحضار << لكع بن لكع >>؟ فهل ياترى ستستطيع بعض الفرق والجمعيات المسرحية، إعادة الروح لهاته المسرحية (1) ولماذا هذا العمل بالضبط، دونما غيره؟

 اعتقادا منا، إنّه يعبر عن راهنية اللحظة وإشكاليات المرحلة، للقضية الفلسطينية، ولكن هاته الإشكالية لازالت قائمة، وأمست راهنا بالكاد ! طبقا للتطورات الواقعة الآن في الضفة وغزة وجنوب لبنان لا فرق والإنزال الشعبي " عالميا " والمتعاطف مع القضية، باعتبار أن "فلسطين "جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعوية / الكونية، لكل كائن يتطلع إلى عالم حرّ. رغم الإنزال الزجري، الذي صرحت به جملة من الدول (الغربية /الأوروبية) في حق المتعاطفين أو المحتجين ! مما يعطي للعمل شرعية تحريك نبضه فوق الركح، وتكريما حقيقيا من خلال استحضار " للراحل" أميل حبيبي" الذي يعَد بدون مزايدات شعبوية أو إيديولوجية [عاشق لفلسطين] لأنه حقيقة لم يغادرها، متعايشا كأهله؛ كل أشكال الإضطهاد والعنف والتنكيل، الذي مارسه ويمارسه "المحتل الاسرائيلي" حتى توفي – رحمه الله- على أرضها سنة (1996). 

 وإن كان البعض يعْتبر العمل (لكع بن لكع) جنس روائي، وأخرون يعتبرونه مسرحية، انطلاقا من المؤلف الذي وسمها بأنها "حكاية مسرحية" حتى أن "علي محمد طه " (سوري) يشير أنها تجديد وتجريب: لأن ما يقدمه إميل حبيبي هو ثورة على الأسلوب التقليدي، ومثلما كان مجدداً في المتشائل، كان كذلك في حكايته لكع بن لكع (2) ولكن شخصيا أعتبرها مسرحية، بكل المقاييس. وذلك من خلال الطباق الوارد في هاته الجملة: [لا مسرح ولا من يتعَبون، بل جمهور من أهل الحارة، ونحن من أهلها يجتمعون لقضاء أمسية أسطورية مع صندوق العجب (ص9)] أما من زاوية المقاربة والتفعيل الدراماتورجي نجد مثلا: [ويضاء المسرح. فإذا ببدور على جلستها، وهي مكتفة لا تريم. ويقف وراءها المهرج وبينهما الصندوق. هذا في زاوية. وأما في الزاوية الأخرى...(ص116)] وكثير من الإرشادات المسرحية، واردة في النص. ولاسيما أنني شاهدتها فوق الركح هنا وهناك. في زمن الإيمان بالقضية وكل القضايا الإنسانية. وبالتالي لما لا نستحضر ذاك الزمن، انطلاقا من هذا العمل، ك{نموذج} الذي يعتبر مراهنة إبداعية/ إشراقية، لحظة الإشتغال عليه من لدن أية فرقة/ جمعية. وكذلك بمثابة استحضار نوعي ورمزي لقضايا الأمة العربية بصورة عامة، من هذا النص المنبثق من بيئة معايشة ومعاشة، ومن معمعان معركة البقاء والموت، كتعبير صادق عن الوضع العَربي البائس الذي جعَل من القلق الوجودي، إشكالية تتخبط فيها الذات العَربية ويستوطنها القلق في جميع جوانب حياتها، ولاسيما أن "القلق يصيب عالم اللامعنى الذي نحيا فيه " حسب تعبير "هايدغر" وذلك نتيجة الظروف المتقلبة والأحداث المتسارعة والحصارالممنهج والمعيق للحرية والانعتاق ! وبالتالي فالاستحضار سيدفعنا كما دفع "المهرج" لفتح الصناديق المغلقة، أمام الأطفال الذين هم الذراع المستقبلي، لتحقيق الولادة والتجدد في الصراع. ومن خلالها يمكن أن نتساءل سويا: فهل للكع اليد الطولي في هذا القلق العَربي؟

ذاك السؤال:

{لكع بن لكع} من هُو؟ ففي(ص6) من النص نقرأ كتصدير "لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس "لُكعْ بن لُكعْ". حديث شريف. ويتكرر كتناص في قول المهرج في (ص156).

فلاغرو أن الحديث المذكور رواه الترمذي في جامعه و أحمد في مسنده، بحيث "لُكعْ بن لُكعْ" هُو ذاك [الكائن/ الشخص] الذي سيدخل حياة البشر في مرحلة أخيرة من حياتهم. بمعنى أن لكع بن لكع هو الانسان [اللئيم بن اللئيم] حسبما ما ورد في التراث الإسلامي. بحيث الخبث و القذارة والشر متأصل في هذه {الشخصية}المطروحة كعنوان، والمنبثقة من الموروث الديني كتناص مع الحديث النبوي الشريف. وبالتالي "لُكعْ بن لُكعْ" طرحه المبدع " حبيبي" رمزا من الرموز المثقلة في النص، وإن كان البعْض يشير بأن هنالك تنافرا بين العنوان والمتن: (في إشارة دالة إلى الواقع الذي تدير “الحكاية المسرحية” حديثها عنه وحوله. لكن النص، رغم الاتكاء الواضح على الحديث الشريف، فلا يستطيع أن يقنع قارئه بالعلاقة العضوية بين معناه الضمني وعنوانه (3) ولكن النص في تقديري، بتشكلاته ومعْطياته وفي أسلوبه. يعَد تجربة متفردة في المزج والتمازج بين التراث الإسلامي والحكاية والتاريخ، بمعطياته السلبية والإيجابية، واللجوء إلى الرمز و الرموز، وبالتالي:

* فهل {لكع بن لكع} هُو برجيس الصليبي؟ أم حكمون اليهودي؟[(واتفق في تلك الأيام أن برجيس الصليبي، أحد ملوك الأورام، خرج مع أخيه في مئتي ألف رجل من بلاد كسروان لمحاربة، حكمون اليهودي(ص52)]

* هل هو الإخشيدي: [(أنهم شاهدوا كافور الإخشيدي، من بعيد لبعيد. فكفروا بالرؤساء ولم يعد هذا الشكل يضحكم (ص)59]

* هل هُو: [(السيَّاف: بيدي أن أركعك)- (الشاب: أقوم وأقف.)- (السيَّاف: سأوجعك،، اقتلع أظافرك) (ص88)]؟

* هل هو: [(قلب الأسد أم شارب الدم؟ [(أبو شارب: أشم رائحة شواء ولا أرى لحما) – (قلب الأسد: سأسليك ! سأسليك !)- (أبوشارب: ماذا تبيع، يا أخ؟) – (شارب الدم: أخ؟..أخ !)- (قلب الأسد: أبيع لحما مشويا).(ص 92)]

*هل هو الشيخ المطرْطر؟: [(فيزمجر الشيخ المطرطر.)- (آخر: بالروح، بالدم...!)- (الشيخ: أزعجتنا هذه الصبية الطبالة.(ص118)]

*هل يكون الدغفل؟: [(يكسر رقبتك، أنا ربكم كسرى، ألم يكفك أنني أقمت ظهرك، وأعدت أمجادك (ص143)]

لكن عبر حوار مفاجئ بين (بدور/ المهرج) باعتبارهما شخصيتين رئيستين. يوحي برمزية التناص[(بدور: لُكعْ بن لُكعْ يليَ أمور الناس)- (المهرج: لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس لُكعْ بن لُكعْ") - (بدور: نخلعه ونعُود؟ (ص156) وثانيا ف" لُكعْ بن لُكعْ" هو بمثابة رمز للحاكم الطاغية؛ المتخلف؛ المستبد! و خصيصا [الحاكم الظالم] في فلسطين المحتلة. إذ بالإمكان إزالته من موقع المسؤولية انطلاقا من المقاومة كشرط أساس تجاه < لكع بن لكع > من هنا فالمسرحية تحمل بعْدها التحريضي، بلغة لا تخلو من السخرية والرمزية وبالمكشوف كذلك: [(هل يستطيع السجان أن يضحك؟ إذا قالوا لكم أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب، كونوا قليلي الأدب ! شر البلية ما يضحك. فهل هناك بلية أشر من هذه البلية؟ اضحكوا(ص60) مقابل هذا نستشف لمسات التشاؤم والحزن والقلق بادية على الكاتب من خلال تعبيره، تجاه السياسة الظالمة على جماهير الشعب الفلسطيني: [(كلنا في الهمّ شرق، كلنا في الصبر شرق. كلنا في الصبر حمار.(ص67)] وفي سياق هَذا يتم طرح سؤال عريض: (فيا خالقَ ويا خَلْق متى تشرق الشمس في هذا الشرق؟ (ص 112]

في سياق النص:

تأكيدا ومن خلال القراءة الأولية لمسرحية (لكع بن لكع) نستشعر أننا ننجر تجاه مسرحية طليعية/ ملحمية، وهي كذلك فعلا. رغم أن العنوان يحيلنا لخطاب تراثي إسلامي، وبالتالي فالنص أساسا يتلاءم وروح العصر، بحكم الوقائع التي لازالت قائمة بين الإسرائيليين /الفلسطينيين، وبتقاطعات مجريات النص. الذي يغري بمسرحته وتمسرحه؛ قبل نقاشه وتحليله. وذلك لنوعية الرؤيا وتجربة الطرح في الكتابة ذات حمولة مفعمة ومثقلة بالأمثال الشعبية والتقاليد و الأشعار و الأزجال وبشخصيات وأسماء أدبية وفكرية راسخة في السجل التاريخي وفي الذاكرة المدرسية وحتى الشعبية. لكن أرضية النص- الحكايات- هي ليست بالصيغة التقليدية للحكاية- مثل: [مسرور السياف جدا. مسرور جدا (ص85)] ولكن محتفظا بالجانب الترفيهي للحكاية الشعبية.: [(شهرزاد: بلغني، يا مهرج الزمان. الطويل اللسان، أن السندباد في رحلته الأخيرة (138)] إذ يتم تداخل الحكايات التاريخية والخرافية بحكايات التجارب و الإكراهات اليومية ! والمبدع " أميل حبيبي" يذكي تفعيل الحكاية بقوله: [هل هناك من مرآة تعكس أفكار الناس ومشاعرهم أصفى من الحكاية الشعبية (ص51)] فعبرها يسرد" الكاتب" همومه وأوجاعه وغربته في وطنه. وفي نفس المجرى يتسرب النص لتفجير الأحداث المأساوية التي يعيشها وعاشها الشعب الفلسطيني، بذكر عِدة أمكنة على لسان "المهرج" والتي ألحقتْ بها جملة من المجازر المرتكبة من لدن العَدو الغاشم إبان احتلاله لفلسطين: [هل جاءكم خبر كفر قاسم، ورقصة الموت في كفر قاسم؟(ص30)] / [هذا ما جرى لبني تغلب ولحيفا ولمروج بن عامر ولحارات الناصرة التي بقيت وبقي أهلها(ص52)] / [فلا نستطيع أن ندرج فيهم مقابر يافا (...) فإنهم أقاموا فوقها فندق هيلتون (ص54)]

 وتأسيسا على ذلك فالنص أساسا قام: بعرض مساوئ الاستعمار بصور رمزية عبر وقائع مستقاة من التاريخ في كثير من الأحيان من أجل نقد وفضح الاستعمار، لتوعية وتنوير الشعْب المتفرج داخل المسرح(4) وبأسلوب ساخر جدا وتهكمي، مرفق بتصوير دقيق للسياسة الغاشمة على الشعب الباقي فوق التراب الفلسطيني كما قال المهرج: لبدور [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16)] وبذلك مستحضرا بوعي وذكاء الموروث الديني الذي يتداخل ويتقاطع في السرد الحكائي، بغية تطعيم النص وتقوية بنيته السردية والأسلوبية: [(أرى ماردا ينطلق من قمقم محطم. قمقم من قماقم سيدنا سليمان الحكيم، حطموه عليه ليحطموه.(على لسان الفتاة / ص28)] / [ سمعت هذا المهرج، يوما يردد كلمة علي بن أبي طالب إن- أفعالكم أنطقتنا-هل تورطنا؟(ص58)]- [بدور: كل حزب بما لديهم فرحون(آية قرآنية) المهرج: صدق الله العظيم(ص68)] / [الشاب: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا(ص 88)]

وهكذا ينتهج العمل رؤيته الطليعية / المقاوماتي، لأن مسرحية " لكع بن لكع" تتأطر في المسرح السياسي أو مسرح المقاومة الذي: [(يحمل كثيرا من سمات المأساة أو التراجيديا، ولكن ليس بالمفهوم القديم كما جاء في المسرح الإغريقي أو الكلاسيكية الحديثة فالبطل لا يموت من أجل خطأ ما أو بسبب عقاب الآلهة له. بل نجد مفهوما مغايرا للبطولة، مفهوما مقترنا بالشجاعة والإقدام لتحرير الوطن (5) مما نقبض من خلال الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين(بدور/ المهرج): بأن[بدر] الحاضر= الغائب. ما هو إلا رمز للمقاومة الفلسطينية: [(بدور: بدر قتله نفاذ الصبر من هذا الأمر) - (المهَرج: بَدر بريء. بدر بَطل) ص67] وإن كان النص تقنيا يمارس الخروج من السرد للحوار، ومن الحوار للسرد، الهدف منه توليد حِوار بديل/ مفاجئ، خارج التعليق والوصف الذي يكمله الجمهور المشاهد لما يصدر من[صندوق العجب] ! ليتحول إلى سرد مرة أخرى، فهذا فالتداخل والتقلب، هدفه تحقيق عنصر التغريب، موازاة بالتداخل المكاني والزماني، في المسرحية. حتى لا يَعْرف المتلقي الاستقرار، ولا يطمئِنّ للمُسلّمات، بين طرَفيْ هاته العلاقة [سرد/ حوار] بحكم أنه انتهج أطروحة بريشت[الملحمية] الملائمة أساسا لطبيعة الوضع السياسي، الذي يعالجه إميل حبيبي في " لكع بن لكع": [(المهرج: مجرد تشخيص لإثارة مشاعركم، على الطريقة العصرية (ص 43)] لأن المسرح السياسي لا ينمو إلاّ في ظل المجتمعات المتعطشة للحرية والمطالبة بها دوماً: (رغم أننا تأخرنا في طرق المسرح السياسي، إلاّ أننا حينما ولجناه، فلقد ولجناه من أوسع أبوابه، واستطاع المسرح العربي في الفترة الأخيرة، أن يقدم تجربة مسرحية ثرية تستحق الدراسة على مدى سنوات قليلة (6) وبالتالي فهذا النوع من المسرح يجادل الواقع ولا يحاكيه باعتبارأن: (المسرح السياسي لا يهتم بالفرد ولا يحاول تصوير شخصية لأنه أساسا لا يحاول التعرض لمشكلة فردية بل مشكلة جماعية (7) وإن يبدو بأن أغلب الحوارات [ثنائية] ولماما [ثلاثية] - (ك) [الجارية = أبو شارب = أبو شاربين] (أو) [المهرج = بدور[(أو) [السندباد= الدغفل](أو) [المهرج= شهرزاد] (أو) [الجارية = قلب الاسد] (أو) [ست الحسن= المهرج] (أو) [المهرج = الفتى= الفتاة] فهي تعبر عن الجماعة (النحن (في) الأنا) بشكل ضمني ورمزي كذلك: [(الشاب: ولدت بلا اسم)- (السياف: اسمك الحركي؟)- (الشاب: شعْب) ص87] ومفردة (شَعْب/ تكررت عِدة مرات في النص، وأكثر إيحاء عن "الجماعة" وحضورها الفاعل و الذي يمثل الصمود والتحَدي، والوقوف في وجه المحتل وسياسته الغاشمة: [(الفتيات: احصدوهم... احصدوهم... احصدوا.. (ص33)]

صفوة القول:

 فمسرحية "لكع بن لكع" نص يغري بالإيحاءات والقراءة الذوقية، ولكن ستتمظهر جماليته وخطابه الإيديولوجي؛ لحظة التمسرح واشتغال مفرداته وشخوصه فوق الركح. حتى نقف على عمق الرمز/ الرموز المطروحة، ولقد عبر عليها: [(المهرج: رموز، يا بدور. مجرد رمز، تتعَدد الأسباب والموت واحد. حيرني أمري. فأي الرموز أختار؟ (ص81)] فطبعا أي الرموز يمكن أن نختار؟ وما قصد إميل حبيبي من " رمزية "المهرج" وشخصيته التي اعتبرتها " شهرزاد " طويل اللسان/ ونعتبره (نحن) الناطق الرسمي للوقائع والأحداث بكل تجلياتها.

هل اختير رمزا، لكشف سجلات الحرب والمعاناة بين الفلسطينيين / الإسرائيليين: [(إن الحرب لا تعود، يا أولادي، بل تأتي. الحرب تقْدم. الحَرب تجيء (ص58)]؟ أم لتعرية أعطاب الواقع العربي وسيطرة اليأس على نفوس البعض وما تعاني منه، جراء القضية الفلسطينية؟

هل رمزية المهرج تكمن في الرمز الفلسطيني الذي لم يهاجر أرضه مثل بدور: [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16) أو بمثابة صوت المقاومة الصادقة و ضمير صحوة الفلسطيني الخالصة: ["المهرج": أناديكم، أناديكم، تعال يا بدر. تعالي يا بدور ! كأننا يا بدر، لا رحنا ولا جينا (14)] بداهة هنالك أسئلة كثيرة ومتعَددة الجوانب والأوجه؟ أسئلة ليست غامضة ولا معلقة بل مفتاحها بين خطاب " لكع بن لكع"

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) مسرحية - لكع بن لكع: ثلاث جلسات أمام صندوق العجب: حكاية مسرحية - لأميل حبيبي- / دار الفارابي- بيروت /1980

2) الشيء الآخر وإشكالية التجنيس الأدبي: رواية أم مسرحية بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير صحيفة اليمامة في 3/07/2021

3) إميل حبيبي وصورة الباقين بأرضهم بعد النكبة- لفخري صالح- مجلة بيت فلسطين في 22/10/2022

4) فلسطين في المسرح المصري لسامية حبيب / ص25 - مجلة مسرحنا – عدد 843 بتاريخ 23أكتوبر2023

5) نفسه

6) مقدمة في نظرية المسرح السياسي - لأحمد العشري- ص4 - الهيئة العامة للكتاب مصر/ 1989

7) المسرح السياسي لعبدالعزيز حمودة ص 19 - مكتبة الأنجلو المصرية /1971

كتابة موازية لما هو كائن من النقد

اختلفت موازين الحياة بشكل كامل، واختلفت معها العلوم والفنون، ومن تلك العلوم (علوم اللغة والمنطق وعلم الكلام)، وأختلفت قواعد الحديث، وتعددت اللهجات في الوطن الواحد، فما بالك وأقطار شتى أو العالم أجمع، وما كان يصلح بالأمس ليس بصالح اليوم، ففي الأسواق الشعرية القديمة (عكاظ، والمربد) وغيرها الكثير كان النقد آنياً يقدم شفاهاً، لكنه بحجم اللغة التي ينظم فيها الشعر، لغة فصيحة عربية أصيلة لا شائبة فيها، وهي لغة الجزيزة العربية وصحرائها القاحلة التي كان العرب أنذاك يرسلون أولادهم لتعلم الفصاحة في النطق هناك.

لذلك كانت علوم اللغة وفنونها توازي أو تجاري تصاريف اللغة نفسها، والفنون الأدبية بمستوياتها سواء في الشعر أو الخطابة أو النثر والملحمة كانت تتطلب مستويات متقاربة أو مماثلة لما عليه الشاعر أو الأديب، لذلك كانت لغة النقد عالية في مضامينها متشحة بثقل ما يستخدمه العرب من تعابير وتصاريف لغوية معبرة عن الصورة التي تحويها القصيدة أو الفنون الأخرى (كالملحمة).

فنرى مثلاً عند أمرؤ القيس في معلقته (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي وما الاصباح منك بأمثل)، لغة بتكوينات صعبة قد تصل حد التعقيد في بعض الأحيان، (كساع ليس له قدمان)، (كجلمود حطه السيل من عل)، كلمات لها ثقلها ووقعها على السامع، لكنها كانت تتناسب والفترة التي راجت بها، أما عن أجيال اليوم بعد أن هجرت القراءة وضاعت المعاني، وتبدلت العربية بالعشرات من اللهجات المحلية التي غيبت معان المفردات، واستبدلتها بما يتناسب وعصرها التي هي فيه، كان لزاماً أن تتبدل قواعد النصوص النقدية وتذهب إلى التبسيط تزامناً مع واقع العصر المعاش والذي يتصف بسرعة وتيرة الحياة وتبدل كل التقاليد والقواعد الزمنية واللفظية (المكانية والزمانية) بعد ظهور الإنترنت وتقارب المسافات وأختلاط المفاهيم وتداخلها، فما كان يصلح للأمس ليس بالضرورة هو نافع أو صالح اليوم.

إن عملية التفاعل التي يخلقها النص النقدي مابين الناقد والشاعر هي تعبير عن تفاعل ذو اتجاهين من عالمين مختلفين ربما، تجمعهما التجربة، وتلعب موازين الخبرة والذائقة النقدية للشعر أو العمل الفني عموماً لدى الناقد لتفسير ما أراد الشاعر أو الفنان التعبير عنه من مضامين في عمله .

وهنا تكون النظرية (المفرغة)، نظرية تبسيط النص النقدي ضرورة فاعلة تتناسب ومجريات العصر، وانحسار تاثير القراءة وهفوت بريقها الذي كان في العقود السالفة من القرن الماضي، فالعصر الثقافي التكويني اليوم يختلف جذرياً عما كان في الأربعينات والخمسينات وما تلاها وصلاً إلى السبعينات، التي أنفرط العهد الثقافي عامة خلاله، واستبدلت المفاهيم الثقافية عموما بغيرها، وعليه لابد للنقد أن يتماشى والتغيرات المطروحة والمستوى الثقافي الذي عليه الشارع ومنه يتمخض القراء.

لابد من اخراج (النص النقدي) من سيطرة (السلطوية) على شكله بالمجمل، وترك الجمود فيما يستخدم من تعابير هي أصلاً ثقيلة على سمع المتلقي، واستبدالها بمسميات قابلة للتناغم ولغة العصر التي تتسم بالتغيير، كما هو العصر الذي نعيشه اليوم، والحال عامة لاثبات ولا نمط يسير على سكته وبقوالب ثابتة يمتلكها البعض، فيما لايفهمها الغالب من القراء.

فليس بالضرورة أن يكون المتلقي على شاكلة الثقافة التي عليها الناقد، ومن يتعامل بالأسلوب الثابت والقوالب الجاهزة، ومدارس النقد النمطية الكلاسيكية، ليس بالضرورة أن يكون القارئ منتمي لتلك المدارس ولابالضرورة أن يعتنق تلك المناهج السلطوية المتسلطة على فكر القراء لتفرض عليهم قالب واحد يتبع مدارس أسست منذ عصر النهضة وما بعدها، حتى وإن أطلق عليها مسمى (الحداثة)، أو قيل أن ما يأتي به النقاد اليوم من منهج هو التجديد الذي يتوافق وطبيعة العصر وقوالب النص النقدي وقواعده الحديثة، وهو كلام لايعتد به كون كل مايطلق عليه حداثة في النص النقدي سيكون بعد سنوات قصيرة في عداد الكلاسيكي، ذلك أن المنهج المتبع في تشكيل النص النقدي ناتج عن قواعد المدارس القديمة في النقد ومنها بل أبرزها (المدرسة الكلاسيكية).

وأذكر أني قد سبق لي وأن قرأت نصاً يتناول أراء الأستاذ (محمد بنيس، أودونيس) وأرائهم مما يعتد بها في مجالات النقد، تفيد بأن (صعوبات الفهم للمنتج النقدي وفق الطرق التي أرستها المدارس القديمة على اختلافها من قبل القارئ يعد تقصيراً في وظيفة النقد الذي نراه وفق التصورات التي خلفتها المدارس الكلاسيكية قصوراً في ايصال معاني النص إلى القارئ، وتلك الصعوبات قد تكون ناجمة عن توظيف المصطلحات النقدية التي ينفر منها القارئ اليوم في غير مجالها، كاستخدام ألفاظ وجمل غير مألوفة أو صعبة الفهم أو أن تكون ذات عمق فلسفي يحمل تصورات غريبة على فهم القارئ. وبالتوافق مع ما جاء به (محمد بنيس، أودونيس)، نرى أن تغير الحال واقع مفروض وليس طارئ، وهذا التغيير شامل لايجزء، ومنه أن تسري قواعد ذلك التغير على النقد بوصفه جنس من أجناس الأدب، إن تغيرت تلك الأجناس فلا يقف النقد محصوراً في زاوية القواعد النافذة وفق التصورات الدارجة في أسس النقد.

من هنا جاءت دعواتنا للنظرية المفرغة (تبسيط النص النقدي) ونعني بالمفرغة، أي التي لاتحتوي التعقيد في تفسير النص كما في النقد القديم أو الدارج. والدعوة تقوم على أساس تضمين الاستبدال في النص النقدي، فلا يكتب بمضامين خارجة عن مألوف ثقافة العصر الذي نعيش، ومنه تستنبط ثقافة القارئ عموماً. وحسبي أن القارئ يبحث عن ما هو سلس بسيط يتوافق والقراءة السريعة التي باتت تشكل سمة العصر الحالي.

إن أهمية النقد على الساحة الثقافية يتشكل منها حجر الأساس في بناء المشهد الثقافي نحو إنتاج رؤية أعم وأشمل، فالناقد يتناول النص بطريقة مغايرة لما عليه القارئ، وما لايدركه القارئ يفسره الناقد، لذلك فالناقد الحصيف هو الذي يعمل بتوافق الأسس وسرعة رتم الحياة وما يتطلبه استدراك القارئ للمعاني، وتوضيح الصورة التي يضمنها الشاعر أو الكاتب في ثنايا نتاجه الأدبي.

لكن قد يقول قائل أن هذا التحول في حالة النقد قد تفتح الباب لحوار يطول ولاينتهي إلى شيء، ولاينال القارئ منه إلا الضياع وسط ما يطرح من مفاهيم وتنظيرات في النقاش الدائر بين مؤيد ومعارض، وهذه ايضاً تدخل ضمن تفصيل دعوتنا لحل مثل هذا الاشكال، فنحن لاندعو لترك الجذور أو الأسس التي عليها النقد بقدر ما تتضمن دعوتنا التبسيط في طرح النص النقدي وفق أسس وعناصر بناء وتكوين النص، أي عدم الخروج على الأساسيات بل تجاوز ما يشكل صعوبة في الفهم عند القارئ، إلى التبسيط ثم التبسيط وبعدها التبسيط.

ولنذهب إلى مثل معين للتقريب، فبدلاً من استخدام مصطلح (التناص) الذي يتداوله النقاد كجزء من أساسيات صنعة الكتابة، ولتبيان حرفية الناقد في ما يكتب، نقول التشابه في النص أو التشابه في التناول الشعري أو السردي عموماً، (التشابه)، وهو المعنى الحرفي لمصطلح (التناص)، هناك من يذهب إلى تأويل المصطلحات، وطرح تفسيرات ومرادفات عديدة لها اعتراضاً على استبدال المصطلح، والطرح بصورة مبسطة، وهذا من حق أي ناقد أو اديب يتبنى المنهج الكلاسيكي أو الواقعي أو غيرها من مدارس الأدب ومذاهبه، إلا أن المحصلة لاتعدو أكثر من نقاش عقيم لايقدم للفكرة أي اضافات وسيبقى القارئ حائر بين من يعترض ومن يدافع، وتلك هي اللاجدوى بعينها.

سيداتي سادتي ...رتم الحياة تبدل شئنا أم ابينا، وهذا التبدل، وهذا التغيير سيطال كل شيء ومنه تلك الأشياء هو المنهج النقدي، فقد ذهبت تعاليم الكنيسة، وذهبت معها تنظيراتها التي تبين إنها من ابرز أسباب تخلف أوربا في تلك القرون وظهرت مراحل التنوير والانفتاح بعد الثورة الفرنسية، وثبتت أراء أرسطو، واخذ العالم الثائر بما جاء به روسو وفولتير بعد عصر الكنيسة.

اليوم نقول بعد الذي شهدناه من هول التغير الذي لفت صفحاته مشاهد العالم أجمع، ووصلت أن يطال هذا التغيير حتى القيم الإنسانية، فهل سيسلم النقد، هي دعوة للتمسك قبل التخلي، التمسك بالأسس والمحافظة عليها، وضرب التعقيد والتشدد والتمسك بصعوبات ما يكتف النصوص، إلى تبسيطها وجعلها في متناول الجميع فهماً وتفاعل.

***

سعد الدغمان

دراسة في اللغة والتخييل في رواية (العرّافة ذات المنقار الأسود) للروائي د. محمد إقبال حرب

مدخل: "السردية الروائية لا يمكنها أن تتحقق في الواقع إلا إذا اعتمدت على التخييل باعتباره استراتيجية إبداعية لجلب المتلقّي نحو عوالم متعدّدة وممكنة التحقق في الواقع...[i]

لكنّ هذه العملية التخييلية لا تتيح إمكانية القبول لدى المتلقي إلا بواسطة اللغة، فاللغة هي الأداة الوحيدة للكاتب في صنع عالمه التخييلي وبناء فضائه الروائي واقتحامه بالشخصيات التي تعطي للفضاء بعده الزماني والمكاني بأقوالها وأفعالها وحركاتها وانفعالاتها، وبناء الحدث وتنامي الصراع ... إلى ما هنالك من عناصر البنية الروائية.

منذ الصفحات الأولى من روايته حاول الكاتب أن يقنع المتلقي بوجود عالمٍ آخر هو عالم الدجاج باختيار أسلوبٍ سرديٍّ ولغةٍ خاصة، لا سيما في السرد والوصف؛ فهل وفّق إلى ذلك؟ وهل كانت لغته في كلّ عناصر الرواية: السرد والوصف والحو ار، لغةً مؤتلفةً متجانسةً مع عناصر التخييل؟

ومن جهةٍ أخرى هل كانت لغته، لا سيما في الحوارات، متوافقةً مع عالم الطيور ومتوافقةً مع صفات كلّ شخصيةٍ من شخصياته الرئيسية، ودورها الوظيفي والدلالي في أحداث الرواية؟

في هذه الورقة النقدية سنحاول التحرّي عن لغة الكاتب، ومقارنتها، للفحص عن مدى تآلف عناصرها في عالم التخييل في الرواية، وهل نجح الكاتب في استغلال عناصر الرواية المختلفة في طرح رؤيته الخاصة.

لكن قبل البدء، لا بدّ من بعض الحديث عن بنية رواية العرّافة ذات المنقار الأسود، إذ اختار الكاتب أن يبني روايته في عالم الطيور، الدجاج بالذات، وهذا أمرٌ مطروقٌ في السرد العربي والعالمي، حيث كان عالم الحيوان فضاءً لحكايات كليلة ودمنة، ليهرب كاتبها من مواجهة السلطة بآرائه وأفكاره الحقيقية، فحمّلها على لسان الحيوانات، ومع ذلك لم ينجُ من البطش.

أمّا ابن طفيل فقد اختار المزج بين عالم الحيوان والإنسان في قصته الفلسفية (حي بن يقظان)، وكان ذلك اختياراً ملزماً، كي يكشف رؤيته الفلسفية في مآل حي بن يقظان وحتمية إيمانه بخالق للكون والطبيعة، تتماشى مع فلسفته في الوجود، ورؤيته الإيمانية.

وكذلك جورج أورويل استند على مزرعة الحيوانات وصراعاتها في نقده للنظام القمعي، ووضع رؤيته المعارضة للنظام الستاليني.

فإن هذه الرواية حاولت إعادة رسم صورة الصراع البشري القائم على التمييز وأدواته السلطوية: الغيبية والنفسية والقمعية في مجتمعٍ متخيّل، ليسجّل الكاتب رؤيته المندِّدة بهذا الصراع ومن يقف خلفه، وليجعلَ المتلقي، في نهاية قراءته للرواية، يندد أيضاً، وينحاز إلى رؤية الكاتب، من خلال ردود الأفعال التي أدارها الكاتب بمهارة، وباختياره موضوعاً يكاد يجمع على مدى شرّه كلُّ البشر، وكل ذلك من خلال استغلاله طاقة اللعة في الحوارات والسرد والوصف.

أولاً: الفضاء الروائي

من حيث بنية الرواية الزمانية والمكانية، فإن التخييل لعب دوراً كبيراً في تأثيث الرواية وتمهيد البنية المكانية ببيئة خيالية تنتمي، في عناصرها الأساسية، إلى عالم الطيور، هو أقرب إلى عالم ميتافيزيقي من حيث إنه عالمٌ ليس له وجود، نجح الكاتب في بناء العالم المكاني للرواية وأعطى للخيال طاقته الكاملة في ملء الفضاء المكانيّ بالعناصر، سواء في الأبعاد الكبرى كالمكونات الجماعية للمجموعات الدجاجية في أماكنها (ممالكها) المختلفة وما ترمز إليه من دلالات: "اجتمعَت للدّيك الذهَبيّ مقاديرُ الحُكم فأقام مَزرَعة واحِدة تضُمُّ بِضعَة آلاف من بني دَجَاجة توارثَها أحفادُه حتى اليوم. لم يتخَلّف عن إقامَة الوَطن الجَديد إلا شراذم قَليلَة منبوذة أقامت عَشوائيات دَجَاجيّة... على مرّ العُصور، أَصبَحت المزرعةُ وَطنًا لأحفَاد سَيّدنا سَهم، والمزارِع الأصغر المحيطَة بها ما هي في الحَقيقَة إلا عَشوائيات تمثّل أطيافًا من العالم الدَجَاجي المنبوذ "[ii]

أو بالعناصر الدقيقة للأماكن الداخلية والتفاصيل التي تمنح المكان صورة واقعية، وتبثّ فيه الحياة، وإن كان أساسها الخيال:

"وَصَلَ الجَميع إلى مَزبَلة أنيقَة تحفُّها من الجوانِب مظاهرُ النِعمة ببساطَة الطبيعة التي أضفَت على الجوّ حُبورَ الاستقبال وراحة النَفس"[iii]

وفي الزمان لعب الكاتب بالخيال لعباً جميلاً، مستخدماً طاقة اللغة وتنوّعها في إضفاء حالةٍ من الصدق في بناء فضائه الروائي، يظهر ذلك في لغة السرد والوصف على وجه الخصوص، مثلاً:

"للمزارِع هنا وحدَة روح وتاريخ يتّخِذان وَقَفَات عِزّ أزليّة من عَهد سَيّدنا نقَّار، رمز وُجود الريشيّات، مرورًا بمُجدّد العهد الدّيك العبقَري الشهيد سَهم، إلى عصرنِا هذا، عَصر البَيض الكِلسي الحاضِر الذي شهِد استقَرار بني دَجَاجة في هضَبة آمَنة تتربَّع على سُلطتها المزرعة الذهَبيّة العَظيمة [iv]

أو استخدام جميل للتوقيت والتأريخ في فضائه الدجاجي المتخيّل:

"كما سَمِعتُ أنهم بعد عدة دروات تَفقيسيّة سيُعلِنوننا مُستَعمَرة لهم ويسلُبونَنا ثَرَواتنا"[v].

ابتدأ الكاتب أحداث الرواية بزمن له أهمية من حيث الدلالة والرؤية التي سيحمّلها الكاتب في روايته عبر الأحداث القادمة، يقول في الصفحة 15: على لسان الراوي العليم: "بعد معركةِ المَناقير الكُبرى، تفرّق من بَقي حيًّا من بني دَجَاجة شِيعًا وأفرادًا لسَنوات طِوَال حتى بدأ الدّيك الذهَبيّ بجمعُ الشّتات في أرض الوَطن التي نشأ عليها «سَهم » العَظيم[vi]"

والإشارة إلى أن زمن الأحداث يقوم على أنقاض الزمن البشري، منشئاً ما يشبه الحقب الجديد، فإذا كانت الأرض مرت بحقب سيطرت فيه الديناصورات وحقب للسرخسيات، وأحقاب جيولوجية متعاقبة كانت تتميز بسيطرة نوع من الحيوانات أو النباتات، فإن الكاتب أراد أن يخلق حقباَ جديداً يؤرخ بانقراض مملكة الإنسان وبناء ممالك الدجاج. هذا التأطير الزماني يفتح أمام الكاتب إمكانيتين دلاليتين: فمن ناحية يعطي لزمن الرواية بعداً مستقبلياً غير محدّد في حيزّه المستقبلي، ما يخفف لدى المتلقي من حدّة الفجوة التخييلية في الرواية كلها التي تجعل الهيمنة لجماعات الدجاج الضعيفة، وهذا التناحر والصراعات التي تحاكي صراعات البشر، إذ لا أحد يدري ماذا يحمل الزمن في امتداده المستقبلي البعيد.

ومن ناحية ثانية، يستفيد الكاتب في كثير من تفاصيل الرواية، وبعضها ذو أهمية، من ملامح البشر وبقايا عصرهم، محرّكاً للأحداث مثل مفهوم الشّوّاية التي تعطي دلالتين أيضاً، دلالةً واقعية هي المحرقة التي لا يخفى معناها وتاريخها ونتائجها على أحد، ودلالةً أخرى ميتافيزيقية استمدها من التراث الديني من مفهوم الجحيم والعذاب بالنار التي يخيف بها طغاة البشر شعوبهم المقهورة عبر أدواتهم الدينية، أو يجد فيها المستضعفون الأمل باعتباره مصدر غيبي للعدالة المفقودة.

بقي أن نشير إلى خطأ سردي بنيوي في الرواية، حيث أر ّخ الكاتب على لسان الراوي لأحداث الرواية أنها تقوم على أنقاض الحضارة البشرية، كما أسلفنا، وفي الصفحة 208 يقول الكاتب على لسان إحدى الشخصيات: "نحنُ نتعرّض باستمرار للهَلاك على يدِ البَشر..."[vii]

ثانياً: الشخصيات

وهي تحيلنا إلى الحوارية وتعدّد الأصوات:

"يؤكد باختين أن العمل الروائي يتشكل من مجموعة من أصوات وخطابات متعددة، وأنها تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح وغيرها...>[viii]

وباعتبار اللغة، حسب أدوارد سابير هي "طريقة إنسانية خالصة وغير غريزية لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات بواسطة نسق من الرموز تت ولد توليداً إرادياً"[ix]، فهنا تصبح مهمة الكاتب أصعب كون المشاهد الحوارية تدور على لسان طير أعجم، لا يعرف عن مشاعرها ورغباتها، وكيف تعبّر عنها، لذلك لجأ الكاتب إلى لعبة تخييل جميلة، تضيّق الفجوة بين الخيال المحض، وهو لغة الدجاج، وبين اللغة التي لا بدّ من استخدامها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة في عملية إرسال الخطاب، بإعطاء الشخصيات أسماء ذات دلالات تشير إلى المكانة في مجتمعها مثل (العرف الأكبر، الديك الذهبي، العرّافة، الآمر، الزعيم..)، أو ظيفية محدّدة، مستخدماً معجماً لغوياً غنياً وعارفاً بعالم الدجّاج، مثل: (ضجاج، صيّاح، ودّان، ريشة)، أو قطع المشاهد الحوارية بتدخّل الراوي العالم ليصف لنا حال إحدى الشخصيات وهي تتحدث، في محاولة لكشف مشاعرها، أو أفكارها... تلك الحالات الإنسانية الخالصة، وكذلك تحميل الشخصيات مشاعر وإرادة وأفكار الإنسان وأهدافه وتخطيطه، وكل ما يملك الإنسان من إرادة ومشاعر ورغبات مستخدماً تقنية الأنسنة أو التشخيص في عملية التخييل؛ وهنا نجد أن اللغة لعبت دوراً هاماً في السرد والوصف، حيث اعتمد، على الوصف كثيراً في جعل عملية التخييل تصبح واقعاً روائياً منسجماً مع شخصيات الرواية وبنيتها الزمانية والمكانية، مستخدماً عناصر الطبيعة وعالم الدجاج في وصف المكان والزمان والشخصيات، وكذلك في سرد الأحداث على لسان راوٍ عالم.

كان الكاتب موفقاً في لغة الوصف، وصف الشخصيات ووصف المكان والزمان، وحتى في اختيار الأسماء، فجاءت لغته متنوعة في مفرداتها، مرنة متحركة في تراكيبها، مناسبة للغرض وتحمل فيها درجة من الإقناع، لكن لغة الحوارات، وإن كانت متغيرة في مضامينها الفكرية ورؤاها المتنوعة حسب الشخصيات ودلالاتها ووظيفتها الروائية. إلا أن تراكيبها كانت متماثلة مع لغة السرد، لغة الراوي العالم، فلم نلمح تنوّعاً كبيراً من حيث درجة الوعي، والاهتمامات المختلفة، والأهداف... والحوار، كلام الشخصية، يختلف عن السرد أو الوصف كونه يحمل في ثنايا اللغة أفكار الشخصية وعوالمها وعالمها الروحي والسمات الفردية التي تميز كل فرد عن آخر في عملية الكلام.

ربما مردّ ذلك أن الوصف والسرد يكون دور الروائي فيهما دوراً أسلوبياً يعبر عن مهارته في التقاط التباينات الدقيقة واختيار الألفاظ التي تناسب تلك التباينات، حيث إن العناصر التخييلية في الوصف والسرد لها مرجعية واقعية، لها مثال في الذاكرة يمكن أن يوظفه المؤلف في عملية التخييل، وتحميله الدور الوظيفي والدلالي المناسب حسب مهارة الكاتب وقدراته الأسلوبية، بينما في لغة الحوار، في هذه الرواية بالذات، وكون أبطالها من عالم الطيور البكم العجماء، ليس لها مثال واقعي يستلهم منه ويبني عليه في عملية التخييل.

الموضوع والرؤية

الكتابة الروائية ليست مجرّد سردٍ مبني على خيال واسع، بلغة ناضجة مرنة، إنما هي استراتيجية يتبعها الكاتب ليسجل من خلالها موقفاً ورؤية وفلسفة في العالم المحيط به.

الأحداث في الرواية متخيلة؛ لكنها انعكاس – على مستوى اللغة فقط- للعالم البشري أفرغه الكاتب من دلالاته المباشرة الحقيقية والواقعية التاريخية، ليضعها في إطارٍ تخييلي له دلالاته الخاصة التي- وبسهولة- يدرك القارئ إحالات تلك الدلالات وإمكانية حدوثها في العالم البشري الواقعي، واقعيتها تكمن في إمكانية تحققها، وهذا هو الدور الأدبي للعملية التخييلية.

بما أن التيمة الأساسية التي قامت عليها الرواية هي تيمة التمييز بكل أشكاله، وما ينتج عنه من صراعات وحروب وإبادة وبطولة وخيانة... فإن صورة هذا التمييز تظهر جلياً في اختيار الأماكن ووصفها، بل وحتى أسماؤها ذات الدلالات المباشرة أحياناً.

الأحداث الرئيسية في الرواية التاريخية تأتي في الحوارات في غالبيتها، الأمر الذي يدفع بالمتلقي إلى الانحياز مع هذه الشخصية أو ضد تلك، وبالتالي إلى ما تمثله دلالياً في إسقاطها على الواقع التاريخي. وهنا لعبة الكاتب في الأيهام وطرح رؤاه وأفكاره ومعتقداته الشخصية بشكلٍ مختفٍ على ألسنة الطيور، نقرأ مثلاً:

الحَكيم: أنظُر إلى رِجال الدين من البَشَر الذين صوّروا الله عزّ وجلّ مخيفًا مُرعبًا يَنتظِر ابن آدم على هَفوة ليُدخِلُه النار ويُعذّبه مُستلذًا بصَيده، مع أن الله رحمن رحيم كتَب على نفسه الرَحمَة.. يَفعَلون ذلك ليُخيفوا الناس، فأضحى بنو البَشَر لا يَعبُدون الله لما هو أَهلٌ له، بل خوفًا منه"

الزَعيم: ماذا تنَتظِر من شَعبٍ جائِعٍ، خائِفٍ ما عاد يَعرِفُ صَديقه من عدوِّه؟ إنهم شَعبٌ مَشلولٌ مُنهَكُ القِوى فاقدُ الوعي الآن."

زغلول: أحجارُ الحَياة الكريمةِ قد تكونُ في أي من رُكامِ المتاهات، لذلك عليك التّنقيبِ والتمحيصِ وإجراءِ الاختبارات حتى تَعلَم المزيّف من الحقيقي، كي تفوزَ بالجَوهَرَة الأُم، فيشِعَّ قَلبُك بنورِ الحَقيقَة وتتفَتّحَ خزائنُ حِكمتِك قَرابينَ لعُرفِك المقَدَّس.

وعلى العموم، حفلت الرواية بالأفكار والرؤى المختلفة التي تظهر رؤية الكاتب وفلسفته في كثير من الأمور المهمة، ذات الأثر الكبير في المجتمع الحقيقي، الذي لم تكن الرواية وعالمها الدجاجي إلا إسقاطاً له، وترميزاً:

"يابني دَجَاجة لا يوجد علمٌ ضارّ، بل مخلوقات شرّيرة تُحيل العِلم إلى وَباء"

"قَضى القديس الأوّل شَهيدَ مؤامرة، وقَضى الثاني شَهيد خِيانَة، وكلتاهما - الشهادة والخِيانَة - كانت الأصل أجدادا لا يتذكّر التاريخ وُجودَه."

"أن أَفضَل وسيلة لتحطيم الشَعب الدَجَاجي الملوّن أو أي شعب آخر هو التوغّل في معتقَداته لاستثارة بؤر الكراهيّة بهدف زَرع اُصول الفتن والحِقد والكراهيّة في النُفوس والقُلوب من أجل إبقاء الولاء للسُلطان"

رواية العرافة هي إعادة استحضار تاريخ الصراع البشري؛ لكن ليس استعادة مرآوية، نسخ أو تسجيل، لكن المؤلف اختار القضية الأكثر تأثيراً في مسيرة التاريخ العالمي؛ ولا يخفى على القارئ أنى هذا الاختيار بحد ذاته يحمل رؤية الكاتب وتصوره الخاص.

الحوارات بين الشخصيات، لاسيما الحوارات التي تحمل حجاجاً أو جدالاً، هي حوارات بين الكاتب المتخفّي خلف شخصية ما من شخصيات الرواية، وبين شخص مفترض مخالف يضعه الكاتب أمامه في عملية التخييل، ويطرح الأسئلة المعارضة المحتملة، ويجيب عنها من خلال حوارات عميقة، أعطت للرواية بنيتها الفكرية التي تميل إلى الفلسفة، هي فلسفة الكاتب ورؤيته.

الرواية ليست رواية فلسفية ولا تاريخية ولا واقعية أو سريالية. هي رواية أفكار، تنبع وتتشعب من فكرة واحدة رئيسية هي فكرة الحروب والصراعات بين البشر، ليطرح، من خلال نتائجها الكارثية في الفضاء الروائي، فكرة السلم، ليدين أسباب الحرب، التفرقة بكل أشكالها بين المجتمعات وبين الافراد في المجتمع الواحد، فكرة السلطة وما تستلزمه من أدوات عنف وخطط هدامة مدمرة.

***

بقلم: منذر فالح الغزالي

.......................

[i] . محمد سيف الإسلام، قراءة في كتاب الرواية العربية ورهان التجديد للدكتور محمد برادة، موقع إسلام اون لاين

[ii] الرواية ص 15

[iii] الرواية ص46

[iv] الرواية ص 20

[v] الرواية ص 211

[vi] الرواية ص 15

[vii] الرواية ص 208

[viii] ويكيبيديا

[ix] محمد خرماش، جدلية اللغة والواقع في الخطاب الروائي- مقاربة نظرية/ موقع علامات، 13/8/2020

النص السردي يمتلك براعة التجديد والابتكار في الصياغة الفنية في تقنياتها الحديثة، تتجاوز التقليد والمألوف، إذ يملك خاصية الصراع بتصاعد الفعل الدرامي في سرد حكاية النص، وخاصة ان الاستاذ (شوقي كريم حسن) يمزج السرد بالدراما، ليشكل الثنائي في تقديم الحدث في البنية والأسلوب، هذه المنهجية برع بها بشكل فائق ومرموق، في الاتجاه الروائي أو القصصي الذي يسلكه، يصب في الاتجاه الواقعية الجديدة أو الواقعية الانتقادية، ويوظف معالم الكوميدية / التراجيدية (المضحك / المبكي) متدفقة من الخيال والواقع، على خلفية فكرية عميقة الدلالة والاشارة، في عمق الرموز الدالة في المعنى والمغزى، في تناول مفردات الواقع بحجمها الاجتماعي والسياسي الطاغي للحقب والمراحل التي مرت على العراق، وأخذت صبغتها الخاصة ومتميزة. نجد براعة التمرد والمشاكسة في الشخوص، في الشخصية الواحدة، التي تدور حولها الحدث أو الاحداث في النص السردي، وفي لغته المشوقة في غاية البساطة، حتى تشعل السخونة في الحدث الدرامي / السردي، في تنقلاتها وتحولاتها نحو الذروة. مما يخلق براعة في النص القص بتحويله الى مشاهد تصويرية في الصورة والوصف، يتناولها بكل شجاعة وجرأة في المكاشفة الصريحة، في عمق الإحساس والشعور، ليجعل القارئ يعيش احداث السرديات، هذا ما نجده في المجموعة القصصية (عربة ماركس المنسية) بشكلها الانتقادي الساخر، وفي روحية صبي متمرد ومشاكس. كأنه يريدان يصعد الجبل الى القمة ليمسك الوهم والحلم، وان لا يهادن ولا ينحني للعواصف مهما كانت شدتها، كما وعد وتعهد الى والده المرحوم كما جاء في الإهداء (الاهداء... الى كريم حسن شهاب.... الذي علمني أن مواجهة الظلم مهمة أنسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيقة الأفق، وأوصاني، ذات غضب... (مجنون من تسيره أوهام محال الى تحقيقها) لذلك نتابع ونلاحق ذلك الصبي المجنون والمتمرد، كأنه في غابة الوحوش الكاسرة ليسرق منهم الحلم، او انه يحاول ان يمسك الريح براحة يديه، هذا الصبي الجنوبي القروي، عينيه متورمة بالاحمرار، وجسده النحيل، يحاول أن يطفر على مراحل طفولته جزافاً، لذلك يدخلنا في رحلة حياته العجيبة، مليئة بالجنون والتمرد (كان الصبي الذي كأنه يرفل لاهثاً ممسكاً بطرف الثوب المقلم بخطوط خضر مسطرية، يطبق أجفانه ويتأوه لاحساً جفاف شفتيه المالحتين، ثمة عالم آخر يشده إلى وجوده، عالم تأخذه الاحلام إليه لحظة تلفح حرارة الشمس باطن قدميه الراكضتين دوما) ص6. ولكن روحه مليئة بالتمرد والانتفاض، ولم يغادر أحلامه، وحتى لو هذه تغادره دون وداع، يظل صامداً في جسارته وتحدياته، رغم ان يزرع أحلامه في أرض قاحلة وجافة تعبث بها الاتربة (- لمَ أنت هذا بعد هذا الكد المضني؟ ولمَ غادرتك الاحلام دون وداع؟ ما الذي جنت سنواتك غير تراب مملوح وأرض قاحلة، وحدك أيها الغريب الضائع في متاهات مدن روحهِ. وحدك تبقى ووحدك تغادر).

× قصة: قوافل الشط

(لا غرابة في أني أقدم جنوني بين يدي صديقي المغدور فيصل غازي الثاني المبجل) ص12. تبقى الحقيقة الصادمة، أن مقتل الملك الشاب المغدور، فتحت صندوق (باندورا) بكل الشرور والعدوانية والمجازر لم تتوقف حتى يومنا هذا. حكاية السرد تتناول الواقع آنذاك بشكل أسلوب ساخر وانتقادي. نقتطف بعضها رغم أن الحياة لا تخلو من مشاكل وعثرات، ولكن كانت الحياة تحمل البساطة والتواضع بدون بهرجة فاقعة من الملك حتى أصغر مواطن بسيط. كانت الحياة تحمل نكهة خاصة في مذاقها الحلو والمتواضع، منها مسؤول النادي بأمر حكومي من مدير الناحية، كتب في لافتة عريضة في باب النادي مجموعة ممنوعات (كتب المسؤول عن النادي. ممنوع الغناء، وممنوع الرقص، وممنوع الحديث بالسياسة، ممنوع جداً الهتاف ضد الحكومة بعد منتصف الربع الثاني من ثمالات العرق المغشوش) ص12 مما حدى بزبائن النادي تركه والتوجه الى ضفاف الشط والبساتين، ولكن لتلطيف الجو في قائمة الممنوعات وتخفيفها، بما صرح به مفوض الشرطة بقوله (يحق للمواطن الغناء وتجاوز حدود الهذيان، بشرط أن تكون سورية حسين، وحلوة الطباع لميعة توفيق) ص13. ومدير المستوصف يحاول أن يتصالح مع المضمد المنفي، ان يسمح له بتناول القصائد الممنوعة ومنها واهمها قصيدة (أين حقي) وارسل إليه حارسه الشخصي مع نصف قنينة (عرق) عربون المحبة والتصالح.

قصة: عربة ماركس المنسية:

التحليق في عولم الوهم بعقلية صبي وقح، يشاكس حتى اوهامه بالتمرد عليها (- أنت لن تقوى العبور إلى ضفاف المعاني القصية، تحتاج إلى عدة وقبول. أنت لن تقوى على فعل سبر الاغوار هذا، كن مع الاقرب، واترك البعيد يجيء اليك..... حيرتك تنث مطراً مالحاً من الارتدادات التي تزيدك نفوراً) ص23. تتوغل مسرودة الحدث السردي بالمعنى الرمزي البليغ في المعنى والمغزى الدال. بأن رجل غريب الأطوار دخل الى القرية في ليلة ماطرة ليكسر مرايا الواقع ويقلبها على العقب بالضجيج والصخب (لا أحد يدري كيف ظهر الرجل كث اللحية في قريتنا، سمعتهم يقولون، أنه ما جاء ولم يراه احد يدخل مرابعنا.. لكنهم وجدوه ذات ليلة راعدة ماطرة) ص23. وانكشف سره بأن هذا الرجل كث الشعر واللحية جاء من بلاد الفرنجة (ليسكن ديارنا المفعمة بالصمت. بعد أن أعلن جهاراً (أن الدين افيون الشعوب) لاحقته السن الغوغاء، بعد أن امطرته بوابل من السباب، وامطار من الحجج مطالبة برميه في لجج البحر، وهذا ما قام

به كهنة المعابد، الذين تضررت مصالحهم قبل مصالح الفقراء والمساكين) ص24، وأصبح الصراع محتدما في منع زعزعة سلطة كهنة المعابد المطلقة، لذلك أن هذا الرجل كث اللحية يعزف في الفراغ في ارض لا ينبت فيها العشب، (- يا سيد نبؤتنا تقول، يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة.. عُد من حيث اتيت، ان استطعت عد) ص24.

× قصة أمنيات:

تطرح سؤالاً جوهرياً في مفهوم الحرب ومشعليها، دائما وقودها الشرائح المسحوقة والمظلومة يرجعون في توابيت الموت. ليتنعم أصحاب الجاه والنفوذ....... تتحدث عن ضحية رجع من الحرب مبتور الساق وينتهي به المطاف بالسجن، و يتندر عليه مسؤول السجن بالاستهزاء والسخرية (أعرج البين من أجل ماذا فقدت ساقك؟ وأضعت سنوات عمرك هباء منثوراً؟ كنت اتابعك بشغف وحب وتفاخر، وانت تركض مثل غزال شارد، مجتازاً الحاجز تلو الحاجز. يصفق لك الجمهور ويهلل بأسمك.... ما كان عليك أن تبقى منتظراً موتك) ص31.

× قصة: وقف منتهي الصلاحية

سلاح الطغاة الحيل والمكر بجانب السيف، وانتاج ثقافة التمجيد والتعظيم والتقديس، للضحك على ذقون الجهلة والاغبياء حكاية السرد في رمزيتها العميقة، تتحدث عن مجون وهوس وبذخ الباشا (مراد باشا) حول القصر الى مجون وخمر ونساء ومتعة، تقودها جاريته المحبوبة (درة الملك) التي تعرف كل اسرار القصر، ولكن بعد موت (مراد باشا) تحولت الى عاهرة مبتذلة ومنبوذة، وخشية من فضح أسرار القصر، دبروا أمر مقتلها، وبعد موتها، اصدار القصر فرماناً، ببناء مزاراً باعتبارها سيدة مقدسة، بما جاء فيه (تقديساً لسيدة العفة والبهاء والرفعة، مولاتنا درة الملك، قررنا بناء مزاراً يكون مكاناً آمناً، لتلاقي العشاق والمتيمين حباً، وعلى الجميع التهيؤ لدفع الضرائب والمستحقات، دون تأخير وتخاذل)ص59.

× قصة: مزار الغريب هتلر

دائماً وابداً الطغاة والأباطرة يركبون حصان بدعة الإنقاذ ودعاة التحرير، أعوانهم يرفعونهم على الأكتاف بالمجد والتعظيم والقدسية، ويبثون رياح الرعب والخوف في نفوس معارضيهم، ليذهب الى جهنم من يتطاول على الحضر الأعظم المقدس (قال الملأ، بعد ان تيقن ما سعت إليه أحلامه صار يقيناً

- لابد من مزار.. لمنقذنا الآتي من بلاد البرد، يدعونا لحفظ هيبة حضوره) ص82. فهذا ليس بغريب وعجيب ان تقام اضرحة مقدسة لهتلر وامثاله من الطغاة، ونتذكر الحقيقية المرة، ألم يطالب احد من النخبة الحاكمة الحالية، بإقامة تمثال من الذهب للغازي المحتل جورج بوش؟. ألم يقدم سيف الامام علي (ع) سيف ذو الفقار هدية الى وزير الدفاع الأمريكي القاتل؟

والقادم أتعس

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد ومترجم

 

قراءة في كتاب رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة للدكتور علاء الحلي

على مدى اكثر من ستين عاما قرات كثيرا من الكتب والدواوين والقصص والروايات والدراسات، بعضها كانت قراءات منهجية، فرضت عليَّ من قبل المعلمين في الابتدائية والمدرسين في الإعدادية والاساتذة في الجامعة، وبعضها كانت انتقائية تتبع رغباتي المدفونة في اللاوعي، وخلال كل هذه السنين، وجدت بعض المواد التي وقعت بين يديَّ بإرادتي، او وُضعتْ بينهما عنوة وكأنها لوح شوكولاتة سويسري شهي، ما إن تبدأ بقضمه وتذوب عصارته بين فكيك حتى تشعر بلذة تنقلك إلى عوالم أخرى بعيدا عن واقعك مهما كانت منغصاته، وتحلق بك في أجواء رياض المتعة ورفاهية الفكر حيث تتألق الجمل وكأنها قلائد نحتت من أحجار كريمة، ونظمتها يد فنان بارع يعرف كيف يخلق الجمال ويقدمه لك ليغير مزاجك نحو الأحسن، ويُحسِّن شعورك، ويمنحك طاقة إيجابية. ووجدت بعضها الاخر وكأنها نحتت من جلاميد صخر قاس، تجرح كفيك إذا تعلقت بها، وتنحدر بك نحو الاسفل بعيدا عن قمم المتعة، فتشعر وكأنك تغرق في أكداس غبار نقلته اليك عاصفة صحراوية هوجاء. وبين هذا وذاك، وجدت بعضها الآخر عديمة اللون والشكل والرائحة، لا تشعرك بوجع ولا بفرح ومتعة، وهي مجرد ملهاة فارغة، تشعر بعد الانتهاء منها بندم كبير على الوقت الذي قضيته معها.3966 علاء الحلي

ولقد كان هذا الشعور يلازمني باستمرار، لم أنجح بالتخلص منه؛ لا عندما اقتني كتابا ما فحسب، بل وحتى حينما يهديني أحد الاصدقاء كتابا من تأليفه، فأضطر عادة الى قراءته او تقليب صفحاته بعمق خوف ان يطلب رأيي فيه إذا التقينا مجددًا، كان شعورا يتحكم بطاقتي الإيجابية ويحدد مساراتها ويقلص خياراتها.

هذا الشعور الذي يسعدني أحيانا ويحزنني أحيانا أخرى، كان قد تأجج في داخلي وانا استلم نسخة من كتاب (رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة) الذي اهداه لي صديقي الدكتور علاء الحلي، ولأننا اتفقنا أن نلتقي مجددا بأقرب فرصة، وجدتني منساقا للبدء بتفحصه حتى قبل أن نفترق، لأكون مستعدا للتحدث عنه، فشعرت لحظتها وكأن مبخرة تتصاعد منها نسمات وعي تأسرك فلا ترغب بفراق أجوائها قربتها يد معطاءٍ إلى أنفي، حينها استعجلت الرحيل على أمل أن أختلي بالكتاب في مخدعي بعيدا عن محيط الطوارئ ومؤثرات الفوضى،  واذا بي اجد عالما زاخرا بوهج من نوع خاص، عالمٌ تشعره يلفح وجهك بغرور، ويغور عميقا ليدغدغ شغاف قلبك، ويدغدغ مشاعرك كالسحر.

ولأني قارئ نهم، لي أسلوبي الخاص بالتعامل مع الكتب، قررت بداية أن أؤدي طقوسي الخاصة بقراءة الكتب العزيزة على قلبي قبل أن أحضن هذا الكتاب، ففي عقيدتي أن بعض الكتب تكاد تكون مقدسة، تتطلب قراءتها استعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، مع استحضار جميع الحواس وتفعيلها لتؤدي مهامها بدقة توصلك الى شواطئ المتعة، متعة أن تكتشف من خلال الكلمات والأسطر معجمية تعيد لك ترتيب معاني مفرداتك المتناثرة على أديم الفوضى لتعطيها تنغيما آخر أبعد ما يكون عن النوتات الموسيقية المعروفة، نوتات لا تعرف النشاز  ولا تحتاج الى مايسترو يضبط إيقاعها، فهي بحد ذاتها إيقاعا يشبه تغريد البلابل في صباح ربيعي.

أول ما استوقفني بالكتاب ذلك الإهداء العذب بشطريه الرجالي والنسائي، ففي شطره الرجالي تلمس وفاءً يترجم معنى الإخوة: "إلى صديقي الفخم رواد الجبوري الشاهد الوحيد على جميع انتصاراتي وانكساراتي". وفي شطره الأنثوي تلمس لوعة من نوع عذري: "إلى رَحيل: تلك التي أحببتها بالنيابة عن كل الذين لم يعرفوها في هذا العالم".

غير ذلك، جاءت آراء الأصدقاء في مقدمة الكتاب لتضفي عليه وهجا إن لم يكن بحاجة إليه فهو قد زاده بهاء، وكانت الوقفة الأولى مع الأخ والصديق العزيز الدكتور علي الطائي الذي كتب عن أدب الرسائل موضوعا توضيحيا أورد فيه خلاصة تنامي وتطور هذا الفن منذ العصر الجاهلي مرورا بعصر البعثة المشرفة ثم العصرين الأموي والعباسي، مشيرا إلى أسماء من برز في هذا الفن وأبرز الرسائل التي كتبت، ليختم بالتحدث عن فن الرسائل في العصر الحديث، ثم توجيه الدعوة للنشء الجديد ليهتموا بهذا الفن الذي كاد أن يندثر، وبعدها اعلن عن مشاعره الحقيقية وهو يقرأ هذا الكتاب ولتكن خلاصة رأيه: "اتت هذه الرسائل متميزة بدقة المعاني وبحسن التوظيف وبراعة السبك كأنها طوع قلمه، إذ كلما قرات سطرا منها تاقت العيون والعقل الى السطر التالي مترقبة بشغف الملهوف".

أما الوقفة الثانية فكانت مع الناقد والأديب الصديق كامل الدليمي وقد جاءت مكملة لما بدأه الدكتور علي الطائي في حديثه عن أدب الرسائل، حاول الدليمي من خلالها أن يثبت بالدليل بأن فن كتابة النثر كان موجودا منذ العصر الجاهلي وأنه تطور بتطور حياة العرب ولاسيما بعد البعثة المحمدية وقيام ونشوء الحضارتين الأموية والعباسية، ليبدأ بعد ذلك في استيضاح متن الكتاب ومضمونة، وليخرج بنتيجة لخصها بقوله: "لم أكن أدري حين قرأت باهتمام بالغ وشغف كبير أن يكون ما كتبه علاء الحلي بهذه الأطر الفنية الناضجة، ولكن الذي جعلني الى وضع هذه المقدمة لهذا الفيض الأدبي المؤنق هو العمق العاطفي والمعرفي الذي شكل رصيدا دقيقا للكثير من المعاني الإنسانية التي تحملها هذه الرسائل".

رحلة مع المتن:

من المؤكد أنها ليست بالمهمة السهلة؛ أن يتبنى الناقد تفكيك نص فلسفي تمت صياغته بأسلوب أدبي، وفق أسلوب فن كاد أن ينقرض هو فن المراسلات، إذ جمع الحلي في مادة الكتاب ومضمونه بين تخصصه الأكاديمي الفلسفي، وذائقته الأدبية، وأكاديميته التطبيقية، وثقافته الأسرية والمجتمعية ذات الجذور الغائرة في عمق المجتمع، وما أكتسبه من معايشته لبلد كان من أجمل بلدان العرب (لبنان) على مدى عقد كامل، وتجربته الحياتية بكل إشكالياتها وتعقيداتها ليخرج بنتيجة تسحر الألباب.

إن من المتعارف عليه أن الكتابة ليست بطرا، ولم تكن في أي مرحلة من مراحل سيرورتها بطرا، حتى عندما كانت مجرد رموز صورية مسمارية، بقدر كونها حاجة يقينية لابدية، فرضتها مطالب العيش وتعقيدات الحياة لتحفظ حقوقاً، ثم لتترجم هذه الحقوق، ثم لتتحول إلى مرآة تعكس كوامن معاناة الإنسان الذي تأبط الوجع منذ أن وعى وأدرك جسامة وخطورة أن يكون إنسانا في دنيا التوحش والدونية والهمجية والعبث، ولاسيما بعد أن أدرك أن خير وسيلة لتفريغ أوجاع الروح هي البوح بها ولو في بطن بئر في صحراء التيه، وكم من مرة سعى العقلاء الذين أوجعهم ثقل ما يحملون إلى بوادي النسيان الأبدي، لا لتجارة ولا لمكسب ولا للقاء حبيب، بل ليجدوا الفرصة للبوح بما في كوامن أنفسهم للريح وذرات الرمل، ليتشظى دون أن يعثر عليه أحد.!

هذا بالضبط ما أراد الحلي الإشارة إليه بقوله: "لقد وجدت نفسي معنيا بالكتابة كأولئك الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة ومن الكلمة.... ولذا سوف نظل نكتب ونكتب حتى إذا فرغنا من الكتابة ولم يبق شيء آخر نكتبه؛ ربما سنحترق او ننتحر بملء ارادتنا الخاوية من دون اي تردد! فهكذا فعل الكثيرون من قبل". (ص:34)

إن تمجيد الكتابة كونها الوسيلة الوحيدة لتدوين المضمر الذاتي (ص: 38) يبدو مثل الكتابة نفسها تماما، فالكتابة مجدٌ كان غاية المأمول قبل أن يتحول إلى الإسفاف المعاصر الذي خلقه الخواء الفكري، فالكتابة كانت ثورة حقيقية، وضعت قدم الإنسان على قاعدة صخرية صلبة مكنته من الانطلاق بتسارع مهول أوصله لما هو عليه اليوم، وهو ما أراد الحلي التأكيد عليه بقوله عن الكتابة: "وذلك النهر يا عزيزتي ما زلنا نكتشفه في كل يوم، ونغترف من معينه، فما أروع أن يحترق كاتبٌ في عملية مكتوبة لكي يشرب الآخرون من تجاربه" (ص: 38)

وربما لهذا السبب دون غيره، أورد الحلي في كتابه المنمق هذا أحاديث عن تجارب العمالقة من أدلاين فيرجينيا وولف إلى ستيفان تسفايغ وإرنست منغواي وخليل حاوي وفلاديمير ماياكوفسكي ورينيه فيلهلم وبول توماس مان وتيوفل غوتيه وفان خوخ وبول غوغان وكافكا، اتخذهم كلهم شواهد على حقيقة ما أراد إيصاله بأمانة مطلقة. وبرأيي أن مجرد إيراد هذا العدد الكبير من الأسماء في رسالة واحدة؛ فيه دلالة عميقة على موسوعية الكاتب وجرأته في طرح أفكاره دون وجل من الإكراهات التي قد تواجهه في مجتمع يعبد الأمية ويعشق الجهل، مجتمع تتحكم به القبائلية والدين والموروث العتيق المتآكل وشراهة البدوية السابتة فينا منذ الأزل، مجتمع أدمن رسم الخطوط الحمراء، وكان أول المتنازلين عنها دون إكراه، وقد وضحت غايته هذه من خلال قوله مخاطبا (رحيل) ومن خلالها مخاطبا جميع المعترضين الحقيقيين والمحتملين: "وكل الذي أريده منكِ هو أن تتحملي طريقتي في هذه الرسائل فقط، لأن الدرب إلى قلبك وعر جدا ومعوج، فقد لا أصل إليك بالسرعة الممكنة كما تتصورين" (ص: 47.) وهذه ترجمة حقيقية لوجع العبثية التي يستشعر هواجسها المثقف الذي يُجابه بالصد دون النظر إلى صدق نواياه.

وهذا ليس تخمينا فجا، إذ تبدو العبثية واضحة، يؤطرها يأس من تغير الحال للأحسن مع بواكير رسائله المأزومة، هذا ما يستشف من قوله: "حين يجد المرء نفسه مرغما على كتابة ما يحسه.. فذلك يعني انه يقف أمام خيارات صعبة، تجبره أن يكون مشلولا بكل تفاصيله المرئية واللامرئية من دون أن ينظر إلى باقي الأشياء الأخرى، ربما لأنه مؤمن جدا أن التفاصيل الماضية لا تصلحها كتابة الرسائل أبدا" (ص: 48.).

بدت جميع رسائله التي ناف عددها على اثنين وعشرين رسالة، حتى مع توهج لواعج الحب بين ثناياها، ولمسة الحب التي تطغى على أجوائها المشحونة بالحركة، والنابضة بالحياة وكأنها محاولة لانتقاد العالم.. الحياة.. الكون.. الوجود.. السلطة.. تقليدية التدين.. الوطنية الزائفة.. النفاق السياسي والديني والقبلي، وأشياء كثيرة أخرى، ولذا وصفها بأنها رسائل فزعة (ص: 231.) كيف لا وهو يؤمن بأن الفقراء ينامون ممتلئين بالكلام الذي لم يقولوه بعد (ص: 80.) ويرى أن السؤال يكون أحيانا غولا؟ ولكن ذلك لم يمنعه من التحدث عن حقيقة الأسماء والتاريخ منتقدا الذي طوع آلة الدين لصالح مكاسبه الأخرى (ص: 96.) ساعيا بكل ما أوتي من قوة من أجل انقاذ الإنسان من هشاشته وضعفه لأنه لم يخرج بعد من (الطور الجاحظي) المستهلك، لأنه وضع الكتاب والفكر جانبا والتزم بالدعاء للدين بالنصر وعلى الكافرين بالويل (ص: 126ـ 127.) ولم يردعه من أن يمجد حراك الشباب من خلال رسائل عن "قيود تحت نصب الحرية" (ص: 144.) و(أغداق من بعض نخيل تشرين) (ص: 154.) و(فتنة الأعراب القديمة) (ص: 168.) و(المضحون في الأرض) (ص:208.). وفي الختام اجتمعت خلاصة مضمون الكتاب تحت عنوانين مشاكسين مهمين:

الأول: كان توطئة تحت عنوان "حين تكون الرسائل شاهدا على موت ساعي البريد" (ص: 34.) وهو العنوان الذي افتتح الكتاب به، وكأنه يستشف موقف بعضهم مما سيقول.

والثاني: كان خاتمة تحت عنوان "انطلاق ساعي البريد إلى وجهته" (ص: 230.)، وابتدأه بقوله: "في ختام هذه الرسائل؛ التي سأبعثها بيد ساع لا أعرفه، لا أضمن لك يا عزيزتي أنه سيصلك عما قريب، فربما سوف يحترق في خضم هذا المستحيل الباذخ، ولا يرجع مرة أخرى، إذ لا مطر على سطح الشمس، ولا وجود لرذاذ بارد هناك" (ص: 230.)

أما تقييمه لعمله فقد أوضحته تلك الالتفاتة المبهمة التي ختم بها السطر الأخير من حكايته بادئا بكلمة (ربما) بكل ما تحمله هذه الكلمة النافرة من فخامة ورهبة وحيرة ودهشة وانبعاث واستشراف لمستقبل مجهول غير مضمون: "ربما سأكتب لك ثانية، وربما لن أكتب أبدا، ولكني مؤمن جدا يا حبيبتي أنك مبهرة تستحق كل هذا العناء" (ص: 233).

فهل تستحق الحياة منا كل هذا العناء؟ إنه سؤال غير تقليدي والجواب عليه نسبيا لا تتفق الآراء بشأنه، ولكن الشيء المؤكد أن الحياة لو لم تكن تستحق كل هذا العناء لما برز فيها حملة المشاعل الذين يحرقون أنفسهم لينيروا للآخرين دروب حياتهم.

وآخر ما أريد التنويه عنه رأيي في أنه تبقى هناك حاجة ملحة لمثل هذه النتاجات الناضجة والضاجة بهمس كالصراخ، ليس لإحياء أحد فنون الكتابة التقليدية، وأقصد به فن المراسلات الذي كاد أن ينقرض فحسب، فذلك أمر مفروغ منه، وحاجة لابدية أعتقد أن جميع الأدباء معنيين بها، بل ولضخ دفقات من الجمال في حياتنا المعقدة المليئة بالإخفاقات والمنكدات والانكسارات والهزائم، وحسنا فعل الدكتور الحلي في تناوله هذه المهمة الصعبة في هذا الوقت بالذات.

صدر الكتاب عن دار النخبة للطباعة والنشر في جمهورية مصر العربية عام 2022، بواقع 233 صفحة حجم 20× 14 بغلاف جميل تزينه صورة امرأة بأجنحة وكأنها ملاك يقف في روض تحيط به فراشات الأمل وأوراق بعثرتها الريح، فجاء متوافقا مع المضمون.

***

الدكتور صالح الطائي

صدر حديثا عن دار المتن 2023  المجموعة القصصية البكر للقاص سعد نزال (محاولة اللجوء الى الجنة) وقد ضمت ثلاث عشرة قصة قصيرة هيمنت على عوالمها الشخصية المأزومة التي تعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية حاول الكاتب سبر اغوارها من خلال انفعالاتها ومزاجها المتقلب مقتربا في شكله التعبيري من الفانتازيا التي تشتغل على المبالغة في رسم ملامح غير مألوفة للشخصية ولأحداث مخالفة لمنطق الواقع والطبيعة وهو ما كانت عليه معظم شخصيات واحداث قصص المجموعة.

ابطال قصص المجموعة هم خليط من حيوات حائرة وخائفة ومتوترة تعاني من الاغتراب الداخلي فهي تعيش الحاضر ولكن يحركها الماضي ويدفعها الى استحضار حوادث مؤلمة تشكل محورا لمعظم قصص المجموعة، وقد حرص الكاتب على ترجمة فلسفة افكاره التي كشف عنها اهداء الكتاب المتضمنة نبذه للعنف والدعوة الى اتخاذ الطرق السلمية وسيلة للوصول الى الأهداف وذلك في اتخاذ (اللجوء) عتبة لعنوان مجموعته  فاللجوء هو الفرار من واقع سيء فيه عنف واضطهاد الى واقع آخر أكثر أمنا وسلام  وجاء التماهي مع هذا المبدأ في قصة (لن أكون هناك ثانية) التي تقوم على فكرة الثأر، فـ " صابر " طالب الهندسة المسالم وبعد سنوات من تخرجه يفكر بالانتقام والثأر لكرامته التي أهانها يوما أحد مسؤولي اتحاد الطلاب عندما قام بصفعه في نادي الطلاب وأمام زميلاته وزملائه وسببت له تلك الصفعة فقدان السمع، وقد سكت حينها على الاهانة بسبب سطوة ذلك المسؤول الطلابي الشرير والمتعجرف وكاتب التقارير المتعاون مع دوائر الأمن، ولكنه يعود بعد سنوات ويقرر قتله والثأر لكرامته ويعد العدة لذلك لكنه عندما يقابل خصمه المعتدي يتراجع في اللحظة الاخيرة ويتخلى عن فكرة القتل والعودة الى انسانيته ونبذ ما ساورته نفسه بالانتقام من خصمه فيأتي هذا التحول بمثابة الخروج من جحيم فكرة العنف واللجوء الى جنة التصالح مع الذات والاستقرار النفسي .

والمهيمن على قصص المجموعة ابطال يعانون من امراض نفسية متنوعة من بينها التوتر والقلق الشديد وكذلك فقدان الاهتمام وكلها  حالات نفسية واحدة من تداعياتها الأرق وصعوبة النوم حيث تتجلى مشكلة الأرق لدي عدد غير قليل من ابطال القصص ومن بينها قصة (لدغة فزع) فبطل القصة" عبودي " يعيش صراعا مع الأرق نتيجة التخيلات الشريرة التي جاءت بها مشاهدته فيلما يحكي عن مدينة افتراضية تدب فيها العقارب الضخمة وتهدد سكانها حيث يعود هذا المشهد  بالبطل الى أزمة رافقته من صباه عندما تعرض الى لدغة مزدوجة من عقرب عند بيت خالته ثم يأخذ بالقارئ الى عوالم اللاواقعية وذلك بتخيل خروج العقارب من شاشة التلفاز محاولة الهجوم عليه وتنتهي القصة وهو ممسكا بصندله لمواجهتها .

و يعود الى مشكلة الأرق في قصة اخرى هي (اللجوء الى الجنة) فالبطل شخصية تعيش الأرق والقلق  في آن واحد، فهو يخشى الاستغراق في النوم خوفا من فوات موعد اقلاع طائرته لذا يزجي الوقت المتبقي على الموعد في الشرب و(التفكير في الفلسفة ونشأة الحياة والعقاب والثواب والجنة والنار ص57) ويتطلع من نافذة الفندق الى حركة المارة مخمناً اسرار كل واحد منهم  ويتساءل مع نفسه عن امكانية طلب اللجوء الى الجنة ثم فجأة يأخذ حقيبته ويتوجه الى المطار، وبعد اسهاب في وصف المطار والاجراءات ــ وكلها تفاصيل لم تضف شيئا الى جوهر القصة ــ وفي الصالة عند البوابة الاخيرة من المطار يواجه عارضا صحيا يتخيل فيه المسافرين الذين في الصالة وقد تحولوا الى كائنات غريبة (شاهدت كائنات غريبة ومخيفة، بعضهم برأسين وغيرهم بآذان طويلة منتصبة، اخرون بقرون ملتوية وذيول .... ص63) وعند صحوته من هذا العارض يهرع الى الطائرة التي اوشكت على الاقلاع وفي كرسي الطائرة يعيش كابوسا اخر هو سقوط الطائرة ويتخيل نفسه في الجنة بين الحوريات ولا يصحو من كابوسه الا بعد نداء المضيفة تأمره بمغادرة الطائرة لوصولها ارض المطار ومغادرة جميع ركابها .

ويجد الكاتب صعوبة في التخلص من نمط الشخصية المضطربة التي هيمنت على عالمه القصصي فحاول في عدد من القصص اعادة التوازن النفسي لشخصياته الا انه سرعان ما يعود الى ذات الشخصية التي تشعر بالخواء والعجز والمبتلاة بالأرق وهذا ما كشفت عنه قصة (ليلة بشعة جدا)، فشعيب شاب يصيبه الأرق من تناوله فنجان قهوة ويعتقد انه اخطأ في مقادير تحضيرها ويجعل من الأرق رفيق ليلته يتبادل معه الذكريات ويقوم فيها الأرق على استفزاز ذاكرة شعيب باستحضار حوادث مرت به في الماضي من ايام الابتدائية والثانوية والجامعة ومن ثم فترة العسكرية  ولا ينفك الأرق من تدمير شعيب بالكم الكبير من الذكريات حتى بعد ان يرفع رايته البيضاء بقوله (ان الكل ميتون) .

ويحاول الكاتب تقديم نمطا اخر من الشخصيات المأزومة المصابة بمرض الوسواس والايمان بالنحس والشؤم وذلك في قصة (ما بعد الحداثة) حيث ينتاب البطل شعور غريب يتلخص في ان حقيبته التي اشتراها منذ مدة طويلة هي سبب انقطاعه عن السفر ويرى ان حقيبته القديمة التقليدية الخالية من أي مظهر للتطور قد رزقته طيلة خمسة عشر عاما بعدد كبير من السفرات على عكس حقيبته الحديثة الكاملة المواصفات التي توقفت سفراته منذ شرائها لهذا يبقى متعلقا بالحقيبة الأولى رغم الصوت الذي يأتيه من الغيب يؤنبه على ولعه وتشبثه بالماضي . ويستمر الكاتب في تقديم الشخصيات الغريبة الأطوار مثل بطل قصة (بقايا انسان) الذي هو نزيل احدى المصحات وشخصية البطل في قصة (حوار خارج المألوف) الحائر في تساؤلاته عن اسباب عدم حق الجماد من كراسي وملاعق الاعتراض والمشاركة في الحوار والنقاش الذي يدور بين الاصحاب في جلساتهم ويجيب على سؤاله يمكن ذلك لأن (بعض الاحياء المشاركون هم في حقيقتهم جمادات ناطقة ص 132) .

وفي عدد من قصص المجموعة يتخذ القاص من المفارقة والمقلب والنكتة المفرغة من الدلالة موضوعا لها وهو ما اعتمده في قصة (قبيل دخول الجنة) التي يضع شخصيتها الشاب الجنوبي " فيصل " في مأزق عندما يلبي دعوة صديقته الفتاة الثرية لتناول الغداء في مطعم فاخر مطمئنا من انها ستتولى دفع الحساب لكنها تغادر المطعم وتتركه حائرا في كيفية تسديد قائمة الحساب الباهظة التي لا يملك حتى ربع ثمنها وتعود في اللحظة الاخيرة لإنقاذه من الورطة، ويسري الحال  ايضا على قصة (إفطار آخر صيف) التي تجمع بين المفارقة والقلق فالبطل يعيش أرقا غريبا ويراقب عقارب الساعة العاطلة عن العمل ثم يتوجه الى المطبخ لإعداد فطوره المفضل بيضة مقلاة بالزبدة وتأبى البيضة على الانشطار والاندلاق في المقلاة مما يضطر الى القاءها بقشرتها الى المقلاة وعند انتشار رائحتها وجاهزيتها للأكل يفقد شهيته ويذهب الى فراشه بعد ان يكتشف انه اختار بيضة مسلوقة . أما قصته (الزواحف الكوميدية) فهي لا تعدو أكثر من تعاليم عن كيفية اصطياد حسناء اثناء السفر، وكذلك قصة (مهمات خارجية) فهي الاخرى لا تخرج عن اطار النكتة ففيها أب يعاني مشكلة تقاعس الابناء عن رمي كيس النفايات الأمر الذي يضطره الى حمل الكيس بنفسه والتوجه الى حاوية الأزبال والذي يتوجب عبور الشارع العام وبسبب الحاح سائقي سيارات الاجرة على الركوب يضطر الى الصعود في واحدة والطلب من السائق انزاله عند اقرب حاوية مما يثير غضب السائق الذي اعتبر الأمر سخرية منه وفي الاخير يعود الأب مع كيس النفايات لعدم الاهتداء الى الحاوية .

ان قصص (محاولة اللجوء الى الجنة) وكما اسلفت زخرت بالشخصيات غريبة الأطوار التي تجمع ما بين المأساة والشفقة والتي الفناها عند كتاب عالميين وقد أعادها الى الأذهان القاص "سعد نزال " بثوب وحكاية جديدتين، وفي الأخير عندما تقرأ لقاص يخوض تجربته الأولى في كتابة القصة تتوقع ان تجد ارتباكا في توظيف تقنيات السرد وانفلاتا في السيطرة على مسار الأحداث بحكم قلة التجربة ولكن مجموعة (محاولة اللجوء الى الجنة) جاءت على مستوى عال من النضج الفني والتحليل النفسي لشخصيات القصص وبالتالي تعد المجموعة مكسبا للسردية العراقية .

***

ثامر الحاج امين

ينتمي الكاتب الراحل كمرحلة معرفية إلى جيله الذي عايشه، ولكن عندما نطرق أبواب كتاباته المرحلية سنلاحظ أنها مازالت تعيش معنا، ومن هنا ارتأيت أن نكون مع إحدى المناهج المعرفية؛ ومنها التكوين الدلالي الذي كان يرافق الكاتب بكتاباته المعرفية كحالة للمدلول الأول، وأما كحالة للمدلول الثاني فيكون عن مكانة الابستمولوجيا وعلاقتها بالحقول المعرفية، باعتبار الكاتب الفلسطيني قد قدم عدة روايات مختصة في الهمّ البيئي الفلسطيني وهي قضيته الأولى، فنظرية المعرفة والدلالة المعرفية متناسبتان تماما في الخوض عبر علم المناهج؛ والتقائهما من خلال العلاقات الواردة في نقاط الاختلاف وتوافق في كلّ رؤية مكتوبة، باعتبار أن النصّ الكنفاني قد خرج من الرؤية الذهنية وأصبح في رؤية الآخر.3959 غسان كنفاني

من الروايات التي كتبها الكاتب الراحل غسان كنفاني رواية (عائد إلى حيفا)؛ فبالرغم من وجهة الاحتلال الصهيوني فإنّ الكاتب يشير إلى العودة من خلال التفكّر والدخول إلى مناطق الفلاش باك، وأستطيع أن أقول أن (وضعية أوغست كونت) الفلسفة الوضعية تتناسب تماما بتفكيك جواهر الأشياء، فالعمل بدأ عام 1948، وبما أن تحرير الموضوع يبدأ من الرواية، فإنّه ينسف جزءاً من الحاضر ويجعلنا " الكاتب " مع الأشياء وماهيتها، فالبحر يعود إلى حيفا، الأزقة البنايات القديمة والناس المهجرة، كلّها خرجت في مناطق تفكرية أراد الكاتب أن تكون حاضرة، والمنهج المعرفي الذي تولاه الكاتب، هو حضوره قبل اغتياله عام 1972؛ إذن نحن في منطقة الكتابة الكنفانية طالما أن الاستدلال يشير إلى الكاتب.

(في نظر المدرسة الفلسفية المنطقية؛ نوعان فقط من المعارف المشروعة: معارف ترتبط بصور الفكر ومنشآت اللغة، ومعارف ترتبط بظواهر الواقع ومعطيات التجربة... وبما أنّ هذا النوع الأخير، أي المعارف العلمية، يرتدّ في نهاية الأمر إلى ما نقوله عن الأشياء الواقعية، فإنّه من الضروري إخضاع لغتنا، أي حديثنا عن الأشياء، لتحليل منطقي صارم، حتى تعبّر عمّا تقدّمه لنا " محاضر " التجربة، من غير زيادة أو نقصان. – ص 28 – مدخل إلى فلسفة العلوم – الدكتور: محمد عابد الجابري).

أمّا عن المساحة السردية وأصول الأشياء، فهناك التأسيس وهناك الأصل، فلا تشغل الذهنية سوى ما تركته تلك العوائل من بيوت وأشياء بأصولها الفلسطينية، وقد اشتغل الكاتب غسان الكنفاني بين الأصل وترتيب الأشياء وهو يشغل مساحة من الاسماء التي اعتنقها، فنحن الآن بين (دوف) و(خلدون)، وبين المزهرية وريشات الطاووس السبع. فللأشياء التي تمّ البحث عنها تأسيسها وسببيتها؛ فما هو سبب تواجد عوائل أو أشخاص شغلوا بيوت غيرهم؟

إن الإشارة التي أشار إليها الكاتب، كانت غائبة، فالمنطوق الذي تحوّل إلى خط مكتوب، لا يكفي بأن يكون حجة من الحجج التي يعتمدها الكاتب، ولكن طالما أن الإشارة تحتاج إلى المشار إليه (حسب نظرية أولمان) فإنّ النصّ الكنفاني يقودنا إلى دوال حقيقية، وتتعدد هذه الدوال الغائبة منها والحاضرة، فالغائب يحضر، والحاضر هي الأشياء التي مازالت على قيد المنظور المقرّب، أيّ أنّ هناك محسوساً مرئياً من الممكن أن نشاهده بالعين. فالبنية السردية التي ظهرت في المتن، هي البنية المضعّفة، أي أن الكاتب بتأكيداته، راح يرتب الأشياء بهدوء وذلك بالرغم من الفوضى والصعوبات التي واجهت وتواجه المرء الفلسطيني الآن وفي كلّ الأزمنة؛ وفي نفس الوقت تقابل القوي مع الضعيف، مثلما تتقابل أفعى مع طفلٍ بحرب لانهاية لها، فسمة التقابل أن تتقابل الأفعال الحركية مع الأفعال التموضعية، فالحركة التي تبنّاها الكاتب، حركة الناس في كلّ مكان، وكذلك حركة الأشياء، فالهواء ساكن، وهو من الأشياء، والمحطة التي وضعنا فيها، تحوي على الإنسان الحقيقي والإنسان المصطنع؛ أي، أن هناك كينونة واقعية، تحولت إلى كينونة جديدة، وقد كان للفعل الدلالي الأهمية في تحريك هذه الكينونة من وإلى.

تحوّل الطفل من فلسطيني إلى (إسرائيلي)، فنمتثـل أمام سبب وذريعة، فالذريعة هي الحادث الذي يسبق الحادث السببي مباشرة؛ لذلك فقد تمّت النتيجة، فنحصل على نتيجة وذريعة، ومن خلالهما نبني الحالة التي واجهت تلك العائلة؛ وقد أكد أبو خلدون (أيّ خلدون؟ ياصفية؟ أيّ خلدون؟ أي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين إنّه خيار عادل! لقد علموه عشرين سنة كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش... ثمّ تقولين خيار عادل! إن خلدون أو دوف، أو الشيطان إن شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الأمر. سرقوه. – ص 49 – عائد إلى حيفا – غسان كنفاني). لقد تخلّص الكاتب من العقلانية، وأنبت الواقع الذي تمسك بالظاهراتية؛ وهو واقع الرحابة والجذرية، ومن هنا كانت قياسات الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، حيث ربط المعنى بالمعنى، فالمعنى الأوّل الطفل والأهل والتهجير القسري، والمعنى الثاني، تربع عائلة " بولونية " على عرش جديد، وخصوصاً أن المرأة لم تنجب أولاداً، ومن خلال هذه العلاقة الرمزية والتي كانت سببية بالدرجة الأولى،  أثرت على الشكل والدلالة، وأدت إلى معرفة الغنيمة؛ فترجعنا العلاقة إلى موضوع القيمة اللغوية التي ظهرت من خلال الحوار بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، ويُظهر الكاتب أيضا درجات الوعي بين الطرفين، والحالة التي يعرضها، مسارها التوليدي، أي أن هناك عدة نماذج متشابهة حدثت في مناطق عديدة، ونتيجتها السلب والقتل والتهجير لتكون نماذج علائقية بين الماضي والحاضر.

لقد كشف الكاتب عن عدة مناطق في رواية (عائد من حيفا)، وأهمّ تلك المناطق، عودة البرعم المتروك والذي تعوّد على طقوس مختلفة تماماً، وأستطيع القول إنّ الكاتب اتخذ من هذا المنظور رمزاً للكثير من الحالات والظواهر التي حدثت أيّام الغزو الصهيوني؛ لذلك فالماضي تمّ نسفه في الواقع، ونسف الماضي ليس برغبة من أصحاب الأرض، بقدر ما كان بقوّة المالك الجديد.

إنّ الأشياء تخرج من الداخل، فكلّ شيء من حولنا كان داخلياً، والآن أصبح لا قيمة له، نعم لأنّه الحداد الذي برقع المدن كلها، مدينة مدينة، وشجرة، شجرة، ويبقى رأس الفطنة والصراع اللذان بالفعل التقطا  الشخصية، ومن هنا نستطيع أن نكون مع عدة شخصيات، فالوارد الذي أمامنا وما ذكره الكاتب، ينقلنا إلى حوادث متشابهة، ومنها صورة الشهيد التي بقيت متآخية مع الجدار، لتصبح جزءاً منه، ومنها استطعنا أن نعرف العشرين سنة التي مضت، فهي معنى للطفولة وبمستقبل منسوف؛ ويبقى العالم الذي كان أجمل قبل الضياع بالرغم من بساطته، وإنّ الاحتجاج الذي نعيشه الآن أصبح أكثر قوة وملائمة، وذلك بسبب الضياع والتحولات النفسية، والفراق والأنين المدجّج، فإذا فقدنا وطناً، سنفقد أولاداً، ولا فرق هنا عندما يكون الموت خاصية ملعونة، وعندما تكون التحوّلات ذات ممارسة تربوية منحازة تماماً.

الدالة النصّية في المنظور الكنفاني

من أهمّ دالات النصّ التي رسمها الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، دالة المعنى؛ حيث انتمى إلى حالات فلاش باكية، وهي دالة الماضي وحضوره في القيمة الصغرى، وهي حالات تذكرية تمرّ على الأشخاص ومدى تذكرهم بالشوارع والأزقة. وتعدد الدالات في المعنى وظلال المعنى لدى الكاتب كثيرة، ولكن لو نتوقف أمام الدالة النفسية لكلّ شخصية اختارها المؤلف، فسوف نضع أصابعنا على النصّ والنصّ المختلف، ومدى تأثر فعل الإثارة على جميع الدالات المرسومة،

فقد وظف الكاتب اللغة النفسية وهو يشرّح للمتلقي ظاهرة الهجرة القسرية، بالرغم من كلّ ذلك، نلاحظ أنّ المرأة تعبّر عن ذلك، بالدموع، بينما لا تفارق الرجل السيجارة لكي يطفئ وضعه النفسي ويتحلى بالصبر، أو على أقلّ تقدير نظراته المعبّرة، فقد كانت لغة العيون تخبرنا بمدى تعلّق الفلسطيني ببيته وببيئته التي تركها قسراً.

تشكّل العتبات النصّية النماذج الدالة على النسق الكنفاني، بداية من العنونة التي دلّت على إحدى المدن الفلسطينية (حيفا) فلم يخف الكاتب منظوره المستهدف، بل أراد أن يكون الوضوح المباشر كعلامة دالة على المتن، وجعلها مظهراً ذا طبيعة مرجعية؛ وهي ظاهرة التقصّي والبحث بين الشخصيات التي مرّرها على المتلقي، وكلّ شخصية اعتبرها نسقاً دالا على ما يمتلكه، فقد عنون شخصياته من خلال العلامة السيميائية ذات الحمولة المكتنزة بالدلالات.

لقد استفز الكاتب متلقيه من خلال الحوارات التي حدثت بين المالك الأساسي وبين المالك المغتصِب؛ ومن هنا زرع التأمّل، فالغاية التي تواصل معها غاية حجاجية، وقد استطاع من خلال هذه النظرية (نظرية الحِجاج) أن يكون القارئ محرّضاً ومستمسكاً في بعض البيانات الأصلية، ولم يفارق التيقظ والتبصر والاعتصام والتمسك بالحكمة والفرق بين الأرض وبين النزيل بالقوّة. وإذا عددنا الدالات والأنساق، فسوف نتوقف عند نسق الأرض، ونسق الشعور، ونسق القناع (التخفي خلف أقنعة مستعارة)، ومن أهم الدالات أيضا، نسق المتكلّم (المحاوِر والمحاوَر) حيث أبرم الكاتب اتفاقاً بين هذه الأنساق لكي يتوصّل إلى نهاية مصيرها معلّق لانهاية لها طالما أن هناك قوّة تجبر الآخر على التخلّي والسكوت. (إن المتكلم "يمثل من النظرية البلاغية منـزلة مرموقة، فهو طرف أساسي في عملية الكلام وعنصر فعال في تحديد خصائص النصّ إذ على عاتقه تقع كلفة إخراجه على سمت يستجيب لمقتضيات الوظيفة والإبانة والمقام. - التفكير البلاغي عند العرب - ص:248). وهو الذي يشخّص الحركات الدلالية التي تنقلب عند النحوي إلى مفاهيم.

***

كتابة: علاء حمد – العراق

تتحقق بنية الحبكة في هذه القصة التي تحمل عنوان "تحديد الرمز الرئيسي" للكاتبة الكردية عصمت صوفي هي عنصر أساسي يشكل جوهر الحكاية ويجعلها مثيرة ومشوقة. يتم تقديم الأحداث بشكل متسلسل ومتدرج، حيث يبدأ التوتر ببطء ويتزايد تدريجياً مع تطور الحبكة. هذا التصاعد في التوتر يجعل القارئ يعيش معاناة بارفين ويتوقع بفضول ما ستواجهها فيما بعد. الكاتبة تقوم بإطلاق تلميحات ورموز تترك للقارئ مجالًا للتفكير والتوقعات، مما يجعل القصة تبقى مثيرة حتى النهاية. عصمت صوفي، هي كاتبة موهوبة ومخرجة أفلام وناشطة. وُلدت ونشأت في إقليم كردستان في إيران، وبعد عدة سنوات قضتها في الولايات المتحدة، انتقلت إلى العيش في النرويج. تميزت عصمت صوفي بأعمالها الأدبية والسينمائية التي حصلت على جوائز متعددة، مما يُظهر موهبتها وإبداعها في مجالات متعددة. باقتباسها للأحداث بأسلوب متقن وبنية حبكية تمتاز بالإثارة والتشويق، تنقل عصمت صوفي قرائها إلى عالم بارفين وتحدياتها. من خلال تقديم الشخصيات والصراع الرئيسي بشكل دقيق، تشد انتباه القارئ وتجعله يتطلع بفضول إلى مزيد من تطورات القصة ومعرفة مصير بارفين. تبرع الكاتبة بشكل استثنائي في استخدام قصتها للكشف عن تفاصيل العالم الذي يعيش فيه الشخصيات وكيفية عمله، وهذا يضيف بالتأكيد طبقة أخرى من الغموض والاهتمام للقصة. من خلال وصف البيئات والأماكن بعناية دقيقة وإظهار التفاصيل الدقيقة في حياة الشخصيات، يأخذ القارئ في رحلة استكشافية داخل عالم القصة القصيرة. يتميز هذا العالم بقواعده الفريدة والتي تؤثر بشكل مباشر على سلوك وتصرفات الشخصيات. تلك التفاصيل تسلط الضوء على التشدد والقسوة التي تعيشها بارفين وكيف يجب أن تتكيف مع هذا العالم القاسي. هذه الطبقة الإضافية من التفاصيل والغموض تجعل القصة أكثر عمقًا وتعقيدًا، وتجذب القارئ إلى الانغماس في هذا العالم الفريد والتفكير في مفرداته وتحدياته. الشخصيات في القصة تمثل جزءًا مهمًا من سحرها وجاذبيتها. بارفين كشخصية رئيسية تتميز بقوتها وعزيمتها في مواجهة النظام القائم، وهذا يعكس تصميمها على تحقيق الحرية والعدالة. يشعر القارئ بالتعاطف والتشجيع نحوها، حيث تجسد رمزًا للصمود والتحدي. من جهة أخرى، تظهر الشخصيات الأخرى في القصة بأبعاد متعددة، مما يضيف تعقيدًا إلى الحبكة. هذا التنوع في الشخصيات يثري الحكاية بأبعاد نفسية مختلفة ويضيف عمقًا إلى التفاعلات بينهم، مما يجعل القصة أكثر جاذبية وإثارة للاهتمام. الشخصيات الثانوية في القصة تلعب أدوارًا مهمة في إثراء العالم الذي تعيش فيه بارفين وفي تطور الحبكة. تتنوع هذه الشخصيات بشكل لافت، فمن الممكن العثور على العائلة المعقدة التي تتكون من الوالدين الشاحبين والأشقاء الشبان الذين يعبرون عن مشاعرهم بطرق مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر شخصيات ثانوية تمتلك أدوارًا مهمة في تصاعد التوتر وتطور الحبكة، مثل الحارس الذي يعرف بارفين ويحاول مساعدتها وصديقتها سهيلة التي تبدو وكأنها تخونها في النهاية. هذا التنوع في الشخصيات الثانوية يساهم في تعقيد الأحداث ويجعل القصة أكثر إثارة واهتمامًا، حيث يتفاعلون مع بارفين بطرق متنوعة ويكشفون عن جوانب مختلفة من شخصيتها والعالم الذي تعيش فيه. تعكس القصة موضوعات مهمة وعميقة تتعامل معها الشخصيات ببراعة، مما يضيف بعمق إلى عناصر الحبكة والشخصيات. تتناول القصة قضايا مثل الخيانة والتضحية والثورة ضد النظام القائم، مما يعكس التوترات والتحديات التي يمكن أن تواجه الأفراد الذين يسعون للتغيير في عالم يسوده القمع والاستبداد. يتم تسليط الضوء على الصراع الدائم بين الفرد والسلطة، وكيف يمكن للإرادة القوية والتصميم الشديد أن يلعبا دورًا حاسمًا في تحقيق التغيير والعدالة. تظهر بارفين كشخصية تجسد هذه القيم والمبادئ بشكل قوي، حيث تثبت قوتها وتحديها للنظام القائم، وهذا يلهم القارئ ويشجعه على التفكير في قضايا مماثلة في العالم الحقيقي. لغة وأسلوب الكاتبة في هذه القصة يشكلان عنصرًا مهمًا في إثراء تجربة القراءة وجعل القصة أكثر جاذبية. تتميز الكاتبة بلغتها الوصفية والجميلة، حيث تستخدم تصفيف الجمل ببراعة وتختار الكلمات بعناية لإيصال أحداث القصة بشكل مثالي. تُضفي هذه اللغة الجميلة جوًا من الغموض والتوتر على القصة، مما يبني توترًا متصاعدًا ويحتفظ بالقارئ في حالة من الاهتمام والترقب طوال القصة. الوصف المفصل للعالم والشخصيات يساعد في إيجاد صور حية في أذهان القراء، مما يعزز من تفاعلهم مع الأحداث والشخصيات. إن استخدام اللغة والأسلوب بشكل متقن يعزز من جاذبية القصة ويسهم في تعميق تأثيرها على القارئ. الاستخدام المميز للصرخات والهتافات في القصة يمثل أداة درامية قوية تعزز من التوتر والعاطفة في السرد. تظهر الصرخات والهتافات كتعبير عن الثورة الداخلية لدى الشخصية الرئيسية، بارفين، وتمثل وسيلة لها للتعبير عن رفضها للنظام القائم والقمع الذي يفرضه عليها. هذه الصرخات ترمز إلى الصراع الداخلي والتحدي الذي تواجهه بارفين وموقفها القوي في مواجهة الظروف القاسية. بالإضافة إلى ذلك، تعكس الصرخات والهتافات تفاني بارفين في السعي نحو الحرية والعدالة، وكيف يمكن للأفراد الأقوياء والمصممين تحقيق التغيير والمقاومة ضد القمع. يشكل هذا الاستخدام الدرامي للصوتيات أحد العناصر الرئيسية التي تساهم في نقل الرسالة العميقة للقصة وتعزيز معنى الصمود والتضحية من أجل الحرية والعدالة. تعتبر رسالة القصة حول قوة الإرادة البشرية والاستعداد للتضحية من أجل التغيير والحرية من أهم العناصر التي تلهم القراء وتشجعهم على التفكير في الصمود والمقاومة في وجه الظروف الصعبة. من خلال شخصية بارفين، نرى كيف يمكن للفرد أن يقف ضد النظام القائم ويصمد في وجه القمع عندما تكون لديه الإرادة والتصميم. تظهر بارفين كنموذج للتحفيز والتصميم الشديد للتغيير، حيث تتخذ خيارات تضحية تكون محورًا لتحقيق الحرية والعدالة. هذه الرسالة تلهم القراء للنظر في قوتهم الشخصية وقدرتهم على تحقيق التغيير الإيجابي في العالم من خلال الصمود والتصدي للمصاعب والظروف الصعبة. تعكس القصة أهمية الثبات على المبادئ والقيم الإنسانية في وجه القمع والظلم، وهي رسالة تستحق التأمل والتأمل. بشكل عام، تعتبر هذه القصة تحفيزًا قويًا للقراء لاستكشاف عوالم جديدة وأفكار معقدة. يتميز النص ببنية درامية ممتازة، حيث يتم تصاعد التوتر والإثارة بشكل طبيعي على مر الأحداث، مما يجعل القراء ينغمسون في عالم القصة بشغف وفضول. يستخدم الكاتب لغة جميلة ووصفية ببراعة، مما يساهم في إبراز التفاصيل المعقدة للعالم الذي تعيش فيه الشخصيات وكيفية عمله. تقدم الشخصيات في القصة تنوعًا كبيرًا وتعقيدًا، مما يضيف عمقًا إلى الحبكة ويثري العالم الذي تدور فيه الأحداث. بارفين كشخصية رئيسية تمثل رمزًا للقوة والتحدي، وتشعل حماس القراء لمتابعة مغامرتها. الشخصيات الثانوية تلعب أدوارًا مهمة في تطور الحبكة وتضيف توجهات مختلفة وأصواتًا فريدة للقصة. تعبر القصة عن مواضيع مهمة مثل الخيانة والتضحية والثورة ضد النظام القائم، وهي تسلط الضوء على الصراع بين الفرد والسلطة وكيف يمكن للإرادة القوية والتصميم الشديد تحقيق التغيير. توجه القصة رسالة قوية حول قوة الإرادة والتصميم في مواجهة القمع والظروف الصعبة، وهي رسالة تلهم القراء للنظر في قوتهم الشخصية وإمكانية تحقيق التغيير الإيجابي في العالم. اللغة والأسلوب المستخدمان في القصة يعززان من تأثيرها بشكل كبير، حيث تتميز الجمل بالوصف الدقيق واختيار الكلمات الفعالة التي تسلط الضوء على التفاصيل المهمة وتعزز من جوًا من الغموض والتوتر. الاستخدام المميز للصرخات والهتافات في النص يضيف لمسة درامية وعاطفية إلى القصة، مما يعزز من تفاعل القراء مع الأحداث والشخصيات. باختصار، تُعد هذه القصة إضافة قيمة للأدب، حيث تجمع بين عناصر أدبية متقنة ورسالة قوية تلهم القراء للتفكير بعمق في مختلف الجوانب الإنسانية والاجتماعية. تظل القصة مثيرة وجذابة طوال تطورها، وتترك في ذهن القارئ تأثير.

***

زكية خيرهم

ثنائية الوطن والحب والفرح المؤجل

بفيض من التلقائية، وببساطة متناهية وانسيابية وئيدة، تلج بنا الشاعرة غربة قنبر الى عوالم سخية بالمشاعر الحية والمعاناة المفعمة بتجليات الوطن الموجوع والحب الآفل، وتداعيات الغربة عبر نصوصها الشعرية المبثوثة بين دفتي مجموعتيها الصادرتين في القاهرة (رهن التحقيق الاول - 2022) و(لست إمرأة عابرة - 2022). في مسعى تعكس خلالها فاعلية نفسية مرهفة تستمد من الواقع رؤاها، ومن تجربتها الحياتية الغنية وسيلة للافصاح عن خلجات تؤرقها وتجسدها حروفاَ تقطر لوعة بأسلوب يتسم بالمباشرة والحزن في مسار لا يختلف كثيرا عن السمة الشائعة في أغلب النصوص الشعرية النسوية الحديثة في كركوك .

ورغم اللغة الواضحة والتناول الشفيف للمسائل المثارة في النصوص، فشاعرتنا تبسط مساحة واسعة من شعرها لثنائية الوطن والحب دون أن يفقد المحتوى نبضه الرومانسي المفعم بالخيال والعنفوان، والمقرون بلقاء مستحيل وفرح ضائع:

كلما فاح عطر ذكراك

أود أن أضيفك يوما

الى اليوم الثامن من الأسبوع

وفرحتك المؤجلة كمواسم الفرح في وطني

متى يعلن قدومها؟

متى تكسر قضبان سجني..

وأنعم كالعصافير بجناحين..

وريش مخضب بدم ساخن؟

فرحي أنت أحد أسبابه

تعطر ناصية أيامي .

وعتبة قلبي وشرفات عيني مزهوة بك

وحزنك في أعماقي كامن

فمتى ياترى أحظى بوصلك. أغداَ؟

ومن منا للغد ضامن؟

فتمر عجالة في دروب أمنياتي

وإناء صبري مكسور يبحث في ليل صدك

عن حجر آمن!

وليت الأمر يقتصر على الأمنيات، فالدروب مقفرة، وانفاس المارة ترصدها أعين الرقباء والعسس الذين يكمنون في الزوايا الخالية ويغتنمون الفرص لكبت الفرح المحال والذي لن يتبرعم على الشفاه الا بتغيير الأحوال:

أعيد ترتيب قدح الشاي

ومع أول قطعة جبن بنكهة ضحكتك

رأيت إعلان حظر التجوال

للقبض على كل من يتناول جبنا

أو حلوى بنكهة الضحك

أو يفرح في وطني دون تغيير الأحوال.

وتمضي غربة في مزج مدهش بين تطلعات القلب الملهوف لنبضة ودٍ من الحبيب وبين تطلعات الفقراء والمهمومين من أبناء الوطن بكلمات بسيطة في الظاهر، لكنها معبرة ونافذة ترقي بقدرتها على توظيف الصورة الشعرية للنص لكي يفيض بأحزان الناس اليومية ومظاهر١2 معاناتهم للظلم والتعسف:

خذ بقايا قلبي

ووزع القطع الاخيرة منه…

كي تكون حروفي في متناول الفقراء

على الواقفين في طوابير الخبز

والمتلهفين على الأحر من الجمر

لنبأ عودة أبنائهم من المنفى

على العشاق الحالمين بعش تجمعهم

خذ الجزء المعافى منه لأيتام بلادي

وامنحني النبضة الأولى …

حينما رأيتك!

ورغم قتامة السماء، فالشاعرة في لحظة آسرة تتخطى تداعيات حزن المواسم المرّة وتستعين بدفقها العاطفي فتلون بارقة الحب في حضرة العراق وتتحدث إليه بعذوبة العاشق موحية بأن الأمل المعطل سينحسر لتروي عطشها المقدس ببزوغ فجر الفرح من جديد:

تراب العراق في عطش

كي تلثم بحروفكَ جسده الطاهر

يحمل عبق أنفاسكِ المسجاة بالورد والرياحين

مطرزا بكلماتكِ الني أقترن بها إسمك.

وقصيدتك التي لم تكتمل

عن حبك الأبدي للعراق

تنتظر بزوغ شمس حرفك

قبل المآق .

رموز التأريخ الملهمة

وفي مسعىً لتعزيز بنية النص التجأت ض الى استدعاء الشخصيات التأريخية والتراثية كالنبي أيوب والحلاج وأبن المقفع باعتبارها وسيلة تعبيرية مهمة قاصدة بذلك تشكيل رؤيتها الشعرية وإثراء المضمون في محاولة لإضفاء سمات تقنية الاستدعاء لتحقيق بؤرة جذب للمتلقي وتكوين الصورة الشعرية التي تجسد مدلولات الصبر والاحتمال والألم المضني المتمثل بسير الشخصيات الثلاث التي تمثل أقسى درجات المكابدة وبالاخص انتقائها للفيلسوف عبدالله ابن المقفع الذي عذب بطريقة بشعة حيث ربطوه وبدأوا بتقطيع أجزاء من جسمه، ثم أرغموه على أكل لحمه ثم قطع أطرافه وصلبه وتركه الى صباح اليوم التالي وهو يبدي جلدا و صلابة واحتمالا يتجاوز قدرة الانسان وبهذا الإستذكار الرهيب تحقق الشاعرة الدفقة الشعرية ذات الطابع الدرامي الذي لون حركة النص ومثيراته الدلالية:

أدمنُ ليل الغربة بقنطار صبر

اغدو كأيوب النبي

ينزف جرحي الندي

اصرخ اين الحق

كالحلاج وابن المقفع؟

فبقطع أوصالي أزداد صبرا

ولن اجزع!!

من هذه السوداوية التي تؤطرالواقع المبهم والحالك تستعين غربة بالحلم للتهرب منها وتستلهم حركة يد الحبيب على الكتف في دالة مفعمة بالحنان وهي ذات يد الوالد التي ترمز للأمان، ولا شك أن هذا التناص بين اليدين تشكل طاقة فريدة في لغتها الشعرية والتي تضفي على النص ألقاً وجمالاً سلساً يشعر المتلقي بقرب كبير من النص و يضعه في دائرة المشاركة الوجدانية:

ويدك الرابضة على كتفي

جيش قادم من عهد ولى

يسترجع ايام مجده

حينما كان صبيا

ولم استفق من الحلم

الا حينما لمست يدك

وكانت حنونة مثل يد ابي!!

الا أن الحبيب يخيب ظن الحلم الغريد، ولا يقل قسوة عن الظروف الجاثمة على حبيبته، بل أنه يمضي في صده الى نحو غير متوقع رغم أرق الكلام وأجمل البوح:

كلما أضع رأسي على الوسادة

أثور على كل مؤامرات الاحلام

التي تحاول إقناعي

منذ الولادة

إن رؤيتك في الاحلام

طقس من طقوس العبادة.

و ...

أبعثر تويج الازهار

على دربك كي تعثر بها

ويمتلئ المكان بعطرك.

ولكن… .

كنت دوما أتوقع أن ينصفني حكمك

إلى أن أحيلت أوراقي

إلى دار إفتاء قلبك

فكان الحكم علي شنقا.

وفي خضم هذا البوح الصادم أحيانا والعذب أحيانا أخرى تجمع غربة نصوصها بين السلاسة وبين الوضوح القريب من السرد وبين الخيال الجامح الذي يكد لادراك عالم سحري مطلق لكن المحصلة في النهاية وطن موجوع وحبيبٌ غائب وأمانٌ مفقود!.

***

محمد حسين الداغستاني

 

القصّة

عندما كان الشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين (1790-1869) يستجمُّ في بحيرة (بورجيه) المعروفة بمياهها المعدنية خارج باريس لمعالجة مرض ألـمَّ به عام 1816، تعرف على فتاة جميلة اسمها جولييت شارل (سماها لآمارتين أوليفير في رواية كتبها.) جاءت للغرض ذاته، فكانت علاقة بينهما. وبعد انتهاء مدة الاستجمام، ذهب كُـلُّ منهما إلى سبيـله بعد أن تواعدا على اللقاء بعد سنة عند البحيرة ذاتها. وانقضى عام على الفراق، عاد لامارتين مرة ثانية إلى البحيرة، ولكنَّ جولييت لم تكن هناك، حيث اشتد بها المرض فماتت بعد بضعة أشهر نتيجة فشل جهاز التنفس، فكانت هذه القصيدة التي اشتهر بها لامارتين. 

هناك روايات عدّة فيها بعض الاختلاف ولكن الجوهر واحد.

ترجمتها

لمْ تحظ قصيدة رومانسيّة بشهرة عالمية كما حظِيَتْ قصيدة لامارتين (البحيرة) فقد ترجمت إلى العربية نثراً وشعراً ربّما عشرات المرّات. وكل ترجمة دلّتْ على مدى الدراية بموضوعها والإلمام بلغة المترجم عنها أو فهم ما قصده الشاعر والقدرة على سبك الترجمة لإبراز القصيدة بجمال وروح تجعل القارئ لا يشعر بأنّها مترجمة. وهذا يعتمد على مدى إمكانية المترجم تقمّصَ شخصيّة الشاعر أيضاً. وهنا يُجيز للمترجم أن يضيف كلمات أو جملاً غير موجودة في الأصل على ألّا يخل بروح الأصل أو يغيّر معنى القصيدة أو يحرّفها عن الأصل وبما لم يقله الشاعر، وبخاصة إذا كانت الترجمة شعراً موزوناً مقفّى. وعلى هذا الأساس جاءت ترجمات أحمد رامي، أحمد الصافي النجفي، عبد الحق فاضل وغيرهم لرباعيّات عمر الخيّام بصور مختلفة جداً، وحتّى جاء بعضها منحرفاً عن الأصل. ولكنها ، كلّها، سمّيت برباعيات الخيّام! وهكذا كانت ترجمة (البحيرة.) وهنا أذكر المقطع الأول والثاني من قصيدة (البحيرة) التي ترجمها هؤلاء كاملة وكل ترجمة تختلف عن الأخرى من حيث الحس والتفكير أو الأسلوب أو المطابقة مع الأصل.

French

Ainsi, toujours poussés vers denouveaux rivages,

Dans la nuit éternelle emportés sans retour,

Ne pourrons-nous jamais sur l’océan des âges

Jeter l’ancre un seul jour ?

**

Ô lac ! l’année à peine a fini sa carrière,

Et près des flots chéris qu’elle devait revoir,

Regarde ! je viens seul m’asseoir sur cette pierre

Où tu la vis s’asseoir !

English

Thus, always pushed towards new shores,

Into the eternal night carried away without return,

Will we never standing on the ocean of ages

Drop anchor for just one day?

**

Oh lake, the year has scarce run once more round its track,

And by these waves she had to see again,

Look! I have come alone to sit upon this rock

You saw her sitting on.

الترجمة

بهجت عباس

وهكذا تدفع بنا إلى الأمام في ظلام أبدي

نحو شواطئ جدد بلا عودة.

ألن نتمكن أبدًا على محيط العصور

من الرسوَّ على ميناء ولو ليوم واحد؟

**

يا بحيرة! بالكاد شارف العام نهايته،

وعند هذه الأمواج الحبيبة التي كانت ستراها مرة أخرى،

انظري! لقد جئت وحدي لأجلس على هذا الصخرة

التي رأيتِها جالسة عليها!

أحمد حسن الزيات

أهكذا قضى الله أن نمخر في عباب الحياة

مدفوعين في ظلام الأبد من شاطئ إلى شاطئ،

دون أن نملك الرجوع إلى ملجأ،

أو الرسو ذات يوم على مرفأ؟

 (ليس في الأصل شيء عن قضاء الله كما إنّ الترجمة ليست دقيقة)

**

انظري! أيتها البحيرة

ها هو ذا العام قد كاد يشارف تمامه،

وأنا وحدي بجانب أمواجك الحبيبة

أرتقب عبثًا عودة جوليا إليها،

جالسًا فوق الصخرة التي كنت ترينها جالسة عليها!

(العام شارف تماماً أي مضى، وليس كاد يشارف كما جاء في الترجمة. كما لم تأت في القصيدة جملة " أرتقب عبثاً عودة جوليا إليها")

**

ترجمة الدكتور محمد مندور

أنظل هكذا منساقين أبدا إلى شواطئ جديدة محمولين دائما وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟

أوما نستطيع أن نلقي بمرساتنا يوما على شاطئ الزمن اللجي!

**

أيتها البحيرة ! لم يكد العام يتم دورته ومع ذلك انظري

ها أنا وحدي جالساً فوق هذه الصخرة

التي رأيتها جالسة عليها

وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها

**

سعيد محمد الجندوبي

هكذا، يُلقى بنا دوما نحو سواحل جديدة،

وفي الليل الأزليّ نُؤخذ بدون رجعة،

فهل بمقدورنا يوما، على سطح محيط الدهور

إلقاء المرساة ولو ليوم؟

**

ألا يا بحيرة! ها هو الحول قد دار

وعند الأمواج الحبيبة التيّ كانت من جديد ستراها،

أُنظري! ها أنا اليوم جئتُ وحيدا، لأجلس على تلك الصّخرة

الّتي طالما رأيتِها جالسة عليها!

وهذه ترجمات عدّة للمقطعين المذكوريْن (الأول والثاني) شعراً مقفّى أترك التعليق عليها للقارئ الحاذق ليقارن بينها ومدى التصاق كلّ ترجمة منهن بالقصيدة الأصل، كما جاء في الترجمة النثرية لهذين المقطعين أعلاه)

علي محمود طه (مهندس)

ليت شعري أهكذا نحن نمضي

في عباب الى شواطئ غُمض

*

ونخوض الزمان في جُنح ليل

أبديّ يُضني النفوس وينضي

*

وضفاف الحياة ترمقها العين

فبعض يمر في إثر بعض

*

دون أن نملك الرجوع الى ما

فات منه ولا الرسوّ بأرض

*

حدّثي القلب يا بحيرة مالي

لا أرى (أولفير) فوق ضفافك

*

أوشك العام أن يمرّ وهذا

موعد للقاء في مصطافك

*

صخرة العهد ويك ها أنا عُدت

فماذا لديك عن أضيافك

*

عدت وحدي أرعى الضفاف بعين

سفكت دمعها الليالي السوافك

**

 ابراهيم ناجي (طبيب)

من شاطئ لشواطئ جُددِ

يرمي بنا ليلٌ من الأبدِ

*

ما مرّ منه مضى فلم يعد ِ

هيهات مرسى يومه لغدِ!

**

سنة مضت! وختامها حانا

والدهر فرّق شملنا أبدا

*

ناج البحيرة وحدك الآنا

واجلس بهذا الصخر منفردا!

***

بهجت عباس (صيدلي) 

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأيـاً عـنْ مراسيهـا

*

في ظلمـةٍ طوّقـتـنا غيرِ زائـلـةٍ

فلا صباحٌ يُـرَجّـى من حـواشيها

*

يجري بها البحر قُدْمـاً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يوم راح يُسديهـا

*

تمرّ حيرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنهّا لا ترى مرفـا فيُـؤويهـا

**

أيا بحيـرةُ هلاّ تنظرين إلى

عـَوْدي وحيـداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعلـّل النفسَ لا شيءٌ يُسلّيـهـا

*

كاانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموج يرقص مختـالاً حوالِـيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيهـا؟

***

نقولا فياض (طبيب لبناني)

أهكذا أبداً تمضي أمانينا

نطوي الحياة وليل الموت يطوينا

*

تجري بنا سفن الأعمار ماخرة

بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟

*

بحيرة الحب حياك الحيا فلكم

كانت مياهك بالنجوى تُحيينا!

*

قد كنت أرجو ختام العام يجمعنا

واليوم للدهر لا يرجى تلاقينا

*

فجئت أجلس وحدي حيثما أخذت

عني الحبيبة أي الحب تلقينا

***

 اشتهرت هذه القصيدة رغم التصرّف الكثير في ترجمتها، كما يرى القارئ،  وهي على غرار قصيدة ابن زيدون التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

***

عبد العزيز السيد مطر (أستاذ جامعي مصري)

يا إلهي! حرت في بحر الزمان!

هام فلكي في ظلام لا نهائي

*

لا أرى الشاطئ يدنو، أو أرى

أين أمضى، ما أمامي؟ ما ورائي؟

*

طالما ناديت، أرجو مرفأ

لسفيني، دون جدوى لندائي

**

جئت وحدي ها هنا مستلهما

حدثيني، هل توافي يا بحيرة؟

*

شارف العام تماما، فاشهدي

ما ألاقي من تباريح وحيره؟

وعلى هذا المنوال كانت بقية مقاطع القصيدة في كلّ الترجمات ولا استثناء!.

وهنا نلاحظ أنّ (روح) القصيدة الأصل موجود ولكن الهيكل مختلف. فكلّ مترجم (أضاف) كلمات أو جملاً ليست موجودة في الأصل، بل يكاد بعضها يكون بعيداً عنه. ولكن الدكتور أبراهيم ناجي أختزل الأصل بحذفه بعضه، فجاءت ترجمته مركّزة محوّرة. والنتيجة هي أنّ النقّاد أجمعوا على أنّ كلّ هذه الترجمات هي بحيرة لامارتين!

وهذه القصيدة كاملة حسب ترجمتي لها:

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأياً عنْ مراسيهـــــــا

*

فـــــي ظلمةٍ طوّقتنا غيرِ زائلةٍ

فلا صباحٌ يُرَجّى من حواشيها

*

يجري بها البحر قُدْماً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يومٍ راحَ يُسديهـــــــا

*

تَمرُّ حَيْرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنّها لا ترى مرفا فيُؤويها

*

أيا بحيرةُ هلاّ تنظرين إلــــــــى

عوْدي وحيداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعَلّلُ النَّفسَ لا شيءٌ يُسلّيهـــــــا

*

كانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموجُ يرقصُ مختالاً حَوالِيهــــــا

*

ويقذف الرّغوةَ النّعسى على قَدمَيْ

جوليا حُنوّاً فتشدو فـــــــي أغانيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيها؟

*

تذكـــــــــــري ليلةً والأنسُ يغمرُنا

ولا نرى غيرَ دنيا الحبِّ نَرويها

*

جرى بنا القاربُ السّهمان في مرح

تحت السّماء وفوق الماء ساريهـــا

*

وكلّ ما حولَنا صمتُ ولا صَخَبٌ

إلاّ المجاديفَ تشدو في مساعيها

*

لكنّ صوتاً لهُ سحـــــــــرٌ وهيمنةٌ

أصغتْ له النفسُ فانزاحتْ غواشيها:

*

يا أرضُ رِفْقاً بنا لا تُسرِعي أبداً

وطَوِّلي ليلةً رقَّتْ معانيهــــــــا

*

وأنتِ، أيتهــــا الساعات، لا تَثِبي

دعي الصّبابةَ ترعى منْ يُداريها

*

وخَلّيانا نعُبُّ الحبَّ في رغَــــــدٍ

وأسرعي مَعْ كئيب النفس داميها

*

وقصِّري ليلةً طالت على نَكِدٍ

مُسهَّدٍ راح بالأشجان يقضيها

*

لم يسمعِ الدهرُ صوتَ الحبِّ عن عَمَدٍ

إذْ يكرَهُ الحُبَّ والأزهارُ يُذويهـــــــا

*

فالصُبحُ قدْ هَتَكَ الليلَ البهيَّ بلا

عَطفٍ، ففارقتِ الأفراحُ راعيها

*

بحرُ الزمان ضنينٌ كله ضِغَنٌ

يمزق العمرَ والأيامُ يَطويها

*

إنَّ الزمان ليجري في تدفّقِهِ

وإنَّ أمواجَهُ لا رحمةٌ فيها

*

فلنَغْتَنِمْ فرصةً عَنّتْ على عجلٍ

مَنْ لمْ يُبادرْ إليها ليس يَجنيها

*

ولْنتْرعِ الكأسَ أفراحاً مُشَعْشِعةً

فإنَّ جَذوتَنا الأقدارُ تُطفيهــــــا

*

فليس للمرءِ مَرفا يستجيرُ بِهِ

وليس للنفس شُطآنٌ فتَحْميها

*

تجْري بنا لُججُ الأهوال مُسرعةً

نحو النِّهايةِ لا شيءٌ سيَثنيهــــا

*

فيا بحيرةُ يا ما ليلةٌ شهــــدتْ

حُبّاً تقضّى سريعاً في دياجيها

*

ويا صخوراً على الشَّاطي تداعبُها

الأمْواجُ في جذلٍ والماءُ يُرويها

*

وأنتِ يا غابةً سوداءَ مُظلمةً

تُجدّد العمرَ دوماً في مراعيها

*

لكُمْ خلودٌ فلا دهرٌ يُحطِّمُكمْ

ولا الرياحُ أو النَّسْماتُ يفْنيها

*

تذكّروا اْثْنيْنِ عاشا في ربوعِكِمُ

تساقَيا الحُب صَفْواً في أعاليها

***

- على سبيل التقديم:

إن السردَ فعلٌ إنسانيٌّ محضٌ اختص به الإنسانُ دون الكائنات الحية الأخرى، وبذلك استحق أن يكون كائنا ناطقا ساردا بامتياز. فالسرد موجود في كل مكان وزمان، كما أشار رولان بارت، ومن ثم، يعد مكونا حضاريا وأداة لإنتاج المعرفة في صور من صورها المتعددة؛ أي أنه فعل بناء إنساني ما دام هذا الأخير يتوسل اللغوي، وغير اللغوي، لتأثيث الكون أولا، وللتعبير عن مكنونات نفسه الباطنية ثانيا، وعن همومه وآماله وطموحاته ومخاوفه وأهواله ثالثا؛ إنه الفعل الذي بموجبه يعبر الإنسان عن كينونته الوجودية، ويشكلها ويخلقها سواء أكان الخلق شفاهة أم كتابة.

ولئن نحن أردنا أن نقدم تعريفا للسرد، فلا بد أن نقول إن السرد أو "القص فن قديم قدم الإنسان، وليس فنا مستحدثا كما ألفنا أن نقرأ. وارتباط القص بالإنسان منذ القدم يعد ضرورة لنمو فكره وتطوره، فالقص ينشأ من جهاز معرفي لدى الإنسان هو بمثابة مركز التقاء بين داخله وخارجه"(1). أما التعريف المدرسي المبسط لهذا الفعل الإنساني المعرفي، فإنه لا يعدو كونه "نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة لغوية"(2).

وهكذا، يتربع السرد على قمة الوجود الإنساني؛ إذ يتوسله الإنسان بغية مشاركة رؤيته للوجود، ويتفنن، من خلاله، في تشكيلها في أي قالب قصصي شاء؛ ذلك "أن الاستعداد القصصي خاصية إنسانية يشترك فيها جميع الناس"(3)، بيد أن هذا الاستعداد لا يعني أن طرق وأساليب السرد لدى الإنسان متشابهة، وإنما تختلف هذه الكفاءة السردية من شخص لآخر. ولئن نحن أخذنا كاتب القصة مثلا، فإنه "يختلف عن كل إنسان في أنه ينظر إلى الأشياء الواقعة نظرة خاصة. فهو لا يقف منها عند السطح، ولكنه يتعمقها ويفرز عليها من أفكاره وخياله، ويجعل لها تكوينا آخر وفلسفة أخرى، ثم هو يختزن كل ذلك في نفسه ليستغله في يوم من الأيام"(4).

وفي هذا المساق، نشير إلى أننا سنحصر حديثنا في نوع قصصي محدد: القصة القصيرة، ومرد ذلك إلى كون الفن القصصي يضم أنواعا قصصية متعددة: "الرواية، القصة، القصة القصيرة، الأقصوصة"(5).

1- القصة القصيرة:

في البدء، نشير إلى أن كل عمل قصصي، مهما كان نوعه "لا يستوي حتى تتوافر له عناصر بذاتها. فهناك حوادث وأفعال تقع لأناس أو تحدث منهم: وبذلك يوجد العنصر الثاني وهو عنصر الشخصية. ووقوع الحادثة لا بد أن يكون في مكان وزمان، وهذا هو العنصر الثالث. ثم هناك الأسلوب الذي تسرد به الحادثة، والحديث الذي يقع بين الشخصيات. والعنصر الأخير هو الفكرة أو وجهة النظر"(6).

لقد قدمت للقصة القصيرة تعريفات وتحديدات متعددة، تتفق كلها في عناصر بنائية وفنية محددة، وتختلف في عناصر أخرى حسب الرؤية والمرجعية المعرفية التي يصدر عنها النقاد والمنظرون لهذا الفن القصصي. فعز الدين إسماعيل يحددها على الشكل الآتي بعدما فرغ من تحديد القصة؛ لأنه يقيم تمييزا بين كل من القصة والقصة القصيرة والرواية: "وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجا"(7)، ويعزو ذلك إلى كونها "أغرت كثيرا من الشبان بكتابتها رغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص"(8) فضلا عن كون عصرنا قد تميز "بالآلية والسرعة، ومئات الصحف والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص"(9).

ومن ثم، فإن التعريف أعلاه، يصدر في تحديده للقصة القصيرة عن فعل تلقيها الذي يرده إلى طبيعتها من جهة، وإلى الطلب المتزايد الذي تقدمه المجلات والصحف والإذاعة إلى كتاب القصة القصيرة. بيد أن وجود "ربما" في التعريف، يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل تعد القصة القصيرة أكثر رواجا في القرن العشرين؟ وما المعيار الذي توسله الناقد ليصدر هذا الحكم؟ ويعزى سؤالنا إلى كون آراء نقدية وتنظيرية كثيرة تجعل من الرواية الجنس الفني الأدبي الذي بات يتربع على عرش الأجناس الأدبية منذ القرن التاسع عشر.

ويعرفها شارلز ماي (charles May) قائلا: "إنني أتفق مع بوريس إيخنباوم في أن القصة القصيرة شكل أساسي وأولي. بل إنني أشير إلى أنها شكل له صلة وثيقة بالسرد البدائي، الذي يجسد التصور الأسطوري ويلخصه، والذي يكون من سماته التكثيف لا التوسيع، والتركيز لا التشتت"(10). ولئن كان التعريف الأول يركز على الأسباب التي أدت إلى ظهور القصة القصيرة، ومن ثم رواجها وإقبال الصحف والمجلات عليها، فإن تعريف شارلز يحاول أن يؤصل لهذا الجنس الأدبي، وذلك من خلال العودة إلى الأشكال البدائية التي يرى أن القصة القصيرة تطورت عنها، لذلك يجعل لها صلة وثيقة بالسرد البدائي في صورته الأسطورية، وسنجد له تعريفا آخر يضيف "الرومانس" بحسبانه مهدا وأصلا من أصول القصة القصيرة؛ حيث يذهب إلى القول: "إن القصة القصيرة- في رأيي، وكما يؤكد فراي بالنسبة لشكل الرومانس- هي الجوهر البنائي لكل قص، وذلك في أخذها عن الحكاية الشعبية والأسطورة"(11). وفي سياق آخر، يضيف قائلا: "ومع ذلك فإن للقصة القصيرة في الغالب مبدعا موحدا، وحيث إنها نشأت منذ بداياتها في حضن الدوريات، فقد ظهرت غالبا مفردة، حتى وإن كان نشرها في شكل كتاب هو ضمانة بقائها النهائية"(12). فهو، من خلال تعريفاته التي أوردناها، يسعى إلى التأصيل للقصة القصيرة مقدما بعض خصائصها، ومن جهة أخرى، تشير تعريفاته إلى أن هنالك تقابلا مضمرا بين الرواية والقصة القصيرة، كان حاضرا في ذهنه أثناء تحديد خصائص هذه الأخيرة.

ورغم التعريفات والتحديدات المتعددة، تظل القصة القصيرة نصا أدبيا "يتعامل مع الوجدان، وتتم صياغته بحيث يصبح مؤهلا لإنتاج المتعة والمعرفة الإنسانية"(13).

2- خصائص القصة القصيرة:

إن لكل جنس أدبي خصائصَ ومميزاتٍ تُميزه عن الأجناس الأدبية الأخرى، بيد أن فكرة وجود جنس أدبي خالص كانت وما تزال محط نقاش وجدل بين النقاد والمنظرين، ومرد الأمر إلى التداخل الذي يكون بين الأجناس من حيث المقوماتُ البنائيةُ والفنيةُ. وهكذا، يمكن القول إن أهم ما يميز القصة القصيرة هو كونها لا تستخدم "التفاصيل بشكل خارجي تماما، وبطريقة ثابتة في الزمان والمكان (ولكنها) لا تستغل إلا تلك التفاصيل الضرورية والنافعة للقصة. ويبدو التقدم فيها وكأنه متجه إلى هدف وحيد. وعلاوة على ذلك، فهي أكثر ارتباطا بصيغة الرومانس منها بالصيغة الواقعية"(14). فهي، حسب هذا التصور، لا تفرط في سرد التفاصيل والجزئيات، وإنما تنخل وتصطفي منها ما يعد ضروريا لبناء الحبكة الفنية باعتبارها "من المفهومات الشائعة لها شيء يضاف إلى السرد ليجعل من الأشياء المسرودة بناء متماسك الأجزاء، يؤدي هدفا واحدا"(15).

أ- التكثيف، ووحدة الانطباع:

إن كاتب القصة القصيرة يجنح غالبا إلى التركيز والاختزال، ذلك أنه، وكما أشرنا سابقا، يركز على الضروري والمهم في الوقائع والأحداث اليومية، وبذلك تكون القصة القصيرة لقطة أو ومضة من الحياة الإنسانية، يسلط، من خلالها، القاص الضوء على جانب من جوانب الكائن الإنساني، ولعل هذا ما "يجعل صفة التركيز أساسية في القصة القصيرة، فهي أساسية في الموضوع، وفي الحادثة وطريقة سردها، أو في الموقف وطريقة تصويره، أي في لغتها"(16).

وإلى جانب التركيز، نلفي في القصة القصيرة نزوعا نحو "وحدة الانطباع" كما ذهب إدغار آلان بو؛ ذلك أن الأحداث والشخوص والزمان والمكان والفكرة، كلها عناصر ومكونات تتضافر وتتشاكل فيما بينها لتحقق وحدة الأثر لدى القارئ. فحتى وإن تعددت المشاعر والأحاسيس داخل القصة القصيرة، فإنها تصدر عن موقف واحد يسعى نحو هدف واحد، ومن ثم تحقق القصة القصيرة وحدتها وتماسكها فنيا وجماليا ودلاليا.

بيد أننا نود أن نطرح بعض التساؤلات حول وحدة الانطباع، ومدى صمودها حينما ننتقل من القصة القصيرة المفردة إلى مجموعة قصصية تضم قصصا متعددة: هل تفقد القصة المتفردة وحدتها الشكلية داخل سياق كلي لمتوالية قصصية؟ وهل تحافظ على السمة المميزة لها، وهي وحدة الأثر/ الانطباع، في ظل تجاورها مع قصص أخرى للكاتب نفسه؟

وفي هذا السياق، نورد تصورا لشارلز ماي يذهب فيه إلى "أن القصص في مجموعة واحدة- رغم وجودها بين دفتي نفس الكتاب- تدعونا إلى النظر إليها مفردة، لأن كل قصة تمنحنا إحساسا بأنها مغلقة"(17)، ويرجع هذا الانغلاق والتماسك إلى أن " متوالية القصة القصيرة، وهي تنبني في غياب الهيكل السردي الصلب للرواية، تعتمد على تنوع الإستراتيجيات النصية لكي تصل إلى الوحدة والتماسك"(18). لكننا نتساءل: كيف تحقق المتوالية القصصية وحدتها وتماسكها؟ ما التقنيات والأدوات التي تربط بينها أثناء فعلي الإبداع والقراءة؟؛ ذلك أن المتوالية القصصية تضم قصصا متعددة، وهذا المجموع يتضافر ليقدم وحدة شكلية ودلالية متماسكة، باعتماد مجموعة من الأدوات يحددها شارلز ماي في" أدوات تقنية بسيطة من قبيل العنوان، والتقديم، والقول المأثور، وقصص الإطار، بالإضافة إلى أدوات أكثر عضوية مثل الرواة المشتركين، والشخصيات المشتركة، والصور والمواضع والتيمات"(19).

هكذا، يدفع شارلز ماي إلى الاهتمام بالمجموعة القصصية في كليتها، ومن ثم، سيكون الاهتمام منصبا على إسهام كل قصة منفردة في تشكيل وبناء الدلالة الكلية للمجموعة، كما أن كل قصة قصيرة ستسهم في الربط بين القصص، وفي توليد المعنى وتكوثره ليصب في نهر واحد يحدده القاص قبل وأثناء عملية الإبداع، ويعضده أو يرفضه القارئ أثناء فعل القراءة، ومرد الأمر إلى كون "قصص الكاتب قد تتخذ بين يديه حكاية جديدة، وتكشف عن معان جديدة، له هو نفسه، ولقرائه في نفس الوقت، حين يتم جمعها في مجلد واحد"(20). فهل تكون القصة القصيرة، حسب هذا التصور، جنسا يأبى التقيد ويسعى إلى التوسع كما الرواية؟ وهل تكون الرواية قد ضاقت ذرعا من التوسع، ومن ثم تتوخى العودة إلى التقيد من خلال تقسيمها إلى فصول؟

إن وحدة الانطباع التي تميز القصة القصيرة، تغدو محط مفارقة يعرضها شارلز ماي في قوله: "وعلى خلاف ما يحدث في فصل من رواية- نقرؤه ونحن نتوقع ما يأتي بعده، ونحاول أن ندمجه في الكلية الجمالية للعمل- تظل القصة القصيرة داخل المتوالية تشير إلى كمالها الشكلي، حتى في الوقت الذي ندرك فيه تكرارية النموذج والتيمة وتطورها"(21) ، ومن ثم، تزداد المفارقة وضوحا حينما ندرك أن " السمة المميزة للقصة القصيرة- وحدة الأثر التي يفترض أنها تميزها كنوع- تساعد على جعل كل قصة أكثر انفتاحا على ما هو أبعد من دلالتها المفردة، وأكثر انفتاحا على الدلالات المتشعبة التي يستدعيها سياق القصص المترابطة"(22).

ب- الوحدة الزمنية والمكانية:

إن سمة التركيز والتكثيف لا تطال عنصر الأحداث والوقائع، ووحدة الانطباع فحسب، وإنما تؤثر على عنصر: الزمن والمكان والشخصية أيضا. أما الزمن، فإنه لا يعرض في القصة القصيرة في صورته التطورية، وفي ارتباطه بالوجود الإنساني في عموميته، وإنما نلفي كاتب القصة القصيرة يلتقط لحظات وومضات زمنية تبدو جزئية، ولكنها محملة بحمولات نفسية تبرز حالة الكينونة في لحظة زمنية مكثفة، تكون قمينة بأن تغطي مسيرة زمنية طويلة بتلويناتها وخصوصياتها. وهكذا، يحق لكاتب القصة القصيرة أن يتنقل "في الزمن كيف شاء، وليجتز الشهور والسنين، ولكن الذي يجعل عمله قصة قصيرة- رغم ذلك- هو الوحدة الزمنية التي تتمثل في القصة"(23)، ذلك أن القاص يقدم للقارئ تجارب ومعلومات كثيرة في إطار وحدة زمنية مكثفة ومركزة. والشيء نفسه ينسحب عن المكان؛ لأن القاص، وبحكم طبيعة الإطار الذي تنتظم داخله عناصر قصته، ليس بمقدوره أن يتجول في أمكنة متعددة كما هو الشأن في الرواية، بيد أن هذا لا يعني أن القصة القصيرة لا يمكن أن تضم أماكن متنوعة، وإنما آية الأمر أنه يكون محاصرا بكم المؤثرات والإفرازات التي يتركها كل مكان في مجرى الأحداث وفي تحديد دلالاتها وخصوصياتها، فكل مكان يأتي محملا بتجارب الشخصية وأثرها فيه وتأثرها به؛ أي في فعلها وانفعالها في المكان والفضاء عموما. ومن ثم، يغدو القاص مطالبا بتكثيف وترميز أمكنته حتى يتمكن من القبض على خصوصياتها في علاقتها بوقائع قصته وشخصيتها وزمانها، وبالتالي يسهم في تحقيق وحدة الانطباع.

ج- الشخصية:

إن تعدد الشخصيات والأحداث والأصوات والمعاني، يعد خاصية من خصائص الرواية حتى وإن كانت باقي الأجناس الأدبية تشاركها في البعض؛ إنها "نسق فسيفسائي وثيق الارتباط بالواقع في كل حركاته الموروثة والجارية، وبالذهن والشعور والخيال والرمز ضمن أبعاد دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية، تخوض سبلا مختلفة عن المألوف في خلق حياة حقيقية غير فانية، لتجاوز تلك القناعات القاتلة"(24). فكون الرواية "تسهم في تشخيص المتشابك وتوسيع المتخيل الاجتماعي (...) ذلك أن أسئلتها نابعة من تفاصيل المعيش ومما يندمج في ثنايا الصيرورة ورحلة الذات المتحولة"(25)، يدفع بها إلى الانفتاح على تعدد الشخوص، والقوى الفاعلة عموما، في بناء أحداثها وتحقيق كفاءتها الفنية الجمالية والدلالية. كما أن "الرواية بطبيعتها نوع غير منته، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد، وهي بالنسبة لباختين "النوع المعبر عن الصيرورة"(26). لكن القصة القصيرة، بإطارها المحدد، لا يمكنها أن تستوعب قدرا كبيرا من الشخوص، لذلك نلفيها تؤْثر "أقل عدد ممكن من الشخصيات، خلافا للقصة والرواية، حيث يكثر الأشخاص"(27).

3- بين القصة القصيرة والرواية:

تعدُّ القصةُ القصيرةُ شكلا فنيا يتميز ب"قصره وصغر حجمه؛ إذ يعد فنا متصفا بخاصية التكثيف (فالقصة) تلتقط وتكثف وتوجز وتضمر ولا تعلن، بما أنها تتميز ببعدها اللحظوي الجزئي، وليس الكلي"(28).

إن بين القصة القصيرة والرواية اختلافات نوعية كثيرة، وسنجملها في ما قدمته لبيبة خمار في كتابها "النص المترابط"(29)، ويعزى هذا الاختيار إلى كون الباحثة قد قدمت قائمة من الخصائص النوعية التي تميز بين الجنسين من حيث الشكلُ الفني، والجماليُّ، والموضوعاتي، فضلا عن خصائص نسبية في العدد والطول والقصر من جهة، ولكون أي حديث حول القصة القصيرة قد لا يستقيم إن لم نستحضر نظرية الرواية، وذلك لأسباب عديدة تختلف من منظر لآخر.

الرواية - القصة القصيرة

- طويلة وفضفاضة (مدفع بعيار كبير، وطويل المدى)

* قصيرة (بندقية تصوب على أهداف محددة، كالومضة، أو الحفنة، أو قصة تقرأ في ساعة، أو دقيقة...)

- مجموعة من الأحداث المتشابكة والمختلفة (الضوء القوي)

* لحظة، أو لقطة واحدة وهدف واحد تسخر كل عناصر وتمفصلات النص لوصوله، وهذا ما يسمى بوحدة الأثر حسب "إدجار آلان بو". وقد تكون هناك قصص بآثار متعددة. لكنها تظل رغم ذلك كحزمة ضوء.

- الحرص على تواجد الكثير من الفواعل أو الأبطال قصد تقديم صورة مصغرة عن التركيبة المجتمعية (مدينة مأهولة بالناس).

* وجود بطل أو اثنين يعيشان الأزمة (منزل صغير به شخص أو أكثر) وقد يكون البطل فكرة، شيئا، حلما، أو هوسا...

- قد تهتم الرواية بلحظة التنوير

* بنيتها هي بنية الكشف لاهتمامها بلحظة الإضاءة أو التنوير (كشف حقائق إنسانية، نفسية، واجتماعية..) وإن كانت بعض القصص لا تهتم بهذه اللحظة.

- ترقب القارئ فيها متتال وبعيد زمنيا.

* الترقب فيها لحظي يخص واقعة بعينها، وهدف واحد.

- الاهتمام فيها ينصب على ملامح الشخصيات وحالتهم النفسية وعوالمهم الداخلية.

* الاهتمام فيها ينصب على موقف الشخصية.

- أزمات وانفراجات متعددة ومختلفة.

* أزمة واحدة وانفراج، وحل. وقد يكون هناك رصد للأزمة دون تقديم أي حل كنوع من النهايات المفتوحة أو المعلقة.

- بناء مفتوح غير مكتمل يرصد مصائر الشخصيات

* بناء مغلق، ومكتمل يرصد موقف الشخصية، ومصيرها في لحظة متقطعة زمنيا ومكثفة. لكن هذا الانغلاق مسألة نسبية حيث نجد قصصا منفتحة وغير مكتملة. ويتم في الغالب التنويع في معمارية القصص التي يضمها العمل الواحد.

- عدم ظهور آثار البنية (لا تهتم بالبداية ولا النهاية قدر اهتمامها بالوسط وطريقة نمو الحدث وتتبع الشخصيات حسب إيخنباوم).

* الاهتمام بالاستهلال والقفلة أو الخاتمة؛ حيث تظهر آثار البنية. ولا يتم الانزياح عن هذه التقنية إلا في بعض الإبداعات التجريبية.

- العناية بالتفاصيل، والعمل على إبطاء الحدث، ووصل العناصر المتقابلة، والمراحل الزمنية المختلفة.

* الاعتماد على التركيز، والاقتصاد، والاقتضاب.

- نهوضها على كل أشكال التناص.

* اعتمادها التناص والتضمين.

- جنس هجين، ومختلط. بالإضافة إلى الهجنة على المستوى اللغوي؛ حيث يلتقي الفصيح بالعامي أو الدارج.

* الهجنة الأجناسية واللغوية.

***

..................................

- الإحالات والهوامش:

(1) نبيلة إبراهيم: فن القص في النظرية والتطبيق، سلسلة الدراسات النقدية، مكتبة غريب، ص3.

(2) عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط1: 1976م، ص187.

(3) نفسه ص180

(4) نفسه ص180

(5) نفسه ص 199

(6) نفسه ص 184

(7) نفسه 205

(8) نفسه 205

(9) نفسه 205

(10) نقلا عن خيري دومة: القصة الرواية المؤلف، دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1: 1997، ص 80

(11) نفسه صص 80-81.

(12) نفسه ص90

(13) فؤاد قنديل: فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1: يونيو 2002، ص 7.

(14) خيري دومة ص 80.

(15) عز الدين إسماعيل، صص 185-186

(16) نفسه ص 203

(17) خيري دومة، ص94.

(18) نفسه ص 90.

(19) نفسه ص 90.

(20) نفسه ص 98.

(21) نفسه ص 101

(22) نفسه ص 102.

(23) عز الدين إسماعيل ص 202

(24) شعيب حليفي: ثقافة النص الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط1: 2016، ص 6.

(25) محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، شركة الرابطة، ط1: 1996، ص9.

(26) خيري دومة، ص 12.

(27) عز الدين إسماعيل ص202.

(28) وفاء مليح: الكتابة بالضمير الأنثوي في السرد المغربي الحديث، ط1: 2022، دار الأمان للنشر والتوزيع الرباط.

(29) لبيبة خمار: النص المترابط، فن الكتابة الرقمية وآفاق التلقي، دار رؤيا، ط 1: 2018 ص: 94-95-96-97.

محمد رشيد نسري شاعر كوردي يزاوج الطبيعة دوما في قصائده، فكل جزيئة من جزيئات المناظر الخلابة في بلدته لها انعكاساتها ووقعها الخاص في أناه، فهي مرآة عاكسة لِما في روحه الشاعرة، وكاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها .

إنها مرآة واقعه، للماضي التالد، والحاضر الراهن الحالي، واستشراف الغد المستقبلي الآتي. وتحاول مخيلته أن تصنع منها صور شعرية بانورامية جميلة تدغدغ مشاعر المتلقي، لأن الطبيعة لديه ليست صورة صامتة بل هي حركة تفاعلية مع نظرته تجاه نفسه والآخر . لذا تراه دوما يستدعي الآخر من خلال ما تعكسه الطبيعة في أناه وتصنع منها خطابه المستقبلي .

والمتخيل الشعري لديه ليس وليد تبئير الرؤى في الطبيعة الصامتة فحسب، بل هو إنتاج لانعكاسات هذه الرؤية في جهازه المتخيلي كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل كي يكتسب دلالات جديدة .

في قصيدته المنشورة في صفحته يوم 23/10/2023 (هلو ڕابە  - أستفق) يخاطب الشاعر أبناء شعبه كي يستفيقوا من كسلهم وحيث العالم المتحضر غزا الفضاء وهم لا يزالوا أسير فراشهم:

خەلک فـڕی چو عەســمانی

هێشتا تو یێ دناڤ گالێ ڕا

دێ هلو زی ژخــەوێ ڕابــە

ســەحکە کـــریـار وحـنـێـرا

الآخرون طاروا وغزوا الفضاء

وأنت لا زلت تتقمط فراشك

انهض واستفق من نومك

وانظر الى الأعمال الجادة والبطولات

وفي قصيدته الجميلة (دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە – أيها الديك أستفق إنه الصباح) يستدعي تراث قريته المرتبط بصياح الديك والذي يعني بزوغ الفجر ليحث الآخر الذي هو أبناء شعبه كي يستفيق من سباته العميق ويجعل من أحلامه حقيقة، فمثلما يدغدغ صياح الديك في الفجر، فلاح قريته كي يذهب الى الحقل هكذا يستدعي الشاعر أبناء شعبه للعمل من أجل خلاص نفسه . نص كهذا يحمل مفهومه النصي من إيحاءات نفسية مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك صداها على نفسية المتلقِّي  فيقول:

دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە

ڕاکــە خــەلکــێ نـڤســـتی

بو یێ بێ پێژنە ئەڤ شارە

ئەگەر چیە خاڤی وسستی

بیانـی بــو خــو هشـــیارە

هێشتا مە ڕیس نەڕســتی

تـــو گازی بـکە جــــوتـیـارا

سپێدەیە وەختێ جــوتـــی

أيها الديك استفق لقد حان الصباح

نادي للنيامى أن يستفبقوا

فالمدينة قد أكتنفها السكوت

ما الذي دفعك تتقمط الضعف

والاجنبي يعي مصالحه

ونحن لا زلنا ننتظر الغزل والنسج

نادي للفلاح أن يستفيق

إنه الصباح وقت الفلاحة

تراه في قصيدته هذه يجعلك تعيش القرية لتستأصل منها العبر، فإذا لا تزاوج الديك الذي هو صورة معكوسة لضميرك لا يمكنك بناء وطنك، ثم يعود وينادي الراعي (القائد) ليستفيق هو الآخر من سباته العميق، والامام لينادي من أعلى المنابر ... الشاعر لا يزال في مرحلة النظال ولا يزال يرى الأمل في كل مظاهر الطبيعة لذا علينا عدم الاستسلام لما قال وقيل فتراه يخاطب الديك ليفق الراعي هو الآخر من نومه  :

شڤانی ژ خــەو هشیارکـە

دا پـەزی بـەردەت چـــەرێ

مەخەل و هەوشـیا دیارکـە

فـەرە ســـپێدێ بـــدەیە ڕێ

بەربەســــتا ژ ڕێـکـێ ڕاکـە

أفق الراعي من نومه

ليدع خرافه تمرح في الحقول

دع وسعة الصباح  يفرش على الطريق

وأزح الحجارة والصخور من الطريق

يحاول الشاعر في ترانيم هذه المُدوِّنة الشعرية الجميلة الغور جليَّاً في طيَّات تمظهراتها الشعرية البارزة واستنطاق صورها في شعر نحاول في قراءتنا هذه إبراز الرؤية الذهنية للشاعر داخل التعالق الذي رسمته القرية في ذاكرته من خلال البناء المشهدي وقصدية التعبير على  المستويين التاريخي والحاضر، النضالي والجمالي من خلال سرده لمشاهد صياح الديك وأرتباطه بالنضال وبأفعال من أجل تحقيق الذات، متكئاً على ثلاثة مكونات تتشكل من خلالها الأحداث وهي "الشخوص (الديك، الفلاح، الراعي، إمام المسجد )، والفضاء الزمكاني (القرية في الماضي) والحوار.

وفي قصيدته (ئوبونتو) المنشورة في صفحته يوم 11/2/2023  يستنبط العبر من توظيفه لتراث فلسفي أفريقي مستخلصا أن الخلاص لا يكون إلا من خلال التكاتف وبذل المزيد بدلا من أن يعاتب حظه كونه وحبيبته لم يحققا ما يرومون الوصول اليه . ومع هذا نجده في قصيدته (ژدەنگێ تە  - من وقع صوتك) يحقن شعبه بالامل فبصرخه واحدة بين جباله الشاهقة ترى العشرات من أعداءه تسقط من شدة صداها، فالحزن الذي يتراءى في أعين شعبه يتراءى له بارقة النجاح:

ژ دەنگێ تە هەسار کەفتن

پێر و ترازی بشەڕکەفتن

ڕوندک ژ چاڤا هاتنە خارێ

ئاخینگ ژ ناخێ من دەرکەفتن

من صدى صوتك سقطت المجرات من السماء

ومجاميعها تتصارعان

وعيناي تذرفان دمعاً

وأنفي يخر دما

تُشكّل الذَّات عصبَ الغنائية في محور قصائده لذا تراه ينصهر وذاته في معالم الطبيعة وانعكاساتها فتتحول الى الأثر الأدبي الذي يتكلم فيه الشاعر بمفرده، ولذلك فإنّ الذي يتكلم في شعره الغنائي إنّما هي ذاته الّتي ترتبط بـمفردات واقعية ملموسة لذا ترى واقعه الملفوظ ينشدّك إلى تلفُّظ موسيقى أنينه وشجاه.

وفي قصيدته (هندەکێت هەیــن – بعضهم) يستخدم التكرار للمفردة (هندەکێت هەیــن – بعضهم) كي يصف أبناء شعبه ما لهم وما عليهم لذا تره يستخدمها في بداية كل بيت كي يزاوج أيقاعها مع انعكاس مضمونها من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري فهو يُضفي على هذه التَّكرارات الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي ومن آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة التي يعيشها الشاعر ويواجهها في حياته الشخصية  سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه السياسي الراهن الحاضر.

إلا أن الشاعر من فرط حبه للطبيعة يزاوج بينها وبين جمال الأنثى فحين تطل ينشرح الربيع ويمد يديه ليعانق الكون وكأن تموز قد عاد وعاد معه الخصب (في اسطورة نزول عشتار الى العالم السفلي) .

فالإحساس بالجمال، والوعي الجمالي بالأشياء هو ما يمنح الشعرية خصوصيتها الفنية ومداركها الشعورية العميقة فكل شئ فى اللوحة الشعرية يخضع لمعايير التناغم واللحن والإيقاع لمعنى حب الحياة المفعمة بالتناغم وبالأحاسيس المشرقة، الخالية من التوتر والقلق حين يخاطب أناه والتي هي بحد ذاتها الأنا الجمعية فلا ينفصل الانفعال الذى يحدث عن طريق البصر عن ردة فعله الحسي، بل هما يتداخلان بفضل ميل الإحساس للامتداد والامتزاج بأشياء أخرى . فيقول في قصيدته (ژدوریا تە – من فراقك):

ژدوریــا تە دلــێ نــازک نــــا دەبــری

ژ جوانیـا تــە گـــولا بهـارێ کر گـــری

تو چوی و تــە ئەڤ ژیانا تاری کــــری

وەرە توی خــەمل و ڕوشــا ڤێ دنیاێ

تو زی وەرە دا گەش ببیـت ڕەنگێ بهار

دا نە مینن ل ناڤ دلادا گــری و زێمـار

من فراقك تقطعت أوصال القلب

ومن جمالك تفتحت أزهار الربيع

ذهبت وجعلت هذه الحياة مظلمة.

تعالِ .. فأنت الجمال وأنت النهار لهذه الدنيا

أسرعي تعالي كي يتزين الجرح بلون الربيع

ولا يبقى في القلب وقتا للهموم

يمتاز شعره الغنائي بحرارته وتأثيره في المتلقي، ويشبع فيه التفجير الداخلي فوصفه لشيئًا معينًا لا يقتصر على الجانب المادي وحده؛ لأن عاطفته الجياشة وطموحه يتجاوزان الإحساس بالواقع، لذا يسعى لبلوغ شعره نوعًا من ارتياد إلى عوالم ما وراء الطبيعة، فهو يرسم ملامح وحدود الموصوف وهو يعيش عالمه .

ورغم كل هذا الجمال والصفاء في طبيعه وطنه نراه يتساءل من أين جاء الشر (مشيرا الى حرب الأنفال) وقلع الصفاء من سماءه ودب الخراب بأرضه حين قصفت إحدى مدنه بالكيمياوي فتراه يقول في قصيدته (ئەنفال – أنفال):

ژبیابانا توزەک ڕابو

ژ بەحران لافاوەک ڕابو

ژ عەسمانا عەورەک ڕابو

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

من الصحراء هبت عاصفة

ومن البحار فاض فيضان

و في السماء تراكمت غيمة

حولت وطني الى دمار

بل حولته الى ظلام

لذا في كل قصيدة من قصائده تتجسد ذاتيّته في الصوت الفردي الحميم، والذات الصغيرة في خوفها، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّفها لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هدير .

ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على العلاقة القائمة بين محور الذات الشاعرة والمتأثرة، ومحور الموضوع الذي لازم ولا يزال يلازم هواجس شعبه، والتي إما أن تكون علاقة تنافر وخصام أو علاقة وئام ونضال . وهذا ما تجسده مقطع آخر من قصيدته (أنفال) بقوله:

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

کێلبێن دڕندەکێ دلڕەش

وەک سەیێ هار

پەنجێن وی ژەحر ژێ دباری

دناڤ وارێ من دا

چونە خار

جعلوا من وطني خراب

ودمار

أنياب وحش حاقد

كالكلب المسعور

مخالبه تمطر سماً

أوغل في دياري

أن الأفكار والصور الذهنية لاترد للشاعر بصورة عرضية، بل تتقادم على شكل ومضات، وهذه الصور لاتضىء إلا حينما يتحرر شعبه من المشاغل الجزئية التي لازمته من الماضي كي تخلق حلماً بلغة ألوان الطبيعة الخلابة والتي اتحدت مع ذات الشاعر، واندمجت مع خياله ونفسيته.

ومما يلاحظ في لغة الشاعر أحيانا تأتي انفعالية حين يتعلق الأمر بالوجود، أنها لغة انفعالية، تمتاز بنغمتها الصاعدة، التي تبرز أنماطا لغوية ذات طبيعة عتابية .

وختاما نقول:

إن المتخيل الشعري لدى الشاعر الكوردي محمد رشيد نسري يفتح مداليل الجملة الشعرية، ليرسم لنا لوحات فنية تعكس الطبيعة . وما يعزز شعرية متخيله هو بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية وكما هي في قصيدته التي يخاطب الديك ومن خلالها يخاطب أبناء شعبه أو شريكته في الحياة وحيث تنطلق القصيدة من لوحة فنية عادية مألوفة لمن عاش في القرية فتسارعت مخيلته بإعطائها طبقات من الدلالة كي تكشف لنا ذائقته الشعرية . وقد جاء استخدام الشاعر للمفردات ذات الايحاء الموحي من جهة، والتماهي بالجمال من جهة اخرى واضحا . متمنياً لصديقي الشاعر محمد رشيد أفقاً رحباً وعطاءً ثراَ .

من قصيدته (شین ژڤان):

ل بن وێ دارا

شین ژڤان

ژ ڕوژگارێن

پڕ ئێش و ژان

پەیڤ نڤێسین

گوتن هوزان

ژ پەیڤ و ڕستا

پیتێن ناڤێ تە

وەریان

تحت تلك الشجرة

التي كانت يوما محطة لقاء

من ذكرياتها الأليمة

تجسدت الكلمات

وكونت الأشعار

ومن الكلمات والجمل

تساقطت حروف اسمك

***

نزار حنا الديراني

ساشا سوكولوف من أكثر الكتاب الروس المعاصرين غرابة وأهمية في الأدب الروسي الحديث. ومن الروائيين القلائل الذين أعادوا التفكير بجرأة في أفضل التقاليد الأدبية الكلاسيكية، وأعطوا الأدب الروسي صوتا حديثاً وعالمياً. يتسم أعماله بالثراء اللغوي، وإستخدام واسع النطاق لتقنيات ما بعد الحداثة والسريالية والغروتيسك. روايته الأولى والأهم "مدرسة الحمقى" أثرت بشكل كبير في تطور النثر الفني الروسي المعاصر، وجلبت له شهرة في جميع أنحاء العالم .بعض النقّاد الروس يقارنه بجيمس جويس لموسيقى نثره وإستخدامه تقنية سيل الوعي. ترجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واليونانية والبولندية والكورية ولغات أخرى. ونشرعن حياته وأدبه عدد هائل من البحوث والرسائل العلمية في روسيا وخارجها، وأشاد العديد من النقاد والباحثين برواياته التجريبية.. فاز بجائزة أندريه بيلي (1982)، وجائزة مجلة اكتوبر (1986) وجائزة بوشكين الدولية (1996).أخرجت السينما الروسية فيلماً وثائقياً عن سيرته وإبداعه، بعنوان " ساشا سوكولوف –آخر كاتب روسي.

حياة حافلة بالأحداث

ولد ساشا سوكولوف في 6 نوفمبرعام 1943 في العاصمة الكندية أوتاوا، حينما كان والده فسيفولد سوكولوف نائبا للملحق العسكري في السفارة السوفيتية. ولكن العمل الحقيقي لسوكولوف الأب كان إدارة شبكة تجسس في الخفاء، تعمل في كندا وأمريكا، لصالح الإتحاد السوفيتي، مهمتها الحصول على أسرار صنع القنبلة الذرية. وعندما إكتشفت السلطات الكندية أمر هذه الشبكة، تم إستدعاؤه على عجل إلى موسكوعام 1947. كان على ساشا الصغير، الذي عاش في ظروف مختلفة تماماً، أن يتكيّف مع الظروف الجديدة للواقع السوفيتي. لم يحبه أولاد الجيران- كما قال سوكولوف نفسه- بسبب الرخاء الذي لم يكن لديهم. كانوا يسخرون منه، ويتلفون ملابسه، أو يشعلون فيها النارأحياناً. ونتيجة لذلك بدأ الصبي لأول مرة في العيش في واقع موازٍ . في عام 1950، دخل المدرسة، لكن نظام التعليم السوفيتي كان مزعجا له، ما أدى في كثير من الأحيان إلى حدوث مشاكل مع المعلمين. ومع ذلك، فقد أكمل تعليمه الثانوي بنجاح باهر، ودخل بسهولة، المعهد العسكري للغات الأجنبية أولاً. لكن حبه للأدب ورغبته الكبيرة في الكتابة قادته بعد عامين إلى قسم الصحافة في جامعة موسكو الحكومية. ومارس مهنة الصحافة دون انقطاع عن دراسته، وخلال ذلك تشكلت رؤيته الخاصة للعالم . كانت الحرية مهمة جدًا بالنسبة إليه. انضم إلى جمعية ضمت عددا من الكتّاب الشباب الموهوبين اطلق عليهم تسمية "أصغر جمعية للعباقرة"، التي عارض أعضاؤها اتحاد الكتّاب السوفيت الخاضع لهيمنة السلطة. وبعد عام ونصف، تم حظر الجمعية.

في عام 1962 حاول سوكولوف مع صديق له الهروب من الاتحاد السوفيتي. وأمضى ثلاثة أشهر في السجن لمحاولته عبور الحدود مع إيران، وأطلق سراحه بفضل والده، الذي كان له صِلات جيدة بكبارالمسؤولين . ثمّ قضى ثلاثة أشهر أخرى في مصح عقلي متظاهراً بمرض عقلي لتجنب تجنيده الإجباري في الجيش. كما يتذكر سوكولوف لاحقًا، كان هذا هو المكان الأكثر حرية في البلاد - هنا كان يمكن للمرضى، أن يظهروا معارضتهم للنظام السوفيتي دون خوف من الملاحقة والإضطهاد..

 ويقول في مقابلة صحفية :"اعتقدت أنه بما أنني أردت أن أكتب ما أريد، فيجب أن أغادر هذا البلد، لأنهم هنا لن يسمحوا لي بنشر كتاباتي . كنت مغتربًا داخليًا لسنوات عديدة، ثم سئمت من هذه اللعبة. إلى متى يمكنك أن تكره البلد الذي تعيش فيه؟ أو بالأحرى، ليس الوطن، ولا الشعب، بل النظام".

كتب سوكولوف رواية "مدرسة الحمقى" في أوائل السبعينيات في ظروف عمل إبداعية غير مألوفة إلى حد ما: في الريف الهادئ في منطقة تفير، على ضفاف نهر الفولغا. هنا، في مزرعة الصيد في قرية بيزبورودوفو، وجد سوكولوف الشاب ملاذا ووظيفة، كحارس بعد هروبه من موسكو . وعاش في هذه القرية لمدة عام ونصف (مايو 1972 - نوفمبر 1973). أنجز خلالها روايته الأولى، التي تقع على تخوم الواقع والخيال.

كان من المتعذر نشر هذه الرواية الطليعية علانية في الإتحاد السوفيتي. لم يكن الأمر يتعلق بالمحتوى، حيث كان الكتاب خاليًا من أي نقد مباشر، سواء كان سياسيًا أو أيديولوجيًا أو اجتماعيًا، ولا يتناول موضوع الحياة اليومية السوفيتية، الذي يكمن في خلفية القصة، بل يتعلق بالشكل الروائي الحداثي، الذي كان يعد خروجاً على مبادئ" الواقعية الإشتراكية" المفروضة على الكتّاب السوفيت.لذا نشرت الرواية في المجلة الأدبية السرية "ميتروبول" - المطبوعة على الآلة الكاتبة بنسخ قليلة - التي كان يصدرها كوكبة من ألمع الكتّاب الروس الممنوعين من النشر. لاقت الرواية إإستحسان القرّاء المتلهفين إلى الأدب الجديد.

ويقول سوكولوف :" بعد ذلك قابلت امرأة نمساوية اسمها يوهانا شتايندل. كانت تدرّس اللغة الألمانية في موسكو. وساعدتني في تهريب مخطوط "مدرسة الحمقى". لم يكن بيننا حب رومانسي كبير . قالت:"هل تريدني أن أخرجك؟" واتفقنا على أن نقدم الوثائق المطلوبة لتسجيل زواجنا لكي أتمكن من السفر معها إلى الخارج .ورفضوا طلبنا، وتم طردها من البلاد .وبدأتُ إضرابا عن الطعام إحتجاجا على ذلك، وخضتُ صراعا طويلا مع الكي جي بي. كانت خطيبتي النمساوية لديها اتصالات على أعلى مستوى في البرلمان النمساوي، وكتب المستشار كرايسكي رسالتين إلى بريجنيف، يناشده فيهما التدخل والأمر بالسماح لي بالرحيل. وفعلا حصلت على إذن بالمغادرة. أثيرت ضجة في أوروبا حولنا ! كان من المثير للغاية أن تذهب إلى أوروبا لتصبح بطلأ لفترة قصيرة. بعد نشر صورنا في الصحف والمجلات النمساوية، كان الناس يتعرفون علينا في الشوارع، ويبادرون بالحديث معنا ويعطونا المال. كنا تجسيدا لفكرة اتفاقية هلسنكي لعام 1975 التي نصت على السماح بالزواج بين مواطني الدول المختلفة، والسماح بالسفر بين دول القارة لأسباب شخصية. لكن زواجنا يدم طويلا، لأنه كان زواجا شكلياً ".

صدرت "مدرسة الحمقى" عن دار النشر الأمريكية "أرديس"عام 1976، .وترجمت سريعاً إلى الإنجليزية والعديد من لغات العالم. بحلول هذا الوقت، كان سوكولوف يعيش بالفعل في الولايات المتحدة. كانت مراجعات النقّاد الغربيين والأدباء الروس في الشتات لـ" مدرسة الحمقى" متحمسة، من بينها، برزت مراجعات نينا بربروفا، وجوزيف برودسكي وفلاديمير نابوكوف الذي وصف الرواية بأنها :" مأساوية وساحرة ومؤثرة للغاية".

في أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ألقى ساشا سوكولوف محاضرات في الأدب الروسي في جامعات مختلفة. وبعد صدور روايتيه «بين كلب وذئب» (1980) و«باليساندريا » (1985)، توقف عن النشر، رغم انه واصل الكتابة، والإحتفاظ بما يكتبه في أدراج طاولة مكتبه.. اكتسب بسبب عزلته وإبتعاده عن الدعاية، لقب "سالينجر الروسي". ولكن، على عكس سالينجر، لم يقطع اتصالاته مع العالم، واستمر في كتابة المقالات والمواد النقدية وإجراء المقابلات بين حين وآخر على فترات متباعدة.

في ذروة فترة البريسترويكا( إعادة البناء) عام 1989، زار سوكولوف الاتحاد السوفيتي لأول مرة بعد الهجرة، ونشرت مجلة " أوغنيوك" الروسية الواسعة الإنتشار مقتطفات كبيرة من " مدرسة الحمقى " مع مقدمة ضافية للكاتبة الروسية المعروفة تتيانا تولستايا . زيارة سوكولوف القصيرة الثانية إلى روسيا في مايو 1996 كانت لمناسبة فوزه بجائزة بوشكين الأدبية المرموقة. نشرت "مدرسة الحمقى" كاملة في روسيا لأول مرة في عام 1990، وفي العام ذاته، أصبح سوكولوف رئيسا مشاركا لجمعية كتّاب عموم الاتحاد لدعم البريسترويكا . يعيش سوكولوف حاليا في كندا، فهو مواطن كندي بالولادة، ولكنه لا يستقر طويلا في مكان واحد، فهو دائم السفرإلى هذا البلد أو ذاك .

مدرسة الحمقى

باختصار شديد، هذه رواية عن صبي ذكي وغريب يعاني من انفصام الشخصية . إن منظور الصبي للعالم المحيط هو منظور شخصي وذاتي تمامًا، ولا يستطيع التصالح مع الواقع. وهو غير طبيعي في نظر الآخرين، ولكن وفقا لسوكولوف، هو أحد القلائل الذين لم يفقدوا مشاعرهم وإدراكهم الحي للواقع . في وقت مبكر جدًا، فهم الطفل الموهوب، الذي يتمتع برؤية خاصة، أنه لا يوجد مكان له في هذا العالم القاسي. في البداية يبدو أن الشخصية الرئيسية تتحدث بكل بساطة عن هراء. ولكن الأمرمختلف تماما. فهو لديه "مشاكل مع الزمن"، فهو لا يعرف في أي زمن يعيش: في الماضي أم الحاضر أم المستقبل. إنه يعيش في عالم لا يوجد فيه موت، لأن كل الأموات أحياء.يكمن الأمر فقط في أن "الناس لا يختفون على الفور، بل يتحولون أولاً إلى شيء مختلف عن أنفسهم في الشكل والجوهر.يتناهى إلى الصبي من بعيد موسيقى خافتة للفالس .

من الصعب ألا نرى هنا إشارة إلى رقصة القديس فيتوس، الفتى الشهيد. لكن هذه ليست تشنجات جسدية. هذه هي الرقصة التي يتحرك فيها نص الرواية بأكمله. يفتح البطل الباب ويجد نفسه في مغارة قلعة ميلانو مع ليوناردو دافنشي، ثم يقاتل مع جار ساحر، ثم يتذكر محادثاته مع "وزير القلق".

 ما يبدو في البداية محض هراء يصبح إكتشافاً. وندرك أن ما يحدث ليس جنونًا، بل شيئًا مختلفًا تمامًا. ضاع البطل في الوقت المناسب، ولا يعرف عن الموت شيئاً، ولا يعرف تفاهة الحياة. هو في كل مكان وليس في أي مكان. لكن ها نحن، بحسب المؤلف، نجلس في مدرسة الحمقى، بأنظمتها الغبية، وقواعدها المعيبة التي يريد الجميع ضبط كل شيء فيها على معيار واحد. على الرغم من عدم وجود معايير. هذه رواية عن الحرية التي سعى الكاتب دائمًا من أجلها، والتحرر من المواقف الاجتماعية والمبادئ الزائفة. وأيضا رواية عن قوة الخيال والأحلام.

المعمار الفني

أول ما يلفت انتباه القارئ في هذه الرواية هو الصوت السردي، الذي يتأرجح بين ضمير المتكلم المفرد " أنا" وضمير المخاطب المفرد " أنت" وضمير الجمع "نحن" .. يتم سرد أجزاء كبيرة من النص من قبل الأنا المتغيرة للبطل المجهول، والتي تبين أنها صوت في رأسه.

بطل سوكولوف مصاب بالفصام الذهني وتلميذ في مدرسة خاصة للمعاقين .لا يخرج الحدث أبدًا عن عقل بطل الرواية المضطرب حتى عندما يبدو السرد وكأنه محادثة؛ تتكون الرواية بأكملها من مونولوج داخلي واحد. كل ما يحدث في هذا الكتاب يحدث في اللغة فقط.

لا يتقيد سوكولوف في "مدرسة الحمقى"، بأي متطلبات معيارية في الكتابة السردية : هنا يمكن أن يبدأ الحوار بشخصية واحدة، ويستمر بأخرى، وينتهي بشخصية ثالثة؛ هنا مستويات الزمن مختلطة بشكل معقد. الماضي لا يسبق الحاضر، والحاضر لا يسبق المستقبل؛ هنا يمكن للشخصية أن تتحدث عن موته المؤكد، وتجري حوارًا بعده.

ما يبدو فوضى في عالم «مدرسة الحمقى» يخفي نظامه الخاص: شخصيات وحوارات وأحداث، تمزقها تفاصيل أخرى، تعود من جديد إلى صفحات الرواية، لكن على مستوى مختلف، ما يثري الرواية،  ويثري القارئ بالمعرفة حول هذا العالم ويجعل رؤيته وجهاً لوجه. يبدو هذا الأسلوب للوهلة الأولى وكأنه نوع من الكتابة العفوية، لكنه مع تقدم السرد نحو النهاية يكشف عن تنوعه ويبدو فوضويًا فقط ظاهرياً. إن التركيز على تحرير القوة البلاغية للغة، وإستجلاء الأعماق الشعرية والغنائية المخبأة فيها، وتحريرها من الخطية السردية وديكتاتورية المؤلف، هو بالطبع هدف ما بعد الحداثة. وأفضل صفحات أعمال جاك دريدا و جيل دولوز وميشال فوكو هي أمثلة كاملة للأدب الشعري. سوكولوف أعاد إنشاء ما بعد الحداثة الشخصية الخاصة به على صفحات النص. نعم، هذا هو بالضبط ما تظهره "مدرسة الحمقى"، وإذا كانت مرحلة ما بعد الحداثة المبكرة غنائية، عاطفية، مليئة بالتلميحات، فإنها في الوقت ذاته صادقة وحقيقية.

العيش في ملجأ اللغة

يرى سوكولوف، أن الكاتب المبدع هو الذي يتقن اللغة التي يكتب بها بشكل عميق، ويجعل القارئ ينسى الحبكة. ويقول إن السنوات العديدة التي قضاها في القرية بين الأميين من كبار السن الذين لم يقرؤوا كتابًا واحدًا في حياتهم سوى الكتاب المقدس، أعطته أكثر مما تعلمه خلال خمس سنوات من الدراسة الجامعية : “كبار السن حفظوا العهد الجديد، والصلوات، والإنجيل عن ظهر قلب تقريبا.لم ينتهكوا التقاليد الروحية، وحافظوا على حيوية الفكر، واستعاضوا عن التقاليد الأدبية بالتراث الشفاهي : حكايات شعبية واقعية أو خرافية، وابتكار كلمات جديدة ". نثر سوكولوف نفسه يتألف من حكايات وكلمات جديدة، ولغته مرنة وغنية بشكل مدهش تثري اللغة الروسية. ويقول في مقابلة صحفية :" إن تخصصي في الأدب هو الأسلوب وتطوير اللغة. لأن اللغة تحتوي على كل شيء.اللغة نفسها مشبعة بالمشاعر والأفكار. وأنا لا أقيّم النص من حيث الحبكة، ولكن من حيث الأسلوب".

ويضيف قائلاً :" أقوم بدمج الكلمات. عندما أرى أنها لا تتوافق معًا، أحذفها ببساطة. يجب أن يتردد صدى الكلمات مع بعضها بعضا بطريقة أو بأخرى - ليس فقط في المعنى، ولكن أيضًا في الصوت. .. من الضروري العثور على الصوت الصحيح والتنغيم المناسب ولحن العبارة. ما يهمني هو كيفية عمل اللغة، وهذا النوع من الرقص اللغوي. لو كنت قد ولدت في زمن آخر، في مكان آخر، في عائلة أخرى، لكنت أصبحت ملحناً، لأن اللغة هي أحد أشكال الموسيقى". سوكولوف جعل اللغة الروسية موطنه الوحيد، وجنته الوحيدة، وملجأه، الذي لن يخونه أو ينتزعه من نفسه أبدًا .

لا يوجد أحد بين الكتّاب الروس اليوم من أحب اللغة الروسية حد الثمالة، وكشف عن ثرائها الباذخ وقدراتها الفائقة في التعبيرعن أدق خلجات الروح والمشاعر الإنسانية مثل سوكولوف .عند قراءة روايات أبرز الكتّاب الروس المعاصرين ( تتيانا تولستايا أو ميخائيل شيشكين، أو فلاديمير سوروكين أو فلاديمير شاروف أو فيكتور بيليفين وغيرهم)، ندرك مدى ضخامة تأثير سوكولوف في النثر الروسي الحديث، وشجاعته الأدبية، و وتصميمه على التجريب، والابتكار الإبداعي وإغناء اللغة الروسية..

***

جودت هوشيار

 

تمارس السلطات الشمولية وعلى مرَّ العقود، وعلى الصعيد الاجتماعي فنون المخاتلة والوهم، لكي تجعل التابعين لها ينهلون من رحيق هذا الخدر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، وينغمسون في نعيم الوهم الأبدي مغيبين عن الواقع، والعقل والمنطق، والتفكير، وعن مجريات الأحداث.

إن ثقافة الوهم التي تصنعها السلطات المستبدة وتوجدها في أفرادها لا تقوم بالضرورة على الخداع والكذب، بل هي تزرع هذا الوهم  وترسخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال، والعاطفة . فضلا عن أن الادبيات الشمولية النفعية مفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات، واليقينيات الماورائية المطلقة. فهي تحاول أن تقدم تفسيرًا للواقع المعقد بشكل يجعله متسقًا ومنطقيًا، ومقبولا لجميع المنضوين تحت لوائها، كما تحاول إحاطة هذا الواقع بهالة من القداسة العقدية؛ ليكتنف شتى جوانب الحياة الاجتماعية بشمولية صارمة تهيمن على حياة الأفراد.

في الدولة الشمولية لاوجود للفرد ولا يعرف الا بوساطة علاقته بالمجموع، وتصبح الدولة المطلقة والمقدسة مشروع عبادة حقيقية، كما يجري عسكرتها لتحقيق أكبر قدر من الهيمنة على الأفراد والسيطرة عليهم، وهو ما سعى النص الروائي الى قوله بوساطة فرمان سلطان دولة الحجر الأعظم: (فرمان سلطان حجر الانس والجان ... أيها الناس في كلِ مكان أنَّ قوانين دولة الحجر واضحة لا تحتاج الى شرح وتفسير . تقول الفقرة الزعرورية في دستور دولة زعرورستان الحجرية، أن كل من يخالف تعاليم وأوامر ونواهي مليكنا المعظم، حفيد السلالة الحجرية المقدسة . يرجم بالحجر حتى تزهق روحه وحتى يكون عبرة لمن اعتبر// الرواية صفحة158) يكشف النص عن محاولة احتواء العقول ووضعها في عبودية دائمة، لقمع أية رغبة في التمرد واستئصالها من منبعها، وذلك بوساطة إلغاء النية في ذلك مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية السائدة، فهي حالة من حالات تجميد أي حراك قد يحدث على مستوى البناء التحتي للدولة. بل وتجميد مجرد التفكير به، ومن ثم يتم الحفاظ على البناء الفوقي وضمان بقائه كما يخبرنا النص (واخيرا يا رعية السلطان. اياكم والفتنة، فإنها ما دخلت دار قوم حتى فرقتهم وأذهبت ريحهم. انصحكم بالهدوء والابتعاد عن اماكن الشغب. وقانا الله واياكم وساوس الشيطان// الرواية:124) السلطات الشمولية مع رفضها الاعتراف بالفرد، تدفع العقل الانساني الى التخلي عن حريته حين يقتصر المدى الذي يذهب اليه العقل على مجرد تلقي الاوامر المفروضة عليه وتطبيقها، وفي أحسن الاحوال إعادة تأويل تلك الاوامر وفق ما تسمح به السلطة التي تطرح على الفرد حينذاك يقينا مماثلا لليقين الإيماني الذي يعتنقه، وأن الخروج عليه يصبح نوعا من التجديف والزندقة، وتمتلك تلك السلطة القدرة على الفعل والتأثير بما يتجاوز إدراك الفرد حتى للأفكار التي تقوم عليها سياستها. فهو يطيع قبل أن يسأل كما في إجابة" القهرماني" على تساؤل صديقه "الحسام الجرجراني" عن موقف الناس من سياسة ملكهم الحجر الأعظم:

(- ماذا يعتزم الناس أن يعملوا؟

- سمعت أنهم سيقولون: نعم.

- وهل هناك غير نعم؟

- انهم تعودوها.

- متى تعتقد أن سكان وادينا سيقولون: لا؟

- لا اعتقدهم قائلين........ الرواية:54)3947 ناجي التكريتي

يسعى النص الى أخبارنا بأنه هكذا يجري إعداد الفرد في هذا السياق منذ نعومة أظفاره، ليأخذ الأمور كما هي دونما مجادلة أو تساؤل، أو تطلع الى التغيير، فهذا النمط المجتمعي الخاضع دوما يغذي بذور الاستبداد وينمي جذوره وفقا لمصالح الطبقة الحاكمة (تذكر فقط يا صاحبي أن هؤلاء الغزاة الوحوش الذين تشير اليهم قد وجدوا الشمس تتأرجح على حافات الأمواج فأسرعوا إلى طمسها في أعماق النهر، فلو كانت عالية حصينة لما استطاعوا الوصول إليها قط. أعني أن كل سلطان يتربع في قمة البرج، يحبس الشمس فيبقى الظلام هو المسيطر على الدوام.......الرواية:40).

وفي الوقت الذي عمدت السلطة الشمولية في النص الروائي قيدِّ الدرس الى استعمال المعطيات والمتاحات؛ من أجل تطويع الفرد وإخضاعه لمفردات ايديولوجيتها القمعية التي تؤكد اقصائه وهامشيته في المجتمع، في حصر أدواره في اطر ضيقة. اظهرت الرواية أن الثقافة لايديولوجيتها الشمولية قادرة على أن تكون عوامل منتجة ومحفزة لتشكيل خطاب معارض، أو ثقافة مضادة يتبناها الفرد ليواجه بها استراتيجيات المصادرة، والتهميش، والاختزال، كما هو الحال مع أبي زيد القهرماني، وصديقه الجرجراني (فهل الاجدر بنا أن نعيش في ظلام؟ أو نهجر وادي الظلام؟

- الاحرى بنا أن نجعل الشمس تشرق في وادي الظلام.

- ونهضا سوية، وما أن خلفا شاطئ النهر وراءهما، حتى كان أبو زيد القهرماني يناجي نفسه متأملا:

- أنا لا أستطيع العيش في وادي الظلام فأنا اذن موجود.

بينما كان الاخر يفكر بصوت عال:

- انا أريد أن تشرق الشمس في وادي الظلام، فأنا اذن موجود.....الرواية:58) يظهر النص أن  تلك الثقافة انتجت صورة  على وفق مقتضيات ثقافية أخرى تجنح نحو ضرب المنظومة الحاكمة الهاجعة والتمرد عليها (- ماذا يحتاج الأمر في تصورك؟

- الى اشعال الشرارة الأولى.

- أخاف الا يصدقنا احد.

- المهم أولا أن نصدق نحن انفسنا.

- اننا واثقان من الامر.....سيصدق بنا الاخرون اذن، الامر يحتاج الى عمل.

وقال ابو زيد اقهرماني:

- الحقيقة اردت أن اقول ...لماذا نعطي دائما الأهمية للاجماع؟ ولماذا نؤمن برأي الأغلبية ؟ ولماذا يقدس الناس الرأي العام.

التفت إليه الحسام الجرجراني موضحا:

- لا شك أن مجموعة عقول خير من عقل واحد والعقل الكلي أشمل من العقل الفردي وعقل الجماعة أبعد نظرا من عقل الفرد... ولكن مع هذا قد يبدع عقل ما لم يستطع أن يبدعه جيل بأكمله.. وقد يكتشف عقل طريقا سليما على الرغم من عدم ايمان الاخرين به....الرواية :82)، إن الفرد بوساطة حركته وفعله في المبنى السردي برز بوصفه مهيمن ناتئ، ومحورا مركزيا يغذي البنية السردية بما يضخه فيها من تلميحات مضمرة حينا، وتصريحات مباشرة حينا اخرى، فكان الاحتجاج والتمرد، واللجوء الى المعرفي والثقافي من أهم الوسائل المتبعة للتخلص من عمليتي التنميط القسري، والوصاية المطلقة.

وعليه فإن متسع الحرية الذي وجد الروائي ناجي التكريتي نفسه فيه أسفر عن ولادة نص متنوع الأسلوب، والصوغ الفني المتراوح من بنية نص تقليدي إلى اقصى أشكال التجريب، لم يتجاوز فيه المحرمات السياسية حسب بل تعدى فيه كل الثوابت المنطقية، والتقاليد والقيم الشكلية المبالغ في صرامتها، فغدت الرواية جريئة كاشفة عن الاستراتيجيات الثابتة التي تعتمدتها السلطة الشمولية في التعامل مع المكونات المجتمعية الخاضعة لسيطرتها، أو تلك التي تريد اخضاعها، هذه الاستراتيجيات  تتمثل في ترويج فكرة الامتثال والتبعية، وترسيخها في الوعي الجمعي، وتجذيره في البنية اللاشعورية للأفراد.

***

د. مسار غازي

 

اجـتراح قـول: كل المدن؛ وكل الأقطار؛ تزخر بطاقات مبدعة وخلاقة. في عدة مجالات فنية وإبداعية وابتكاريه، لكن اللامبالاة وعَـدم الرعاية الامتدادية، والاهتمام سواء بالتشجيع من لدن الوسط العام أو حتى من رفاق الحي وأصدقاء الفصول الدراسية! أو التعْـريف بتلك الطاقات عبر وسائل الإعلام " الجاد" و" النبيل" وبالتالي فعامل اللامبالاة، والتي أمست ظاهرة مستفحلة في كل الميادين والمجالات، تقتل تلك الطفرة الموهبية في أعماق صاحبها، لتتشكل فيما بعد أمراض وعقد نفسية كالاكتئاب / الانطواء/ القلق/ الجنون/هلوسات/..../وهذا يلاحظ في المجال المسرحي/ السينمائي/ تحديدا، والآن اخترق المجال الغنائي! مقابل هذا هنالك رجالات أعطوا الشيء الكثير، لكن لا أحد أنصفهم ولو بكلمة ماكرة، مخادعة . لما قدموه في مجالهم، حتى الذين صعَـدوا على أكتافهم تنكروا لهم في كتاباتهم أو تصريحاتهم، وحتى الذين يحاولون أرشفة المسرح في المغـرب، لا يعْـرفونهم، لأسباب تكمن في عَـدم المجايلة، وفي عملية الإقصاء من لدن من يستحضرون الذاكرة في بعض اللقاءات، و في عدم التنقيب الجاد والبحث المنهجي / الموضوعي، من طرف من يسعى للتوثيق، رغم شبه غياب الوثيقة وغيرها. ومن بين الوجوه والأسماء التي ناضلت وكافحت عِـشقا للمسرح بدون خلفيات انتهازية أو وُصولية:الفنان المسرحي[أحمد أكريطيط] وبالتالي أي قول يمكن أن نطلقه على هذا الفنان الذي كابد واجتهد وتقاتل من أجل إعلاء صوت المسرح بمدينة الخميسات وخارجها، طبعا رفقة جملة من الأصدقاء ورفاق دربه في جمعية النهضة، إلا ما قاله: أبو حيان التوحيدي في مجلده: "الصداقة والصديق" [.... فقد أمسيت غـريب الحال، غـريب اللفظ، غـريب النحلة، غـريب الخلق، مستأنساً بالوحْـشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى] لأنه أبى أن يعـود للركح وشغبه، فاكتشف أن تموقفاته وتصوراته الأثيرية والكفاحية: غير منسجمة مع التهافت المادي، وإنتاج التافه من قمامة التفاهة!

بَـين الإسْـم والـوجه:

فالمسرحي "أحمد أكريطيط " المزداد سنة 1953، كان اسما لامعا في الخميسات، ويعَـد وجها مسرحيا، وطاقة خارقة في التشخيص، وذلك بشهادة أصدقائه ومن شاهده فوق الركح، إذ كان له حضوره وقوته في فرقة "الطليعة المسرحية" التابعة لجمعية "النهضة الثقافية" بمدينة [الخميسات] رفقة العَـديد من الوجوه والأسماء الفاعلة والمناضلة في فضاء أول جمعية ثقافية/ مسرحية تأسست بالمدينة سنة 1970 فلا نغـيب هذا التاريخ الذي كان متسما بالاحتقان والتوتر، ورغم ذلك ترأسها - الأستاذ - قيد حياته [محمد بالقاضي] رحمه الله. رفقة... عبد الحق التمسماني / لحسن حمامة / بوعبيد الزعزاع / لحسن أزدو/ طباش فرحاتي/ أمينة البوش/ بوحسيس عبد القادر/ شوقي الحمداني/ عبد الحق الحريري / أحمد الحريري /الهائج أحم/ حمادي ماني / أحمد المصلوحي /عبدالكريم برشيد/ نعيمة عكوط / فاطمة الكداري / سعيدة أبسباسي/ عبدالله اعروشن/ العربي بوعبيد/ محمد الجوهري/ محمد الزيدوني /.../ أسماء وفعاليات كثيرة من الصعب ذكرها، بحيث الأخ" أكريطيط" عَـرف المسرح كجنس أدبي مبكرا، وهولا زال في الطور التعليم "الابتدائي" وذلك عبر الكتب التي منحه إياها "أخوه الأكبر": وخاصة مجموعة مسرحيات للكاتب الفرنسي [راسين وكورني] وازداد تشبعه به أثناء ولوجه صفوف التعليم الثانوي، بناء على حضور المسرح وبقوة في [ثانوية موسى بن نصير] وذلك من خلال مسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم التي كانت مقررة في دراسة المؤلفات، ووجود بعْـض الأساتذة الذين يعشقون الفن المسرحي؛ والذين ساهموا في تأسيس جمعية النهضة ك:لحسن حمامة/ عبد الله بناني /ع الحق التمسماني/برشيد / عبد الحفيظ الحجامي/..../ ولكن قبل أن ينخرط في الجمعية كان في إحدى النوادي، التي كان روادها يقومون ببعض السكيتشات والقفشات بقاعة دار الشباب (محمد الزر قطوني) أو في " الكنيسة" وانخراطه في مجموعة (الموشحات العربية) التي كانت تنشط في المناسبات، ولكن بعْـد تأسيس جمعية النهضة الثقافية التي شكلت فضاء لتجمع المثقفين بالمدينة، كان من بين الأوائل الذين انخرطوا فيها، فـشارك رفقة .../عبد العزيز النافري / سليمان العامري / أحمد الشناوي/ حسن أونير/ أحمد الغازي / محمد حربوش / لحسن أوزدوا / أحمد عروشن / محمد بجطيط / بوعبيد العَـربي/.../ في أول عمل لها "مسافر الليل" لصلاح عبد الصبور وإخراج عبد الكريم برشيد. والتي تم عرضها على خشبة دار الشباب محمد الزرقطوني، فتلتها أعمال أخرى: كمسرحية (ثوب الإمبراطور) لعبد الغفار مكاوي و إخراج عبد الكريم برشيد ثم (حكاية جوقة التماثيل) سعد الله ونوس .و(رباعيات المجذوب) تركيب (مونطاج) هاته الأعمال كان " المبدع أحمد أكريطيط" له فيها حضور قـَوي، من خلال تعبيرات وجهه ورهافة جسده المطاوع للتشخيص؛ لكن حينما تم طرح أحد الأعمال لطاولة النقاش؛ كان هنالك نقاش وتحفظات واعتراضات؛ مما فضل (هـو) الانسحاب من جمعية النهضة.

بين جمعية النهضة والجَـرس

انسحابه تم في 1972 رفقة عبد العزيز النافري / سليمان العمري / محمد المصلوحي/ حميد المرداسي /عبد الكريم العمري/.../ ليؤسس جمعية "الجرس للمسرح والموسيقى " على غرار [جرس الكنيسة] التي اتخذوها مقرا لهم. والتي كانت بمثابة دار للشباب . وسيكون حميد المرداسي رئيسا للجمعية و أحمد أكريطيط كاتبا عاما . فشرعوا في إنجاز وإنتاج مسرحية "الذياب فالجلاب" من تأليف" أكريطيط" وإخراج (عبد العزيز النافري) لكن في 1973 سعـت بعْـض الأطراف الضغـط على الفنان" أكريطيط" بطرق حبية . للعَـودة إلى جمعية النهضة، وتجاوز الخلافات، مما رضخ للأمر(؟) فتجمدت جمعية " الجَـرس للمسرح والموسيقى " ليعـود للجمعية ؟ ربما كان يؤمن بمقولة "تشي جيفارا" إن الطريق مظلم وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟ ولكن من حقنا هنا أن نتساءل: أليس قانون الحريات العامة يبيح تأسيس الجمعيات/ النقابات/؟ أليس في الإبداع اختلاف واختلافات؟ إذن فلماذا يتم وقتئذ: حرمان فضاء الخميسات من التنوع والتنافس الفني والإبداعي، ولاسيما أن المنطقة – إثـنية - تفرض الإختلاف والتنوع! هل لإبقاء هيمنة بعض الأطراف على المشهد المسرحي بالمنطقة ؟ أم لاستغلال قـُدرات ومهارة المسرحي "أكريطيط " والركوب على طيبوبته وطاقته الإبداعية ؟ باعتباره أثيري ومكافح، وهاته الشهادة لو لم تكن لما تنازل عن [جمعية الجرس] لتبقى أنشطتها متجمدة؛ إلى حين ظهور شباب جدد شرايينها وحضورها الفني في المشهد المسرحي. من بينهم /محمد الصغير/ اسويرتي محمد / سلام العـَربي/ نور الدين الطرياوي/.../

فإبان عودة المسرحي "أحمد أكريطيط "شارك في مسرحية " الحومات "لبرشيد إخراج عبد الحق التمسماني والتي شاركت في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بطنجة. لكن المفاجأة سيتم اختياره من طرف (فرقة المعمورة) التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة!! لينتقل من مسرح {الهواة للاحتراف} مشاركا في عمل " العنترة في المرايا المكسرة "كتابة لعبد الكريم برشيد وإخراج عبد اللطيف الدشراوي. لتقوم بجولة والمشاركة في المهرجان المغرب العـربي ب[موناستير- تونس] وبهذا يعتبر المسرحي [أحمد أكريطيط] أول مسرحي من "مدينة الخميسات" يشارك في مسرحية وطنية وذلك سنة 1975 . ولكن الفرقة لم تستمر فعاد لجمعية النهضة ليتم تقديم مسرحية (قابل وهابيل) من تأليف وإخراج [أكريطيط] والتي شاركت في المهرجان الوطني لمسرح الهواة الذي أقيم بمكناس سنة 1976، ولهذا العَـرض حكاية تحتاج لتحليل من زاوية علاقة السلطة بالمسرح(أي) كان سيمنع العمل من العرض والمشاركة في المهرجان الوطني ؟ بحيث أعطى "عامل المدينة " ذاك الوقت! أوامره لمنع دخول الجمهور لرؤية المسرحية والاستمتاع بها...مما أدى المنع إلى احتجاجات وفوضى عارمة واصطدام بين الجمهور وأعوان السلطة! أمام...(سينما مرحبا) . ورغم ذلك تم العرض بحضور لجنة التحكيم ورجال وأعوان السلطة، فقط... وبعد هاته المشاركة في جمعية النهضة الثقافية . انتقل لجمعية الجرس للمسرح والموسيقى بعد تجديدها ليتم إعادة تقديم مسرحية (الّذياب بالجلاب) للمبدع "أكريطيط وإخراجه " أواخر سنة 1976. وبعد توقف عاد بمسرحية (عبيدات الرمي) من إخراج محمد الصغير سنة 1987 ففي هاته السنة سيهاجر لمدينة بروكسيل/بلجيكا، فأسس رفقة رفيقه في جمعية النهضة "علال بورقية "فرقة البروليتاري الفنية" لينجز مسرحية (هموم السلوم) لكن بعد عودته لأرض الوطن، توقف نشاطه وشغبه الإبداعي فوق الركح سنة 1990 لأسباب خاصة به، ليعتكف على كتابة وتأليف أعمال مسرحية، لكن لم تـر النور بعْـد؟ من بينها(المهرج الغريب/السيرور/ القفاز والحذاء /.,,,/)

قـِـــــف:

الإشكال الإبستيمولوجي (أي) نقف أمام علامة (قف) المنصوبة في لوحة قصدير، خوفا من" ذعـيرة "مفاجئة!! ولا نقف وقفة إجلال، واحترام .... وقفة ليس فيها ولو نسمة استعباد، أو إذلال . بل وقفة فيها شهامة ومروءة وإنصاف أمام وجوه وبعـض الأسماء التي أمست مغمورة، ومنوجدة بيننا! وهي التي عبدت الطرقات الفنية لنا من لا شيء، لتحقيق كل شيء(نسبيا) رغم أننا ضيعنا أجزاء من ذاك الشيء!! نتيجة إهمالنا لها، وممارسة اللامبالاة في حقها، فبإعادة قراءة ما خطته ذاكرتنا، وما أرسله لنا المسرحي" أحمد أكريطيط" بنوع من الاقتضاب، نظرا لعامل النسيان/ التقادم:نستشف أشكالا من المعاناة والمكابدة، التي كانت تعانق وترافق هَـذا المسرحي المبدع. الذي هو نموذج ووجه من وجوه مسرحية أعطت وأغنت الساحة الفنية والمسرحية بالعطاء الكثير، لكن لم تنل حظها حتى بكلمات مخادعة: تخفي الرياء والنفاق حتى! ولا وجود لها من قبل ولا بعد على صفحات الإعلام، لماذا ؟ لأننا لم نعد نحترم أو نخـاف من قف الأخلاقية ....!!!

***

نجـيب طلال

بقلم: إيلينا سافاج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الروائيات الكارهات للبشر وشخصياتهن تجعلني متفائلة بمستقبل نتجاهل فيه الكمال الأنثوي. مشاكسة، ومنحرفة جنسيًا، وذكية جدًا بالنسبة لوضعها التاريخي، وربما فاسدًة: هذا ما أبحث عنه في الراوية أو البطلة. لقد اكتفيت من الأمل، والإنجاز، وتميز النساء. لقد سئمت من التركيز على الإيجابيات. الأمر الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي هو الشخصيات التي تعكس مدى فظاعتنا وتعرضنا للخطر والإرهاق التام. وفقًا لجدول قراءة الكتب الذي أحتفظ به، أقضي حتى الآن عامًا جيدًا جدًا بالنسبة للروائيات الكارهات للبشر.

في بداية رواية فيجديس هيورث "منزل في النرويج" (2014)، نلتقي بألما، فنانة نسيج في منتصف العمر تعيش في منزل اشترته بثمن بخس بعد طلاق ودي. تقوم ألما بتشييد شقة الجدة وتأجيرها لأشخاص عابرين مثل "The Pole" (لا يمكن أن تنزعج ألما من معرفة الاسم الأول للمرأة - بولندي جدًا، صعب جدًا)، وابنة بولى الصغيرة. يوفر الإيجار خطًا صغيرًا من الدخل لتكملة رسوم الفنان غير المنتظمة. "لم تكن تريد أن يكون لها أي علاقة بمستأجريها،" يكتب هيورث، "لم تكن تريد رؤيتهم؛ لقد أرادت فقط أن يذهب المال إلى حسابها المصرفي كل شهر ثم تنسى وجوده هناك.

سجادات ألما الضخمة معلقة في المباني العامة، ضخمة بقدر ما هي غير مرئية. وتعتقد أن إحداها ربما تمارس سحرها غير المرئي، بالطريقة التي تؤدي بها الهندسة المعمارية عملها: "الطريقة التي ثبت أن محيطنا يؤثر علينا، على الرغم من أننا لا ندرك ذلك".

بطلة رواية هجورث هي امرأة مختلة وظيفيا، ولكنها ليست مأساوية. تعمل طوال الليل على مفروشاتها، وتشرب زجاجات النبيذ في الساعات الأولى من الصباح حتى تنام. عندما يصل أطفالها البالغون لقضاء العطلات مع أطفالهم، تفهم ألما واجباتها تجاههم، لكنها تدرك أيضًا، تمامًا، أنها تريد رحيلهم.

ألما مالك عقار مهمل وأناني ومنافق. لكن "منزل في النرويج" ليس مسرحية أخلاقية. نعم، ألما تناضل ضد القمع الجماعي للنساء؛ إنها تفكر بعمق وبشكل بنيوي في مجتمعها. لكنها أيضًا غير راغبة في تطبيق أفكارها النقدية على نفسها.

لسبب ما، هذا أمر حيوي للغاية. فها هي المرأة التي ليست عيوبها العميقة ناجمة عن صدمة، أو عن أمها أو أطفالها؛ إنها لا تستجيب للفقر أو خيانة الذكور أو تدميرهم أو الإمكانات الفنية غير المحققة. يتم تنظيمه بواسطة العنف الاجتماعي وعامله. إن متعة عدم تكيف ألما لا تكمن في كونها بطولية، أو شجاعة، أو حتى متمردة بشكل خاص. (يكتب هجورث أن "ألما لم يسبق لها مثيل، لقد أدركت الآن ... التقت ببعض النساء الغاضبات والمتمردات. نعم محبطات ومعاقات عقليًا، لكن ليس متمردة.") يدور رضا هذه الشخصية حول حقيقة أن عيوبها هي ارتباك شائع. للعديد من الذين يعيشون في مجتمعات غير عادلة ووحشية.

شخصيات مثل ألما شغلت قراءاتي هذا العام، والتي امتدت لأعمال سيغريد نونيز، ودوريس ليسينج، ولين تيلمان، ودانزي سينا، وجامايكا كينكيد (الذين أصبحت الآن مكملاً لهم). لقد أذهلني بطريقة ما شخصيات نسائية نسوية غير محتملة: في بعض الأحيان معتلة اجتماعيًا إلى حد ما، أو متواطئة بوقاحة، أو تقاوم روايات الناجين. ليس قدوة. ليس حذاء جيد. عدم "امتلاك كل شيء" (إنهم نوعًا ما يرفضون كل شيء).

لكن الشخصيات نشطة. تجسد النساء آمال وإخفاقات النضالات السياسية للأجيال السابقة، ويفعلن ذلك بطريقة تجعلني متفائلة بالمستقبل، حيث قد تتحرر النساء أخيرًا من الأمل في الكمال. بدور فيلانيل من سلسلة الروايات والمسلسل التلفزيوني التي تحمل نفس الاسم Killing Eve (2018-)؛ مثل Fleabag لـ Phoebe Waller-Bridge؛ مثل أورسولا، ملكة البحر التي نصبت نفسها بنفسها، من فيلم ديزني الحورية الصغيرة (1989).

الشيء الذي كنت أشعر بعدم الارتياح لسنوات عديدة هو مدى عدم ارتياحي للموجة الرابعة من نسوية الإنترنت. لماذا يجب أن أشعر بهذه الطريقة؟ أنا أيضًا غاضبة من طبيعة الرجال والأذى الذي يسببه الرجال في كثير من الأحيان. لكن في كل مرة تخرج رواية وفي عنوانها كلمة «فتاة» أو «امرأة»؛ في كل مرة يظهر مقال جديد على الإنترنت يعلن أن المرأة هي هذا أو ذاك، وأننا قد تدربن على أن نكون صغيرات ومهذبات، وأن حياتنا تتمحور حول التضحية بالنفس، وأننا متبعات رائعات للقواعد، وهذا على حسابنا - شيء ما بداخلي يذبل. أفكر، بدلاً من ذلك، في النساء اللاتي لا يقبلن تلك الأفكار، اللاتي يتفاقمن بسبب غضبهن وخيبة أملهن، واللائى - حتماً - يتركن ذلك يشوههن.

لماذا أعترض على ادعاء النساء بالنسوية حتى أحرر عقولهن وقلوبهن؟ لماذا لا أستطيع أن أرحب ببساطة بانتشار المنظمات النسائية والمهرجانات والمجموعات والمجلات والحفلات؟

أعتقد أن هذا أمر يجب القيام به مع الكيفية التي تعمل بها سياسات الهوية المعاصرة على تسطيح وتجانس ــ وتشجيع التمثيل الذاتي غير الصادق والمضخم والاستغلالي. عندما تقرر النساء توحيد قواهن ضد هيمنة الذكور، فإننا نتشجع على الاعتقاد بأن اضطهادنا يؤثر علينا بطرق يمكن التنبؤ بها وتكرارها. لنفترض أنه بسبب بعض التكوينات الاجتماعية التاريخية، فإن النساء أكثر تضحية بأنفسهن من الرجال. أو، قد يكون من المقدر لنا أن نختار عائلاتنا على أعمالنا الفنية، مما يؤدي إلى الحزن الحتمي على الإمكانات غير الحية. أو، نظرًا لأدوارنا المفروضة تاريخيًا كعاملات منزليات نحافظ على وحدات اجتماعية جماعية، فإننا مهيئان للاشتراكية الذاتية، وبالتالي أفضل في تقاسم السلطة والموارد.

والمشكلة هي أن هذا السرد، كإطار سياسي، يتجاهل حقيقة قدرة المرأة على العنف، والجشع، وخداع الذات، وانعدام المسؤولية. قدرة المرأة على أن تكون فاعلة في حياتها الخاصة، حتى عندما تكون أفعالها مدمرة. ماذا يحدث عندما يفترض أن تكون المرأة متحضرة وتتصرف المرأة بطريقة غير أخلاقية؟ كيف نحاسبها؟

هذه الشخصيات التي أجدها مثيرة هي النساء غير الاجتماعيات أو الخيريات على الإطلاق أو الجيدات في فعل أي شيء، بخلاف الشرب مباشرة من الزجاجة وتدمير حياة الآخرين (وحياتهن). الجدلية، العدائية، الفقيرة والغاضبة. بنات متناقضات، أمهات متناقضات، شيوعيات متناقضات، لامبالاة متناقضة. النساء اللاتي يرفضن دفن الأحقاد أو يرفضن تمامًا حقيقة اضطهادهن. وبعبارة أخرى، فإن اضطهادهن لا ينتج بالضرورة صفات اللطف أو المرونة أو الإنجازات العالية غير العادية. إنه ينتج الاستياء والخلل العاطفي والتناقض وإمكانية العنف الخفي. وكثيراً ما تتعرض النساء للتشويه ــ وليس بطرق ساحرة ــ بسبب ما فعله المجتمع بهن، ثم يصبحن متواطئات في تشويه الآخرين.

خذ آنا وولف من رواية دوريس ليسينج "المفكرة الذهبية" (1962). تمثل آنا المركز السردي لهذه الرواية الملحمية المفككة . إنها مواطنة مثقفة ونشيطة وملتزمة. لكن كونها تدرك مكانتها في التاريخ وفي السياسة، فإنها تنهار تحت وطأة شخصيتها. إنها ليست شيوعية فحسب، بل امرأة؛ ليست كاتبة فحسب، بل كاتبة أيضًا؛ ليست فقط حبيبة، بل أم.إنها تناضل ضد التنازلات التي يجب أن تقوم بها كامرأة تكتب، وامرأة تحب الرجال وتحاول أيضًا تربيتهم. آنا هي فنانة متطرفة وعاشقة لأمها، وهي امرأة لم يكن لمشاعرها مكان في تكوينها السياسي، وهي تتهم نفسها بالإرهاق والتشوه. لقد انفصلت عن الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى في وقت قريب من انعقاد المؤتمر العشرين للاتحاد السوفيتي عام 1956:

لماذا لا نستطيع أن نقول شيئا مثل هذا؟ نحن بشر، بسبب مصادفة وضعنا في التاريخ، كنا جزءًا منه بقوة كبيرة، ولكن فقط في مخيلتنا، وهذه هي النقطة، مع الحلم الكبير، التي يتعين علينا الآن أن نعترف فيها بأنه قد تلاشى الحلم الكبير والحقيقة مختلفة: ذلك أننا لن نستفيد أبدًا.

لا أريد أن تعاني جميع النساء في العالم من خلل وظيفي بنفس الطريقة التي تعاني بها ألما من الخلل الوظيفي، أو بالغرابة أو السوء مثلها. لا أريد أن أنهك نفسي كما فعلت آنا في كفاحها ضد ثقل التاريخ. أنا حقًا أحب الروايات التي تتحدث عن هؤلاء النساء، لأنها تجعلني أشعر بتحسن طفيف بشأن كوني غاضبًة ومتشائمًة. النساء نساء، ليس لأنهن بالضرورة يشتركن في أي صفات معينة، ولكن لأنهن يشتركن في تاريخ جماعي. تذكرني هذه الشخصيات بأنه ليس من الضروري أن أفقد الوزن أو أن أكون نموذجًا للقيم التقدمية المثالية أو أن أسحر كل نادل أقابله لكي أكون شخصًا منخرطًا بنشاط في مشروع حياتي، أو لأكون شخصية تشكل نفسها والعالم من حولها.

(انتهى)

***

..............................

المؤلفة: إيلينا سافاج/ Ellena Savage  مؤلفة وأكاديمية أسترالية. ألفت كتاب (مدينة صفراء) والعديد من المقالات والقصص القصيرة والقصائد المنشورة في المجلات الأدبية العالمية. تلقت إيلينا العديد من المنح والمنح الدراسية، بما في ذلك مؤخرًا منحة Marten Bequest للسفر 2019-2021. تعيش في أثينا، اليونان، مع زوجها دومينيك أميرينا.

تأتي رواية "عمتي الرومانتيكية"* لنجم والي على شكل خطوة موازية لـ"سعاد والعسكر" و"إثم سارة"، والتوازي يعني حكما التجاور. فهي تدور حول موضوع المرأة في المجتمع العربي، ولا تنتقل به من طور لآخر. وإذا بدأت سارة من التمرد وانتهت بالاستسلام، فإن سعاد تبدأ من الثورة - وتتحول لأيقونة تحررية على مستويين - اجتماعي وسياسي، وتأخذ دور وردة حمراء في مزهرية نظام يوليو بقيادته العسكرية والمخابراتية، ولكن أيضا تكتب لنفسها مصيرا مأساويا ومؤلما وهو الانتحار. ولا يوجد أي فرق بين قتل النفس بطريقة وجودية وقتلها بطريق بيولوجي.

وتكرر هذا السياق العمة - أو عمة صبري - وللأسف لا نعرف اسمها ولا اسم ابن أخيها، فصبري مجرد لقب مستعار تنتقيه العمة من ذاكرتها الرومنتيكية لملاكها الصغير أو بئر أسرارها كما تقول لاحقا. ولا أفهم ما هو الجانب الرومنسي في الصبر. فهو يدل على المشقة والمكابدة أو التألم، وغالبا ما يرتبط بواحد من اتجاهين: الواقعي النضالي أو الرسولي والنبوئي، بمعنى أنه يجمع الضدين، المقاربة المادية والدينية للنساء في سياق واحد. ولا تخرج العمة عن تقليد والي في تصور نسائه ويقدمها منذ البداية بسياق شخصية متمردة تنظر للتقاليد من أعلى، حتى أنها تبدو جزءا منطقيا ومكملا لمجتمع التحديث في الشرق الأوسط، وهو مجتمع الثكنة وقانون الطوارئ. فأبطال الكاكي - البذة العسكرية لا يغيبون عن ناظر أحد ويجوبون الشوارع منذ أول صفحة. ويؤكد الراوي هذه الحقيقة حين يقول إنهم لم يعرفوا في حياتهم غير الحروب، وكان القصف يبدأ منذ بواكير اليوم ولا أحد يعرف متى ينتهي ص11. ولكن ثورة العمة لا تستمر مثل تحرير سارة لنفسها (تهرب من الدمام إلى لندن)، ولا مثل انقلابية سعاد حسني (تهرب أيضا من القاهرة إلى لندن)، وإنما تنتهي بغضون أسابيع هي طول فترة علاقتها مع فارس أحلامها الأول إبراهيم، الشاب المحبوب الذي تضحي بعذريتها في سبيله. وهكذا تفقد كنزها الغالي وأمام عينيه، وفي مستودع أو غرفة مهجورة خالية من الأثاث، وتذكرنا بمطاعم وغرف بيوتات همنغواي المظلمة والباردة والفقيرة. وهذا يعني أنها دليل على مجتمع حرب واقتصاد طوارئ ص43.

ولا بد هنا من ملاحظتين.

الأولى هو أن الاغتصاب جرى بدم بارد وعن عمد. ولم يرفع إبراهيم يده للدفاع عن شرف حبيبته - والمفروض أنه رجلها ص 43. وزيادة في القهر يظهر بعد ثلاث سنوات برتبة "ملازم ثاني" يركب سيارة ص 39. وهي ولا أدنى شك سيارة السياسة البطريركية وأيضا سيارة مجتمع الهزيمة. وكأنه يركب محبوبته بصفته الرجل البديل، أو صورة للرجل الحقيقي الذي أكل كل شيء.

الثانية أن الضحية لم تدافع عن نفسها، وقررت أن تنتقل إلى الخطة باء وأن تخرج من الباب الخلفي بهوية مزورة. فهي في إحدى المراحل تفكر بخياطة شرفها المفقود ص44. ولا ضرورة للتعليق على هذه العبارة، مع أنها قصيرة مثل تاريخ العمة مع التمرد.  ناهيك أنها تفيد عكس الأطروحة، ولا سيما أن العمة مسحت نقاط شرفها الضائع بصمت وحنكة، وغادرت هذه النقطة العمياء من سيرة حياتها برأس مرفوع.  وأقرأ ما سبق على أنه دليل دامغ على لا أخلاق مجتمع الهزيمة وفساده، وتأجيل لعقلية المقاومة، وإبرام صلح نفعي وبراغماتي بين الواقع والوعي. وهو إجراء اعتدنا عليه في الثلاثية. فالرواية رقم 2 تسرد وقائع استدراج وتخدير سعاد قبل أن يغتصبها رجل المخابرات، ثم يحولها إلى ورقة ليلعب بها. ولا يمكن أن تتوقع أكثر من ذلك من نساء الطبقة المتوسطة في مجتمع يتخبط بين عدة احتمالات، ماضي الفتوحات العسكرية باعتبار أنه نقطة معيار للأنا الأعلى. وحاضر الفتوحات العسكرية باعتبار أنها تحاكي نهضة الأمة في القرن السابع، مع فارق أساسي، أنه كان لهذه الأمة نبي سياسي وديني، بينما توزع الحاضر على عدة أنبياء لا- دينيين، وبقيت الهوية الروحية تحت الأرض معلقة ودون تجسيد، أو أنها أصبحت رهن مقولات أسطورية مثل الغيبة الكبرى والغيبة الصغرى وزمن الضعف والانتظار (يقول عنه سليمان فياض: زمن الصمت والضباب، وهو نموذج آخر على إيديولوجيا الردة عند القوميين).  وربما لم يتفق كتاب الحداثة على شيء - ضمنا الحداثة بعد الطبيعية مثل اتفاقهم على تعتيم ألوان الطبيعة والحياة واللجوء لمكياجات وديكور قوطي أو قروسطي، ومن أشهر أمثلته أجواء كافكا الكابوسية.  ويبدو هذا الخلل بنيويا وهو جزء عضوي من السردية الحديثة. فكل النساء مهزومات سلفا، حتى فيما يسمى أعمال المقاومة لا تهرب المرأة من مضمونها الأوديبي وتتحول إلى اثنين في واحد أو ما يعادل نصف امرأة ذات دورة بيولوجية كاملة - معدلة إلى حد ما عن جهاد النكاح. وهي لا تصل ولا حتى لمعنى المرأة المقاتلة في القرون الوسطى والتي رسمها الخيال الشعبي في سيرة الأميرة ذات الهمة (انظر دراسة وين جين أويان لهذه الظاهرة). وبالتأكيد وراء ذلك حساسية تاريخية تتحكم بالسرد العربي الحديث مقابل تصور خيالي مريض ومبالغ به يسجله السرد الشعبي.

وإذا لم تكن العمة بطلة خارقة مثل ذات الهمة فقد احتفظت بجانبين من جوانب الأدب الشعبي.

الأول هو الصدفة. وتلعب دورها بإحكام وتحرك دفة القارب، وبهذا السياق يصفها الراوي في مستهل الفصل الثاني: بأنها الاسم الآخر للمشيئة ص 47. وهي مفردة محببة لكاتب من نوع نجيب محفوظ الذي ينظر لكل شيء بمنظار استسلامي وبكثير من اللامبالاة، مع الحرص على كتمان طموحاته الضخمة وتحويلها إلى مشقة وكدح متواصل.

الثاني  المفاجآت. وتبدو كأنها ترجمة لخطط غير مبيتة وتنفيذ ارادة إلهية مؤجلة مثل زيارة العمة لبيت إبراهيم واغتصاب الخال لها (ويسأل الإنسان نفسه: أين كان البقية أثناء هذا المشهد الملحمي الذي لا يختلف عن طقوس المقابر). ودائما تنتهي المفاجآت بتبديل الأقنعة، وهي فكرة محورية تساعد الشخصيات على التنكر للواقع (فسمعان مثلا تناديه العمة إسماعيل). وأرى أنها حيلة لا تختلف عن خياطة شرفها. ويمكن إضافة الحالتين لرصيد التخلف السياسي. وهذه إحدى حسنات الرواية، أنها تدخل إلى غرفة السياسة من باب المجتمع بعكس "سعاد والعسكر" التي كانت تروج لنفس هذه المعايير ولكن بلغة سياسية مكشوفة. ومع ذلك تحتل العمة مكانة درامية أعلى في سلم شخصيات والي. فهي تستسلم لحقل الألغام الذي ترعاه التقاليد والسلطة الحاكمة، وتغامر بالزحف فوق حقول الموت هذه. وتتدخل الصدفة لجانبها عدة مرات، وتورد بأصدقائها الذكور موارد التهلكة. ولا يبقى معها غير صبري، الولد الصغير. وأعتقد أنه ليس شاهدا فقط على حياة العمة، ولكنه بديل آخر لها، مثل الحرب التي يشرحها والي بين قوسين بسؤال متكرر (أي حرب؟). وهذا قاسم مشترك يجمع بين الثلاثة.. الولد والعمة والحرب. فالثلاثة أرض ليس لها اسم على الخريطة ولكن لهم وجود في الواقع. وطبيعة العلاقات في هذه الرواية رغم بساطتها تعتمد على التقابلات، بين شيء محدد وآخر لامتناه. مثل الرابط الذي جمع بين إسماعيل - أو سمعان وصديقته القديمة هناء. وهو الدخول في دورة عذاب وألم مشترك.  ولا شك أنها تجربة مازوخية - ذات منشأ أرواحي كما ورد بالحرف الواحد ص62. ومثلما تكون السعادة مزيفة إذا لم تكتمل بمجتمع آمن ودائم، يكون الشقاء تجربة روحية تشد الإنسان إلى قدره المحدد سلفا. والتعبير أيضا لوالي - وورد على لسان ابن الأخ راوي الأحداث ص62. ولكن المشكلة هي في طريقة إدراك هذا الوعي. هل هو معرفي كما في حالة الفنان إسماعيل، أم أنه تجريبي ووجودي كما هو شأن حالة المرأة الرقيقة هناء.  ولذلك يجدر بنا ملاحظة أن الولد الصغير لم يكن راويا عليما، ولا شاهدا منفردا على الأحداث، ولكنه جهاز لاقط للصوت مثل أي أداة تنصت. بتعبير آخر هو شخص واحد بعدة أصوات، وكان كل صوت يروي لنا مرحلة من مراحل تطور المجتمع العربي. وقد سبقه إلى ذلك بهاء طاهر في "نقطة نور"، ولكن ظاهريا توحد الأحداث ذاكرة الصبي عند والي والبناية القديمة عند طاهر، مع قاسم مشترك يجمع الاثنين، وهو  حالات الاغتصاب وارتكاب الخطايا بشكل متكرر، حتى أنك تعتقد أن كل البنات في البناية بلا شرف، وكل رجال والي بلا ضمير. وهو اتهام غير مباشر لمجتمع الهزيمة. فالشعب يختار أهون الشرين وهو التضحية بكرامته وسترها بقناع جليدي من الشعارات والمبررات المكيافيلية. والسلطة لا تجد طريقة مناسبة للامتناع عن تدمير نفسها ذاتيا وكأن المصائب هي التي تكفل للجميع الحياة. وهذا هو مدخل والي للفصل الثالث. ويناقش فيه موضوع الحرية والاختيار. ويتوقف طويلا عند الفرق بين معنى السعادة واللذة، ويكشف من خلال التأملات المسهبة وعيا شقيا بمعنى الطفولة. فهو لا يكتفي بتعريض ابن العشر أعوام وربما أقل لكل احتمالات الجانب المحرم في علاقة المرأة بالرجل، ولا ينتبه لموقف عمته الأخلاقي، ويركز على الطبيعة القسرية للرغبات والمتعة. ولا أقصد الاستجابة للغرائز والضعف أمامها - وهي فكرة موجودة وترمز لتخاذل السلطة أمام استغلال فرصة وجودها في الحكم، ولكن إلى المنحى الوجودي لمسألة الشرف. ولا تنأى رواية لوالي بنفسها عن هذه المشكلة، ابتداء من "بيت اللحم" - وهي عن حي البغاء في بغداد، وحتى "إثم سارة" - وهي عن رفض الجيل الجديد لسلطة الأب التاريخي أو لشبح الماضي القريب. وأكاد أجزم أن المغامرات الجنسية في أدبيات والي مجرد انعكاس لمافيا السياسة لا أكثر ولا أقل، وأن المرأة تسقط دائما إما ضحية لمعنى الأسرة الشرقية أو نتيجة لترتيبات أعدها لها القدر وكأنها يجب أن تدفع ثمن ضغائن وأحقاد آدم بعد حادثة التوريط بالتفاحة وعقوبة الهبوط. ويعبر صبري عن هذا المعنى بقوله: لتكون سعيدا وحرا عليك أن تشاء ذلك ص68 بمعنى أن سعادتك ملك يديك وليست منحة إلهية.  ولكن علاقاتنا محكومة بنظام لا معرفي ونفعي،  وهي ليست مطلقة ص67.

ولا ينفرد والي وحده بهذه الرؤية. وكل روايات مجتمع الهزيمة تصور بقدر متفاوت علاقة الجيش بالنساء، وجلسات السكر والعربدة جزء لا يتجزأ من هذا الجو. وفي وقت لاحق وبعد معاهدات السلام حل التاجر محل العسكري، وبقيت الصيغة كما هي.. سهرات حمراء تكون المراهنة فيها على شراء وبيع الأصول كالأراضي والمتاجر والبيوت بعد أن كانت مخصصة لبيع الشعارات والمناصب (قارن "قارب الزمن الثقيل" لعبد النبي حجازي مع "المدينة الأخرى" لخيري الذهبي). إذا أخذنا أول نموذج على أنه بكاء على أطلال مشروع حركات التحرير العربية، فالثاني بكائية على مشروع إعادة الإعمار، وتدهور الحالة العقلية للمثقف، ودخوله في السبات، طبعا، وهو تحت تأثير الثلاثي المعروف: الكحول والرشوة والنساء الجميلات. ويتفرع من ذلك أيضا موقف يلغي نفسه بنفسه، وهو تعبير آخر عن سياسة النفي والإثبات التي تتبعها الرواية، كلما ألغت رجلا من ذهنها وتهيأت لاستقبال غيره. وتتضح المشكلة جوهريا بعد دخول آدم مسرح الأحداث. وهو شاب صدفة كذلك، تلتقي به العمة في الحافلة، وتتفق معه على الهجرة، وخلال التخطيط لهذا الخلاص يتضح النفاق الذي تتبعه الدولة. فهي تنادي بإيديولوجيا شرقية وتعيش برأس غربي. ولا تخلو علامات سياسة السوق من أي صفحة من الصفحات، وتعبر عنه العمة بمانيفيستو الهجرة إلى باريس. وتكشف هذه الفكرة عن خلل عضوي آخر. فمع أن الدافع للهجرة هو الحرية المفقودة تحتل صورة الجنرال ديغول ذهن الأم. وبهذه الطريقة يغلق نجم والي الدائرة حول شخصيات يكتب عليها مصيرا واحدا لا ثاني له، وهو الخروج من ثكنة بغداد للدخول في ثكنة باريس. وما يتغير هو شرط عبودية هذه الشخصيات أو ورطتها الوجودية، من سياسة القدر الظالم إلى سياسة الحظ السيء (والعبارة معدلة لكن وردت على لسان صبري ص98). وأترجم معناها كما يلي: من غدر السماء لغدر الأرض.  وفي الحالتين أنت في سجن. الأول لعنة والثاني طبيعي ولا بد منه ص101.

القسم الثاني من الرواية يحمل عنوان "في خبر صديقاتها"، ولكنه لا يبدو فصلا آخر بقدر ما هو استطراد أو تفصيل. ويدفعني لهذه النتيجة عدة أمور.

أولا: فكرة والي أن الصداقة لا تقوم على التغاير ولكن على التشابه والتأكيد. وكما يقول في مطلع الفصل الخامس: الإنسانة تعرف من صديقاتها ص109. بلغة أخرى: الصديقات تجسيد لأجزاء نوعية من الذات.

ثانيا: العشوائية في الصداقة. فهي لا تحصل استجابة لدافع أو اتجاه معين، ولكن بالصدفة المحضة، أو ما يمكن أن نسميه الصدف الممكنة كاللقاء في غرفة الصف خلال أيام الدراسة الطويلة أو التجاور بالمسكن. وفي الحالتين يوجد إكراه على التقارب تفرضه الجغرافيا، بمعنى أنه انتماء إلزامي وليس التزاما طوعيا. ويوجد مثال ممتاز على هذا الأسلوب في رواية "حادثة النصف متر" لصبري موسى، حين تنشأ علاقة بين اثنين بسبب التواجد على متن حافلة مزدحمة بالركاب. ومثلها روايات السفر بالقطار لمسافات بعيدة مثل "قطار اسطنبول" لغراهام غرين، أو العلاج في مصحة  مثل "طيران فوق عش الوقواق" لشون أوكيسي. وفي هذه النماذج يلعب المكان الضيق دورا جوهريا لخلق فرص تعارف يتبعها نشوب اختلاف درامي. وهذا يفسر أسباب الخلافات الراديكالية بين العمة وفاتن وهي أولى صديقاتها. وبطلة الفصل الثاني. وهنا يخرج والي عن قاعدته السابقة، وهي تقديم شخصياته من خلال أفعالهم، ويتوقف مطولا عند صفات فاتن الفيزيائية قبل أن ينتقل للجانب العاطفي وأخير الأخلاق، أو أسلوب توريط الجنس الآخر.  وأعتقد أن هذا هو أول اختلاف جذري بين الصديقتين. فالعمة لا تفتعل صداقاتها، أما فاتن فتحسن التدبير والتخطيط لكل شيء، ولا سيما توفير الخلوة ص112. واستغل والي هذه النقطة لينبش في تاريخ وذاكرة بغداد. ولكن سمحت العمة لهذه الفرصة أن تفلت من يدها، ولم تقدم لنا معلومات عن جغرافيا المدينة، واهتمت بالطباع والأحوال، وهو أكبر وآخر اختلاف مع صديقاتها. ويمكن أن تقول إنه لم يتوفر عنصر واحد يجمع نساء الرواية باستثناء المكان الضيق، وكأن بغداد تحولت إلى حرملك تقطنه نساء رجل واحد.

وكما أرى تنفرد هذه الرواية بعودة الكاتب لمدينته المفضلة بغداد، بعد سياحة طويلة في الخليج العربي وأوروبا في "إثم سارة"، وسياحة أطول بين مصر وشمال أوروبا في "سعاد والعسكر".

ولكن هذه العودة لم ترتبط بأمكنتها فعليا. وعلى الرغم من النكهة المحلية لبغداد، والتي أعاد والي بناءها على مهل وبعاطفة رومانتيكية لم تتوفر للعمة ذاتها، كان ولاؤه الأساسي لخطابه العسكري. وكما ألاحظ كان مختلفا لحد بعيد عن خطابه الحضاري في "ملائكة الجنوب"، ثم خطابه الاجتماع سياسي في "تل اللحم". واختار تعويم لغة وتصورات "عمتي الرومانتيكية" فوق الظواهر الأسلوبية للتفسير الواقعي. وإذا تمسك بلغة الوقائع - أحداث منفصلة يتناوب عليها علاقات إضافة وحذف. وأقصد بالاضافة ما يساعد على تطوير الحبكة، والحذف ما يساعد على توسيع رقعة الإبهام والإلغاز - وهذا لا يعطيه الحق ليدخل في زمرة الكتاب الواقعيين إلا إذا نظرنا لبناء العقل الطبيعي والتكويني على أنه واقعي.  ولكن والي يركب أحداثه دون أي تبرير،  ويقفز للنتائج دون أي سبب. بتعبير آخر الحبكة جاهزة والشخصيات مفصلة. فهي حاملة للأحداث فقط ولا تخترع شيئا من عندها، وكأنه يريد إحياء التراجيديا الإغريقية وليس تراجيديا شكسبير. بلغة أوضح القدر العسكري للمنطقة هو الذي يحدد المصائر، ويلعب رجال الأمن دور إله يمشي على الأرض، ويبدلون اتجاه وقدر الإنسان لأنه غير مخير وليس له الحق باتخاذ أي قرار.  وعلى هذا الأساس يقف والي محتارا أمام شعار المقاومة، ولا يعرف لمن يدق الحاكم طبول الحرب. لعدوه الوهمي والمفتعل أم لذاكرته وبقاياها. ويترك الجواب معلقا في الفراغ، غير أنه يقدم تصورات غير مباشرة عن الوعي الدرامي الباطن للسلطة.

ولا بد من توضيح آخر صفتين.

الوعي الدرامي هو السيناريو المفترض لإدارة الصراعات، بمعنى أن المتهم هو القاضي نفسه، ولذلك لا يوجد أحكام غير مزاجية أو غير منحازة.

أما الوعي الباطن فهو الحقبة المنفصلة عن واقع الشخصيات، وهي بالضرورة جزء من نظام الأخطاء ونقاط الضعف التكوينية والتي يرغب الحاكم بإتلافها. ولذلك يحرص والي على بناء مدينة للرئيس داخل أسوار مدينته التاريخية، وهو ما يساعد على إغناء شهادته عن السلطة وتجاوزاتها. وأوضح مثال عن ذلك الفصل الخاص بشارع حيفا أو مدينة السيد الرئيس. وبتعبير نجم والي مدينة الحاكم. ومع أن الهدف المنشود تقديم خدمات لشعبه تبدو وكأنها تجديد لأخطائه أو تجميل لماضيه.  ويلعب والي بشخصية منار، أجمل بنات شارع حيفا، وعوضا عن أن تكون رمزا للأخطاء والانحراف تتحول إلى تمثيل لانزلاق السلطة من تحرير المدينة إلى تحديث الأخطاء والانحرافات. فالماضي يكرر نفسه وبوتيرة أعلى، لكن تحت أسماء مختلفة. وتكشف منار هذه الخدعة بحرق نفسها. وبذلك تسمح للعمة برؤية المجرم الحقيقي وراء هذا السيناريو وهو المقدم فاروق. وسبق له أن ظهر في مقدمة الرواية باسم خال إبراهيم.  وإذا تسبب بحرق وتشويه منار في الوقت الحاضر، فقد اغتصب العمة في الماضي.

ويذكرني شارع حيفا بحي الطرب - وهو شارع للبغاء الرسمي، ويعبر عن رذائل الرئاسة وتداعيات حروبها العبثية. وهذا اصطلاح آخر أصبح أشهر من نار على علم. ولا يوجد أديب عراقي لا يدين هذه السلسلة اللامتناهية من حروب أفقرت الدولة وخربت مشروعها التحرري. وواقع شارع حيفا قد يكون انعكاسا لاشعوريا للحياة في حيفا بعد الاحتلال كما لو أن سلطة الثورة (التعبير لوالي) لا تختلف بذرة واحدة عن قوات الاحتلال في إسرائيل، كلاهما يحتل الإنسان أولا ويضعه بموقف أضعف من الأرض، وهو تجريد سريالي وتشييء للعاقل، وتسخير له ضمن دورة النظام وليس دورة الحياة ولا الإنتاج. أو بتعبير والي في مستهل القسم الثالث من روايته: تحويل الطقس إلى فوضى ص163.

عموما يمكن تلخيص الرواية بثلاث محاور.

الأول ذهني. وارتكب فيه الراوي عدة أخطاء استراتيجية وهو يصور تهور وطيش الشباب في تلك المرحلة، وشيطنة النظام لمعنى الحرية، وفرض إيديولوجيا الدولة على أنها هي الحق الوحيد المتاح لهم. وربما لهذا السبب كانت كل نهاياتهم تراجيدية وتنتهي بالاختفاء غير المبرر كأن الارض تنشق وتبتلعهم.

الثاني اجتماعي. ومارس فيه الراوي هوايته المفضلة وهي التلصص على أسرار النساء. وأعتقد أنه كان يؤدي طقسا فرويديا نموذجيا وهو العادة السرية أو ارتكاب الزنا بالريموت كونترول. وربما لا يخلو هذا المنطق من زنا محارم. ليس بالمعنى الحرفي ولكن بالإمكان أو بتوفر احتمال رديف. فنساء العمة هن مكونات حياة العمة. ولنأخذ منار على سبيل المثال. ألم تحل العمة مكانها في دكان بيع الزهور. وكذلك  بالنسبة لفاتن، تقاطعت مع العمة في التنقل بين عدة رجال، وكانت كلتاهما تتبعان قانونا واحدا.. الانتشار والإزاحة. وفي كل حالة تقدمان نموذجا من نماذج العطب المتعددة التي أودت بالمجتمع العربي إلى التهلكة. أو ساعدت على إسقاطه في هاوية تبعتها غيبوبة حضارية لا نزال نقطف ثمارها، بمعنى مصادر الشقاء والعذاب المترتبة عليها. هذا التماهي في الميول والاتجاه وضع صبري في موضع الكبائر، وجعله يخطئ مع بدائل ناعمة وكأنه يخطئ مع عمته ولكن على مراحل. وفي كل مرحلة ينتبه لخطأ استراتيجي في مقاربته. ومن ثم في مقاربة السلطة بشكل عام لتبعياتها. ومن المؤكد أن الراوي خان عفاف عمته مع أن المفروض أنه حجاب تختبئ وراءه. وبالمثل فشلت أجندا السلطة، ودخلت في الغسالة الوجودية، وهكذا اكتشفت الضعف الذي تعاني منه. هذا غير سلطة الوهم التي تقتات عليها.

الثالث اقتصادي. وهو يخلو من الإضافات الهامة للأحداث لكنه يحفر في شبكة العلاقات السابقة حتى يفضح الأساليب اللصوصية للدولة (بلادنا التعبانة كما يقول والي ص207). ويكشف هذا المحور عن مظاهر التعب (غزو الكويت ثم الانسحاب منها، وما ترتب عليه من فساد وانحطاط على جميع المستويات، وبالأخص جفاف المصادر،  أو ما يعتقد والي أنه مواقف استفزازية للنساء، وسلوك عشوائي ومتهور للرجال. وبالنتيجة لا يجد أي شخص نفسه في مكانه، وإنما في مكان غيره.. جمال يقترن بفاتن مع أنه يريد عديلة، وفاتن تسرق زوجها وتهرب بالسر مع أخيه، وثمار تعيش بمفردها دون طلاق تحت سقف واحد مع أخ زوجها الغائب. ولا يمكن قراءة كل هذه المصادفات على أنها إرادة إلهية، ولكن هي نتيجة للقراءة الواقع بالمقلوب. وهنا يمكن القول إنه واقع لا هيجلي لكنه يتبع استراتيجية هيغل. فهو لا يعرف على أي ارض يضع رأسه (إشارة لكلام ماركس عن هيغل وأنه مثالي يمشي على رأسه كالبهلوان). 

وينهي هذه المحاور بمشاهد مطولة تعيد للذهن قيامة أليعازر أو موت وانبعاث تموز. ويختار لتوقيت القيامة شهر مارس (آذار بلغة المشرق العربي أو فصل الربيع وموعد الاحتفال بعيد الأم). ومن المؤكد أنه يضع يده على الجرح بهذا الخصوص، وينبهنا إلى ربيع القيامة وينسى أن يذكر أعياد الأم. لكنه يرعى منار في مرضها بعطف أمومي قل مثيله.  ومتى؟ في وقت سوق الأب إلى الجبهة للاشتراك بالقتال وانقطاع أخباره.

ويبقى البيت مرتعا للنساء والأولاد أو ميدانا لأم إلهية وملائكية تؤدي طقوسها بصمت بالغ. ولا ينسى أن يشبه أمه بورود الربيع أو بحديقة مزهرة. حتى أنها تبدل ثوبها الأسود بآخر مطرز بورود الموسم كلها، وتجلس على كرسيها بانتظار الغائب - مخلصها من محارة الأحزان، والعقل المدبر للبيت الذي تحول على يد النظام إلى مقبرة. ويختلف والي بهذه الأطروحة مع تصور هوميروس للبطولة الملحمية، وينفي بكل إمكانياته فلسفة عودة المحارب، ويضع بمكانها ما أود أن أسميه عودة الحياة. وتوجد أكثر من إشارة تربطه بالإنطلاقة المبكرة لزكريا تامر وقصصه الطليعية التي نشرها بعنوان "ربيع في الرماد".  ولكنه ينبهنا منذ البداية أن العائد سيشبه نفسه، ولن يتطابق معها. بمعنى أن دورة الموت لن تقود لدورة انبعاث، وستحمل الحلقة جزءا مفقودا. وحتى إذا حافظت الصور على نفسها لن تجد في داخلها مضمونها السابق. وكما يقول الراوي: ذاكرتنا ستقضي نحبها وتموت، وسترمم نفسها بنصف ربيع آخر أو ربيع شبيه ص223. ولذلك نهاية الحرب لا تعني نهاية الموت (والكلام للراوي أيضا) ولكن التهيؤ لمفاجآت من نوع آخر ص223.

بقيت مشكلة الجزء المفقود من الذاكرة الوطنية.

لقد توقف معها بعدة صفحات ليكتب نعوتها بدموع مآقيه. ولذلك أجد أن الراوي هو الرومانتيكي وليس عمته. وسرعان ما يكشف لنا أن النوستالجيا المتورمة لديه هي لما يسمى في أدبيات اليسار العربي الزمن الجميل أو مرحلة صعود حركة التحرير العربي بنسختها القومية ومساواتها بين الجنسين، حينما رفعنا شعار البارودة بيد والمعول بيد، وأحيانا يحل القلم محل المعول. ومن وراء هذه الواجهة ترفرف أعلام حمراء في زاويتها مطرقة ومنجل أبيضان أو قمر روسي وقمر صيني.  ولكن ما افتقدته في هذه الإشارات النوستالجية والباكية مصير هذا التحالف، والذي نجمت عنه عدة خيبات وطنية، وانشقاقات خربت الجسور بين العمق والواجهة أو بين اللاعبين على الأرض، وهم أطراف اليسار المزعوم.

وأعتقد أن مصير الزمن العربي الجميل كان مأساويا لأن رموز تلك الفترة لم تحسم خياراتها، واختارت أن تعيش وراء أقنعة غامضة، وهي بدورها تعبير مضطرب على تداخل المحاور، وعدم وجود روابط عضوية بين ما هو قومي وما هو أممي. ناهيك عن الاختلاف المرعب في تحديد دور الدين أو المشاعر الروحية التي تطورت في المجتمع تاريخيا حتى أصبحت جزءا مؤسسا منه. وكانت هذه النقطة هي أكبر غائب عن مشهد الرواية، من بين خمس ذكور وأكثر من سبع نساء لم تعبر أي منهن عن صعود المشاعر الدينية، مع أنها كانت محددا في أزمة حروب العراق، الموضوع الحقيقي للرواية. وكلنا نعلم كيف انتهى ذلك بإضافة عبارة الله أكبر على العلم العراقي. ولا أجد في نفسي ضرورة لمزيد من الإيضاح. لقد اختصر النظام طريقه، وقرر الصعود بالسلم إلى العرش، أو باصطلاح آخر إلى منابعه الروحية. ولا أفهم لماذا لم يخصص نجم والي شخصية تمثيلية لهذا الاتجاه. واكتفى بالنظر للمسألة بعين واحدة والاستماع للأزمة بأذن واحدة.

ومهما كانت الدواعي، تفكيك شعارات الزمن الجميل تقودنا بالضرورة لاكتشاف الخدعة التي تورط بها اليسار العربي. ولا شك أن إفلاسه على الساحة الداخلية أفسح الميدان للخط الديني، وأدى لهذا النزوح بالأفكار والمؤهلات حتى دخل في عباءة ديمقراطية السوق وليبرالية نصف العالم الغربي. ومن بقي متمسكا بإيديولوجيا المقاومة نهش إرادته الفساد من طرف والرجعية اليسارية من طرف آخر، وهي بذرة ميتة لن يكتب لها الحياة والبحث عن مصادر الضوء ومصيرها محتوم مثل سابقها المعروف باليسار الطفولي، مع فارق واحد أن وجه اليسار الرجعي والمتزمت متحجر ومغطى بطبقة تتراكم عليها ميوله البيروقراطية وغير التاريخية، بينما غلب على اليسار الطفولي روح تمردية وجدت صوتها وصورتها في أقلام نساء مجددات وانتحاريات أمثال ليلى بعلبكي وغادة السمان وكوليت خوري. والثلاثة من بلاد الشام. وأعتقد أنهن مقدمة لستينات جيل غاليري 67 في مصر، ولرواية الأصوات في العراق. 

ويمكن إجمال خصائص سردية الزمن الجميل بثلاث نقاط.

الأولى أنها بصيغة الماضي، ولا أفهم لماذا لم ننتبه في الوقت المناسب لجماليات عصرنا. وكل الأعمال التي تندرج في هذا التيار تشير من قريب أو بعيد لمجموعة من التجاوزات الأخلاقية التي تبلغ درجة استفزاز المشاعر أحيانا. أو أنها تتعامل بحقد وشماتة مع جيل الأب والجد. وبصراحة لا تخلو معظم تلك الأعمال من صعاليك ولصوص يمثلون روح التمرد بوجهه السلبي. حتى أخلاق اللص الشريف غير متوفرة ولو بأدنى درجاتها، وترتكب كل الموبقات دون أي مبرر منطقي باستثناء كسر المحرمات.

الثانية يغلب على هذه الموجة منطق البحث عن الزمن المفقود. ويجب ملاحظة التخبط الذي نستعيد به تلك الأمكنة. وهذه نقطة عجيبة فعلا، أن نقرأ المرحلة ليس بصفة أنها طور من أطوار الحياة والتطور، ولكن باعتبار أنها مكان قديم وغائب وتغلبنا النوستالجيا له. بتعبير أوضح نتناول تلك المرحلة من خارجها، والعازل لا يتوقف على المسافة الزمنية، وإنما على البعد المكاني. ولذلك يكون السرد إما من وراء الحدود (في المهجر) أو من خارج التراب الوطني - بسبب النزوح والتشرد.

الثالثة والأخيرة أننا لا ننتبه للفارق الوجداني والحضاري، ولا لدرجة العذاب الذي نخلفها وراءنا، ويبقى في أذهان جمرة أيام الشباب المنصرم. ولذلك أرى أن هذا الحنين مرضي ويعبر عن الرهبة من الموت والخشية من تقدمنا بالعمر واقترابنا من لحظة الرحيل. وهو مجرد إعراب عن تشبثنا بشرط البقاء لا أكثر ولا أقل. وإلا لوجب علينا ملاحظة تشابه اليوم مع الأمس، وتوسيع حفرة السقوط الحضاري وتراكم عذابات وآلام مجتمع امتنا إن لم نقل  دولة الأمة. وإذا عانينا من نكبة عام 1948 فقد دخلنا بعدة نكبات متلاحقة  لم تكن أولها حصار بيروت عام 1982 المسؤولة عن أول نحر وتضحية بحركة التحرر العربية، ولن يكون آخرها إفناء غزة عام 2023، وتحول رمز المقاومة في فلسطين إلى ورقة يساوم عليها الشرق عدوه الغربي.

ولا يبتعد نجم والي كثيرا عن هذه النبوءة. فالعمة الرومانتيكية تبدو في آخر شوط من الأحداث بوجه مسن تراكمت عليه دلائل موت الماضي الجميل. زد على ذلك - والكلام على ذمة الرائي وهو راوي سيرة العمة: أن وجهها افتقد الالتماع الذي كان يراه في عينيها. وكذلك نظرتها الحالمة. ماتت. وحل بمكانها شيء حيادي.. نظرات خاوية تتصل بشيء مجهول. وعلى الأرجح هو مآل اليسار العربي وحركة الشباب الطليعي ص304-305.

***

صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم

.......................

*صدرت عن دار روايات في الشارقة عام 2024 وبـ 325ص.

قصائد تنويرية متألقة تستقطر عسل الكلام

كانت خولة نوري جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا

لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة من حياته

3913 جلال زنكابادي

صدرت عن (دار الجمل) في بيروت مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان (ها هيّ معجزتي!) للشاعر جلال زنگابادي. وقد ضمّت هذه المجموعة تحديدًا نصف قصائده المكتوبة باللغتين العربية والكوردية عن ثيمة الحُب الأزلية التي لولاها لأصبحت الحياة أشدُّ وطأة مما هي عليه الآن.

لقد شاء الشاعر المرهف الحس جلال زنگابادي، أو ربما شاءت قصائده أن يكون هذا الديوان برمته مكرّسًا للحُب فقط من دون بقية الأغراض التي قد نجد بعض تشظياتها منثورة هنا أو هناك في متون قصائده العذبة التي تتصف بتجلياتها اللغوية والروحية والفنية على حد سواء. فجلال زنگابادي للذين يعرفونه عن كثب هو شاعر عفوي وصادق بامتياز تأتيه الصور الشعرية " مثلما تأتي الأوراق الى أغصان الأشجار" بحسب ووردزورث، وإنه "صانع أمهر" للشعر بحسب ت.س. إليوت، يعرف جيدًا أسرار هذه الصنعة الفنية، ويتألق فيها دائمًا، مستقطِرًا فيها عُصارة قلبه، فلا غرابة إذا جاءت نصوصه مُستفِزّةً واخزة تهّز المتلقي وتضعه في مثلث الدهشة والسحر والافتتان.

لقد هُمشت التجربة الشعرية لجلال زنگبادي، عن قصد أو غير قصد، على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال، ربما بسبب الظروف العصيبة التي كان يحياها معظم العراقيين في أثناء حقبة النظام الشمولي السابق، أو ربما بسبب كسل النقّاد، ولا أستثني كاتب هذه السطور، أو شلل الحركة النقدية في العراق الذي كان مخطوفًا في وُضُح النهار، وما الى ذلك من أعذار ومسوّغات قد تكون ضعيفة واهنة ولا تصمد أمام التهميش أو الاقصاء المُشار اليه سلفا.

قبل الولوج في أجواء هذه القصائد وفضاءاتها التي تجمع بين الصوفية والرمزية والتعبيرية والرومانسية لابد من الوقوف عند هذا الإهداء الروحي المكثّف إلى زوجته وثنيّة روحية السيدة خولة نوري التي أحبّها من الوريد إلى الوريد وأخلص لهذا الحب طوال حياته ولولا وجودها في سويداء القلب لما جادت قريحته بهذه القصائد الملأى بالحُب واللوعة والشجن، فهي، وأعني خولة نوري، هي التي منحتهُ إكسير الحياة وكانت جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة قبل أن يترجّل من مركب الحياة الفانية ويستريح في أبديته المُلفعة بالصمت والسكينة والخشوع. يقول زنگابادي في هذا الإهداء المطوّل:

"إليكِ يا نِعمَ الحبيبة، الصديقة، الرفيقة، الحليلة، الأخت والأمُ؛ فلولاكِ لما أدركتُ رحموت الحبّ في رهبوت الصلبان المعقوفة وأهوال الحروب والاحترابات، ولما صمدتُ وقاومتُ؛ بل لما كانت هذه القصائد وغيرها.. وأنتَ "يا مانح الحكمة للتراب"* أمنَ العدل والإنصاف أن تُجازيها بالسرطان؟!" {*  للشاعر الهندي خسرو دهلوي بتصرف}.

وتعزيزًا لثيمة الحُب التي انقطع اليها الشاعر سنينًا طوالا فقد انتقى الشاعر ثلاثة عشر بيتًا شعريًا معروفًا، جرت على الألسن مجرى الأمثال، لثلاثة عشر شاعرًا مستقرًا في الذاكرة الجمعية للناس من بينهم ابن الفارض وابن الرومي والبهاء زهير والبسطامي والحلاج وغيرهم من الشعراء الذين كتبوا عن الحُب كثيرًا، وترسخت تجاربهم في مضمار الشعر الصوفي وتجلياته المعروفة التي تبتغي الذوبان والتماهي في ذات المحبوب الذي يمثل من وجهة نظرهم امتدادًا للذات الالهية.

سنتوقف في هذه الدراسة النقدية عند بعض من قصائد هذا الديوان علّنا نستجلي أبعادها الفنية، ونكشف عن التقنيات التي اعتمدها الشاعر في صياغة هذا النوع من القصائد التنويرية المتألقة التي تستقر في ذاكرة المتلقي ولا تغادرها بسهولة لأن وقعها على الأذن المرهفة هو وقع الوشم على الأَدَمَة الرقيقة الحساسة.

تجدر الاشارة الى أن قصيدة (ها هي معجزتي) قد أنجزها الشاعر زنگابادي عام 2005م، أي بعد أربعة عقود من كتابته لقصيدة (أوّاه يا قُفل) عام 1965م التي نشرها بعنوان (استعارات) في (جريدة كركوك) في أوائل عام 1968م ووقّعها باسم (جلال ريبوار)، وهو للمناسبة واحد من عدة أسماء مستعارة كان يتخبأ خلفها الشاعر خشية من الأعين المدبّبة التي كانت تتربص به الدوائر. تدور هذه القصيدة العميقة حولَ (معجزةٍ ما) سيؤجلها الشاعر بطريقة ذكية محسوبة لأنه يراهن في بنائه الفني للنص على عناصر الشدّ والترقّب والتشويق التي تأخذ بتلابيب المتلّقي العضوي الذي يتوفر على شروط القراءة الابداعية. تحفظ لنا الذاكرة الجمعية للبشرية معجزات أنبياء وأناس صالحين وعباقرة لم يَجُد الزمان بمثلهم كثيرًا، فمنهم منْ يُشفي الأبرص، ومنهم من يعيد المجنون الى رشده، ومنهم من يلقي عصاه فإذا هي حيّة تسعى وهلّم جرّا من الأعاجيب التي تُدهش العقل البشري وتضعه في دائرة الحَيرة والذهول. استهل الشاعر قصيدته بكلمة (أبدًا) وهي ظرف زمان مبهم لوقتٍ غير متعيّن تفيد التأكيد نفيًا وإثباتًا، ثم يستعمل أداة الجزم (لمْ)، وهي حرف نفي لما مضى من الزمان (احدى عشرة مرّة) بشكلٍ متتالٍ لأنه يريد من المتلقي أن يفهم بأن كاتب النص ومبدعه، وهو الراوي العليم هنا، لم يتوفر على أية معجزةٍ يمكن له أن يتشدّق بها أمامَ الآخرين، فهو (لم يشعوِّذ، ولم يسحر، ولم يعرف أسرار الغيب، ولم يمشِ على الماء، ولم يحلِّق في الهواء، ولم يستمطر السماء حلوى، أو منًّا وسلوى، ولم يطوِ الأرض طيًّا في رمشة عين، ولم يحوّل التراب الى تبر، ولم يفهم لغة الطير والوحوش، ولم يسخِّر الجن والغيلان) وما الى ذلك من معجزات ومواقف عجائبية. فما هي معجزته التي يتفاخر بها بين الأنام؟ ثمة معجزات كثيرة يتذكرها الكائن البشري على وجه البسيطة، لكن المعجزة التي اجترحها شاعرنا جلال زنگابادي هي معجزة من طراز خاص، ذلك أنه عشِقَ فتاة وهام بها حُبًّأ فاجتثتْ معه (ر) الحرب لتؤسس مناخًا صحيًا للحُب الذي يقترب من نزعته الصوفية المجنّحة. وتلك الفتاة هي دونما شك خولة نوري.3912 ترجمة جلال زنكابادي

الأُس المعرفي

تحفِّز معظم القصائد التي يكتبها الشاعر جلال زنگابادي قارئه على تثوير خلفيته الثقافية وتغذية ذهنه بمختلف أشكال الثقافة والمعرفة الانسانية المُتاحة. ففي النص السابق الذي توقفنا عنده طويلاً كان على المتلقي أن يكون عارفًا ومُلِّمًا بالمعجزات الإحدى عشرة كي يتمتع بالنص ويتلذذ بأبعاده المعرفية التي تفتح أمامه سجلاً عريضًا من المعلومات التاريخية ذات الشأن الديني والروحي على حدٍ سواء. أما في هذا النص الذي انضوى تحت عنوان (قلبكِ.. يا له من لغزٍ مؤبّد!) فثمة أربع إحالات رئيسة على القارئ أن يكون مُطلِّعًا عليها كي يستوعب النص بشكل دقيق ولا تفوته شاردة أو واردة من بنيته الشعرية المكثفة التي اعتمدت على تقنية (استقطار المعلومة) ووضْعِها في السياق الفني الصحيح. وهذه الإحالات بحسب ورودها في النص هي (الفاتح) و(الإسكندر) و(هانيبال) و(كوكب فينوس) وإذا لم يتمترس القارئ المتفاعل مع النص وراء معلومات تاريخية تضيء الإحالات الثلاث الأولى، وفلكية تكشف عن طبيعة هذا الكوكب الذي أسرَ المخيلة البشرية منذ عصورٍ موغلةٍ في القِدم، فإن قراءته للنص لن تكون قراءة معرفية أحفورية. وأن طبيعة الاضاءة الداخلية للنص ستكون ضعيفة واهنة تفوّت على المتلقي العديد من جماليات الخطاب الفني الذي أبدعته المخيلة الفذة للشاعر المرهف جلال زنگابادي.  يضعنا الشاعر أمام ثلاث أمنيات هي في واقع الحال مستحيلة، ولكنه يراها ممكنة وغير عصيّة على الإطلاق. لابد من الأخذ بعين الاعتبار أهمية الكلمة التي استهّل بها النص وهي (ليتني)، و(ليت) كما هو معروف كلمة تمنٍّ متعلقة بالمستحيل كأن تقول:

(يا ليْتَ أيامَ الصبا رواجعا!).

وأنتَ تعرف حدّ اليقين أن أيام الصبا أو الشباب لن تعود مطلقًا لأن عمر الكائن البشري محكوم بالتقدّم الى أمام. ومع هذه الاستحالة الواضحة التي تقترن دائمًا بكلمة (ليْت)، إلا أنّ زنگابادي يصِّر عليها ضمن سياق لعبته الفنية القائمة في نهاية المطاف على فعل الإدهاش الذي سينير عتمة النص المستغلَق. ففي الأمنية الأولى يقول:

(ليتني،

كنتُ "الفاتح"،

إقتحِمَ القسطنطينة).

وهذا الفاتح هو القائد المسلم والسلطان العثماني السابع محمد الفاتح الذي عرفت مآثره الناس ومنها اقتحامه للقسطنطينة وقضائه المبرم على الامبراطورية البيزنطية. وعلى الرغم من الصعوبات الجمّة التي واجهت هذا القائد الاسلامي الكبير إلا أنّ الشاعر جلال زنگابادي يتمنى من أعماق قلبه أن يكون هذا الفاتح بنفسه، لأن فتح القسطنطينة أو غيرها من حواضر الأرض هي مهمة سهلة ويسيرة عليه قياسًا بالمهمة المستحيلة التي سيلقيها على عاتقه بعد أن تنتهي أمنياته الثلاث التي يسردها لقارئه الذي تحوّل الى مجموعة من الآذان الصاغية. في الأمنية الثانية يقول:

(ليتني،

كنتُ "الإسكندر"،

بلغَ "آريانا").

والمقصود بالإسكندر هنا هو الإسكندر الأكبر أو المقدوني الذي حكم الإمبراطورية المقدونية، وقهر الإمبراطورية الفارسية، وجملة مآثره معروفة للقاصي والداني على حدٍّ سواء. ويورد زنگابادي هنا كلمة (آريانا) التي تعني أفغانستان الحالية التي وصل إليها المقدوني ذات يوم. ولاشك في أنّ الصعوبة التي يواجهها ستكون كبيرة جدًا لو أنه حلّ محلَّ الإسكندر المقدوني. ومع ذلك فإنه يصِّر على أن يلعب هذا الدور الذي يعده بسيطًا قياسًا بالدور العظيم المُلقى على عاتقه. أما في الأمنية الثالثة والأخيرة التي ستضعنا على مشارف نهاية النص التنويرية فيقول:

(ليتني،

كنتُ "هانيبال"،

قهَر "الألب").

وهانيبال، كما هو معروف، قائد قرطاجي عُرف بحيله وتكتيكاته الحربية العديدة، وقد قهَر جبال الألب، وإحتل معظم الأراضي الإيطالية. وعلى الرغم من صعوبة قهر هذه السلاسل الجبلية الشاهقة، إلا أن الشاعر يقبل بهذا التحدي لأنه أيسر بكثير من الواجب المُلقى على عاتقه، والتحدّي الذي سيخوصه في نهاية النص. ثم يصف الشاعر غزوات أولئك القادة العظام بأنها في غاية السهولة واليُسر، بل أنهم سعداء جدًا، فيما يتمرّغ هو بحزنه وتعاسته. ولكي يُقنع المتلقي بسبب يأسه وتعاسته فإنه يطرح على نفسه هذا السؤال الاستفهامي العسير الذي يقول:

"أمّا أنا فيَالَتعسي!

كمْ قرْناً آخرَ عليَّ

أن أغزو قلبك الطلّسم؛

حتّى...يؤويني كوكبُ"فينوس؟!"

هنا فقط يستوعب القارئ طبيعة التحدّي المُلقى على عاتق الشاعر جلال زنگابادي، لأن كل الغزوات المُشار اليها سلفًا هي سهلة فعلاً، إذا ما قيست بغزوته هو لقلبها الطلّسم، هذا القلب المُلغِز والأسطوري الذي خلق المعجزات التي توازي معجزات الأنبياء والعباقرة وأصحاب الكرامات، وربما تبزّهم جميعًا لأنها أسقطت (راء) الحرب، وحوّلت الحياة الى فردوس للعاشقين. فإذا ما غزا الشاعر قلب الفتاة التي يحبها فإنّ كوكب فينوس سيؤويه ويمنحه الأمان الذي يبحث عنه وهو غارق في تحدياته وغزواته المستحيلة. ولا شك في أنّ القارئ الكريم يعرف جيدًا بأن كوكب (فينوس) إنما سمّي كذلك لأن هذه الأخيرة هي إلهة للحب والأنوثة والجمال. وما لم يُحِط القارئ نفسه بهذه المعلومات التاريخية والفلكية فإن النص سيظل عصيًا ومستغلقًا ومليئًا بالشفرات الغامضة التي تحتاج الى منْ يفكّ طلاسمها مثلما يفّك العاشق قلب معشوقته الطلّسم.

بنية التوازي

تعتمد قصيدة (ما وراء الأحلام) على بنية التوازي القائمة بين العاشق والمعشوق في هذا النص، فهو لم يفارقها، ولم يتخلَّ عنها، بل أنه مازال يبحث عنها وراء سبعة بحار. وغالباً ما يرتبط هذا التوصيف بالبُعد والنأي وإشتطاط المزار، غير أن مفارقة هذا البحث الدؤوب تنتهي بأنها موجودة في أعماق روحه، بينما هو منهمك في البحث عنها فيما وراء البحار. أما المعشوقة التي تمثل الطرف الآخر من هذه المعادلة أو هذه البنية فهي الأخرى لم تزل تبحث عنه فيما وراء سبعة جبال غير أنه موجود في قلبها. وطالما أنها موجودة في روحه، وهو موجود في قلبها، فما الذي يمنع لقياهما في عنوان هذه القصيدة في الأقل، (ما وراء الأحلام) كي يتخلصا من لعنة ( الاغتراب المستديم)، وينيرا ديجور حياتهما في الأقاليم السبعة التي أصبحت رمزًا لغربتهم واغترابهم. وما الذي يحول دون اقترانهم كي تصبح (عروس لياليه وأصباحه؟)

قد تبدو بعض قصائد هذا الديون على أنها قصائد حُب لا غير، تتناول أحوال العاشق والمعشوق ولا تخرج عن فلكهما إلاّ لماما. وعلى الرغم من صحة هذا التوصيف إلا أن قصائد زنگابادي تتوفر في معظمها على نَفَس صوفي واضح، ورؤيا فلسفية وجودية، أي أن التأويل الظاهري لا ينفع لوحده لملامسة البنى الداخلية العميقة لهذه النصوص متعددة الأبعاد والمستويات. لنمعن النظر في قصيدة (يا لكِ من بحر!) التي تتضمن مستويات عديدة، كما أنها تحتمل قراءات مختلفة. فمن المعروف كمُسلّمة بديهية أن كوردستان العراق لا بحر فيها، غير أن شاعرنا الولهان متيّم بحب امرأة ستكون صنّواً لهذا البحر الذي ابتكره الشاعر، أو على الأصح البحار التي أوجدها الشاعر بواسطة مخيّلتة المتوهجة التي تعوّضه دائمًا عن خساراته الكبيرة وعن الأشياء التي يفتقر إليها. يا تُرى، ما هي طبيعة البحار التي استدعتها مخيّلة زنگابادي؟ واعتمادًا على بنية النص الفنية نقول: يمكن للقارئ الكريم أن يتلمّس ضنك الشاعر ومحنته اليومية من خلال قساوة الحياة التي يمر بها، فوقته "بحرٌ من القار!" وأكثر من ذلك فإن عِشقه هو (بحر بلا ضفاف) فما أشقى المُحِّب الذي يعوم في بحر لا ضفاف له؟ ومما يزيد الطين بلّة فإن (بحره أو محبوبته لا فرق!) عميق جدًا بما لا يتحمله العقل البشري، فهو أعمق من أي بحر آخر! ثم يعقِد الشاعر مقارنة بين معشوقته التي أحبها وكرّس حياته لهذا الحُب، وبين البحر العميق، الواسع، الذي لا ضفاف له. ثم يخلص الى القول بأنهما صنوان لبعضهما بعضًا (في الجمال والمكر والبخل والاختيال) فقلبها يهتاج مثل أغوار البحر وأعماقه المضطربة النائية، ووجهها يغضب مثل وجهه الذي تتشكّل على سطحه الأمواج العاتية. قد يسأل البعض سؤالاً منطقيًا مفاده: هل أنّ صفات البحر تكمن في الجمال والمكر والبخل والاختيال فقط ؟ أليس البحر كريمًا وهادئًا ووديعًا في بعض حالاته؟ الجواب، نعم، لكن الشاعر تناول حالة المّد والغضب والاهتياج فلابد أنه يتلقّف كل ما يصادفه في طريقه عندها يصبح انتزاع أي شيء منه ليس أمرًا يسيرًا. دعنا نتأمل الأبيات التالية التي تكشف عن سعتها وعمقها واصطخابها، فهي كما أشرنا سلفًا صنّو للبحر، فلا غرابة إن زخرت أعماقها بالكنوز والأهوال.

"ياه!

ما أخطرك!

لكَمْ

يروّعني

وسعك، عمقك وتصخابكِ !

أيتها الزاخرة بالكنوز والأهوال!"

وعلى الرغم من كل معالم الخشية والرعب والأهوال التي يتوفر عليها هذا البحر القُلّب إلا أن القلب الغرير للشاعر قد اختطف سحرها وانخطف بها، فمن الصعب على قلب الشاعر المتماهي بالحبيبة أن ينتزع شيئًا من القرصان الذي اعتاد أن يسرق ويختطف، لا أن يمنح أو يبذل العطاء. وكعادة زنگابادي في صياغة النهايات التنويرية لقصائده دعونا نتأمل هذه النهاية الفنية التي يقترحها علينا لوصف حالته النفسية التي جاءت بصيغة استفهامية ممضّة.

{فحتّى مَ يظلّ قلبي المسحور

يغرق في أغوارك ظمآنًا

أما تشهدينه يغطّ

يستغيثُ:

" وكيف منجايَ وقد حفّ بي

بحرُ هوىً ليس له شطُّ؟!"}

إذًا، لقد انتهى قلب الشاعر غريقًا، غاطًا، مٌستغيثًا يحفُّ به (بحرُ) هوىً لا شاطئ له. وهو ذات البحر العميق، الواسع، المصطخب الذي كان يبحر فيه الشاعر نحو ضفاف لا مرئية !

الروح والجسد

تشترك معظم قصائد هذا الديوان، كما أشرنا سلفًا، بثيمة الحُب التي تربط بين العاشق والمعشوق، فلا غرابة إذًا حينما يهيمن ضمير المتكلم، ويرتفع النَفَس الأنوي. ففي قصيدة (قدّاس للجسد) التي كتبها زنگابادي عام 1969م التي تتحدث عن الحُب وتجلياته ضمن طقس خاص جدًا خصّ به الجسد تحديدًا. لا يخفى على القارئ الأسلوب الذي اعتمده زنگابادي في بناء هيكل النص الذي يقوم أيضًا على ثنائية المحب والمحبوب. فثمة عالمان منفصلان، الأول يمثل عالم الجسد بحسب بنية النص الشعري، والثاني يمثل عالم الروح. فالشاعر أو المحب لا يزال يلهج بأن كل ما هو مادي زائل (لهمو) وكل ما هو (روحي) خالد هو له على وجه التحديد.

لنقرأ هذه الأبيات المعبِّرة التي تكشف عن بنية التوازي التي يعتمدها زنگابادي كثيرًا في نصوصه الشعرية.

"مابرحت ألهجُ:

- كلّ القطعان لهمو، ولي أنت وردة عبر العصور.

كلّ البنوك لهمو، ولي قبلاتك

كلّ المرايا لهمو، ولي عيناك الوسيمتان"

لا شك في أنّ ثنائية العاشق والمعشوق قد توضحت في قصائد زنگابادي، كما سلّطنا الضوء غير مرة على بنية التوازي التي تعين النقاد والدارسين على تتبع مسارات القصيدة منذ الاستهلال، مرورًا بالذروة حتى الوصول الى النهاية التي يقترحها الشاعر. أودّ الاشارة فقط إلى أنّ قصيدة (قدّاس للجسد) تتميّز عن باقي قصائد هذا الديوان بمنحاها الشكلي المتفرِّد الذي يجمع بين نمطين وهما، الشكل العادي المتبّع في كتابة قصيدة النثر، والشكل الذي تكتب فيه أية مادة منثورة كأن تكون صفحة من رواية أو من مقال نقدي حيث تغطي الأسطر مساحة الصفحة كلها من اليمين إلى اليسار، ومن الأعلى الى الأسفل. والغريب أن هذه القصيدة مكتوبة في أواخر الستينات من القرن الماضي في حين ادعى بعض شعراء السبعينات والثمانينات من القرن الماضي أنهم حققوا قصب السبق في كتابة هذا النمط الشكلاني من قصيدة النثر. ونورد فيما يلي الأنموذج التالي:

" تجتازين أسلاك القلق الشائكة محبوسة الأنفاس، ساطعة كبروق لا تحدّ، تتحلقك آفاق الصمت الزاهية طيورًا تكتسح مفازة دمي؛ فيرفرف قلبي خارطة تموج بالمروج، وتتصاعد سارية الوجد في هذي القصيدة، إذ نتخاصر، نستنشق عيوننا الظمأى نافثين أغوارنا السحيقة، يخفق شراع قلبينا بعنف الهمس، وتنسبل جفوننا المشدوهة كلما نغرف قبلة شاسعة، وبأنامل تختلج بالبعاد نمسّد جسدينا، تعصف أغوارنا بموسيقى تجتاح الرياح، ونحن نمرّغ كلّ المنافي على صدرينا المتساحقين بألف غصة ".

ثمة قصيدة أخرى تحمل عنوان (هيولي حرفين) سنتوقف عندها لأكثر من سبب: الأول هو رغبتنا في الاشارة الى الكلمات الغريبة (الحوشية تحديدًا) التي يوظفها زنكابادي في قصائده، هذا اضافة الى اشتقاقاته اللغوية الفريدة التي لم يسبقه اليها أحد والتي وردت، ليس في هذا النص، وإنما في نصوص أخرى أثرتْ المناخ العام لهذه القصائد، ودحضَ من خلالها ما يصطلح عليه البعض بـ (الكلمة الشعرية) التي تستجيب لسياقات النص الشعري، على افتراض أن هناك كلمات غير شعرية لا يمكن استعمالها في كتابة نص شعري متوهّج.

فكلمة (هيولى) التي ترِد هنا تعني بالانكليزية (Nebulous, Nebular, Chaotic) وهي لاتينية الأصل، غير أن الشاعر زنگابادي الذي أتقن هذه اللعبة قد طوّع هذه الكلمة الأجنبية وكيّفها لسياق نصه الشعري المكثف الذي يشبه الأحجية التي تحتاج الى منْ يفّك ألغازها وطلاسمها. فكلمة (Nebula) تعني باللغة العربية (الهيولى) أو (السديم) أو (المادة غير المتشكِّلة). وهذا التعريف يخدم النص، ويثريه لأن الحرفين (ح) و(ب) ظلا مفترقين لآلاف السنين وكأنهما في سديم متواصل، ثم انتبه زنگابادي إلى امكانية توظيف هذه الحالة الفلكية المُلغزة، على الصعيد الفني في الأقل، فاستحال قلبها نقطة تحت الـ (ح) وقلبه نقطة فوقها، فيما اندمجت النقطتان تحت الـ (ب)، ثم راح هيولى الاسمين يجهر بكل اللغات معلنًا اكتمال ملحمة الحُب على ضفاف (سيروان). وربّ سائل يسأل عن معنى هذه الكلمة الكوردية، فهي تعني بالعربية (نهر ديالى). وعلى الضفة الشرقية لنهر ديالى، وتحديدًا في قرية (زنگاباد) وُلِد شاعرنا المبدع جلال نگابادي لكي يدوِّن لنا هذه الملحمة الإنسانية المباركة.

التعالق النصّي

لابد من الاشارة الى أنّ زنگابادي قد بدأ القراءة والتثقيف الذاتي بوقت مبكر جدًا، وربما كان أوفرنا حظًا لأنه كان يقرأ بخمس لغات: العربية،الفارسية،الكردية، التركية والإنكَليزية (وتعلّم الإسبانية لاحقاً)، بينما نحن أدباء مدينة جلولاء كنا نقرأ باللغة العربية والإنكليزية التي درسناها وتعلمناها لاحقًا. ومَفاد هذه الاشارة أن قراءات زنگابادي لابد أن تجد طريقها الى نصوصه الإبداعية على شكل إشارات وإحالات أو اقتباسات كما هو الحال في قصيدة (يدُكِ) أو غيرها من القصائد التي آثر مبدعها أن تتلاقح بنماذج كونية معروفة. ثمة مقتطف قصير جدًا، لكنه عميق الدلالة، اقتبسه زنگابادي من قصيدة (يدا جان ماري) لرامبو ليكون جزءًا مهمًّا من سياق البنية الداخلية العميقة لنصه الشعري؛ وهذا المُقتبَس يقتصر على الـ (يدين مقدّستين) لجان ماري لا غير! ولكن لننظر إلى حذاقة الشاعر ودربته في هذا المضمار؛ فيدُ المحبوبة التي أخذت القصيدة شكلها ومضمونها هي يدٌ مباركة تنطوي على معجزة ما ؛ فأنامل هذه اليد، المليئة بالأسرار، هي (أنامل عاشقة معشوقة) في آنٍ معًا، وأكثر من ذلك فهي (ترى وتسمع وتتذوق... وتُحيي وتُميت ثم تخلّد هذا الشاعر!). لقد استعمل زنگابادي في هذا النص الشعري المكثّف (27) فعلاً تنطوي جميعها على حركات السماع والرؤيا والتذوّق والمُحاوَرة والصدّ والدعوة والإطعام والتعرية والإكساء وما الى ذلك من أفعال حميمه تصب في مصلحة الشاعر، وتكشف عن حجم الرعاية الكبيرة التي يلقاها من هذه اليد المقدسة الحانية التي بات يعرفها القارئ الكريم وهي يد خولة نوري. ثم يختتم قصيدته بالتساؤل التالي:

{فواحناناه!

" يا يدين مقدّستين"

أأنتما من معجزات الطبيعة أم ربِّ العالمين؟!}

هكذا يكون التعالق النصّي الذي يسهم في إثراء القصيدة وتعميق مضمونها الذي اعتمد على تلاقح البنية الأساسية لمبدع النص وخالقه مع جينةٍ نابضة مُستأصَلَة من نصٍ آخر ينبئ كلاهما بأنهما قادران على الحياة في النص الجديد الذي اقترحه الشاعر الأمهر جلال زنگابادي.

تشترك قصيدتا (هلالُ وقتي) و(حلُم لا يذوي) وقصائد أخرى لاحقة، بمناخ عاطفي واحد؛ إذ يحتل القلب مكانة مهمة في هندسة البناء النصي الرصين الذي يعتمده الشاعر دائمًا في نصوصه الشعرية الآسرة. ولو توخينا الدقة المنظورية لوجدنا أن الشاعر الولهان محاصرٌ من (الجهات السبع)، غير أن هذا الحصار ليس ممضًا طالما أن هلال وقته (يهِّل) من عينيها، ويحدب عليه مثل أم رؤوم، وكلنا يعرف بأن الأم أو العاشقة الحادبة عليه إنما تُظهِر أعلى درجات الحنّو وتكشف عن ذروة عاطفتها الإنسانية النبيلة تجاه الكائن الذي تعلّقت به وتماهت بكينونته الرقيقة، لذلك فهو واثق مطمئن، ولا يخشى الافتراق طالما أنّ (هالة قلبه تحبسُ قلبها). تتكرر هذه الثيمة في مطلع قصيدة (حُلم لا يذوي)، فـ (قلبهُ العفريت) الذي يجرح الاشواك! تجرحه (وردتُها بطيش كنوزها) ومع ذلك فهو يناجيها، ويناغيها لأنها تهبه كل شيء تقريبًا في عالمه العاطفي الذي قد يأخذ شكل النظرات أو البسمات أو العناقات أو القبلات أو الأحلام الى أن يقول في خاتمة النص:

"لا أسعدَ منّا

إنْ استحالَ حلمُنا

في بحبوحةِ المستقبلِ

كوكبًا لا يذوي!"

إذا كان الحُلم قد تحول الى (كوكب لا يذوي) في النص السابق فإن القلب، في قصيدة (ما أجهلني)، الذي يخاله الشاعر فولاذًا سيتمغنط هو الآخر بفعل سحرها الغاوي، وسيتحوّل الى شحّاذ، مرتعد الأطراف في حضرة سلطان جائر! وفي قصيدة (أيّ زمهرير) سيتحوّل قلبه إلى (فريسة) لأن عِشقها (الصقر) قد انقضَّ عليه من شاهق السماء، لكنه أراقَ في عروقه سُمًّا يحيي عظامه الرميم!

كنا قد أشرنا سلفًا إلى أن غالبية قصائد هذا الديوان تتوشح بغلالة صوفية شفافة؛ فزنگابادي يتحرك دائمًا في المساحة المجازية أو الرمزية التي تلي المنطقة الواقعية أو الحقيقية في علم الكلام. وهو لا يميل الى اللغة المُباشِرة التي توثِّق ما تراه بعين تسجيليه؛ فالشعر من وجهة النظر الإبداعية لابدّ أنّ يهّز مشاعر المتلقي، ويحلّق به الى المصاف التي يرتقي اليها الشاعر في أويقات الخلق والإبداع. دعونا نحلل هذا النص الشعري القصير الذي إنضوى تحت عنوان (تالعِشقِ لو...) الذي يرد فيه (القلب) ككلمة محورية وثيقة الصلة بالثيمة الرئيسة للنص الشعري. وقبل الولوج في تفاصيل هذا النص المشذَّب لابدّ من الاشارة إلى أن (التاء) في (تالعِشقٍ) هي حرف جرَ للقَسَم.

بدأ زنگابادي نصه بسؤال صريح لا لبِسَ فيه:

"أليسَ قلبي

أقسى من الحجر

إنْ ينبضَ دون آلاءِ روحِكِ الساحرة؟"

والجواب، نعم، إن أصبح قلبهُ أقسى من الحجر إذا نَبَضَ من دون نِعَمِ روحها الساحرة! فكيف ينبض هذا القلب، وحبيبة قلبه قد فارقته أو نأت عنه لسبب ما؟ ثم يقسم هذا الشاعر الصوفي المدَنَّف بالعِشق صارخًا:

{تالعشقِ لوْ مسّ فراقُك أيَّ صخرة

لَصَرخَ قلبها الأبكم:

-"أغيثوني"

وإلاّ

لِمَ انتحبَ قلبُ الغيمِ

مع قلبي إذْ

ودّعك

في مهبّ الضيم

ذات افتراق؟!}

أشرنا في قصيدة (يدُكِ) الى أهمية التضمين حتى وإن كان عبارة أو صورة شعرية أو بيتًا من الشعر، غير أن هذا التضمين أو الاقتباس يجب أن يكون مدروسًا كي يتم توظيفه بطريقة فنية تخدم النص وتثريه كما هو الحال في قصيدة (أي عجب) التي كتبها الشاعر وهو مسكون بأسطورة (شيرين وفرهاد) الغنية عن التعريف. والذي يطلع على النص سيكتشف أن زنگابادي لم يأخذ من هذه الأسطورة سوى كلمة واحدة وهي (بيستون)، ولكنه يحيل إليها كلها، ولا يمكن فهم القصيدة واستيعابها ما لم يكن القارئ مطلعًا على تفاصيل هذه القصة الأسطورية التي وظفها مؤخرًا المخرج الايراني المبدع كياروستمي فيلمه الجميل (شيرين) ونال استحسان النقاد والمشاهدين على حد سواء. تتمحور قصيدة (أي عجب) على مناشدة قلب المحبوبة، الفكرة التي تكررت كثيرًا، غير أن المعالجة الفنية تختلف من نصٍ الى آخر. ففي منتصف هذه القصيدة نسمع الشاعر وهو يترحّم من خلال كلمة (ويْحكَ) التي تنمُّ عن الوجع الذي يشعر به. ثم يردف تساؤله الأول بصيغة استفهامية ثانية مفادها (أيَّ صخرٍ تكون؟)، أو بمعنىً آخر: من أي صخرٍ قُدَّ قلبك الصلد هذا؟ ثم يلعن هذا القلب حينما يخاطبه قائلا:

"تبّاً لك

حتّى لو كنتَ جلموداً أصمَّ

لَشقّكَ شعري

فأيّ عجبٍ

إنْ رثاني"بيستون؟!"

وإذا كانت أشعار زنگابادي قادرة على أن تشّق هذا الجلمود الأصمّ الذي لا يختلف كثيرًا عن جبل (بيستون) الذي شقّه العاشق فرهاد تلبية لطلب معشوقته شيرين " فأي عجب أو غرابة إذا رثاه هذا الجبل محوّلاً إيّاه الى أسطورة تتناقلها الألسن على مرّ الأزمنة.

سنكتفي بهذا القدر من التحليل المنهجي لبعض قصائد ديوان (ها هي معجزتي!) لجلال زنگابادي آملين أن تُتاح لنا فرصة أخرى لاستكمال هذه الدراسة النقدية التي خففت عن كاهلي وطأة الاحساس بالمسؤولية والتقصير تجاه شاعر مبدع ووفي لتجربته الشعرية التي تمتد إلى أربعة عقود بذل خلالها جهودًا أسطورية في القراءة واكتشاف الذات والعالم قبل الولوج إلى مملكة الكتابة التي أمدّته بإكسير الحياة.

نخلص إلى القول إن قصائد جلال زنگابادي لا تقتصر على الحُب بوصفة ثيمة شعرية أو بؤرة ارتكازية للنص الشعري الذي يكتبه، وإنما هناك طبقات أُخرى؛ إذ يمكن تلمّس النَفَس الصوفي كما أشرنا. وليس عصيًا على القارئ الحصيف الذي يستطيع تفكيك النص إلى عناصره الأولية المكونة له، أن يفهم الصياغات والبنى الشعرية التي اجترحها الشاعر بما تنطوي عليه من رموز وإشارات ودلالات سياسية واضحة خصوصًا وأن الشر في قصائده يأخذ شكل الطغاة والجبابرة أو الصلبان المعقوفة ذات الدلالة النازية الصريحة التي كانت تطمح في السيطرة على العالم بحجة الحكاية المزعومة التي تدعي بتفوق الجنس الآري.

***

عدنان حسين أحمد

معالم الدولة الديستوبيا الدينية في الرواية القصيرة جداً (مذكرات كلب) للأديب حميد الحريزي

المتن الروائي يمتلك براعة فائقة في الجانبين: الصياغة الفنية في شكلها الحديث المتطور في جنس الرواية القصيرة جداً، ومن جانب التداعيات الرمزية في التعبير الذي يحمل دلالة واشارات البليغة المعنى والمغزى، في بعد رؤيتها في الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي والديني، بأنه يغور في العمق التناول الشجاع في كشف العيوب التي تقود في انحراف الحق والعدالة باسم الدين من قبل اصحاب العمائم الدينية المزورة والمنافقة. التي كشفت عن مضامين جوهرها الحقيقي بدون اقنعة.تشكلت في محطات هذه الرواية القصيرة جداً، هذا الوليد الحديث خرج من رحم الرواية، في الصياغة المركزة والمكثفة، والترميز البليغ في رسائلها الساخنة والملتهبة، في عمق المعنى الدال من صلب الواقع ومعطياته، و بما تحمل من معاني ومفردات متنوعة الجوانب، وفي تداعياته تجلياته المكشوفة وغير المكشوفة، بل السرد يغوص في أعماق الأسرار والخفايا القصر الحاكم والناهي الاكبر، يعطيها البعد الرمزي و دلالته، في سبيل إيقاظ العقل من سباته بالرنين المدوي الذي يثقب طبلة الأذن، لقد وظف الاستاذ حميد الحريزي بما يملك من طاقات مبدعة ومحاولات تجريبة خلاقة في السرد الروائي، أن يوظف ويشتغل على هذا الجنس الجديد، الذي يسمى (الرواية القصيرة جداً) ويحمل ريادته من خلال أعماله الروائية المتعددة، في فن السرد الروائي الحديث العراقي، وهذا الشكل الأدبي الجديد، يحمل كامل مواصفات الرواية الكاملة. ولكن براعته الفنية تجاوزت، بأنه وظف لسان المتكلم بشخوص الحيوانات في احدث السرد، أن تكون هي الفاعل والمحرك في المتن الروائي، وهذا الجنس الأدبي في توظيف الحيوانات في السرد الروائي، هو أدب قديم منذ زمن الاغريق وحتى اليوم، مثل رواية (مزرعة الحيوان / جورج اورويل) بأنه وظف روايته السياسية بشخوص الحيوانات، بالضبط مثل ما فعل الاستاذ حميد الحريزي وظف روايته السياسية برسائلها المتعددة الجوانب بشخصية (الكلب) في تدوين سيرته ومذكراته الحياتية، لكي يعبر عن الواقع وارهاصاته والمحركات التي تقوده وتتحكم به، بدون شك أن معطيات وانطباعات جنس الرواية القصيرة جداً، تلبي متطلبات العصر الحديث، الذي تتحكم به السرعة والاختصار الشديد دون مطولات سردية. ومذكرات الكلب تفتح باب للحوار والجدل والمناقشة، في تأويل شفرات الرمزية، التي امتلأت في ثنايا السرد الروائي، في تقنياته الحديثة ورؤيته السياسية والايديولوجية، التي سلطت الضوء الكاشف في الخداع والدجل والنفاق في جبة الدين من اصحاب العمائم المزورة قلباً وقالباً، التي تأخذ معالم شكل (الديستوبيا) في الدولة الدينية، بكل بساطة استخدم رمزية الكلب في سرد مذكراته، لأن الكلب معروفاً بطابع الوفاء والامانة، وعدم الخيانه الى ابناء جنسه أو جلدته، مهما انحرف سرعان ما يعود إلى رشده الى احضان أبناء جنسه، ولكن لهذا الرجوع ثمن باهظ، بينما نجد جنس البشر بسهولة جداً ان يخون ويتنكر الى ابناء جنسه وجلدته، بل يقف بالمرصاد لهم في الموقف المعادي، ويتباهى بهذه العدوانية والدونية، والخاصية العدوانية الخبيثة في جنس البشر، غير موجودة في جنس الكلاب، وتدور عجلة السرد في البداية، هو ما أحدث صدمة للكلب (حنفوش) بعد موت رفيقه (ابو عليجة) فبعد انتهاء مراسيم التشيع والدفن من قبل اهالي حي التنك، اقسم الكلب (حنفوش) فوق قبر رفيقه قائلاً (يا أخي لم تسمح لي الظروف ان اجيب على سؤالك لي، منْ أنا وكيف وصلت الى حي التنك؟ سأخبرك بكل التفاصيل التي لا تعرفها عني وانت في قبرك، وقد ألحق بك قريباً) ويبدأ بسرد تفاصيل حياته في مذكراته اليومية، منذ أن كان جرواً اختطفوه من الشوارع، وجلبوه الى بيت السيد الكبير، الذي أوصى بالاعتناء به وتربيته و تدجينه من اجل ان يكون من جوقة الحاشية والاعوان، أن يكون من الجوقة الببغاوية، التي لا تعرف سوى العظمة والتمجيد السيد صاحب القصر، الذي يملك الصولجان والجاه والنفوذ والمال الحرام، وبذلك ادخلوه في حضيرة القطيع، وعرضه على الطبيب البيطري، في التحليلات الطبية، وزرقه ببعض اللقاحات، وإعطاءه بعض الإرشادات الطبية والصحية الضرورية، ليكون سليماً وقوياً بالصحة والجسم المتعافي، وقاموا الخدم بالواجب حسب التعليمات (أمر الخدم تحميمي وغسلي جيداً بالشامبو والصابون المعطر، وتخصيص مكان خاص لي واطعامي، مما أثار استغرابي كثيراً، هل أنا في حلم أو علم، ما هذه اللحوم وماهذه العناية الخاصة والروائح العطرة أطعمت واكلت الكثير من اللحوم الحمراء والبيضاء، وقد كنت احلم بعظم مكدود وبعظام سمك ترمى لي من قبل اسيادي الفلاحين الفقراء في القرية، كنت اغتسل في ماء النهر الخابط، ولا اعرف معنى الصابون ناهيك عن الشامبو!!؟) لذلك انتقل من حالة التشرد والفقر والبؤس، الى حالة راقية من البذخ والنعيم، بالضبط مثل حالة اباطرة اليوم بما يتنعمون من الرفاه والرخاء المتخم، بينما كانوا بالأمس في حالة بؤس وفقر مدقع سواء كانوا في اوربا أو في ايران، هذه الطفرة الهائلة لم تخطر في بالهم حتى في الأحلام، ولكن تناسوا وتجاهلوا حياة الفقر والمعاناة في المعيشة الصعبة والقاسية (اقف احياناً أمام القرويين التعساء وخاطبهم :

- انتم محرمون من أكل لحم الطير والاسماك والدجاج الذين تربونه في بيوتكم ولكنكم تأتون به لهؤلاء المكرشين الأثرياء المتخمين بشتى أنواع المأكولات التي لا تعرفون انتم أسمائها أو طعمها وشكلها) هذه المفارقة الاجتماعية غير العادلة، ولكن غشاوة العقل بالبصر والبصيرة، لا ترى ولا تسمع ولا تفهم ولا تدرك، لأنهم في حالة التخدير الببغاوية (فيا لكم من بؤساء كل ما تصبون اليه كسب رضا اسيادكم، الذين كل ما يفعلون هو الإمعان في استغلالكم وامتصاص دمائكم ودماء عوائلكم) لم يتوقف السادة الأباطرة على البذخ والنعيم، بل انغمسوا بالمتعة الجنسية في الليالي الحمراء، ويغدقون المال الوفير دون وجع ضمير ومن ضلع البسطاء والتعساء، ولكن الغريب في الأمر، ان يتركون زوجاتهم بحرية ان تتبرج تتجمل بالالوان الفارقة، وتتزين بالذهب والمجوهرات والحياة المزينة بالالوان الوردية، بينما يحرمون المرأة من كل شيء بسيط بشكل صارخ في الانتهاكات، وتزويج القاصرات الصغيرات دون ارادتهن ورغباتهن بحجة المحافظة على الشريعة والناموس. والكلب (حنفوش) يفضح أسرار ما يدور في داخل قصر السيد الكبير من فضائح ومهازل خالية من السلوك السليم ومنطق المعقول، ويتمادون في حالة الذل والإذلال والمهانة لجنسهم من البشر، حتى يحرمونهم من حق الحياة والعيش الكريم. بل نجد شرائح من الفقراء تعتاش في رزقهم اليومي، في البحث في حاويات الأزبال، وهم في بذخ النعيم والحرير في فردوسهم المرصع بالذهب والدولار، ويكونوا سيفاً قاطعاً وحاداً لكل من يتذمر على المعاناة، لكل من يطلب بحقوقه الشرعية في الحياة والعيش، لكل من يرفض حالة البؤس والتعاسة، والمسحراتي يدق طبلته في استيقاظ النائمين في سبات نومهم (يا ناس اكعدوا، انباكت بيوتكم وانتهكت أسراركم) و(يا ناس اكعدوا سرقكم الحكام وخذلكم الإمام، فالى متى تبقون نيام). ولكن خناق الازمة الحياتية، ترفع رصيد التذمر الى حالة الغليان العارم الى الاعلى، ولكن تواجه بالعنف المفرط، كل من يرفع صوته بالرفض والتذمر، توجه إليه التهم الجاهزة في قوالبها، نجس. كافر. ملحد. عدو الله والدين، ولا يؤمن بالله الخالق عدو الدين والإنسان والوطن، يقويض الأمن والنظام، وبذلك يحق شرعاً قتله أو اغتياله، او قطع لسانه أو يديه، او غربلة جسمه بطلقات الرصاص، لانه يهدد دار السيد المأمونة. حتى لو كان الامام علي (ع) حياً لقتلوه شر قتلة واتهموه بشتى الأوصاف التي تبيح القتل والاغتيال، و يسترشد بقول الشاعر مظفر النواب (أنبئك علياً.. لو جئت اليوم لقتلك الداعون اليك وسموك شيوعياً).

هذه معالم الدولة الديستوبيا. ولكن احد الابطال من حي التنك تبول على تمثال الرئيس، وهذا يعني تجاوز الخط الأحمر في التجاوز الخطير، ويفتح باب العنف والإرهاب، لاجهاض كل بادرة إشعال شرارة قد تكون صغيرة، ومن يمكن ان تتحول الى بركان من الغضب الساطع في الساحات والمدن، لهذا السبب الخطير، اصدرت مديرية الامن العامة بياناً تحذر بشدة، لكل منْ تتسول له نفسه بالتطاول على بيت السيد أو الرئيس القائد، وكل منْ يتجاسر يكون نصيبه الموت والاختطاف والاغتيال. وضمن هذه الاجواء الارهابية المرعبة، اصبحت حياة الكلب (حنفوش) في خطر جسيم، لانه خرج من باب الطاعة وحضيرة القطيع، واصبح يحرض ضد بيت السيد الاكبر، وكانت عاقبته الموت المتوقع. كما وعد رفيقه (أبو عليجة) عند قبره بأنه سيلتحق به قريباً (في صباح اليوم التالي وجد عمال القطار، وبعضهم من سكنة حي التنك، جثة مهروسة على سكة القطار، فقرر احدهم دفنه الى جوار قبر رفيقه (ابو عليجة)، ولكن هؤلاء الاباطرة ينسون أو يتناسون الحكمة الصاعقة، لكل ظالم وطاغي، بأنه لا يمكن الانفلات من المصير المحتوم (لو دامت لغيرك لما وصلت اليك)

***

جمعة عبدالله

شاعر ابهى من فلوات، واكبر من حزن بلاد. يعشقه القاصي شعراً، والداني روحاً. يحلم بالدفء منذ الطوفان، ويشعل كل مصابيح الروح للغيمة الآتية من خلف الأفق يستجلي منها أخبار بلاد كانت يوماً وطناً للشعراء وداراً للغرباء. يسألها هل نسيته الأنهار؟ وماذا عن تلك الأحجار فوق القمة المغروسة في أعمق أعماق الروح. يسألها هل من شاهد على ضياع العمر الجميل؟

إن دراسة دقيقة لنتاج الشاعر العراقي عبد الستار نورعلي يجعل من الصعب وضع خريطة لشعره. فهو شاعر متنوع للايقاع ذو امتدادات واسعة في المساحات، وخاصة مساحته الذهنية التي تستند على خزين ثقافي كبير. إن نظرة متأنية لشعراء الخمسينات والستينات العراقيين وحتى السبعينات تبين بوضوح أن أكثرهم خرجوا من تحت رداء شاعرين أو ثلاثة. فمعظم الشعراء تجد في شعرهم آثاراً واضحة للبياتي وبعده سعدي يوسف وقبلهم السياب. وأحسب أن الشاعر عبد الستار نورعلي من الجيل الذي يفترض أن يحسب على جيل ما بعد أولئك الرواد، لكن من الصعب أن تجد أثراً لشاعر آخر في شعره، فهو يختلف عن الآخرين.

إنه لم يتفيأ تحت ظلال شاعر آخر وذلك يعود لأسباب عديدة منها: أن بدايته القوية كشاعر كانت مع الشعر العمودي، وهذه المرحلة أخذت مساحة زمنية ليست بالقصيرة، حيث كان في منأى عن المشاركة في عملية التحويل الى الشعر الحديث، ولم يكن طرفاً في اللغط الدائر حول موضوعة الحداثة. ولكن كان له رأي بما يجري.

وثانياً لم تسكنه الجغرافيا فتترك آثارها فيه. فكما هو معلوم أن المكان يلعب دوراً كبيراً في صياغة وعي وسيكولوجيا الشاعر. فخصائص المكان تتجلى في نتاج الكثير من الشعراء. أما نورعلي فقد سكن كمبدع في جغرافية روحه القلقة المضطربة. هذا القلق انجز أهم قصائده. فهو ابن بغداد التي ولد فيها، وطاف في أزقتها، وعانقها حد العشق المتوحد في الذات، وهو المسكون بالهوى العراقي، وفي ذات الوقت يضمد جراح الجبل الذي يعانق الغيمة، والذي يتحدث عن حق مغدور لأمة ينتمي اليها الشاعر، وانتماؤه الكردي هذا ليس عرقياً بل انتماءاً للقصيدة وانتماءاً للحق الانساني في الوجود الكريم:

أيا مطرَ الربيعْ

اغسلْ وجهَ العراقْ

ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعد قطرهْ

تباركَ اسمُ العراقْ

تباركَ مَنْ سالَ دمُهُ

على جذع نخلةٍ في الفراتْ

تباركَ مَن طارَ جذعُهُ

شظايا

على قمةٍ في الجبالْ

تبارك كلُّ مَنْ صاحَ

ياعراقْ ...!

إن تفحصاً دقيقاً لنتاج الشاعر نورعلي يجعلنا نطوف في عوالم مختلفة ونقف أمام مفردات لها انتماءات خاصة. فالقصيدة بالنسبة له ليست مشروعاً هندسياً تهيأ له المستلزمات بل هي لحظة من الطوفان ثم تسكن. يقول عن ولادة القصيدة عنده:

ــ في لحظة الابداع والكتابة لا تحضرني سوى اللحظة التي احياها بكياني وجوارحي، فالمبدع يغرق فلا يحس الا وهو بين الموج فيعوم ويحاول اصطياد ما يضطرب في قاعه ويتفاعل دون احساس منه.

لذا تراه يحاول جاهداً الحفاظ على تلقائيته كشاعر. فهو يسلم قياده للحظة المخاض الشعري وما تأتي به، فيضع جانباً كل ما يقوله الآخر وما ينظر اليه. المهم أن لانترك العقل يتدخل بحدة خوفاً من أن ينقطع الخيط بين المبدع والنص. إن عبد الستار نورعلي يخشى كثيراً من أن يسقط الابداع اسير الاصطناع خوفاً من (شرخ العفوية والانسياب والتدفق التلقائي للتجربة المخزونة الضاغطة).

في قصيدة (المسلة العارية) يستخدم الشاعر مفردات شائعة في النص الديني، لكنه يخضعها لفلسفته الخاصة، ويجعل منها أقرب الى بناء صوفي. ففي هذه القصيدة التي أسميها (تراجيديا الحيرة) يفلسف الشاعر غربته ويبدأها بحلم:

يستبطنُ الليلَ فيُلقي على

ظلالهِ آثارَ ريح المكانْ

فيحتويهِ الرهانْ

ينقله من مسرح الرؤيةِ في حوزةٍ

مليئةٍ بالصبواتِ الحسانْ

ينامُ في الظلِّ وفي لهفةٍ

يبحثُ عن شمسٍ وعنْ أرجوانْ

الشمسُ تغفو خلف حدِّ المدى

غارقةً في لجِّ هذا الزمانْ

إن هذه البداية تتجلى فيها تأثيرات شعره العمودي. لكنه يتدارك ذلك في المقطع الذي يليه والذي يتناول فيه مشكلة اليومي، منفاه الروحي، وعدم تجانسه مع السائد الذي يحيط به، فتراه محاولاً أن يرتب قلقه:

يستبطنُ الليلَ، أيا نجمةً

سائرةً

دون نجوم السماءْ

حائرةً

ترحلُ بينَ الفضاءْ

*

رُدِّي ففي بعض الصدى نسمةٌ

تعانقُ المشهدَ والليلَ

وفصلَ الرداءْ

إن هذه النجمة التي تسكن في الترحال والحائرة هي الشاعر نفسه. أما نهاية القصيدة فهي تلخيص للخاتمة غير المنتظرة لما آلت اليه الأشياء والأشلاء. لقد صاغها ببناء فيه الكثير من الشفافية وبظلال وارفة من الحزن الشفيف:

ياصورةً تنهضُ مِنْ وجههِ

تسيل في الحبِّ صدى العنفوانْ

فيكِ مسراتٌ هوتْ

وانزوتْ

بينَ مصاريعِ كتابِ الأمانْ

في ليلةٍ دارتْ على فُلكها

وطاردتْ نوازعَ الالتقاءْ

يستبطنُ الليلَ وفي ليلةٍ

بيضاءَ فيها الأرضُ لونُ الضياءْ

والشجرُ الوارفُ في صمتهِ

مسلةٌ عاريةٌ عن رداءْ

أما في صرخته التي اسماها (الفيليون) فتختلف فيها المفردة اللغوية اختلافاً كبيراً عما في باقي قصائده، فنحن هنا أمام نسيج شعري ذي صورة تراجيدية حادة ومفردة قاسية وجرس شعري يدخلك في عالم من الحماسة لتتبع الفصل الدامي في تاريخ الأكراد الفيليين. هنا يحول الشاعر قصيدته الى ملحمة يرزم فيها تاريخ شعب لا تنتهي هجرته:

فتتابعت فيكم رياحُ الهجرِ

مثلَ تتابعِ المطر الغزيرِ

...........................

في كلِّ فصلٍ هجرةٌ محسوبةٌ

بكتاب سفيانٍ صغيرِ

لا يرتوي من صاعقاتِ النار

أو من ذبح معشوقٍ وليدِ

*

أما بداية القصيدة فأشبه بالطوفان:

الأرضُ تلفظ كلَّ يوم جثةً

وتعيد مهزلةَ الجريمهْ

الأرضُ كلُ الأرض مِرجلةٌ أليمهْ

إنها القيامة التي يراها عبد الستارنورعلي ونراها من خلاله. يعود ليخاطب أبناء قومه:

ياأيها القومُ الموزعُ نسلُكم

ما كنتمُ ضمنَ الخطوطِ الخضرِ

في الأمم الكبيرهْ

فتناوبتْ فيكم سيوفُ الناسِ

كلٌّ يعتلي سقفَ الجريمهْ

ليفاخرَ الدنيا بمعزولٍ عن الأحلافِ والدياتِ

لا يقوى على صدِّ القبيلهْ

إن ما يميز نتاج هذا الشاعر المبدع هو أنّ القصيدة عنده تمتاز بالجزالة، وهذا يعود الى تمكنه من البناء الكلاسيكي للقصيدة ومعرفته الدقيقة بقاموسيتها اللغوية. كما تمتاز القصيدة عنده بأفعالها الدرامية المؤثرة وبنائها البصري ذي الجمالية العالية. فالقصيدة عنده أقرب الى الملحمة. انها تحكي حدثاً مصاغاً عبر بناء بصري، ثم يوصل كل ذلك عن طريق اللغة ذات الشفافية العالية. اللغة عند شاعرنا وسيط يوصل الحالة المعبر عنها بالصورة الشعرية وليست الاساس في القصيدة. فهو لا يعتبر اللغة هدفاً، وهذا ما يجعله مختلفاً عن الكثير من الشعراء المعاصرين الذين يعتبرون الشعر لغة أولاً. ولذا عند متابعة نتاج الشعراء الجدد – وما أكثرهم – ترانا في لجٍّ من المتلاعبين بالمفردة وكأن تزويق الكلمات والحذلقة هي صنعة الشعر الآن. وعليه فأنت تراهم يشبهون بعضهم البعض كثيراً.

أما الميزة الأخرى في نتاج الشاعر عبد الستار نورعلي فتتعلق بشكل القصيدة، فإنه كما اسلفنا لا ينظر للقصيدة مشروعاً على الورق. لأن التنظير ليس مهمة الشاعر. فالنص الشعري عنده يأتي كنتاج لحالة تأزم خاصة لا يصطنعها بل يعيشها، وربما هذه الحالة لا تأتي باستمرار، فشكل القصيدة ومحتواها انعكاس الحالة وحجم تأزمه فيها. إنه من غير المستطاع تبويبه، فهو لا ينظر للقصيدة لكنه يدرس تجربته دائماً. حيث ان الشاعر الحقيقي لا يكون انعكاساً للآخرين ولا يشبه نفسه، أي لا يكررها.

إن تنوع اشكال القصيدة عند نورعلي يعود الى التراكم الكبير في تجربته الثقافية كقارئ وكشاعر متتبع لنتاج الآخرين ومعاصر لإشكالات عصره وخاصة ما يتعلق منها بالشعر. أما العمق الذي نحسه ونلمسه في معظم قصائده فيعود الى الخزين المتراكم لتجربته الخاصة الذاتية. فالاحداث التي عاصرها وعايشها تركت في شعره آثاراً واضحة. فهو لم يقفز فوق الأحداث بل الاحداث لها حيز كبير في شعره. ان مجتمعنا العراقي وعلى مر التاريخ اشبه بمرجل نار لم يهدأ أبداً. من يطفئ هذا المرجل؟ إن من يحاول سيسكنه المنفى ثم يعود ليتخذ المنفى وطناً. ثم يضيق هذا الوطن ليصبح بحجم غرفة صغيرة. ولا يجد الشاعر وسيلة للبقاء الا الاحتماء بالثوابت.

هناك ثمة قيم ينبغي الحفاظ عليها حتى تكون الحياة قابلة للعيش. وعبد الستار نورعلي ذو ثوابت انسانية عالية، فهو يمجد مثلاً (أحلام) المرأة الآتية من بين قصب الأهوار في جنوب العراق لتستشهد في ذرى جبال العراق دفاعاً عن الحق بنفس الحماسة التي يمجد فيها كردياً يحترق خلف صخرة ويترك كيس التبغ تعبث به الريح .... ففي الأرض متسع للجميع، والبطولة لا تحدد بمكان:

امرأة من قصب الأهوار

تفترش الرمل الأحمر في فوهة الكهف

بين حنايا كردستان

بين الثلج وبين النار

تلتقط

حبة رمل فتقبلها

تحرس قبلتها

تنحت صورتها

في القلب الرابض بين الجبل

وبين نخيل الأهوار

أما الجانب الآخر في نتاج عبد الستار نورعلي، وهو الشعر العمودي، فهو يحتاج حقاً الى دراسة مستفيضة. فالقصيدة العمودية عنده تمتاز بالبناء المتراص والجزالة العالية. هذه الجزالة لا تعود الى استخدامه المفردة الكلاسيكية مع أنه متمكن منها، لكن الجزالة تعود الى اختياره الدقيق للمفردة المعبرة بكثافة الحالة الحدثية التي يسردها بتتابع صوري يجعلك أشبه بمتابع لأحداث فيلم لا يمكنك التوقف عن متابعتها. ففي القريض من شعره نرى حالة من السمو تجعله في مصاف الكلاسيكيين:

لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ فمرتديهِ مقيتُ

صبّوا الكؤوسَ فإنني في الشاربينَ لَحوتُ

مَنْ يملأ القدحَ الشرابَ وعاقروهُ سكوتُ؟

فأنا البحارُ أنا السفائنُ في الخضمِّ أفوتُ

لم أخشَ من لبسَ الوقارَ رداؤهُ الكهنوتُ

لا فرقَ بينَ العرشِ او مَنْ في الكفافِ يموتُ

وكذا في قصيدته التي يعارض فيها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:

أأبا فراتٍ، والجراحُ   فمُ

وعلى السيوفِ من الجراح دمُ

*

إنَّـا على حالين تجمعنا

لغةٌ تحلِّقُ ثم تضطرمُ

*

إنّا  على  حالينِ يُثقلُنـا

همٌّ يصولُ وليس ينصرمُ

*

همٌّ تكابدُهُ على سَفَرٍ

بينَ القوافي نارُهُ ضرَمُ

*

وأنا هنا حالانِ ما افترقا

نفسٌ تذوبُ ورؤيةٌ سَأمُ

***

كتابة: جودي الكناني

يضعنا الكاتب نايف خوري في كتابه "السّيرة الحرفوشيّة: آل خوري-  إقرث" أمام إشكاليّة الجنس الأدبيّ حين نرى كلمة "رواية" مكتوبة في أسفل الغلاف. علمًا أنّ هذه الإشكاليّة ما كانت لتتواجد لو كان عنوان الكتاب "السّيرة الحرفوشيّة"، ولكنْ إضافة "آل خوري-  إقرث" تُضفي عليه الصّبغة الواقعيّة والبعد الحقيقيّ. بمعنى، هذه سيرة حقيقيّة، بغضّ النّظر عن كونها سيرة غيريّة أو سيرة ذاتيّة (كون الكاتب ينتمي إلى عائلة خوري). بالمقابل، الرّواية هي عمل فنّيّ تخييليّ. فهل يجوز لكاتب السّيرة أن يُوظّف الخيال في نصّه؟ نعم. ولكنّه خيال مُقيَّد، في حين ممكن أن تعتمد الرّواية على الخيال المُطلق.

إنّ هذه الإشكاليّة تقودنا إلى قضايا كثيرة متشابكة ومُتداخلة ما بين الرّواية والسّيرة. والسّبب في ذلك، الإشكالات التي تُواجه الباحث عند الاقتراب من موضوع السّيرة، تكمن في تعدّد تعريفاتها واشتباكها وتداخلها مع العديد من الكتابات المجاورة، وصعوبة التّمييز العلميّ النّهائيّ بين هذه الكتابات كالرّواية والمذكّرات والسّيرة الغيريّة واليوميّات والاعترافات وغيرها.

 تتشابك السّيرة كذلك مع التّاريخ، نظرًا إلى أنّ السّيرة بنوعيها: الذاتيّة والغيريّة، فيها بعض ملامحه، بل إنّها في بعض الأحيان تقترب منه إلى درجة تجعل بعض الدّارسين يعتبرونها لونًا من ألوان التّاريخ. وإذا طبّقنا هذا على كتاب نايف خوري، نجده يروي قصّة تاريخ عائلة خوري، خاصّة أنّه يتحدّث عن الخوري سمعان حرفوش في نطاق المجتمع، ويعرض أعماله متّصلة بالأحداث العامّة، أو منعكسة منها، أو متأثّرة بها، فإنّ الكتاب/السّيرة، في هذا الوضع، يُحقّق غاية تاريخيّة.

والسّؤال: هل يُسمح للكاتب إدخال عنصر الخيال إلى التّاريخ؟ كلّا. لأنّ ذلك يُعدّ تشويهًا للحقائق وتزويرًا لها. ويبدو أنّ نايف خوري واع ومدرك لهذا الالتباس الذي سيواجهه القارئ. وعليه، فقد اهتمّ بنفي كون كتابه تاريخيًّا توثيقيًّا، فيقول إنّه: "رواية غير توثيقيّة ولا تاريخيّة، لكنّها جاءت من بنات الأفكار والخيال، مع الاستناد إلى بعض المعلومات التي استقيتها من المصادر" (ص 10). ونظرًا إلى تعدّد الرّوايات عن أصل عائلة حرفوش، كما يقول الكاتب، وتعدّد فروع العائلة وانتماءاتها الدّينيّة، كان لا بدّ للكاتب أن يختار الأسلوب الرّوائيّ الذي يُتيح له المزج بين الحقيقة والخيال. وبالتّالي، يُجنّبه أيّ اتّهام أو ادّعاء ممكن أن يكون.

إنّ من أبسط الأمور التي تدفع الإنسان إلى كتابة سيرته الذّاتيّة، رغبته الفطريّة بالخلود. وهذه الرّغبة تشتدّ عنده عندما يشعر بالتّفرّد والتميّز. كذلك الأمر بالنّسبة للسّيرة الغيريّة، التي تتطلّب أن يكون بطلها شخصًا ذا تميّز واضح في ناحية من النّواحي، يجعله هذا التميّز إنسانًا يستحقّ البقاء. وهذا ما رآه الكاتب نايف خوري في شخصيّة الخوري سمعان حرفوش الذي يعود جذر عائلة "الخوري" إليه، كما أخبره جدّه (جدّ الكاتب). وهو الذي بنى كنيسة إقرث وخدم رعيّتها حتى وفاته عام 1886. بحث الكاتب عن عائلة حرفوش في كتب التّاريخ والمصادر المتنوّعة واستمع إلى شهادات أشخاص من العراق وسوريا ولبنان، فجمع معلومات عادت به إلى نحو ألف سنة في عمق التّاريخ، بيّنت له أنّ عائلة حرفوش واسعة الانتشار، متعدّدة الأديان والطّوائف، وأنّ فرع عائلته ينحصر في أهالي بلدة إقرث، الذين هم أبناء وأحفاد الخوري سمعان الذي جاء من بلدة خبب في سوريا، وتمّ تعيينه كاهنًا لرعيّة إقرث بطلب من مطران مدينة صور. بقي الخوري سمعان في إقرث إلى يوم وفاته، ودُفن في الكنيسة. أمّا العائلة فبقيت في إقرث حتى عام 1948، عام النّكبة التي ألمّت بالشّعب الفلسطينيّ، فهُجّر سكّان إقرث إلى قرية الرامة ومنها إلى عكا وحيفا والناصرة وشفاعمرو وغيرها.

تتأكّد قدرة الكاتب على صياغة سيرة عائلته في قالب روائيّ حين يُدخلنا إلى الأجواء الرّوائيّة عبر السّرد الجميل منذ الصّفحة الأولى في الكتاب فيقول: "لم يُغمض الشيخ نايف عينيه طيلة الليل، الأفكار تتوارد متسارعة، والهمّ كبير، تختلط الحسابات التي يجريها بعضها ببعض. حاول النوم على جنبه الأيمن، لعلّ أفكاره تستقرّ، وتهدأ روحه ...." (ص 20). وينجح الكاتب في إحداث عنصر المفاجأة حين يتبيّن للقارئ أنّ المتحدّث/الرّاوي هو السّراج، فيحدث كَسْر لتوقّعات القارئ من شأنه أن يخلق تفاعلًا بينه وبين النصّ، يشدّه إليه ويُثير فيه الرّغبة في متابعة القراءة. يستمرّ السّراج في لعب دور الرّاوي حتى ص 92. يُعرّفنا الكاتب عبر هذه الصّفحات إلى الشّيخ نايف حرفوش، زعيم قبيلة حرفوش وشيخها، الذي يقود قافلته من شمال العراق غربًا إلى مدينة تدمر، ساردًا وواصفًا المخاطر التي تعرّضت لها القبيلة أثناء رحلتها من هجمات قطّاع الطّرق ونشوب المعارك ومواجهة العواصف، مُبرزًا بطولة أبناء الشّيخ نايف وشجاعتهم في التّصدّي لها. وإذا عدنا هنا إلى مسألة الحقيقة والخيال، نرى أنّ هذا الفصل، المتعلّق بالشّيخ نايف وأولاده، بأكمله من وحي خيال الكاتب ولم يكن لشخصيّاته وأحداثه وجود على أرض الواقع.

في تدمر يحدث انقطاع في الزّمن عن كلّ ما ذُكر في الصّفحات السّابقة، ولا يعود الكاتب إلى ذكر قبيلة حرفوش بالمرّة، ولا حتى عرس ابن الشّيخ نايف الذي كان مُنتظرًا أن يُقام في تدمر. يخبرنا الكاتب أنّ عائلة حرفوش اشتهرت في تدمر، وأنّها اختلطت بالسّكّان المحليّين هناك حتى صار منهم المسيحيّون والدّروز والمسلمون. جدّهم الأعلى الأمير حرفوش الخزاعي، المطبّب سمعان حرفوش الذي كان يزاول الطبّ الشعبيّ، المهنة التي ورثها عن جدّ جدّه الشيخ نايف، المطران أنطون حرفوش، والأمير موسى حرفوش-  زعيم آل حرفوش في تدمر، الذي أولته الدّولة العثمانيّة مسؤوليّة المدينة.

نستطيع أن نُشير إلى عدّة نقاط ومواضيع برزت في تضاعيف الكتاب، منها:

- علاقة الصّداقة والأخوّة بين المسلمين والمسيحيّين مُمثّلة بصداقة الأمير موسى حرفوش مع الشّيخ محمد العبد الله شيخ تدمر، وكيف كانوا يتعاضدون ويتّحدون في الأزمات والكوارث.

- الجوّ الدّينيّ المسيحيّ الذي يطغى على الكتاب، خاصّة في سياق الحديث عن المطران أنطون حرفوش في مواقف مختلفة منها: الصّلاة وقت الصّعاب والأزمات. يقول: "أمّا المطران والذين احتموا معه في الكنيسة فشرعوا يصلّون صلاة المدائح لوالدة الإله العذراء مريم. ارتفعت أصوات المصلّين الجاثين منهم والواقفين مع صوت قرع الأجراس وهم يتضرّعون ويتوسّلون إلى العذراء مريم، التي صانت المدينة المقدّسة من قبل، كي تحمي هذه المدينة وأهلها" (103). كذلك وقت الطّعام: "كان يرسم إشارة الصليب مع كلّ لقمة يضعها في فمه وكلّ جرعة ماء يشربها" (ص120)، صلاة المطران قبل معاودة مهاجمته من قِبل اللّصوص: "أيّها الرب القدّوس، يا من علّمتنا كيف نصلّي، وكيف نطلب منك، امنحني القوّة لكي أحمل صليبك كما حملته أنت، واجعلني قادرًا على مواجهة الأشرار وشرورهم، واجعلهم يتحوّلون عن ضلالهم فيعملون الخير والصلاح والسلام. أنا أسامحهم على فعلتهم، فلتسامحني يا ربّ، واغفر خطيئتي. يا يسوع، ابعد عنّي كلّ سوء وكلّ ضرر وكلّ عمل لا يليق بك. أنت يا ربّ، نجّنا من كلّ حزن وشرّ ووجع" (ص 123). ويأتي مشهد تصدّي المطران للملثّمين الذين هاجموه في الكنيسة ليرسم هالة دينيّة وأجواء روحانيّة أثارت الذّهول في نفوسهم وأدخلت الرّهبة إلى قلوبهم وجعلتهم ينثنون عن فعلتهم. يقول: "أمسك الصليب المعلّق على صدره ورفعه في وجه الملثّمين، وهم ما زالوا مسافة خطوتين أو ثلاث داخل الكنيسة. فقطّب حاجبيه وانطلق من عينيه وميض كشرار النار تشتعل من أحشائه، وصرخ بصوت عظيم هزّ أركان الكنيسة: باسم يسوع المسيح قفوا ولا تتحرّكوا، باسم يسوع المسيح وأمّه العذراء توقّفوا. شعر بغتة بقوّة عظيمة تملأ صدره وتغمر الكنيسة كلّها، وتحيط به هالة من نور، والمطران قد تصلّبت يده وهو يرفع الصليب باتّجاههم" (ص 125- 126).

نقاط أخرى طُرحت في الكتاب مثل:

- معاملة الدّولة العثمانيّة للمسيحيّين.

- شنق بطريرك القسطنطينيّة الأرثوذكسيّ غريغوريوس الخامس المقيم في إسطنبول بأمر من السّلطان العثمانيّ (محمود الثاني)، بعد أن اتّهمه بالفشل في ضبط المسيحيّين اليونانيّين الذين تمرّدوا على السّلطات العثمانيّة. (129- 130)

- إبراز أهميّة قيمة العطاء في الدّين المسيحيّ. وقد أفاض المطران أنطون حرفوش في الحديث عنها أمام آل حرفوش عند اجتماعهم في الكنيسة. وممّا قاله: "إنّ العطاء الجميل هو عطاء معنويّ، غير ماديّ، كمن يعطي كلمة عزاء لإنسان حزين، أو كلمة تشجيع لمن هو يائس أو واقع في ضيق، أو يعطي عبارة حنان لطفل يتيم". (ص 97)

- أسلوب الوصف برز بشكل واضح في الكتاب، وهو متداخل مع السّرد في غالبيّته. ولعلّ وصفه لوقوع الزلزال في تدمر كان الأجمل والأكثر وقعًا في النّفس عبر استخدامه للمفردات والتّعابير التي تُثير عاطفة القارئ وحزنه: "فزعت العصافير في أعشاشها وحلّقت في الجوّ، وحامت الغربان، وأسراب الحمام طارت من مهاجعها. ذهل السكّان من المشهد، وخرجوا ينظرون ما الأمر. لكنّ الجميع شعروا بالأرض تميد، وأصوات دويّ رعد شديدة تنطلق من جوف الأرض، خفقت قلوب السكان هلعًا وخوفًا. ما بال الجدران ترتعد؟ والحيطان ترتجف؟ انبعثت من الأرض رائحة الموت، وتحوّلت تدمر إلى مدينة أشباح. كان برج الجرس في الكنيسة أطول معالم المدينة، لكنّه سقط وتفتّت مع سقف الكنيسة. كانت مئذنة الجامع شامخة ويرتفع منها الأذان والصلوات والتي كانت تتحدّى غيوم السماء وتشقّها". (ص 149) وفي موضع آخر يقول: "فُقدت السيطرة على المدينة، ورأى الناجون أنفسهم يقفون أمام مشهد الدمار لآمالهم، والحطام لأحوالهم. فدخل اليأس قلوبهم، وتغلغل الحزن في نفوسهم، وتوغّل الأسى في أرواحهم. يحاولون أن ينفضوا الغبار عن ثيابهم ورؤوسهم وأجسادهم. لحظات فقدان الأمل والأسى تبدو ساعات، بل زمنًا أطول من الدهر، والوقت أبطأ والشمس أشدّ حرارة، والهواء الحامل الغبار ورمال الصحراء أشدّ لسعًا في الوجوه"(ص 150- 151). ويتابع وصف هذا التحوّل المؤلم في المدينة فيقول: "لم تعد تتفتّح الزهور في الربيع، ولا البراعم في بداية الصيف، لم تعد تنضج الثمار في مواسمها، ولن تمتلئ الغدران بالمياه، لم تعد الحقول الخضراء تملأ البيوت خيرات الأرض ونِعم السماء"، "هذه الأرض التي أفاضت من عطاياها غدرت بأهلها، وانتفضت في وجههم، ثارت عليهم، قلبت مفاهيمهم وغيّرت أفكارهم. السماء التي أنزلت عليهم الهبات والحسنات، أنزلت عليهم المصائب والكوارث، انحسرت الغيوم المباركة بالمطر، وهلّت أمطار الخيبة، تساقطت الآمال وتهاوت الطموحات" (ص 150).

بطبيعة الحال، وبعد هذا الزلزال الذي دمّر المدينة، تفرّق السكّان وعائلة حرفوش اتّجهت جنوبًا ووصلت إلى بلدة خبب جنوب سوريا. وهي مركز مسيحيّ مهمّ في منطقة حوران. العائلة تكوّنت من الأمير موسى حرفوش والمطران أنطون حرفوش وأسرة سمعان حرفوش المطبّب مع زوجته مرتا الحامل وابنهما بولس البالغ أربع سنوات.

في خبب يصف الكاتب مشاهد تنعكس فيها حركة الحياة ونبضها بعد أن شهدوا انطفاءها في تدمر. يقول: "مالت الشمس خلف الجبل، وبدأت أسراب الطيور تحلّق في الجوّ، وهي تبحث عن طعامها على الأرض لتقتات بحبوبها ثمّ تأوي إلى أعشاشها، أطلقت زقزقتها في الأجواء مع نعيق بعض الغربان. كانت حركة السكان في الخارج ملحوظة، همهمات وأصوات مختلفة. فالعمّال يعودون من أشغالهم والرعيان يسيرون مع قطعانهم وأصوات ثغاء الحملان والأغنام تعلو على صوت نباح كلب يحرسها. والمزارعون يعودون من حقولهم مع دوابهم التي ارتفع صوت دبيب أقدامها. بعض الأولاد يركضون ويصيحون وهم يلعبون فرحين" (ص 175).

ونشهد السّرد الجميل، لحظة ولادة مرتا زوجة سمعان: "ساد الجوّ شعور من الترقّب والانتظار المشحون بالخشية والخوف. إنّها المرّة الثانية التي تنجب فيها طفلًا، فلماذا يساورها شعور غريب مشوب بالإحباط والاكتئاب، والأحاسيس بأنّ هذه الولادة ستتعسّر وتسبّب لها آلامًا قد لا تحتملها. فهل سيصمد جسدها النحيف؟ كيف سيكون شكل جنينها؟ أهو صبيّ يشبه أباه أم بنت تشبه أمّها؟ لم تستقرّ مشاعرها، وكلّما اشتدّت آلام المخاض أكثر، زادت اضطرابًا وحيرة وقلقًا" (ص 174).

والذي حدث أن اقتاد الجنود العثمانيّون "بولس" ابن سمعان حرفوش إلى معسكر العمل في مدينة غزّة، فنذر المطبّب سمعان للسيّد المسيح ولمريم العذراء، أنّه إذا عاد ابنه بولس سالمًا، فسيجعل نفسه في خدمة يسوع طيلة حياته. وبالفعل، ارتدى سمعان الثّوب الكهنوتيّ وذلك بعد ان ارتقى في الدّرجات الكهنوتيّة إلى شمّاس إنجيلي، ثمّ كاهن في خبب، مع إبقائه على مهنة التّطبيب. إلى أن تلقّى المطران جورج رسالة من مطران صور يطلب أن يبعث له كاهنًا من أبرشيّته وسيتمّ تعيينه في إقرث ليرعى أبناء كنيسة الرّوم الكاثوليك. وهكذا، انتقل الخوري سمعان وعائلته إلى إقرث وكان يوسف سبيت هو مختار البلدة. وهناك قرّر الخوري سمعان إعادة بناء الكنيسة وكان ذلك نحو عام 1800.

عاش الخوري سمعان في إقرث مع زوجته مرتا حتى وفاته عام 1886. ودُفن في الكنيسة التي بناها. استطاع أن يكسب محبّة كلّ من عرفه. كان، كما يصفه الكاتب، "لطيف المعشر، رهيف المشاعر، دمث الأخلاق، بشوشًا وباسمًا، اتّسمت علاقته بالأهالي بالنّقاء والصّفاء والطّهارة. أصبح مثالًا في الإخلاص للكنيسة، ومحبّة الناس واستقبالهم، فلا يردّ سائلًا ولا يرفض محتاجًا" (ص 233).

وأخيرًا

هذا الكتاب لا شكّ يُجسّد الّرغبة الكامنة في الإنسان، كلّ إنسان، في معرفة ماضيه وجذر عائلته وتاريخها. وقصّة أهل إقرث وعائلة حرفوش هي قصّة الشّعب الفلسطينيّ الذي عانى من الطّرد والتّهجير والتّشريد وتدمير البيوت والبلاد.

وبما أنّ السّيرة لها القدرة أن تميل نحو الرّواية وتتّخذ القالب الروائيّ، فقد نجح نايف خوري أن يصوغ سيرة عائلته في بناء فنيّ روائيّ، ظلّ مقيّدًا، في بعض مركّباته، بالوثائق والحقائق التّاريخيّة.

إلّا أنّ هذا التقيّد لم يمنع الكاتب، بصفة عامّة، من أن يصوغ السّيرة في صورة مترابطة، ولغة سلسة، وذلك على الرّغم من وجود بعض الفصول التي ابتعدت تمامًا عن السّرد القصصيّ المشوّق واقتربت من التّسجيل التّوثيقيّ المباشر.

وفي النّهاية، وبعيدًا عن آل حرفوش وخوري، ثقافةُ الكاتب واضحة في هذا الكتاب من خلال المعلومات الغزيرة التي يقدّمها، كما أنّه يطرح همومًا وتساؤلات بخصوص قضايا عديدة تؤرّقه، عَرَضَ بعضَها بإسهاب وبعضها الآخر في سطور قليلة. وهذا، في رأينا، يُشير إلى النَّفَس الرّوائيّ الطّويل الذي يمتلكه الكاتب، ويُشكّل مادّة خام متينة نرى فيها انطلاقة قويّة لكتابة رواية جديدة.

***

د. رباب سرحان:

............................

* نصّ الكلمة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب في قرية الرّامة بتاريخ 5.10.2023، في مركز حنّا مويس الثّقافيّ.

لا أدري ما سبب النزول أو كيف ارتميت في أحضان الورقة البيضاء، لأخط ما اعتراني بعَـيد قراءة "حالة من حالات رجل سبعيني"(1) للقاص ع الحميد الغرباوي، الأخ والصديق والرفيق، هل هي رغبة في التواصل بين دروب الكلمات والمعاني، لتحقيق علاقة تقابل مجازي؟– ربما- بحكم أنني لم ألتق به قبيل ظهور ذاك الوباء اللعين (كوفيد)؟ أو ربما ارتماء لاشعوري لقراءة النص، قراءة خارج المحفل النقدي على ما يبدو؟ بعد إحساسي بلذته السردية، وصوره العميقة بعمق إحساس الرؤيا المكثفة بالتجارب والتمرس في دروب الحياة ؟ أو هُـو نوع من التماهي السلوكي، مستشعِـرا نفسي بأنني  طرف في سياق النص، أو أنا /هو الذي انقطع عن المقهى، انقطاع يترادف عبر صور ساخرة  من رجل سبعـيني، بلغته ولكنته البيضاوية/ الشاوية، التي تتداخل بين حياته اليومية وفي قصصه المتعددة لا فرق. (وتخيلت نفسي أرد عليه بسخرية لاذعة)* الفرق أنه  صارم وجدي في طبعه، ساخر أمام صورة العالم، بغية تفجيرها في ذهنية وأحاسيس القارئ المفترض، وتفجيرها أمامنا في تلك الجلسات التي كانت في المقهى، وبعد ذلك: كلما زرت منطقة الحبوس إلا وأسأل عنه نادل مقهاه المفضلة، فدائما كان الرد، لم يأت منذ شهور، هو ورفاقه المفضلين؟ إنها طبيعة الندل في المقاهي/ الحانات بحيث: (أن ندل المقاهي والمشرفين عليها  يحفظون أسماء زبائنهم ومواقيت وأيام حضورهم وغيابهم، وما يروج وسط الجلسات من أحاديث من غير تكليف، وبتكليف أحايين كثيرة من جهة خاصة، خاصة جدا.)* ممكن أن يكون صائبا في حكمه بناء على تعليل منطقي ( لا أثق في العاملين  بالمقهى..علمتني التجربة، من أيام الشباب وانخراطي في العمل السياسي،)*هكذا كانت العلاقة بين النادل/ الرواد، وهـي ليست علاقة إلغاء أو نفي أو تضاد، بل ترتبط  بالاحتياط، ولما لا نقول: الخوف من العسس وبطش سلطتهم، وقتئذ: ( كل من يتمتع بسلطة فهو يسيء استخدامها، لذا يجب أن يكون لكل سلطة، سلطة أخرى تراقبها *« من يراقبها إذن؟)* ولكن نحن مراقبين، صيف شتاء ولاسيما أن: (المشرفون والندل ليسوا وحدهم المكلفين بمهمة المراقبة، ثمة آخرون مكلفون بنفس المهمة يجلسون إلى جوارك في المقهى باعتبارهم من روادها. وما أكثر كاميرات المراقبة البشرية في غير المقاهي...)* فهاته حقيقة نلمسها جميعا، أينما ارتحل المرء أو استقر، ولكن تصدر عن عجوز لا تهمه المراقبة، ولكن يتبين أن عزيزنا القاص "الغرباوي" لم يتغير، بحيث لازال مشاغبا كعادته، لكن شغـب يحكمه الاتزان والمنطق، والبساطة في تركيبية شديدة، مقابل هذا صريح وخفي في آن واحد، (..أنا اليوم عجوز. والدنيا تغيرت.. ظاهريا لك الحق في المعارضة، في الاحتجاج والامتناع أو الرفض والإدلاء بالرأي باسم الديموقراطية وحرية التعبير، غير أن هذا الظاهر ليس سوى خدعة )* تلك قناعة نابعة من المراس وخبرات الدنيا التي يعشقها رغم مخاطر الزمن وتقلباته. أي نعم: عاشق للحياة، مقاوم عنيد، يحلم بالمستقبل وبالغد الأحسن رغم بلوغه "السبعين " أليس كلنا يتماهى بحلم لمستقبل مائز ومتميز عن الحاضر ! رغم بلوغنا "السبعين"؟ طبعا هي مرحلة تندرج في باب المتغيرات العمرية، ولكن تبقى الثوابت التي تتأطر في المبادئ والقيم، والتي تزداد نضجا لتحميني من الوقوع في وهْـم المغالطات والانفعالات المتطرفة، وبالتالي: (ما الخطر الذي يشكله شخص في مثل سني؟ غبت عن المقهى. لم يرغمني أحد على هذا الغياب، شبيه بعزلة لا تعكس صدمة أو عقدة نفسية وإنما ردة فعل وجودية)* نعلم أن المقهى فضاء ترفيهي/علائقي/استشفائي/ /هروبي/ اجتماعي/.../ ولا خلاف بأنه جزء لا يتجزأ من المشهد الحضاري، ألم تكن  المقهى مهد للحركات الأدبية والفكرية والفلسفية في العالم كله؟ والقاص عبدالحميد الغرباوي،  استقى العَـديد من قصصه، الممزوجة بين المتخيل والواقع من المقهى، بحيث لا تخلو مجموعة قصصية من انوجاد  المقهى كمكان فاعل في الحكي مثل-  أكواريوم (2) دخان قهوة بحليب (3) وبالتالي فلماذا انقطع عن المقهى هكذا؟: (للحقيقة، أجهل عدد أيام غيابي.. ولا أتذكر كيف ومتى أخذت قراري بالابتعاد عن المقهى فترة من الزمن..)* هل حالتي شبيهة به؛ هي سبب التماهي بحمولة النص؟ أو حالته شبيهة بي؟ هل لأنها لم تـعُـد ملاذا للعجزة، وأكسجين للكائنات المهددة بالانقراض؟ ربّما بالمعنى الذي نريد أن نعرفه، لم تعد المقهى مكانا صحيا، مكانا للصخب والسخرية والضحك والمزاح بين الأصدقاء والرواد، نتيجة رحيل العديد من رفاق الدرب وأصدقاء الأيام، ناهينا عن تعقد الحياة وتركيبتها، أم السبب يكمن في المقاهي "المخملية" ذات طابع "الماركوتينغ" تلك الخارجة عن مدارات المدن، تلك التي استقطبت رواد وزبائن ما تبقى من المقاهي، لا فرق بين مقهى شعبية/ حضرية، الكل أمسى في شرود يفكر مرتين وثلاثا، وتارة يهيم هذا وذاك في أعماق الهاتف الذكي، حيث يبحرون في الفضاء الأزرق، لتبدو أنت غريبا / وحيدا/ تناجي إما جريدة أو كتابا، أو تساير القوم بهاتفك، ليموت الشغب في دواخلك، ليتوقف اللسان عن تمرن نطقه، ومخارج حروفه لأنه: (ماذا يفعل شخص في حالتي غير أن يُنصت لعظامه ولأنفاسه محاولا ترتيب ما تشتت في عقله من أفكار وصور وأحداث وذكريات..)* طبعا هي حالة من حالات رجل سبعيني، ولكن إن لم يكن مبدعا / كاتبا / مشاغبا / رافضا للقواعِـد/ ... فالذييقاوم الغياب بالحضور و يكافح ضد العدم من أجل قضية الإنسان أي:  (أكيد لا يفكر سوى في أمر واحد هو أن يكون حرا طليقا في الفضاء الذي لا حدود له)* وبالتالي هل انقطاعه عن المقهى عزلة أم انسياق(كنا اتفقنا في آخر جلسة لنا أن نغيب عن المقهى مدة.. أتذكر ذلك؟)* هي بالتأكيد غربة واغتراب وجداني ومكاني ! فحين العودة إليه، قصد استرجاع ما تبقى من حيوية الذكريات، تشعـر بنوع من الاختناق والذوبان الكينوني في عزلة ذاتية كئيبة لأن: (نفسية الإنسان تصبح شديدة الرهافة مع التوغل في العمر، سريعة التأثر والانفعال.. وفي هذه الحالة، الأفضل أن يضع المرء، بين الفينة والأخرى، مسافة بينه وبين الناس..)* هذا ليس حلا. لأن المرء كائن اجتماعي، ولهذا السبب وبدون سابق إعلان ! عاد المبدع " الغرباوي" للمقهى ليستكين للحظات، لكن المفاجأة، يصطدم بحالتين - اقتحام شخص خلوته / مائدته، وهولا يتذكره و لا يعرفه: (دون أن أملك الجرأة لأعتذر لمحدثي، خشية أن يعتبر اعتذاري شكلا من أشكال الرفض أو التعالي.. جلس الشخص إلى نفس المائدة صامتا، مكتفيا بالتحديق في الواجهة الزجاجية العريضة)* ومصادفته مع نشرة الأخبار: (استهلها مقدمها بخبر استمرار العُـدوان الوحشي على غزة. مشهد البنايات المدمرة والجرحى والقتلى تملأ مساحة الشاشة... كان قد وصلني توا خبر استشهاد كاتبة فلسطينية شابة* تحت القصف.). لكن المثير أنه استخلص الحكي/ موضوع  الفواجع والتذمر، لما تقوم به الطغمة الإسرائيلية من  مجازر في حق الفلسطينيين أطفالا ومدنيين !! (طال زمن الرجوع يا فيروز)* هل لأننا لم نعد نستحمل ما تم حمله من معاناة وهموم وأوهام وانتظارات كما انتظر[استراغون و فلاديمير] – [كودو](4) لكي نبقى نستلذ بالوجع والحزن الإنساني !أم (ما زلت بحاجة إلى مزيد من الوقت لأكون على أتم الاستعداد لمجالسة أي أحد والدخول معه في حديث.. وسيان أن يكون الحديث قصيرا أم طويلا، المشكلة تكمن في الموضوع، موضوع الحديث)* وبناء عليه فالمعرفة ليست معطى قابل للاكتمال .

***

نـجيب طــلال

..........................

استــئناس:

1) حالة من حالات رجل سبعيني لعبد الحميد الغرباوي: في جريدة الإتحاد الإشتراكي بتاريخ 27 /10/ 2023  ع 13.582

2)) مجموعة (أكواريوم) منشورات مجموعة البحث في القصة بالمغرب سنة 2008م

3) مجموعة (دخان وقهوة بحليب) للقاص عبد الحميد الغرباوي عن مطبعة  دار علي بن زيد للطباعة والنّشر

4) مسرحية – في انتظار جودو- لصمويل بيكيت. كتبها سنة 1948 ولازالت صالحة للعرض !

*) ما بين معكوفتين من النص - حالة من حالات رجل سبعيني -

تعبيراً عن الإعجاب والتقدير للصمود والمقاومة التي يظهرها سكان غزة في وجه الصراع والعدوان، تأتي قصيدة "الحج لغزة هذا العام" لماجد نصيرات كمصدر إلهامي يشيد بالقوة الإرادية للشعب الفلسطيني. الشاعر يستخدم لغة شعرية وصورًا قوية لنقل فكرته، ويركز على أهمية الصمود والتحدي في مواجهة الصعاب. القصيدة تُظهر أن الشعب الفلسطيني في غزة يمثل نموذجًا للثبات والقوة الإرادية، ويتحدى الظروف الصعبة بشجاعة وعزم. يبرز الشاعر أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات، ويشدد على ضرورة التماسك والتضامن بين أفراد المجتمع. هذا التماسك يمكن أن يكون سلاحًا قويًا لتحقيق النصر والعدالة. يركز الشاعر على أهمية التضامن والتماسك بين الناس كوسيلة لمواجهة التحديات وتحقيق الأهداف الوطنية بشكل أكثر فعالية. يُظهر الشاعر براعة في استخدام الرموز والمجازات لتعزيز أفكاره وتعبيراته بشكل قوي ومؤثر . عندما يُستخدم مثل هذا اللفظ القوي، يتعزز التأثير العاطفي والأثر العميق للنص، حيث يُظهر حجم التحدي والمعركة بوضوح، مما يمنح النص نفحة من الحماس والأمل. تلعب هذه الرموز دورًا حيويًا في تعزيز تأثير القصيدة وجعلها تنقل رسالتها بشكل فعال ومؤثر. الشاعر يمتعض في هذا العمل بمفهومي التحدي والأمل بارتفاع. يتركز على إصرار الشعب الفلسطيني في غزة على مواجهة التحديات وعدم الاستسلام للصعوبات. تُظهر القصيدة أن الشعب الفلسطيني يمتلك إيمانًا قويًا بالنجاح والقدرة على التغلب على الصعوبات من خلال عزيمتهم وإصرارهم على تحقيق النصر. هذا المفهوم يعزز من روح الصمود والمثابرة التي تميز الشعب الفلسطيني، ويجعلهم يتطلعون بتفاؤل وأمل إلى المستقبل. تُسلط القصيدة الضوء أيضًا على أهمية الوحدة الوطنية كعنصر أساسي في مواجهة التحديات، مشددة على ضرورة التماسك والتضامن بين أفراد المجتمع. يُظهر الشاعر أن هذا التماسك يمكن أن يكون سلاحًا قويًا لتحقيق النصر والعدالة. بفضل تركيزه على التحدي والأمل، تصبح القصيدة رسالة ملهمة للقراء، تشجعهم على عدم اليأس أمام التحديات والاستمرار في النضال من أجل تحقيق الأهداف والتغلب على الصعوبات. الشاعر يُظهر براعة في استخدام اللغة والأسلوب، ما يضيف إلى جاذبية النص وتأثيره. إضافة إلى ذلك، يستخدم الشاعر أسلوبًا شعريًا معقدًا يشمل الرموز والمجازات والصور البصرية. هذا يُسهم في إثراء النص وجعله أكثر عمقًا وتعقيدًا، مما يجعل القصيدة تتحدى القارئ وتفتح المجال لتفسيرات متعددة. بفضل اللغة المؤثرة والأسلوب الشعري المعقد، تصبح القصيدة قوية من الناحية اللغوية والأدبية، وتثير مشاعر القراء وتلهمهم. تجمع بين الجمالية والعمق، وتعبر عن مشاعر الإعجاب والتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة بطريقة تحفز القراء على التأمل والتفكير.

"الشاعر ماجد نصيرات يهدف من هذه القصيدة إلى توجيه رسالة تضامن وتحفيز لدعم القضية الفلسطينية، وذلك من خلال التعبير عن إعجابه وتقديره للشعب الفلسطيني في غزة وصمودهم في وجه التحديات والظروف الصعبة التي يعيشونها. الشاعر يركز على تحفيز القراء على التضامن مع الشعب الفلسطيني ودعمهم في مواجهة الظلم والاستبداد. يُظهر الشعب الفلسطيني في غزة كنموذجًا للصمود والقوة الإرادية، ويدعو الشاعر القراء إلى مشاركة هذا الإعجاب والتضامن معهم. بالتالي، يمكن القول أن الغرض الرئيسي من القصيدة هو نقل رسالة تضامن وتحفيز القراء على دعم القضية الفلسطينية والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة في رحلتهم نحو العدالة والحرية.

الشاعر ماجد نصيرات استخدم العديد من الرموز والمجازات في قصيدته "الحج لغزة هذا العام" لزيادة تأثير القصيدة وإضفاء عمق إضافي على مضمونها. إليك بعض الأمثلة على الرموز والمجازات المستخدمة: "جثث العدو": تُستخدم هذه العبارة كرمز للانتصار والنصر. إنها ترمز إلى القوة والتحدي التي يظهرها الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو والاستبداد. هذا الرمز يُظهر قوة الصمود والاستعداد للتضحية من أجل النجاح. "كالأسدِ نجعلُ للزئيرِ دفاعاً": هنا، يُستخدم مجاز الأسد للدلالة على الشجاعة والقوة، وتعبيرًا عن استعداد الشعب للدفاع عن حقوقهم بكل قوة وإصرار. "يا وجهةَ الثوَّارِ": تُشير هذه العبارة إلى الثوار والمقاومين الذين يتصدون للظلم والاحتلال، وهم يمثلون رمزًا للصمود والمقاومة. "يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً": تُظهر هذه العبارة أن النصر والانتصار للشعب الفلسطيني في غزة يعزز من هيبتهم واحترامهم. "يا غزةَ للطهارةِ .نبعُها": تُستخدم هذه العبارة للإشارة إلى طهارة ونقاء قضية غزة والشعب الفلسطيني، مما يعكس قيمة وكرامة القضية. تلعب هذه الرموز والمجازات دورًا حيويًا في تعزيز فهم القصيدة وإعطائها طابعًا رمزيًا وعاطفيًا أعمق، مما يعزز من تأثير القصيدة ويجعلها تلامس المشاعر والأفكار بشكل أكبر.

الشاعر ماجد نصيرات يتناول في قصيدته "الحج لغزة هذا العام" موضوع الصمود والمقاومة التي يظهرها الشعب الفلسطيني في غزة أمام التحديات والعدوان. يعبر الشاعر عن إعجابه وتقديره لهذا الصمود الشجاع، حيث يصوّر الشعب الفلسطيني كمثال للقوة الإرادية والثبات في وجه الصعاب.

يُظهر الشاعر في قصيدته التحفيز والتشجيع على دعم القضية الفلسطينية، حيث يدعو القراء إلى مشاركته في هذا الإعجاب والتضامن مع الشعب الفلسطيني في مساعيهم للدفاع عن حقوقهم وكرامتهم. يسلط الضوء على أهمية الوحدة الوطنية كوسيلة لمواجهة التحديات، مشددًا على ضرورة تماسك أفراد المجتمع في غزة. تستخدم القصيدة اللغة الشعرية والأسلوب الشعري لنقل مشاعر وأفكار الشاعر بشكل قوي ومؤثر. تسخر الصور والمجازات لتعزيز فهم القصيدة وإيصال رسالتها بشكل أكبر. بالإضافة إلى ذلك، تلعب القافية والوزن الشعري دورًا في إضفاء إيقاع وجمالية على النص، مما يجعلها قوية من الناحية اللغوية والأدبية. باستخدام الشعر كوسيلة للتعبير، يمكن للشاعر تعزيز تأثير رسالته وإيصالها بشكل أكثر إيقاعًا وجاذبية، مما يلهم القراء للتأمل في معاني القصيدة والتفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة فيها.

***

زكية خيرهم

اتجاه وشكل المتن الروائي يملك خصوصية متميزة، في الأدب الروائي في المهجر، وخصوبة الخيال الفني المتولد والمتحرك، وبراعته في صياغة الرؤية الفكرية وتجسيدها بهذا الابتكار الخلاق، في حركة ديمومة الفعل الدرامي المتواصل الى الذروة، بطرح موضوعات غير مسبوقة في هذا الجنس الأدبي (الأدب الروائي في المهجر) والارتقاء به الى الشكل النوعي، بأن يفتح بوابته بشكل واسع وآفاق غير محدودة، بتناول جملة موضوعات متعددة ومتطورة، وفق نسق هرموني موحد. والأستاذ قصي الشيخ عسكر، جند كل إمكانياته ومعارفه الشاسعة، باستغلال وتوظيف تجربته ومعايشته مع الواقع والحياة بأزمنتها المتعددة، مما أهلته أن يكون علامة بارزة ومرموقة في جنس الأدب الروائي في المجهر، لذلك نجد اطلق براعته الخلاقة في الرواية القصيرة، والتي أطلق عليها تسمية الصندوق الحديد، وهي تحمل معنى رمزي بليغ الدلالة، وبالاشارة بتسمية الازمنة أو المراحل التي مرت على العراق بصبغته بصبغها الخاصة والمعينة في النهج والسلوك والفعل والعقيدة بالصندوق أو الصناديق، والحقيقية بما في جعبة داخل هذه الصناديق وكشف اسرارها الظاهرة والباطنة في مراحلها المتعاقبة، التي جرفت العراق في في رياحها العاصفة و المدوية، يتناولها بشكل بارع ومرموق، وخاصة في الجانب الاجتماعي والسياسي في بيئة المجتمع ومحيط العائلة. وهذا الإصدار الروائي الجديد، يحمل في طياته اربع روايات مجهرية وهي:

 1- الصندوق الحديد

2 - الهاربان

3 ربيكا (بطاقة نعي)

4 وجهي البشع.

 ونحن بصدد تناول الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) بما تحمل من الصياغة الفنية والمضمون الفكري برؤيته الواقعية، في تناول ثنائي مشترك ضمن نسق واحد في أحداث السرد الروائي وهما:

 1 - مسألة الهجرة المعاكسة.

 2 - مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع الجديد.

رغم صعوبة التناول والطرح هذين الجانبين، لكن براعة الروائي الفائقة، ولغته الجميلة المهذبة برشاقة التشويق، يدخل القارئ الى عرينها بكل طواعية وانجذاب مؤثر، برؤية واقعية وفكرية رصينة، وبالتالي يشارك القارئ في التأثير الحسي، في آلة التأويل وخاصة الأستاذ الروائي، يترك خاتمة النهاية مفتوحة للتأويل، ما بعد الحدث (ميتا سردية)، حسب وعيه الثقافي والفكري، ووضع الأشياء في نصابها الصائب بما يحمل هذا الصندوق من صناديق متنوعة ومختلفة، وما تخص هذه الصناديق من اسرار عبر الازمنة المختلفة، لان كل صندوق يشكل ويحدد نوع الزمن أو مرحلة معينة بذاتها في نهجها السياسي والاجتماعي، فعلى سبيل المثال. صندوق النفايات و الأزبال والقاذورات. الذي ينتج من داخله وتفوح رائحته على المكشوف من الأزبال والقاذورات بالضبط متل ما تفرزه صناديق الانتخابات العراقية المتعاقبة، هي في الحقيقة تدوير النفايات والازبال القديمة بلون أو شكل جديد، أو بعبارة آخرى، بأن صناديق القاذورات القديمة تعود بشكلها أو ثوبها الجديد، لا تختلف في المضمون والمحتوى عن الصناديق الحالية، من خلال عملية تدوير النفايات وتسويقها مجددا، ولكن بأشكال وبجلود مختلفة، ولكن الجوهر باقٍ لا يتغير، في النهج والسلوك الاجتماعي والسياسي.. وكذلك صندوق الارهاب والتفجيرات الدموية التي طالت العراق مؤخراً، والصندوق الذي بداخله الذهب والمجوهرات، التي تخص المرأة لصبرها وتحملها في المعاناة في الظلم والاجحاف والحرمان من المجتمع الذكوري، في عاداته وتقاليده السلفية المتشددة، تستحق وسام من الذهب والمجوهرات. وغيرها من الصناديق الآخرى. ولابد من تحليل مضامين هذا الثنائي المركب في هذه الرواية هما: (الهجرة المعاكسة والتكيف والتأقلم)، ففي الجانب الأول الهجرة المعاكسة تختلف كلياً عن الهجرة إلى اوربا أو الى الجانب الاوربي، وصعوبات الحصول المهاجر على الشرعية وقبول اللجوء، ثم صعوبات إيجاد فرص العمل، ومسائل حياتية أساسية آخرى تمس حياته ووجوده في المجتمع الغربي بما فيه الحب. نجد في الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) ليس هناك صعوبات جمة، وإنما تعقيدات عويصة لا تتحمل ولا تطاق في العودة الى الوطن بعد غيبة طويلة. وهذا يشير بوضوح بأن الوطن اصبح غريباً على ابن الوطن نفسه، فكيف الحال بالاجنبي المرافق له، مثل الزوجة والأبناء يصاحبون والديهما من المجتمع الأوربي الى المجتمع العراقي، فأن الحالة تكون معقدة تصطدم بجملة معوقات من العائلة والمجتمع، تضع العائد إلى الوطن، ان يصطدم بمشاكل جمة، تجعله كأنه يدور في نفق مسدود. في جانب مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع العراقي المحافظ في تأثيراته الدينية وفي العادات والتقاليد الاجتماعية السلفية، مما تخلق احباط نفسي ووجودي، يدخله في دوامة الشعور بأزمة الخوف والقلق، بأن الأمور تسير من سيء الى الاسوأ. كما في الحالة المأساوية للعراقي (ناصر) العائد من الغربة بعد سنوات طويلة هو وزوجته الأوروبية (النرويجية)، ولكن تحت الضغوط الهائلة، يضطر اخيراً الرجوع الى بلد زوجته (النرويج):

احداث المتن الروائي

 مضامين المتن الروائي يتحدث عن عراقي من عائلة غنية ومحافظة دينياً، حصل على شهادة جامعية في اختصاصات النفط في لندن.رجع الى العراق الى مدينته البصرة، مع زوجته (النرويجية) التي تعرف عليها في أروقة الجامعة وتتكلل الحب بالزواج ورزقهما بطفلين. لكن هذه العودة منذ ايامها الاولى واجهت صعوبات ومعوقات جمة، لا يمكن حلها وتحملها، وهي مشاكل عائلية واجتماعية، فالأب منذ الوهلة الأولى أبدى معارضته ورفضه الشديد، بالزواج من (النرويجية) النجسة و الكافرة والملحدة، واعلن ان ابنه العاق غير مرحب به في البيت والعائلة بحجة أن (هل تدخل النجاسة البيت ؟ هؤلاء الاوربيون يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور والعياذ بالله، وبناتهم يقترفن الزنا قبل الزواج) ص34. ويصرح علناً بالغضب الشديد، ليذهب ابنه العاق وزوجته الى جهنم، بينما قلب الام تخضع لإرادة الآب الطاغية وتبرر رفضها لهذا الزواج وتعلله بقولها (أن ذلك لا يمنعها من الغضب على ابن ترك الأهل والجميع من أجل امرأة ليست من ثوبنا وجلدنا ولا من ملتنا !) ص12. مما جعلوا الزوجة (النرويجية) تعاني الإحباط والازمة النفسية والوجودية، تعاني الصدمة من المعاملة والعدوانية، من هذا الرفض العائلي، وكذلك من البيئة الاجتماعية، يقول عنها زوجها (- لا اخفيك ان حالتها تطورت الى الأسوأ..... الصدمة كانت اقوى منها.. خوف من الآخرين وعودتها الى البصرة تزيدها رعباً ونحن في بغداد وحين نمشي في الأسواق تظن شقرتها تلفت الانظار وان هناك من يحاول التحرش بها واغتصابها أو قتلها) ص13. رغم أن (ناصر) يكن الحب الى زوجته، لكنه يشعر بالحرج والعجز الشديدين أمام المعضلة العويصة التي وقع في فخها، فالأب لم يتوقف عن غضبه وندمه تجاه ابنه (- آه إني اعض الآن أصابع الندم..... والله ذلك لن يكفي لو قطعت اصبعي... الغلطة غلطتي، انا الذي بعثت ذلك الولد العاق الى الخارج) 29. وتتصاعدت حلقات النفور الشديد، حتى في ذهابها إلى دورة المياه وعدم استخدام إبريق الماء،اما من ناحية مائدة الطعام والمطبخ (أما المطبخ فقد حرمت منه، رحن يضعن لها الطعام في صحن عند الباب حتى إذا فرغت، رفضن أن تغسله تزعق احدهن (DIRTY) وتتعمد، ان تبسمل على النبي وهي تعلق الصحن بطرفي اصبيعها تحت الحنفية وقتا يطول دقائق) ص54.

 إزاء هذا الوضع السيء والمعقد، لم يعد يحتمل ولا يطاق، اضطر أن يعود الى بلد زوجته (النرويج) مع طفليهما، مع العلم أن وزوجها (ناصر) مصاب بمرض السرطان الذي اخذ يستفحل عليه حتى صرعه بالموت، لكن قبل وفاته كتب وصية نقلها ابنه الى اعمامه في البصرة بقوله (عمي، بابا قد أوصى أن يدفن في مقبرة النجف) ص67.

هذا يشير بوضوح لكي يثبت عراقيته الذي لم يتخلى عنا حتى بعد الموت، رغم ما تجرع من علقم المرارة في المعاملة السيئة من الظلم والاجحاف.

***

 جمعة عبد الله

.........................

للاطلاع

https://www.almothaqaf.com/k2/971853

لا يمكن أن نطوي صفحة الشعر المساهم والمشارك في بناء وعي الأمة دون أن نخصص لبعض الأحياء من الشعراء والشاعرات حيزا يساير تفاعلهم، ويليق ببعض التدوينات والأقوال الشعرية الحية والمشاركة في بناء وعي الأمة انطلاقا من قناعاتهم وفهمهم الصحيح لمعنى الانتماء بكل معانيه، فلا قيمة لشعر ظل صاحبه يسخره لخدمة أغراضه الذاتية الضيقة، وحَرَمَه من التمدد للالتقاء بكوكبة الشعراء الشرفاء والشريفات على مستوى قيم وقضايا الأمة المُلتَهبَة، وهذا ما كان عليه الشعر دوما، وما كان يقوم به من وظائف فكرية وحضارية واجتماعية وسياسية، فحتى الشعراء الصعاليك لم يتخلوا عن انتمائهم الأصيل بالرغم من قساوة ظروفهم داخل المجتمع، وللأسف لم يعد هذا الإحساس قائما وصافيا وصادقا في وقتنا الحاضر .

من الصدف العجيبة أنني عندما كنت منهمكا في تحضير هذا المقال اطلعت على رأي شخص عربي من ذوي الجنسيات المتعددة، والمواقف المتحولة، ناصر الصهاينة في جرمهم وقتلهم للأبرياء ولكن بقدرة قادر، وربما من شدة ما لاقى من التشنيع على وسائل التواصل الاجتماعي انقلب وتباكى وأعلن أنه سينشر مقالا شعريا لما للشعر من أثر، يناصر فيه القضية الفلسطينية كما كان ديدنه حسب زعمه، وأنا هنا أشرت إلى هذه النازلة لسببين أساسيين:

الأول هو بيان أهمية الشعر، ودوره الفعال في تبليغ الرسائل، وتحبير المواقف، والثاني هو إظهار مقدار قيمة كل شاعر عاش مناصرا لقضايا أمته، وأصر على مواصلة السير في زقاق النصر المرتقب مهما بلغت التضحيات، وعظمت الشدائد، متلحفا بقوة المبدأ، وسلاح الكلمة المنتقاة بوعي وجمال .

وقفتنا ستكون في هذا المقال الجديد مع شاعر من العراق الشقيق، هو الدكتور سعد ياسين يوسف حيث أثارت انتباهي مؤخراً نصوصه وتدويناته فأعجبتني بعمقها وصدقها، وعلمت فيما بعد أن إدارة الفايسبوك قد حذفتها لمناصرتها الحق في غزة  منذرة إياه بغلق حسابه، هكذا يفهمون الحرية والديمقراطية المُرَوِّضَة للشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها، ومن حسن الحظ أنني سجلتها في سجلي الخاص، وبقيت أطالعها وأهيئها لهذا المقال .

إن ما جرى في غزة، وفي عموم المنطقة أتاح فرصا متعددة للمبدعين لكي تنبثق عيون الإبداع المتدفقة من دواخلهم، وتتجدد الصلة الإبداعية بين مختلف الأجيال، فكل شاعر وشاعرة تمتح من معينها المفضل، فهذا يقطف من ثمار الأشجار القديمة، وذاك يغرس ثماره وأشجاره الجديدة، وثالث يؤلف، ويقتفي نهجا مشتركا يجمعه بمعاصريه، والمُحَصِّلة في النهاية هي الحرص على القول الشعري الجميل بالرغم من اختلاف المنطلقات وتبدلها .

وإذا أردت اختصار لحظة الشعر المسايرة للأحداث القائمة عند شاعرنا سعد ياسين يوسف سأكون مضطرا من أجل البيان أكثر إلى تبويبها في ثلاثة أبواب وبمنطلقات فكرية وفنية عميقة جدا، وسأرتبها على المنوال التالي:

الباب الأول: ويجمع ما بين الوهم والحقيقة، وشاعرنا كان ذكيا وملما بما يجري إزاءنا، مما خفي منه أو ظهر، ولهذا فضل أن يرسل رسالة اطمئنان للجميع مستفادة من طول نظره ومعرفته الواسعة للوصول إلى حقيقته المرادة والدالة على البقاء والحياة، أو على الأقل أن يقوم بغرسها في النفوس كما يراها، والعملية كما وعاها شاعرنا هي شاقة وطويلة لأنها تتصل بقضايا الأمة، وتسعى لبناء وعي صحيح من ركام الدمار والفساد المنتشر في الآفاق قصد تثبيت العزيمة، وتخليصها مما شابها وعلاها من الغبار والصدأ، كم من واهم ومتوهم يعيش بجوارنا ومعنا، ويظن أن البحر اختفى بمجرد سكون وهدوء أمواجه، وهو ما يمكن استخلاصه من واقعنا نظرا لطول صمتنا، وتقبلنا للغشاوة المفروضة علينا بكل عوامل القوة المتوفرة للآخر وللعدو، يقول في تتبع منظم ومفصل وجميل وعلى لسان كل واهم ومتوهم:

واهمون أنَّهم دفنوه !!!

واهمون أنَّهم تلقوا التهاني

بموتهِ وتيمموا بذراتِ السَّراب

وتقاسموا الصمتَ!!!

واهمون إذ ظنّوا

بأن الذي اغتالوهُ...

لن يشرقَ طوفاناً

يضيء  ...!!!

هل يُدفن الصباح ؟؟؟

***

من تحتِ هذي الأرض

ينبثقُ النوارُ!!!

يحملُ أسماءَ

الذين تجذروا

وهم يضيئونَ

(غرة) أجمل فاتنةٍ

على البحرِ

ويمسحونَ الغيمةَ

السوداءَ

فوقَ عينها !!!

لتتسعَ الرؤى

لأقصى الشمسِ

وهي تكسو بذهبها

جدرانَ بيوتنا

التي دمرها الصمتُ ! .

الباب الثاني: هو مكمل ومؤكد لما جاء في الباب الأول، لأن الحقائق المتداولة بين الناس تختلف باختلاف المبادئ والوعي والمنطلقات والغايات، فالوسيلة تبرر الغاية، وتبقى طريقا سالكا للمُغتصِب للحقوق بدافع القوة والجبروت، أما الباحث عن العدل والإنصاف فله موازينه التي تجمعه بكل الناس حقا وواجبا، ومن الجميل أن يناقش شاعرنا الفكرة المذكورة وغيرها بوعي ينتمي إلى الأمة ليذكرنا بحقيقتنا وحقيقتهم، ويتخذ من جدلية الحياة والموت عندنا وعندهم مثالا واضحا، مُحَكِّما مفهوم عقيدته الراسخة والمستوحاة من قوله تعالى: (  وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ  - آل عمران: 169 )  يقول:

يا أيها الباقون فوق الثرى

كمثلِ ضمادةٍ لنزيفِ جرح الأرض

لا تصدروا شهاداتِ الوفاة ِ

فهم بأجسادِ البراءةِ الغضةِ

بلوعةِ الأمهاتِ في الرمقِ الأخيرِ

بعيون ظلت تحدّقُ في السماء ِ

وهي تطفو على بحرِ الدماءِ

الباب الثالث: مركب من حقيقتين اثنتين ومكملتين لمعنى الأمة، ولمشوار معالم البناء الصلب والممتد على طول الحياة والوجود، والمتخطي لفترة الحياة الدنيوية، وهذا فرق كبير وأساسي لتحديد مجموعة من المفاهيم الضرورية كي تستقيم حياتنا بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية كالموت بمعنى الشهادة، وكالنصر بمعنى إقرار الحق وإزهاق الباطل، وهذه هي الحقيقة الأولى التي تعني الثبات والمناصرة في تأدية وظائف الخيرية المتصلة بالأمة، يقول في تصريح يثبت أن الغلبة تستمد من جينات الأصل، وليس من وسائل المعركة المتفاوتة:

بغبارِ البيتِ الذي دكتهُ الصواريخُ

وهي ترسمُ بالرّمادِ

شكلَ الموتِ على الوجوه

بارتجافةِ العصفِ الذي شوى الوجوهَ

كتبوا شهادات الوفاء

شهادات الحياة !!! .

أما الحقيقة الثانية فهي حصيلة نهائية لما ينبغي قوله والإيمان به دائما، فما دمنا نعيش بمبادئنا ووعينا، فيما بيننا، ومع الناس جميعا فلن يعرف الموت سبيلا لنا، فالحياة هنا تخرج عن إطارها الزمني الضيق لتنتشر كحبات الغرس في التربة على أمل أن يحصل زمن الجني قريبا فتتسع الحياة، ويكثر خيرها، والأهم هو العمل على استمرارها بمبادئها الإنسانية العامة والخاصة، يقول شاعرنا معلنا أن لحظة الموت مستحيلة في عرفنا:

قبل َ أنْ تصطخبَ الدِّماءُ

تلكَ الَّتي نبضت ْ بريّها صخرةٌ

تلك َ التي تدفقت ْفي نُسْغِ الحجارةِ

أكثرَ مِنْ ألفَي نشيدٍ

مزّقَ الصَّمت َفي المذبحِ

واخضرَّ آياتٍ على الشِّفاهِ

قبلَ أن ْ تُطلقوا الرَّصاصةَ الأخيرة َ

على البُراق...

ستطرقُ الأبواب َ

باباً... بابا،

ترمقُكم بجمرِها

عيناهُ وآلافُ العيون ِالَّتي

"ترحل ُكلَّ يوم" صوبَها

تمسح ُعن جبينِ السّيّد المسيحِ

ما نزَّ مِنْ دماء....

من شروط الإبداع عند المبدع الأصيل الموهوب أن يكون إبداعه متوافقا مع قناعاته الفردية والجماعية، ويعلن بواسطته عن خاصية الانتماء إعلانا لا لُبس فيه وعلى كل المستويات، فالمواقف قبل أن تنجز إبداعا تكون من المحركات الأساسية لعملية الإبداع برمتها، وتكون مواكبة للزمان بحمولاته المختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل وشاعرنا الدكتور سعد ياسين يوسف من هذه الطينة الطيبة المسايرة لقضايا الأمة كما رأينا، والمنافحة عن مبادئها وأحقية تصوراتها في الوجود وإن لم يُسَلِّم بها الأعداء المتربصون بنا، قصد إزالتنا وصَدِّنا عن مزاولة مهمة المحافظة على الحقوق ومضامين الهوية المانعة لهم من الوصول إلى مبتغاهم، فمما تعلمناه من شعر شاعرنا، ويجب على الآخرين أن يعلموا به ويتعلموا منه حقائقنا هو أننا لن ننهزم، ولن نموت، ولن نتراجع عن مبادئنا، ولن نستسلم أو نسمح في مقتضيات هويتنا، ولن نعيش إلا على ضوء العقيدة الإنسانية الراسخة في دواخلنا، وسنقضي على كل الأوهام المحيطة بوجودنا، والساعية إلى اجتثاثنا.....هكذا نحن، وهكذا قال شاعرنا وأحيا نفوسنا من جديد .

***

إ. د . مولاي علي الخاميري - المملكة المغربية

أستاذ جامعي - مراكش في: 8 ربيع الثاني 1445 هج / 24 أكتوبر 2023 م .

مبادرة طيبة تحمل الكثير من المعاني النبيلة وسابقة ثقافية ملفتة للنظر تلك هي اصدار رواية غير مكتملة، حيث لم يسبق لدار نشر ان أقدمت على هذه المغامرة، ولكن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ومن باب الشعور بمسؤولية الاهتمام بإرث المبدعين والحفاظ عليه من خلال التوثيق قام بنشر الفصليين اليتيمين من رواية الكاتب العراقي (عبد الستار ناصر 1947 ــ 2013) التي ظلت حبيسة الأدراج طيلة سنين طويلة حيث رحل كاتبها وتركها ناقصة وذلك بسبب الامراض المتعددة التي داهمته وحالت دون اكمالها، وكان للكاتبة هدية حسين ــ زوجة الراحل ــ دورا كبيرا في الحفاظ على أخر ما كتبه الراحل ومن بينها فصول روايته المذكورة فقد بادر الاتحاد مؤخرا وضمن منشوراته الى اصدارها بكتاب حمل عنوان (عبد الستار ناصر.. رواية لم تكتمل)، وهذا العنوان جاء موفقا ومنسجما مع حالة الاثنين ــ الكاتب والرواية ــ فهما ابداعان غابا قبل ان يعطيا كل ما لديهما، كما جاءت مقدمة الكاتبة هدية حسين هي الاخرى منسجمة مع طبيعة النص فقد أضاءت جانبا من سيرة الكاتب في سنواته الأخيرة وظروف رحلتها المضنية معه قبل رحيله والفراغ الذي تركه غيابه مشيرة فيها الى الحلم الذي ظل يراود الروائي بالشفاء والعودة الى العراق، كما تضمنت المقدمة معلومات مهمة منها ان الراحل عبد الستار ناصر توقف عن اكمال الرواية ودوّن في مخطوطتها (هذه الرواية كتبتها في 7 حزيران 2009. توقفت عن الكتابة في 19 تشرين ثاني بسبب اصابتي بجلطة في الدماغ ص 31) بعدما اختار لها عنوان (وصية خريف)، وتشير الكاتبة ايضا الى انها عزمت بعد غيابه على اكمال الرواية واستشارت لهذا الأمر عددا من الشخصيات القريبة من الروائي الذين رحبوا بالفكرة الا انها تراجعت عنها معتذرة لكاتبها قائلة (وعند الشروع بالكتابة وجدتني أحرث في حقل لا يشبه حقلك ومن الصعوبة ان اعيد الحياة لحياة فرت من مبدعيها لذلك ركنت الفكرة ص 9) اذ من الصعوبة ان يأتي عمل ابداعي منسجم يقوم على كتابته قلمان وفكران واسلوبان مختلفان ربما نجح في ذلك الكاتبان المبدعان " عبد الرحمن منيف " و " جبرا ابراهيم جبرا عندما اشتركا في كتابة رواية " عالم بلا خرائط " الا انها ظلت مغامرة يتيمة، يذكر ان الكاتب عبد الستار ناصر شرع بكتابة روايته تحت تأثير عاملين ضاغطين هما المرض والغربة حيث كانت البداية أيام وجوده في عمان 2009 ونشر أنداك فصليها اليتيمين ولكنه عاد من جديد الى مراجعتهما واعادة كتابتهما على أمل تكملة الرواية قبل رحيله في عام 2013.

تصدر الكتاب ــ الرواية التي لم تكتمل ــ  مقدمة وعدد من الرسائل واليوميات كانت الكاتبة "هدية حسين " قد كتبتها ونشرتها في مناسبات ذكراه وسلطت فيها الضوء على ظروف هجرتهما من العراق والمعاناة التي واجهتما في تنقلاتهما واسفارهما المتعددة، ففي "رسالة اولى الى عبد الستار ناصر" تكشف الكاتبة جانبا من المعاناة التي عاشتها مع الراحل ايام وجودهما في عمان وكيف كانا يزوغان في الطرقات الضيقة هربا من عيون العسس الذين قدموا من بغداد الى عمان لملاحقة العراقيين الهاربين من بطش النظام واضطرارهما الى تغيير الشقق الصغيرة التي سكنا فيها، وكذلك اجترار ذكريات الاصدقاء الذين رحلوا عن الدنيا والامراض التي داهمت جسد الكاتب وعن (بغداد التي ما خرجنا من عباءتها والتي اصبحت اقرب من حبل الوريد بعد ان غادرناها ص13) ومعرجة على وفاء الاصدقاء في بغداد الذين حال وصولهم خبر وفاة عبد الستار قاموا بتأبينه وايقاد الشموع وساروا بنعش رمزي وطافوا به في شوارع بغداد وتختتم رسالتها الأولى بـ (لا لن تمت.. ولن. فأنت موجود في كل رواية وقصة ومقالة طرزتها اصابعك ص18)

في رسالتها الثانية اليه التي كتبتها بعد مرور سنوات على رحيله يأخذ لوم النفس وتأنيبها مساحة من سطور الكاتبة فهي تسأل نفسها (لماذا خرجنا من العراق؟ ولماذا لم نبق في عمان؟ ولماذا جئنا الى كندا؟ كان علينا ان نتريث؟ ولماذا لم نتريث؟ أم كنا نبحث عن قبر في أقصى العالم بعد ان ضاقت بنا الأمكنة ص19) كما تكشف بعضا من مشاكساته معها فهو سبق ان وصف شخصيته بـ " الخطأ الذي لا يتكرر " لكنها عندما كانت تغضب منه تقول له (انت الأخطاء جميعها التي تتكرر ص19) وهو يرد عليها بضحكة مجلجلة  (انا لا احب الصواب يا حبيبتي.

بعد سنوات على رحيله وعودتها الى مسقط القلب ــ العراق ــ  تكتب رسالة ثالثة تذكر فيها شدة تعلق الشاعر بالعراق وان الانتماء له لا يضاهيه أي انتماء اخر فقد كان يقول لها قبل حصولها على الجنسية الكندية (سيبكي قلبك يا هدية، فما ان تمسكي بالجنسية حتى تحسي بأنك انسلخت عن العراق ص 23) .

كما تسرد الكاتبة في يومياتها ظروف هجرتهم من عمان الى كندا والصعوبات التي واجهتهم ومنها الضائقة المالية التي اضطرتهم الى السكن والمعيشة في شقق غير ملائمة، وفي مشهد قاس ومؤثر تستعرض فيه وقائع ليلة وفاة عبد الستار ناصر والاجراءات التي قامت بها السلطات الصحية التي هرعت الى بيته في محاولة لإنقاذه لكنها لم تفلح في ذلك فقد وجدته قد فارق الحياة مصححة فيها الأخبار الخاطئة التي تناقلتها الصحف والمواقع بشأن مكان وزمان وفاته.

بعد المقدمات واليوميات والرسائل المتعددة يأتي الفصلان اليتيمان من الرواية التي اهداها الى الشاعر فوزي كريم، ومنذ استهلال الرواية تشعر ان بطلها "عزيز " هو عبد الستار ناصر نفسه في مغامراته مع النساء وتجاربه المثيرة او على الأقل في سنواته الاخيرة التي قضاها متنقلا بين المطارات والمحطات وعواصم البلدان، فـ " حليمة " الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية التي يقضي الكاتب في فصليه بحثا عنها بين مصر وبوخارست وبودابست والبصرة لم تكن مجرد امرأة فحسب انما كان يرمز فيها الى حياة الدعة و الاستقرار التي ظل الكاتب يبحث عنها في تلك الأمكنة، فهو يستهل الرواية بمشهد انتظار " عزيز " ــ البطل ــ  في محطة القطار الذي سوف يقله من بوخارست الى بودابست قادما من صوفيا بحثا عن امرأة قالت له (ذات يوم : سأعيش بقية عمري هنا اذا تخليت عني ص38) " حليمة " التي هجرته بعد ان دوختها خياناته وأكاذيبه التي يصفها مغمسة بالتوابل، وحال وصول قطاره يتوجه الى الفندق الذي عاش فيه مع حليمة جانبا من مغامراته وفوضاه فيجد انها قد تركت له رسالة تقول فيها (ما دمت قد أتيت فأنا عدت ُ الى البصرة أيها الخائن الجميل ص39) الأمر الذي يضطره للعودة الى صوفيا من أجل اللحاق بحليمة في البصرة ويفاجأ في القطار برسالة تركتها حليمة لدى النادل تقول فيها (أراك أينما وليت وجهك ولن تراني مهما فعلت ص 40) كأنها تلازمه اينما ذهب، ومن أجل الوصول الى حليمة وفي ظل ارهاق الافلاس يضطر في العاصمة البلغارية صوفيا الى العمل في غسل الصحون والفناجين في المطاعم والبارات لكي يتمكن من البقاء بعيدا عن رقابة الشرطة التي تفتش عن المهاجرين غير الشرعيين ويلجأ الى النوم ليلا على مصاطب المحطات والحدائق والغابات وعلى مقربة من الكنائس توفيرا للنقود الى ان تظفر به "جانيت " وهي شرطية بلغارية نائما على مصطبة في غابة وينتهي به الحال مبعدا ومرميا على رمال استانبول مع جوازه المختوم بمنع دخوله صوفيا ثانية حيث يجد نفسه من جديد في العراق وتحديدا في البصرة وعلى مقربة من حليمة (ما دمت اشعر بالخوف، ذلك يعني انني في جزء من بلاد الرافدين ص 44)، لم يصبر طويلا في البصرة التي كانت تعيش حربها الطويلة فبعد ان يفشل في اللقاء بحليمة يضطر لمغدرة البصرة والهرب الى سوريا متخفيا بزي عربي فهو لا يريد ان يموت في تلك الحرب وهناك يشتغل بائعا للصحف والمجلات وفي غسيل السيارات وغاسل صحون وكذلك في الملاهي الليلية على أمل العودة الى البصرة والظفر بحليمة، وتستمر لعبة رسائل حليمة التي تصله بطريقة غريبة في كل مكان يصل اليه فحليمة هي الأمل الذي لا يتركه ييأس من الظفر بالسعادة التي ذاق لذتها في مرحلة من حياته لكنه فرط بها وأضاعها نتيجة انغماسه بالمتع والموبقات والخيانات العاطفية وفي لحظة ندم متأخرة يأتي اعترافه (هكذا ضاعت مني حليمة العسل، أخطائي كانت اكبر مني وموبقاتي ايضا ص 55)  ويظل حلم اللقاء بحليمة ثانية محور فصلي الرواية  ولا ييأس من الظفر بها (اختصرت الحياة كلها في امرأة لم اعد أعرف اين مكانها، أذهب من أجل عينيها الى بودابست كمن يبحث عن ابرة في كومة قش ص 58) والذي يؤكد وحدة شخصية البطل مع عبد الستار ناصر الذي اطلق على نفسه يوما عبارة (عبدالستار ناصر الخطأ الذي لا يتكرر) يعيدها البطل عزيز في لحظة اعتراف (رتبت حياتي خطأ ينبع من خطأ يدخل في خطأ، لهذا قلت عن نفسي انا الخطأ الذي لا يتكرر ص 62) الى ان تدخل حياته امرأة اخرى هي " نجوى فاروق " فيعيش حائرا  (في ورطة اسمها البحث عن امرأة ضاعت واخرى هبت على حياتي ص 78).

في المقدمة أشارت الكاتبة هدية حسين الى ملاحظة جاء فيها ان الكاتب بعد التوقف الطويل قام بإعادة كتابة فصلي الرواية وذلك بدمجهما وجعلهما فصل واحد واعاد صياغة ما كتبه سابقا كما أجرى الكثير من التغييرات ومنها أضافة شخصية جديدة هي شخصية " نجوى فاروق " مما اوقع الكاتب في تكرار عدد من المقاطع ربما فقدان شيء من التركيز بسبب اثار المرض او بسبب عدم المراجعة الدقيقة للنص وهذه الملاحظة لن تقلل من جمالية وقيمة البنية السردية التي عرفناها في أدب عبد الستار ناصر والتي أكدتها هذه الرواية التي أراد المرض ان يترك نهايتها مفتوحة وللقارئ ان يضع لها النهاية التي تنسجم مع تطلعاته فهي رحلة التشبث بالأمل والبحث عن حياة الاستقرار التي تمثلها شخصية "حليمة العسل".

***

ثامر الحاج امين

يعتبر النتاج الادبي هوانعكاس لبيئة ومجتمع لكل اديب، وعندما يتحول هذا المنتج الادبي الى عمل فني فإن المخرج يبدع بصايغة ملامح الشخصيات التي هي بمثابته محور ومحرك الاحداث حيث يجعلها اكثر وضوحا وهنا تلتقي لمسة وفنية الاخراج مع ابداع الاديب واحيانا ايماءات واشارات تعطي للعمل الادبي روحا وحوارات صامته لايمكن للنص الادبي ان يصرح بها حيث تعتبر اللغة في العمل الفني هي التقاء فكرة المخرج والروائي.

عند مشاهدة اي عمل سينمائي ماخوذ من عمل ادبي سواء رواية اوقصة دون ان تسائل عن ماهو الفرق بينهما وهل كان العمل السينمائي قربيا ومخلصا الى النص الاصلي او بعيدا عنه، حيث ان قليل من الاعمال ينجح صانعوها من التعامل الحميم مع الاصل ، الكثير منا حين يشاهد العرض السينمائي وبجعبته الكثير من الاسئلة اهمها فيما اذا كان المخرج قد استطاع مع طاقم العمل اداء وتجسيد روح الرواية، في كثير من الاحيان يتم الانحياز الى العمل الادبي في اصوله الاولى، حي تظل الرواية اكثر غنى وتعددا من الاحادية التي يفرضها تحويل الادب الى سينما .

رواية " زقاق المدق" "تعد زقاق المدق الرواية الثانية التي أراد فيها نجيب محفوظ أن يصور أثر الحرب العالمية الثانية في حياة الطبقة الوسطى التي تسكن هذا الزقاق بعد روايته الأولى خان  الخليلي التي ألفها قبل هذه بسنة "

من المعروف ان معظم النتاج الروائي لنجيب محفوظ أنه تصوير لرحلة الحرمان الاجتماعي الذي تعاني منه الفئة البسيطة في المجتمع المصري بما في هذا المجتمع من اضطراب له علاقة بالحياة اليومية و الحياة العامة من أحداث وأفكار وفلسفات ونزاعات. هذا ما نراه مجسد في رواية زقاق المدق والتي سنحاول فهمها بشقيها الروائي والإخراجي.

تعتبر لغة الحوار لدى نجيب محفوظ بانها صورة من صور الأسلوب ومن الوسائل التي أعتمدها في رسم الشخوص وتطوير الإحداث، ومن ثم فهو يستعمل الحوار لتطوير موضوع الرواية و الوصول بها إلى النهاية، وفيه تستحضر الحلقات المفقودة في الحديث، وبه يتم الكشف عن جوهر الشخوص ويدور الحوار في رواية زقاق المدق حول فكرة معينة

اللغة والحوار في القالب الإخراجي:

السيناريو قصة تحكى بالصور: السيناريو يتعامل مع الصور المرئية، مع تفاصيل خارجية. مع شخص يعبر شارع مزدحم، سيارة تدخل شارع فرعي، باب مصعد يفتح، امرأة تشق طريقها وسط الزحام. في السيناريو تسرد القصــة بالصور.

الرواية تختلف عن ذلك، الرواية عادة تتعامل مع الباطن، الحياة الشــخصية لشخص ما، مع أحاسيس الشخصية وعواطفها وأفكارها، فالذكريات تأخذ حيّز في الشرود الذهني للفعل الدرامي. الرواية عادة تأخذ مكان داخـــل رأس الشخصية.

أن كاتبنا يعتمد دوماً على اللغة الفصحى وليست الفصيحة بل الفصحى الأقرب إلى العامية اعتماد كاتبنا على لغة الوصف تجعل ملامح الشخصية تبدو واضحة لدى المخرج ولكن نجد هناك إضافات فنية رائعة. قد أضافها المخرج إلى النص الروائي؛ أضافت بالفعل إلى الشخصيات ما يجعلها أكثر نطقاً وتوضيحاً للأحداث.

الشخصيات في الرواية:

تقوم الشخصيات على خدمة الفكرة؛ التي يريد الكاتب أن ينقلها إلى القارئ؛ حيث لا نجد بطلاً معيناً في القصة،إنما البطل هو الإنسان عامة بقضاياه فنجد في زقاق المدق " حميدة " بما تحمل من آمال وتطلعات و " عباس الحلو " وعاطفته نجدها جميعها تخدم فكرة الرواية، سواء كانت تلك الشخصيات محورية أم شخصيات ثانوية

وبالنظر في الشخصيات التي في رواية زقاق المدق نجد بعضها شخصيات جاهزة منذ بداية الرواية ولم يطرأ على مجريات حياتها تطور بعينه مثل شخصية " عم كامل " بائع البسبوسة و " الشيخ درويش " و" سنقر القهوجي " جميعها شخصيات تسير على وتيرة واحدة. إلا أنه هناك شخصيات نجدها تبنى من خلال العمل الروائي نفسه مثل شخصية "حميدة" التي بدأت تتزايد فنجدها في البداية فتاة تعيش مع أم لها بالتبني، ثم سرعان ما تتطلع لأحلام وطموحات أعلى من قدرتها. حتى تصير هي محور الدراما، و المحرك الأساسي له بعدما هربت مع "فرج إبراهيم" الذي أغراها بالزواج. ثم سرعان ما خلا بها وتاجر بجسدها وهذه روعة نجيب محفوظ فهو لا يفرق في بنائه بين شخصية رئيسية أو فرعية

التشخيص في الفيلم:

لنا أن نقرّ في بداية تناول هذا الجانب، أن نجيب محفوظ في رواية زقاق المدق قد اهتم إلى حد كبير في رسم الشخصيات بالنواحي الداخلية و النفسية. وبالتالي فقد ترك للمخرج مساحة كبيرة لوضع الرتوش الفنية على الشخصيات من ملابس وإكسسوارات تسهم في الفيلم.

عندما نقارن بين الفلم والرواية (زقاق المدق) نجد الكثير من الامور التي تستدعي ان نركز تفكيرنا على فهم اهم النقاط بين العملين:

(تحكي الرواية قصة زقاق المدق الموجود بمنطقة الحسين، تتناوله بوصف الدقيق، حيث يصف الجدران والأرضيات والمحلات، تطرق الرواية لشخصية حميدة الفتاة شديدة الجمال، التي تربيها صديقة والدتها، بعد وفاتها، فهي دائما متمردة رافضة لعيشة الزقاق القاسية، وتتمنى الخروج منه بأي طريقة، ولكنها تستجيب لحب عباس الحلو وتتم الخطبة).

. والأشخاص المهمشين وملابسهم وتصرفاتهم.         عندما تعرف أن فيلم زقاق المدق كان سيسمى حميدة ستعرف الفرق الجوهري بينهما، فالرواية بطلها الزقاق، والفيلم بطلته حميدة، خرج الفيلم تمامًا عن اهتمام محفوظ بـ الزقاق كمكان وفترة الاحتلال الإنجليزي بالأربعينات كتاريخ، ليهتم بالبطلة حميدة التي جسدتها الفنانة شادية.

أما فيلم زقاق المدق فقد اعتمد على رمزيات مختلفة تماما، فاختاروا أن تموت “حميدة” كنوع من التطهر من ذنبها، وأن تدفع حياتها ثمن ضياع شرفها، وقد قيل أن شادية ترمز لمصر وعباس الحلو يمثل الشباب الثوار، والإنجليز هم من قتلوا حميدة.

أبرز الفوارق بين رواية زقاق المدق والفيلم   /     هناك بعض الفوارق التي يُمكننا رصدها بين الفيلم والرواية، هي:

* النهاية:

يبقى أن نشير في الختام إلى أن المخرج، أو ربما كاتب السيناريو قد تصرّف في خاتمة الرواية، فبدلا من أن يقتل عباس الحلو على يد الإنجليز، تُقتل حميدة بطلقة طائشة لينقلها الشابان حسين كرشة وعباس الحلو إلى الزقاق في مشهد بالغ التأثير، وربما انسجاماً مع النظرة الأخلاقية حول فلسفة الخطيئة والعقاب، أو للتأثير في المشاهد الذي أعجب بنموذج عباس الحلو السلوكي والأخلاقي، لكنّ الإشارة تستوجب القول إنّ اختلاف النهاية على هذا النحو يخالف وجهة نظر محفوظ الفكرية ورؤيته لصراع القدامة والحداثة، وفي انتصار للحداثة حتى ولو كان الثمن غالياً.

* حميدة.. نحبها أم نكرهها؟

جاء دور حميدة الذى لعبته الفنانة المحبوبة (شادية) عكس ما أُريد منه فلقد أحببنا شادية و تعاطفنا معها، بينما كان ينبغى أن نرفضها و نحتقرها، كما أراد نجيب محفوظ. حميدة في الرواية كانت البطلة التي باعت كل شيء في سبيل المال، حتى أمها التي تبنتها، فهربت مع إبراهيم فرج وتمرغت في نعيم المهنة الجديدة، عكس الفيلم الذي بدت فيه حميدة شخصية ساذجة تقع في شرك شخصية القوَّاد دون وعي منها.

بينما بدت حميدة في الرواية شخصية قوية يحركها الانتقام والتسلط بدت على الشاشة شخصية ضعيفة يحركها ضعفها أمام الحب.

* مقتل البطل النبيل أم البطلة الخاطئة؟

في الرواية من قُتل هو عباس الحلو، عندما اجتمع عليه الجنود الإنجليز، حين كان ذاهباً ليثأر لشرفه. بينما عاشت حميدة. أما في الفيلم فقد ماتت حميدة وكأن الفيلم يدفعها لدفع ثمن خطيئتها، كعادة أغلب الأفلام العربية التي تُفضل أن تنتهي الحكاية بانتصار الخير على الشر. وهو أمر كما نعلم جميعاً للأسف لا ينتمي للواقع.

* البطولة.. بين المكان والإنسان:

في الرواية كانت البطولة للمكان.. للزقاق أو الشارع الذي سكنه عدد من الشخصيات المختلفة وتوزعت بينهم جميعاً البطولة. أما في الفيلم فقد ركز المخرج على حميدة وحدها وجعلها محوراً رئيسياً للأحداث التي تدور من حولها.

***

ا. م. هديل عادل كمال

في المثقف اليوم