دراسات وبحوث

محمد محفوظ: الرؤية الإسلامية في العلاقة مع الآخر (1)

محمد محفوظالإنسان في الرؤية الإسلامية

وفق الرؤية الإسلامية التوحيدية، فإن ماهية الإنسان وطبيعته، قد تحدَّدتا في العلم الإلهي قبل الوجود الإنساني - العيني؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[1].

فالطبيعة الواقعية للإنسان محدَّدة قبل الوجود العيني للأفراد؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[2].

فهذه الآية القرآنية الكريمة تُوضِّح وتُخبر عن وجود للإنسان سابق على وجوده العيني، وتم فيه أخذ العهد بالإيمان لبني الإنسان جميعًا.

ووفق الآيات القرآنية الكريمة فإن الماهية الإنسانية تتقوّم بعنصر أساسي هو عنصر شهادة الربوبية واعتراف الإنسان المطلق بألوهية الخالق ووحدانيته، كما تُوضِّح الآية القرآنية الكريمة السالفة الذكر. فالإيمان بوحدانية الخالق وألوهيته هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولكن هذه الحقيقة الفطرية الراسخة في الوجود الإنساني، لا تتحقَّق بالنسبة إلى آحاد الإنسان إلَّا بالاختيار والجهد الإرادي الحر. وحينما يذهب الإنسان بعيدًا في اختياره فإن هذا الإنسان يضحى {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[3].

ويقول عز من قائل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[4].

فالإنسان -كما يُقرِّر الراغب الأصبهاني- يحصل له من الإنسانية بقدر ما يحصل له من العبادة التي لأجلها خُلق، فمن قام بالعبادة حقَّ القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية.

«فالإنسان في التصوُّر الإسلامي لا يبدع ماهيته كما تعتقد الفلسفة الوجودية، وإنما هو يُحقِّقها من خلال جهده الإرادي بإخراجها من طور القوة والكمون إلى طور الفعل والظهور» على حد تعبير الدكتور لؤي صافي.

والإنسان حين يعتقد ويؤمن بالحكمة الإلهية لوجوده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[5]، فإنه سيعمل ويكدح ويسعى لأجل تحقيق غاية هذا الوجود التي من خلالها يرتقي لتحقيق ماهيته الإنسانية. فإنسانية الإنسان لا تتحقَّق صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تربية وتهذيب، وعمل وكفاح، واتِّصال دائم بالحقيقة المطلقة وهو الباري عز وجل. وبمقدار التصاق الإنسان بخالقه، عبر عبادته العبادة الحقَّة، والالتزام بتشريعاته ونظمه المختلفة في مختلف جوانب الحياة، بالقدر ذاته يقبض الإنسان على إنسانيته، ويتخلَّص من كل رواسب ونزعات الشر، والابتعاد عن الطريق المستقيم. والإرادة الإنسانية هي حجر الزاوية في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. أي إن الرغبة المجرَّدة لا تُحقِّق ما يصبو إليه الإنسان، وإنما هو دائمًا بحاجة إلى إرادة وعزم وتصميم لمحاصرة وضبط أهوائه وشهواته، والتدرّج في مدارج الكمال الإنساني. وبمقدار ما يتخلَّى الإنسان عن نزعاته ونزواته الشريرة، يرتقي في مدارج الكمال، ويقترب من الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان.

لذلك نجد الآيات القرآنية الكريمة تمتدح الإنسان الذي لا يخضع إلى شياطين الإنس والجن.

قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[6].

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[7].

فالرؤية الإسلامية وضعت الإنسان في أشرف المراتب. فالباري عز وجل وضع فيه أشرف المخلوقات وهو (العقل)، واختاره لخلافته في الأرض؛ إذ يقول عز من قائل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[8].

فالوضع القيمي للإنسان يتميَّز بشكل نوعي عن بقية المخلوقات، كما أن الباري عز وجل منحه تكريمًا لا يضاهيه أيُّ تكريم؛ إذ سجل في محكم التنزيل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[9].

فالإسلام لا يعتبر الإنسان بوجوده، موجودًا عاصيًا ومذنبًا، بل ينظر إليه بوصفه موجودًا فطريًّا مهما احتجبت وتلوَّثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب.

وهذا هو مقتضى قول الباري عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[10]، والأديان والرسالات والتشريعات السماوية جاءت لتظهير هذه الحقيقة المغروسة والموجودة في جوهر الوجود الإنساني.

«من هنا، دعانا الإسلام -وقبل كل شيء- إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرُّد على الله وهو الذنب الأكبر عن المسيحية ناشئًا من الإرادة، فإن الغفلة تشكّل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإن الشرك من أعظم الذنوب التي لا تغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد»[11].

فالرؤية الإسلامية للإنسان قائمة وبشكل جوهري على أن الإنسان بعقله وإرادته وقلبه وبكيانه كلّه، لا بد أن يكون عبدًا حقيقيًّا ومخلصًا لله سبحانه وتعالى، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه والتسليم المطلق للواحد الأحد.

وإن هذا التسليم ليس ضربًا من ضروب الجبر، بل نتيجة طبيعية للإيمان والرضا بما قدَّر الله سبحانه وقضى.

والإنسان حين يكون متَّصلًا بالله تعالى، وملتزمًا بشريعته، فهو يتحرَّر من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ويصبح رأسماله الحقيقي هو كرامته الإنسانية. فالحاجة مهما كانت لا تقوده إلى الذل وامتهان الكرامة.

فالكرامة الإنسانية، والشعور العميق بها، هما وليدا العبودية لله وعدم الخضوع لأيِّ حاجة قد تذل الإنسان، وتخرجه عن مقتضيات الكرامة والعزة.

في معنى الآخر

إن الاعتراف بشرعية الاختلاف بين البشر هو أحد روافد تشريع العلاقة مع الآخر على قاعدة التواصل والحوار والتعارف والتعاون.

يطرح موضوع الآخر -في المشهد السياسي والثقافي والحضاري المعاصر- كثيرًا من الأسئلة والاستفسارات والقضايا المتداخلة. ويبدو أن طبيعة التطورات والتحولات والأحداث التي تجري اليوم في العديد من الدول حافز مهم لتداول مسألة الآخر وطبيعة العلاقة المرسومة للتعامل معه. ويختلف هذا الآخر من موقع لآخر، ومن دائرة لأخرى. بمعنى أن الموقع الذي يحدده الإنسان لنفسه (الفرد أو الجماعة)، هو بدوره الذي يحدد الآخر القريب والبعيد. فباختلاف المواقع والعناوين يختلف الآخر. فالآخر بالنسبة إلى الذات الدينية هو ذلك الإنسان الذي ينتمي إلى دين آخر، أما الآخر بالنسبة إلى الذات القومية أو العرقية فهو الذي ينتمي إلى قومية أو عرقية أخرى.

لذلك نستطيع القول: إن في الوجود الإنساني آخر دينيًّا ومذهبيًّا وقوميًّا وعرقيًّا وإثنيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. فتتعدد وتتنوع دوائر الآخر ومستوياتها بتعدد دوائر الأنا والذات ومستوياتها وتنوعها.

بحيث يصح القول: حدِّدْ ذاتك يتحدَّدْ آخرك. فالعلاقة جِدُّ عميقة وحميمية بين الذات والآخر، بحيث لا يمكن تحديد الآخر إلَّا بتحديد الذات، ولا تجلٍّ للذات إلَّا بوجود آخر مختلف ومغاير.

وبعيدًا عن الجذور اللغوية لمفردة (الآخر)، نرى أن الأفكار والقيم الأساسية التي تحدد معنى ومضمون الآخر هي الأفكار والقيم التالية:

1- الهوية المركَّبة

لا يوجد على الصعيد الإنساني هوية بسيطة أو خالصة، وإنما جميع الهويات الإنسانية مركَّبة ومتداخلة. بمعنى أن هوية الإنسان أو المجتمع المعاصر اليوم، هي هوية مركَّبة. أي تداخلت عوامل وروافد عديدة في صنعها وبلورتها وتجليتها. بحيث إن الذات الثقافية والفكرية لدى كل إنسان، هي وليدة روافد ثقافية متنوعة. حتى نستطيع القول: إن بعض الآخر هو فينا، كما أن بعض ذاتنا هو موجود ومتوافر في الآخر. ولا يمكن إزاء هذه الحقيقة إلَّا القبول بضرورة الانفتاح والتواصل مع الآخر. فالهويات المركَّبة ليست نتاج العزلة والانكفاء، بل هي وليدة التواصل والتفاعل الثقافي والحضاري والإنساني.

ولا يمكن أن نفهم الهوية خارج العلاقة بالوجود الإنساني وتجلياته التواصلية المتعددة. وعليه فإن حقيقة الهويات المركَّبة التي يعيشها ويحياها الإنسان المعاصر، هي التي تحدد إلى حد بعيد معنى الآخر. وإن هذا الآخر بكل مستوياته ودوائره ليس بعيدًا عن الذات وتجلياتها الاجتماعية والثقافية والحضارية، وإن ازدياد وتيرة التطور والتواصل العلمي والمعلوماتي بين البشر، سيزيد من وتيرة التداخل والتفاعل، مما يقرّب المسافات بين الأنا والآخر. فالهوّايات المركَّبة هي وليدة التعدد الثقافي والاجتماعي والحضاري والإنساني، بحيث تشترك جميع هذه الروافد في إغناء الهوية الإنسانية.

2- الاعتراف بالاختلاف

من الطبيعي القول: إن الاختلاف بين البشر من نواميس الحياة الإنسانية وطبائع الأمور، بحيث إن الباري عز وجل خلقنا مختلفين في ألواننا وألسنتنا وأقوامنا وأذواقنا وميولاتنا وما شابه ذلك، لكن هذا الاختلاف -وفق الرؤية القرآنية- ليس سببًا ومبررًا للقطيعة والاحتراب والتباعد، بل هو بوابة التواصل والتعارف والوحدة. من هنا فإن الآخر في أحد محطَّاته ومستوياته، هو الإفراز الطبيعي لمفهوم الاختلاف. فما دام الاختلاف سنة فإن التعدد والتنوع هو المآل الطبيعي لذلك.

وإن المطلوب منا جميعًا الاعتراف بالاختلاف، الذي يقتضي الأمور التالية:

- عدم ترذيل الاختلاف، والتعامل مع حقائقه ولوازمه، وفق عقلية حضارية - تواصلية، لا تنبذ ولا تهمّش، وإنما تتحاور وتتواصل وتتفاعل على الصعد كافة.

- إن الحقيقة في الوجود الإنساني لا يمكن القبض عليها بمفردنا، وإنما نحن بحاجة إلى التواصل والتحاور لإبراز جوانب الحقيقة كلها. فنسبية المعرفة والحقيقة ينبغي أن تدفعنا إلى المزيد من التواصل مع الثقافات والوجودات الإنسانية.

- إن الاختلافات بين البشر، وحتى لا تخرج عن نطاقها المشروع والطبيعي، هي بحاجة إلى سياج قانوني وأخلاقي، يحمي هذه الحقيقة ويضبطها في آن. يحميها من نزعات التطرّف والغلو والعدوان والمغامرة، ويضبطها بقيم الائتلاف والوحدة، حتى لا تتحول إلى عامل للتشتيت والتشظي. وهذا السياج القانوني والأخلاقي يتجسّد في قيم التسامح وحقوق الإنسان. فلا يمكن أن يدار الاختلاف في الدائرة الوطنية والاجتماعية على نحو إيجابي وحضاري إلَّا بالالتزام بمرجعية حقوق الإنسان. فهي الضابطة التي لا تحوّل الاختلافات إلى عناوين للتشظي والحروب المفتوحة.

وهكذا لا تتحوّل الاختلافات إلى مبرر للاعتداء على الآخرين؛ لأنها مضبوطة بتلك القيم والإجراءات التي تحترم الإنسان وتصون حقوقه.

- إن الاختلافات في الدائرة الوطنية والاجتماعية، بكل مستوياتها، لا تعني الانشقاق والخروج عن مقتضيات الجماعة؛ وذلك لأنها جِبَّلة إنسانية وناموس اجتماعي، ولا يمكن أن نطلب -في الإطار الإنساني- أن تتطابق وجهات نظرنا وقراءتنا للأمور والأحداث مع الجميع. وواجبنا ليس ترذيل التنوع والاختلاف، وإنما العمل على صياغة الأطر والمؤسسات المناسبة لإدارته بما ينسجم وحدوده الطبيعية، ودوره في إثراء المعرفة، وتوسيع خيارات النهوض والتقدم في المجتمع.

وجماع القول: إن الاعتراف بشرعية الاختلاف بين البشر، هو أحد روافد تشريع العلاقة مع الآخر على قاعدة التواصل والحوار والتعارف والتعاون.

3- استبعاد التعامل مع الاختلافات بعقلية الأقلية والأكثرية

لعل من الأخطاء الضارة بمشروع الوحدة الوطنية وقضايا السِّلم الاجتماعي، التعامل مع مسائل التنوع والاختلاف المذهبي أو القومي أو الإثني، بعقلية الأقلية والأكثرية؛ وذلك لأن مفردة (الأقلية) تختزن مداليل سيئة، وتستدعي حلولًا ليست بالضرورة منسجمة ومستلزمات الوحدة الوطنية والاجتماعية.

ونرى أنه من الضروري التعامل مع هذه المسألة المهمة والشائكة وفق مبدأ التعدد ومقتضيات التنوع الثقافي والاجتماعي؛ وذلك لأن مصطلح الأقلية والأكثرية هو من المفردات والتعبيرات المتداولة في مجال الانتخابات السياسية، فهي أقرب إلى المفردات السياسية منها إلى الحقائق الثقافية والاجتماعية.

بينما مبدأ التعددية يطلق على الواقع الاجتماعي والثقافي المتنوع. وعليه لا يمكن لمجتمع متعدد أو متنوع أن يعيش الانسجام والاستقرار بدون معرفة متبادلة بين جميع الأطراف والمكونات. فمعرفة الآخر شرط من شروط التلاقي والتفاهم والتعايش.

ولا يمكن أن يتحقق السِّلم الاجتماعي بدون معرفة عميقة متبادلة. فمعرفة الآخر الذي يعيش بيننا ضرورة وطنية واجتماعية؛ وذلك لأنه لا وحدة وطنية حقيقية بدون معرفة متبادلة، كما أنه لا استقرار وسلمًا اجتماعيًّا بدون وجود معرفة شاملة بين مختلف التعبيرات والأطياف الاجتماعية.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن كثيرًا من مظاهر الجفاء وسوء الظن بين تعبيرات المجتمع وأطياف الوطن، هي من جراء غياب المعلومات الدقيقة والموضوعية بضعنا عن بعض. فالمعرفة بالخصوصيات واحترام الممارسات المترتبة على ذلك، هي من شروط التعايش الاجتماعي. ولا يمكن أن يتحقق التعايش الاجتماعي بين فئات تجهل بعضها بعضًا، أو تحمل بعضها عن بعض معلومات وتصورات مغلوطة أو مشوهة أو ليست دقيقة. فالمعرفة بكل آفاقها هي من ضرورات التعايش والسِّلم الأهلي والاجتماعي. فالإنسان عدو ما يجهل، ولا يمكن أن تُرسى دعائم الوئام والائتلاف بين جميع شرائح المجتمع وفئاته بدون معرفة عميقة متبادلة بينهما. فالمعرفة هي التي تؤسس لاحترام متبادل للمشاعر والطقوس والممارسات والمناسبات؛ لذلك فإننا ندعو جميع الأطراف والتعبيرات أن تعمل على تعريف نفسها للآخرين بصورة حقيقية وبعيدًا عن الزيف والتضليل.

إن الدولة -بمؤسساتها التعليمية والإعلامية والثقافية- معنية بشكل أساس بمشروع تعريف المجتمع بعضه ببعض على نحو حقيقي وموضوعي.

وإبراز الخصوصيات الثقافية لكل طرف لا يضر بحقيقة الوحدة الوطنية، بل يثريها ويمدُّها بعوامل القوة والعزة. و«الوحدة ممكنة وثرية من خلال التنوع باحترام الخصوصيات الثقافية، فلا يوجد تنوع أكثر من ذاك الموجود في مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية، وربما كان ذلك أن سرَّ قوتها كمجتمع، حتى صارت الدولة العظمى في العالم. إن هذا الثراء في التنوع الثقافي والحضاري هو الذي جعل منها بوتقة انصهار لمجمل الحضارة الإنسانية تاريخيًّا وجغرافيًّا، ويقوم نظامها كمجتمع على احترام الخصوصيات الثقافية لكل السلالات: أبيض - أسود - أصفر - ولكل الأديان الإبراهيمية: مسيحي - مسلم - يهودي، بل ولكل مذهب داخل كل دين، ولكل انتماء وطني أو ديني، فهناك على سبيل المثال رابطة العرب الأمريكية، وهناك أقباط المهجر الممارسين لحقهم في استخدام الآليات والقنوات الديمقراطية لطرح مشاكلهم المحلية، وربما كان اليهود كأقلية دينية أول من هاجر من أوروبا هربًا من الفاشية في مرحلة الثلاثينات، واستفادوا مما هو متاح من آليات تكوين الجمعيات الأهلية، وكوَّنوا أقوى لوبي في أمريكا ساهم في إنشاء دولة إسرائيل»[12].

فالخصوصيات الثقافية إذا أحسنت إدارتها والتعامل معها، تتحول إلى عامل منعة وقوة للمجتمع، لأنها تضيف إليه الكثير من عناصر الحيوية والفعالية.

4 - الفهم قبل التفاهم:

إذ إننا مطالبون ومن مختلف مواقعنا، أن نفهم بشكل طبيعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لبعضنا بعضًا. وذلك من أجل توطيد جسر التآلف والتعايش، وإفشال كل المخططات والخطوات التي تستهدف تصديع الجبهة الداخلية للمجتمع والوطن. والجدير بالذكر أن كل القيم الخيرة والحسنة التي ينبغي أن تتحكم في علاقة المختلفين والمغايرين بعضهم مع بعض، بحاجة إلى مقدمة ضرورية، وهذه المقدمة هي الفهم العميق المتبادل.

فلا مودة إلا بفهم متبادل، يزيل رواسب العلاقة وشوائبها، ولا تواصل بدون فهم يعبد طريقه ويزيل عقباته، ولا حوار فعالًا ولا انفتاح دائمًا، إلا بفهم متبادل، يؤسس القواعد النفسية والثقافية لنجاح الحوار وديمومته، ويوفر الشروط الاجتماعية للانفتاح والتلاقي مع الآخرين.

الفكر الآخر

من الطبيعي القول: إن كل إنسان يحمل فكرًا وثقافة، فهو سيعتزُّ بها، ويدافع عنها، بصرف النظر عن قناعة الآخرين بهذا الفكر أو هذه الثقافة.. فالإنسان بطبعه نزّاع إلى الاعتزاز بفكره وثقافته، والتقاليد والأعراف المترتبة عليهما.

وهذا الاعتزاز هو الذي يقوده للعمل على تعميم هذا الفكر، وتوسيع دائرة المؤمنين بالثقافة التي يحملها.

فالفكر القوي يصل إلى كل الساحات من خلال غناه وثرائه، لا من خلال وسائل المنع والقمع والحظر.. والفكر الضعيف هو وحده الذي يحتاج إلى القمع والقوة لفرض قناعاته على الآخرين

والبشر جميعًا يشتركون في هذه الحقيقة.. فالإنسان بصرف النظر عن دينه أو معتقده أو بيئته الثقافية والحضارية يعتز بأفكاره ويدافع عنها ويوضح بركاتها، ويسوق حسناتها.

وفي سياق اعتزاز الإنسان بفكره يعمل عبر وسائل عديدة إلى تعميمه، ودعوة الآخرين إلى تبني الأفكار ذاتها.

وهذه الطبيعة ليست محصورة في إنسان دون آخر، أو بيئة ثقافية دون أخرى، فالإنسان بطبعه يريد ويتمنَّى ويتطلَّع لأنْ يحمل كل الناس الأفكار التي يحملها، ويتبنَّى كل البشر الثقافة التي يتبنَّاها.. وعلى الصعيد الواقعي والإنساني تتزاحم هذه الإرادات، وتتناقض هذه الدعوات.. فكل إنسان وأمة يعمل على تعميم ثقافته ونمطه الحضاري، مما يولّد الصدام والمواجهة، وإن تعددت أساليب الصدام والمواجهة، تبعًا لطبيعة الثقافة وبيئتها الاجتماعية والحضارية وأولوياتها.

وبفعل هذا الصدام سيعمل بعض الأطراف للاستفادة من القوة لفرض رأيه أو تعزيز منطقه وثقافته، وبالقوة ذاتها يمنع الطرف الآخر من بيان وتوضيح رأيه وثقافته.

وهذه الممارسة الإقصائية تأخذ أشكالًا عديدة ومسوغات متنوعة.. فتارة يتم الحديث عن أنه لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية.. فباسم الديمقراطية نقصي الآخرين، ونقمع أفكارهم، ونمنعهم من ممارسة حقوقهم العامة، لكونهم في نظرنا من أعداء وخصوم الديمقراطية.

وتارة باسم مجابهة الباطل والضلال تتم عمليات الحرب الفكرية ومشروعات الإقصاء والتهميش.. فنحن نحارب الفكر الفلاني لكونه -في نظرنا- من الباطل الذي يجب محاربته.. وهكذا يتم قمع فكر الآخر تحت عناوين ويافطات لا تمتُّ بصلة إلى المعرفة والثقافة والفكر.

فلا يمكن الدفاع عن الحق بالباطل، ومن يلجأ للدفاع عن حقه وفكره بأساليب ووسائل باطلة فهو يشوّه فكره، ويحرمه من حيويته وفعاليته.

فالجدال بغير التي هي أحسن لا يفضي إلَّا إلى المزيد من الجحود والبعد عن الفكر الذي تدافع عنه بوسائل لا تنسجم وطبيعة الفكر الذي تحمل. فالإنسان الذي لا يمتلك الثقافة والعلم الواسع فإنه يدافع عن قناعاته بطريقة تضر بها حاضرًا ومستقبلًا. فالأفكار لا تُقمع، والقناعات لا تُصادَر، مهما كانت قناعتنا بها، ومن يقمع فكر الآخرين -لأي اعتبار كان- فإنه يحوّله إلى فكر مظلوم ومضطهد، سيتعاطف معه الناس وسيدافعون عنه بوسائلهم المتاحة.

لهذا فإننا نعتقد أننا نعطي للفكرة الخطأ قوتها حينما نمنعها من حريتها، ونمارس بحقها عمليات القمع والحظر والمنع.

فالأفكار لا تمنع وتقمع، وإنما تناقش بالأساليب العلمية والموضوعية، ويتم الحوار معها بعيدًا عن نزعة الإلغاء والمنع.

وكما يقول أحد العلماء: «أعطِ الحرية للباطل تُحجِّمه، وأعطِ الحرية للضلال تحاصره؛ لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر من فكر يواجهه، ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون مجرد فكر، قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته، ومنعت الناس أن يقرؤوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون «الفكر الشهيد» الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة؛ لأن الناس يتعاطفون مع المضطهدين سواء مع الفكر المضطهد، أو مع الحب المضطهد، أو مع العاطفة المضطهدة.

إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكره، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر؛ لأن الذين يخافون من الفكر الآخر هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها؛ لذلك، لينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الفكر الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال.

ودائمًا الفكر الضعيف هو الذي يحتاج إلى ممارسة الظلم والعسف تجاه الفكر المقابل. أما الفكر القوي فهو لا يخاف من الحرية والحوار، ونصاعته ومتانته لا تبرز إلَّا في ظل الحرية التي تتناقش فيها الأفكار بحرية، وتتحاور فيها الثقافات بدون تعسُّف وافتئات.

فالفكر القوي يصل إلى كل الساحات من خلال غناه وثرائه، لا من خلال وسائل المنع والقمع والحظر، والفكر الضعيف هو وحده الذي يحتاج إلى القمع والقوة لفرض قناعاته على الآخرين؛ لهذا كله فإننا نرى أن التعامل مع الفكر الآخر ينبغي أن ينطلق من أساس الحرية، وحقه في التعبير عن نفسه وقناعاته في ظل القانون، وأن عمليات المنع والحظر هي مضادة للحرية الفكرية وطبيعة الاشتغال الثقافي والعقلي.

فللفكر الآخر حقه الطبيعي في التعريف بنفسه، وبيان متبنياته، وللآخرين حق النقد والمناقشة والتقويم والتفكيك».

فالقيم الحاكمة بين الأفكار وأهلها هي قيم الحرية والاحترام والنقد والتمحيص، أما المنع والقمع والحظر فإنها ممارسات تميت الحياة الفكرية والثقافية، وتؤدي إلى غرس بذور أمراض خطيرة ومزمنة في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ومن الضروري في هذا الإطار أن نتجاوز حالة الرهاب التي قد تصيبنا أو تصيب بعض مكوّناتنا من الفكر الآخر ووسائطه الثقافية المختلفة. فالرهاب من الفكر الآخر لا ينتج إلَّا منطق المنع والإقصاء وإطلاق الحروب على الفكر الآخر، أما الحرية والانفتاح والتواصل مع الفكر الآخر فهي تثري الساحة، وتهذّب الأفكار وتطوّرها، وتحول دون عسكرة الحياة الثقافية والعلمية.

فالفكر الآخر لا يُخاف منه، وإنما ينبغي الحوار معه، والانفتاح على قضاياه، والتواصل مع مبانيه ومرتكزاته، حتى نتمكّن من استيعابه، والحؤول دون تطرفه واندفاعه نحو الدهاليز المظلمة، التي تحوّله من فكر إلى حقائق بشرية، تمارس التشدّد والتطرّف على قاعدة أن أفكارها لم يسمح لها بالوجود بالوسائل السلمية والحضارية.

فلكيلا ينزلق المجتمع صوب التطرف، نحن أحوج ما نكون إلى قيمة الانفتاح والحوار مع الفكر الآخر بعيدًا عن الرهاب ونزعات الإقصاء والنبذ.

العلاقة مع الآخر

كثيرة هي الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى الصدام والعنف والصراع في التاريخ الإنساني؛ إذ إن المشهد الإنساني بكل حقبه ومراحله عاش حالة من الصدام بين أممه وشعوبه أو في داخل هذه الأمم والشعوب. ولقد لخص أحد المفكرين الوجود الإنساني بقوله: إنه بالإمكان -ومن خلال الاستقراء الموضوعي لهذا الواقع المتأصل- انتزاع المعادلة الصعبة والموغلة في الحقيقة في آن، وهي أن الوجود يعادل دائمًا نفي الآخر أيًّا كان هذا الآخر بشرًا أو حجرًا أو حياة. ولعل السبب الحقيقي الذي يقود إلى سيادة هذه المعادلة البشرية عبر التاريخ يعود إلى طبيعة المصالح وتناقضاتها التي تراها المجموعات البشرية حافزًا لتدمير الآخر وإلغاء خصوصيته وإلغائه من الوجود. ويتغذى هذا السبب باستمرار من منظومة فكرية تغرس الاعتقاد لدى المؤمنين بها بأنها تحتكر الحقيقة الوجودية وحدها وتنكر على الآخرين ما عندهم من فكر ومصالح وقناعات.

لذلك نجد أن التاريخ الإنساني مليء بمشهد الحروب والنزاعات والصدامات المفتوحة على كل الاحتمالات، والتي تتغذى من خلال ذهنية العدوان وثقافة إلغاء الآخر كوسيلة لضمان مصالح الذات. بمعنى أن الإنسان الفرد والمجتمع ومن خلال تلك الذهنية والثقافية، يرى أن السبيل الوحيد لضمان مصالح الذات والحفاظ على مكتسبات الأنا، هو النبذ والإقصاء والإلغاء. فذهنية العدوان تؤسس إلى خيار اجتماعي - ثقافي، لا يرى وسيلة للحفاظ على مصالح الذات إلَّا لإلغاء الآخرين وسفك دمائهم.

ولكن ومن خلال هذه السبيل، فإن التاريخ الإنساني يعلمنا أن إلغاء الآخر ونبذه، لا يحافظ على مصالح الذات ومكتسباتها، وإنما يدخل الجميع في دورة متواصلة من العنف لا تنتهي أو تتوقف إلَّا بتدمير الذات والآخر. وعليه نستطيع القول -ومن خلال تجارب الإنسان في هذا الوجود-: إن إلغاء الآخر لا يحافظ على مصالح الذات، وإن ممارسة العنف والقوة العارية تجاه المختلفين والمغايرين لا تنهي الاختلاف والمغايرة، وإنما تمدها بكل أسباب وشروط التمسك بالذات وقناعاتها وخصوصياتها. لهذا كله نشعر بأهمية أن نؤسس ونبلور رؤية حضارية في طبيعة التعامل مع الآخر، حتى لا ننكر أخطاء التاريخ، أو نؤسس لواقع حروب وصدامات مدمرة لواقعنا الاجتماعي والإنساني.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: إن الآية القرآنية التي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[13] هي التي تبلور نمط العلاقة الحضارية مع الآخر.

فالآية تقرّر في بداية الأمر، أن الاختلاف شأن طبيعي وجبلة إنسانية وناموس كوني، وهو موجود وراسخ في حياة الإنسان وفي عصوره المديدة. وبالتالي فإن هذه الآية الكريمة لا تُطلق حكمًا قيميًّا وسلبيًّا على هذا الاختلاف اللصيق بحياة الإنسان والأمم الشعوب، وإنما تعتبره حافزًا رئيسيًّا لأن ينطلق الناس منه لبناء علاقاتهم وتواصلهم على قاعدة التعارف.. وقد قال الشيخ (محمد الطاهر بن عاشور) في تفسيره (التحرير والتنوير): وجملة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًّا وإنما أُخّرت في النظم عن جملة {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا }، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه، وتنزل منها منزلة المقدمة؛ لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أَلَّا يفضل بعضهم بعضًا إلَّا بالكمال النفساني، وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم، والذي جعل التقوى وسيلته؛ ولذلك ناط التفاضل في الكرم بـ(عند الله) إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.

ومقولة التعارف هنا تؤسس للحقائق والمنهجيات التالية:

1- الاعتراف بالآخر، حيث إنه لا يمكن أن تنطلق في مشروع التعارف مع الآخرين بدون الاعتراف بوجودهم وآرائهم وأفكارهم. فالتعارف يقتضي الاعتراف أن في الوجود أو المجتمع أو الوطن آخرين.

وهذا الاعتراف هو الذي يقود إلى مشروع التعارف على أسس واضحة ومثمرة.

2- توفر الاستعداد النفسي والاجتماعي والأخلاقي لبناء علاقة تعارف متواصلة مع الآخرين. فالنص القرآني الذي يحثُّ إلى نسج معارف وعلاقات بين القبائل والشعوب يوفر لنا إمكانية القول: إن التعارف مع الآخرين هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الإنسانية النبيلة، والتي تتغذى باستمرار مع وجود استعداد نفسي وأخلاقي واجتماعي عند جميع الأطراف لبناء علاقة تواصل مستديمة تفسح المجال لبناء علاقة سوية وسليمة بين جميع الأطراف والمكونات.

والتفاضل الذي تؤسس له الآية الكريمة يتجسّد فقط في القيمة التي يحملها كل نوع أو طرف إنساني.

فالأفضلية عند الباري عز وجل هي للأتقى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وهذه الأفضلية ليست ذاتية وإنما كسبية. بمعنى أن عمل الإنسان وجهده وسعيه وكسبه في الحياة هو الذي يحدد معيار الأفضلية.

والتعارف هنا ليس محصورًا بين الأتقياء، وإنما هو مع كل الشعوب والقبائل. والآية تضع التعارف بكل شروطه ومستلزماته، هو الصيغة الأفعل لتلاقي المجموعات الإنسانية.

3- إن التعارف -في مضمونه وآفاقه- ينطوي على دعوة عميقة وجوهرية لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، بعيدًا عن الذاتية التي تسقط على هذا الآخر عصبيتها الاجتماعية والفكرية. وهذا يقتضي الحوار المتواصل والمستديم بين جميع الأطراف والمكوّنات، حتى يتسنى للجميع المعرفة المتبادلة واكتشاف الآخر بعيدًا عن المسبَّقات والقناعات الجاهزة. فالحوار هو الإطار الأمثل لتتلاقى فيه الأفكار والقناعات وتتقابل وتتواجه، إنما تحت سقف المحبَّة الذي لا يجعل من تغايرها وافتراقها سببًا في تأسيس تنازعات، بعدد تنوعها. فالحوار الواعي والصادق يؤسس للاحترام الإنساني بمعزل عن الفكر والقناعات الذاتية. وإن الفهم الإنساني للآخر القائم على الحوار والتواصل هو الذي يحول دون الصدام والتضارب. وإن وعينا (على حدِّ تعبير أحد المفكرين) لقيمة الآخر ولمغايرته، لا يجب أن تكون أبدًا دافعًا لنبذه واستبعاده أو احتقاره ومعاداته؛ لأن التغاير والتمايز هو سنّة الله في الخلق. والتعارف يجب أن يكون الركيزة الأساسية في التعاطي الإنساني المختلف، وهو الرابط فيما بينهم من ضمن منظومة الوشائج الإنسانية، المرتكزة على مبدأ التعايش على قاعدة احترام أفضل تكوين الخليقة الإلهية أي الإنسان. فالتعارف يوفر علينا جميعًا الكثير من النزاعات والصدامات التي لا طائل منها. وبدل أن تُصارع من تجهل، تعارف معه؛ لأنك ستجد عنده الكثير من مواطن اللقاء التي تحيل التنوع إلى غنى، والتغاير إلى حوافز إضافية لاستكشاف سبل التواصل الجديدة.

والتعارف المتواصل بين مختلف التعبيرات والمكوّنات، هو الذي يؤكد خيار الاحترام المتبادل، ويجذِّر ويعمِّق حالة الشفافية في العلاقة بين مكونات المجتمع والأمة. فالعلاقة مع الآخر لا تتشكل من جراء نبذه وتهميشه، وإنما من جراء التعامل الحضاري معه على قاعدة التعارف والتواصل والحوار.

لذلك فإن العلاقة مع الآخر المختلف والمغاير في المنظور الإسلامي، هي علاقة التعارف والاعتراف والاحترام والحوار.

وإن التوجيهات الإسلامية تحثُّنا على احترام الآخرين في إنسانيتهم وأفكارهم وخياراتهم. وإن التباين في وجهات النظر والأفكار ينبغي أَلَّا يقود إلى الاقتتال والنبذ المتبادل، وإنما إلى التعارف والحوار والاحترام. فقد جاء في الحديث الشريف: «المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يحقره. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».. وحث النص القرآني على نبذ سوء الظن والتطاول والسخرية واللمز والنبز والغيبة؛ إذ قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[14].

وإن المجال الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى سيادة ثقافة التعارف والحوار بين كل تعبيراته ومكوناته؛ وذلك لأن أمن الأوطان واستقرار المجتمعات اليوم مرهون -إلى حد بعيد- على قدرة هذه المجتمعات على إزالة عناصر التوتر الداخلية، وتنظيم العلاقات الداخلية بين مختلف المكونات، وسيادة ثقافة التسامح والحوار. بدون ذلك سيبقى المجال الإسلامي بأسره عرضة للكثير من الأزمات والتوترات.

وعليه فإن العلاقة الإيجابية والحضارية مع الآخر المختلف في الدائرة الفكرية أو الوطنية أو السياسية، هي أحد مداخل الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المجالين الوطني والقومي.

فالتحديات الكبرى التي تواجهنا جميعًا، بحاجة إلى فكر جديد يحترم الآخر ويؤسس الظروف والمناخات المناسبة للتعارف والتواصل بين مختلف التعبيرات والمكونات. فالآخر ليس شيطانًا، والذات ليست منزَّهة من الأخطاء والثغرات؛ لذلك فإن المطلوب هو تطوير علاقتنا بالآخر المختلف؛ وذلك لأنه مرآة ذواتنا. حيث إننا لا يمكن أن نستكشف جوهر ذواتنا إلَّا من خلال معرفة الآخر، فهو بوابة اكتشاف جوهر ذاتنا. فالآخر وفق هذا المنظور هو ضرورة مجتمعية ومستقبلية لذواتنا. وإن المطلوب هو الانعتاق من نرجسيتنا، والتحرر من هواجسنا ومخاوفنا، وننطلق في مشروع علاقة إيجابية وحضارية مع الآخر المختلف سواء في الدائرة الوطنية أو القومية أو الإنسانية.

فلتتسع صدورنا للآخر، وفكرنا للمغاير، وثقافتنا للمختلف، وذلك من أجل بناء علاقة سليمة وسوية بين الذات والآخر على قاعدة العدالة والمساواة والاحترام المتبادل. وإن الوفاء للقيم الإسلامية والإنسانية -بصرف النظر عن مزاجنا وأهوائنا وعاداتنا- يقتضي صياغة علاقتنا مع المختلف على قاعدة العدالة والحوار والتواصل؛ إذ قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[15].

فالعلاقة مع الآخر ينبغي أن تنطلق من مفهوم العدل وتستهدفه في آن واحد. فمقتضيات العدل هي التي تدفعنا إلى صياغة علاقة إيجابية وحسنة وحضارية مع الآخرين. كما أن هذه العلاقة تتحرك في مفرداتها وآفاقها باتجاه تجسيد قيم العدل في الواقع الاجتماعي والإنساني. ولا بد أن ندرك أن المفهوم الذي أرسى دعائمه الدين الإسلامي ليس خاصًّا بفئة أو شريحة دون أخرى، وإنما هو للإنسان بصرف النظر عن أفكاره وآرائه. لذلك من الضروري أَلَّا نحمل في نفوسنا أو عقولنا عقدة من الآخرين أو تجاههم، ونعمل على أن تكون علاقتنا مع الآخرين وفق مقتضيات ومتطلبات القيم الإسلامية الخالدة، وبعيدًا عن الإحن والانحلال والتراكمات التاريخية السيئة. فالإسلام -بكل تشريعاته ونظمه- دعوة لكي يعيش الإنسان إنسانيته مع نفسه ومع الآخرين.

والعلاقة مع الآخر المختلف ينبغي أن تكون تعبيرًا أمينًا عن عدل الإسلام وإنسانيته.

 

محمد محفوظ

 

 

في المثقف اليوم