دراسات وبحوث

منى زيتون: ما بين فضائل علي وفضائل معاوية!

منى زيتونيحكي الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج2، ص 252) أن هاشمَ جد النبي صلى الله عليه وسلم والإمام علي كان توأمًا لعبد شمس جد معاوية، ولدا في بطن واحدة وأن إصبع أحدهما كانت ملتصقة بجبهة الآخر، فقاموا بفصلهما فسال الدم، فقيل: تكون بينهما دماء، وقد كان!

وإن كان هاشم اهتم بخدمة الحجيج وإطعام الطعام والسقاية وعبد شمس كان يقدم مصالح دنياه على هذه الأعمال التي يُراد بها وجه الله، فقد وضحت طبيعة هذا الصراع من أوله بين الدين والدنيا. ويظهر هذا جليًا من قيام بني هاشم بدور رئيسي في تدشين حلف الفضول لنُصرة المظلوم، والذي تخلف بنو عبد شمس عنه.

والحقيقة أن الصراع بينهما لم يبدأ من عبد شمس، وإنما بدأ من بنيه وأولهم ابنه أمية. ويحكي المؤرخون أن أمية بن عبد شمس نازع عمَه هاشمَ على الزعامة، وانتهى الأمر بتغريبه بالشام.

وبرز عامل آخر فارق بين الطرفين؛ فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظل يتقلب بين أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات، فكانت بنو هاشم أطهر بيوت قريش منبتًا، فإن الافتراق في طهارة المنبت بين البيتين إنما بدأ من أمية وليس من أبيه عبد شمس.

وعندما تنافر عبد المطلب بن هاشم –جد الرسول- وحرب بن أمية بن عبد شمس –جد معاوية-، قضى نُفيل بن عبد العزى –جد عمر بن الخطاب- بالزعامة لعبد المطلب، وقال لحرب:

أبوك معاهر وأبوه عف *** وذاد الفيل عن بلد الحرام

فقال نُفيل عن أمية إنه "معاهر"؛ حيث تذكر كتب التاريخ تعرضه للنساء، وضربه بالسيف مرة لأنه تعرض لامرأة من بني زُهرة، كما روي عنه أنه كان يستلحق العبيد وينسبهم إليه، ومثله كان بنوه من بعده، فأحطوا من نسب فرعهم، وكتب التاريخ تكثر من الغمز في نسبهم. وليس ما كان يفعلونه شبيهًا بتبني رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدَ بن حارثة، فلم يكن زيد ابنًا بيولوجيًا لرسول الله، وكان الجميع يعلم من يكون وأنه ابن حارثة الذي رفض أن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعود إلى ديار قومه مع أبيه وأعمامه، فادعاه رسول الله من باب المروءة حتى أبطل الله تعالى فعله حفظًا لنسب بني هاشم.

وقد لقي بنو هاشم من بني عبد شمس –الأصلاء والأدعياء- الكثير، فالعداوة بين بني هاشم وبني عبد شمس قديمة وقدرية وأبدية! أشبه ما تكون بصراع هابيل (الخير) وقابيل (الشر).

النفوذ بين الشام واليمن!

منذ أن تغرّب أمية في الشام، صار لبنيه ولبني عبد شمس كلهم من بعده نفوذ كبير في الشام، وفي المدن والبوادي على طريق السفر إليها في طريق تجارتهم، وكانت لهم صلات مع العرب فيها ومع ولاة دولة الروم الشرقية البيزنطية التي كانت تحكم الشام إلى ما قبل فتحها على يد المسلمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا من أقوى الأسباب التي دفعت عمر إلى تولية يزيد بن أبي سفيان بعض أقاليم الشام، ثم تولية أخيه معاوية من بعده.

وعلى النقيض من ذلك كان لبني هاشم حظوة كبيرة في اليمن؛ ذلك أن هاشمَ كان قد تزوج من امرأة رفيعة الشأن في قومها بني النجار، وهم من الخزرج الذين هاجروا إلى يثرب بعد تهدم سد مأرب في اليمن، واسمها سلمى، وأنجب منها ابنه شيبة –أو شيبة الحمد- الذي عُرف بعد ذلك باسم عبد المطلب، فسلمى الخزرجية الأزدية هذه هي جدة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدة الإمام علي.

وكان الأحباش قد استولوا على اليمن حين أرسل ملك الحبشة إليها جيشًا بقيادة آبراهيموس (أبرهة) سنة 531م، وفي عام 571م حدثت حادثة الفيل الشهيرة، والتي سُمي العام باسمها، وهو العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن أبرهة يومًا ملكًا دمويًا يكثر من سفك الدماء، ولكنه مع ذلك تطلع إلى ما لم يكن له ولم يرع الحرمات، فاستحق غضب الله وعقابه. وبعد حادثة الفيل ومعركة حضرموت بين الفرس والأحباش عاد لأسرة ذي يزن الحكم في اليمن، وذهبت وفود العرب تهنيء سيف بن ذي يزن باسترداد ملكه، وكان عبد المطلب بن هاشم على رأس وفد قريش، ويحكي المؤرخون أن سيف بن ذي يزن استقبله بالبشر والترحاب قائلًا: "أهلًا بابن أختنا"؛ والعرب تعد ابن الأخت منهم. وكان هذا النسب السبئي من جهة الأم زيادة في رفعة قدر بني هاشم على بني عبد شمس.

ولا خلاف على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث الإمام علي إلى اليمن، وأسلموا على يديه بعد أن مكث فيهم خالد بن الوليد ستة أشهر لا يجيبونه، فلما قدم عليّ عليهم أسلمت همدان كلها في يوم واحد، وأسلم عامة أهل اليمن، وقضي وحكم عليّ بينهم، وقد أحب أهل اليمن المبعوث الهاشمي للنبي الهاشمي، وظل لبني هاشم محبة لدى أهل اليمن إلى يومنا هذا. وإن كان الحال زمن منازعات الإمام علي ومعاوية قد مال بفريق من اليمانية جهة بني أمية!

ومعلوم أيضًا ما كان من أمر قريش في الجاهلية من الطِيرة، والتي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فكانوا يقفون على خط شروق وغروب الشمس (محور الشرق/الغرب) ناظرين إلى جهة مطلع الشمس وعندها الحجر الأسود (الشرق)، ويطلقون طيرًا فإن طار يمينًا جهة الجنوب وهي جهة اليمن قالوا: يُمن وسعد، وإن طار يسارًا جهة الشمال وهي جهة الشأم –وقريش كانت تهمز- قالوا: شؤم ونحس.

ولا شك عندنا كمسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لكلا البلدين بالبركة، ولكن لأن هذه الطِيرة من الشام كانت لها بقايا لدى العرب إلى ما بعد الإسلام رغم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقد كثرت الموضوعات في فضل الشام وفضل من حكم من الشام حين ملك بنو أمية.

انتقال الصراع بين هاشم وأمية إلى علي ومعاوية

في المستدرك على الصحيحين (ج3، 4676/274) أورد الحاكم حديثًا صحيح الإسناد عن علي رضي الله عنه قال: إن مما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستغدر بي بعده.

ومثله (ج3، 4677/275) حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "أما أنك ستلقى بعدي جهدًا" قال: في سلامة من ديني؟ قال: "في سلامة من دينك".

ومثله (ج3، 4686/284) حديث صحيح، عن حيان الأسدي سمعت عليًا يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي وتُقتل على سنتي. من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني. وإن هذه ستخضب من هذه، يعني لحيته من رأسه". أي أن الدماء ستسيل من رأسه عندما يضربه أشقى الآخرين عليها، فتبتل لحيته بدمه.

وفي المستدرك أيضًا (ج3، 4680/278) حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ‏أن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث قالت لجري بن كليب العامري لما قدم المدينة: ما جاء بك؟ قال: قلت: سار علي إلى صفين وكرهت القتال، فجئنا إلى ها هنا. قالت: أكنت بايعته؟ قال: قلت: نعم. قالت: فارجع إليه فكن معه، فوالله ما ضل ولا ضُل به.

وجاء في "الرياض النضرة في مناقب العشرة" (ص 276) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "سلام عليك يا أبا الريحانتين من الدنيا، فعن قليل يذهب ركناك والله خليفتي عليك". فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي: هذا أحد الركنين الذي قال صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت فاطمة قال: هذا الركن الآخر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرّجه أحمد في المناقب (1067).

فلما ذهب ركناه أنزله السفهاء من مقامه حتى جعلوا صنوه صعلوكًا من طلقاء يوم الفتح! ادعى أنه المطالب بدم عثمان والحق أنه كان مطالبًا بالخلافة! وكان أقدر الناس –إن أراد- أن يدفع عن عثمان! وصدق أبو الطفيل ابن واثلة حين قال لمعاوية: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زودتني زادي

إنه حلم قديم لم يتحقق في الجاهلية، وظل يراود بني أمية بعد الإسلام، ولكن ما كان ‏أقصر دولتهم.‏

الإمام علي عند أهل السُنة

وقد اخترت في هذا الجزء تحديدًا أن أنقل عن ابن تيمية. يذكر ابن تيمية في منهاج السنة (ج4، ص 396)‏ عن الإمام علي "وكتب أهل السُنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبَّه، وكارهون لذلك. وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين، من جنس ما جرى من القتال. وأهل السُنة من أشد الناس بغضًا وكراهة لأن يُتعرض له بقتال أو سب، بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدرًا وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرًا منه، وعليّ أفضل ممن هو أفضل من معاوية".

ويضيف (ج4، ص 396) "السابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم، وعليّ أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة، فليس في أهل السُنة من يقدم عليه أحدًا غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار".

ثم يُتبع (ج4، ص 399): "هم –يعني أهل السُنة- متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مُسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية، وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية، وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين، وعلى أن عليًا أفضل من جماهير هؤلاء –لم يُقدَّم عليه أحد غير الثلاثة-، فكيف يُنسب إلى أهل السُنة تسويته بمعاوية، أو تقديم معاوية عليه؟"أهـ.

وما لا يعرفه كثير منا أن المنافقين ممن غلب عليهم نفاقهم فطفح كانت لهم محاولة سفيهة فاشلة لتقديم معاوية عليه والتربيع بمعاوية في الخلافة رغم أنه ليس خليفة بل أول ملوك الإسلام! ما دفع الإمام أحمد بن حنبل أن يقول: "من لم يُربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله".

ومما عدّه العلماء من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام أنه تنبأ بزمن الخلافة قبل تحولها إلى ملك عضوض. أورد الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1027) حديث عن سفينة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة ثلاثون عامًا، ثم يكون بعد ذلك الملك".

وجاء في "البداية والنهاية" لابن كثير‏ "والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة، كما نطق بها ‏الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم ابنه الحسن بن ‏علي ستة أشهر حتى كملت بها الثلاثون، كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكًا".

ولا شك أن كل منا يُبتلى على قدره، ولكن البلاء الذي ابتلي به الإمام علي كان شديدًا على نفس كل حر. يقول الإمام علي:

وَلَو أَنّي بُليتُ بِهاشِميٍّ *** خُؤولَتُهُ بَنو عَبدِ المَدانِ

صَبَرتُ عَلى عَداوَتِهِ وَلَكِن *** تَعالوا فَاِنظُروا بِمَنِ اَبتَلاني

فأقسى ما لاقاه الإمام أن يكون مثل معاوية قرينًا له وإن كان يُقرن به في عداوته إياه، وعبر التاريخ كانت هناك محاولة من أئمة النواصب والمنافقين لتسوية الإمام بمعاوية، بانتقاصه من جهة واختلاق فضائل لمعاوية من جهة أخرى، ولأنني قد لاحظت أن كثيرًا من الجهلة في عصرنا يشيع بينهم أن ما يُروى عن فضائل الإمام علي إنما هو من موضوعات الشيعة، ويعتقدون في المقابل في صحة كثير من الموضوعات المدعاة كفضائل لمعاوية، فإن هدف المقال الذي بين أيديكم هو تصحيح هذه الصورة المعكوسة، وإنزال كل منهما منزلته، ووضعه في درجته.

بعض من فضائل الإمام علي الصحيحة عند أهل السُنة

مما حفظناه من أشعار في صغرنا:

وأن أبا بكر خليفة أحمدَ ***** وأن أبا حفض كان على الخير يحرصُ

وأشهدُ ربي أن عثمان فاضلٌ ***** وأن عليًا فضلُه متخصصُ

وفضائله ومناقبه الصحيحة الكثيرة عليه السلام عند أهل السُنة أفردت لها كتب، فكتب الإمام النسائي "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"، وله ترجمة طويلة في كتاب "الرياض النضرة في مناقب العشرة" للمحب الطبري، وجمع الإمام أحمد بن حنبل الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة، ويضم أكثر من 350 حديث عن فضائل الإمام علي، وهذا الجزء عن فضائل الإمام يطبع في إيران دون ذكر المؤلف، فلعنة الله على التطرف، ومسند الإمام أحمد أيضًا محشو بأحاديث في فضائل الإمام. وفي سنن أبي عيسى الترمذي، أحاديث كثيرة في مناقب علي بن أبي طالب. ومستدرك الحاكم على الصحيحين محشو بأحاديث صحيحة على شرط البخاري ومسلم في مناقبه، وجميع كتب التراجم والأحاديث عند ثقات أئمة السُنة شملت جملة فضائل ومناقب كثيرة للإمام علي.

وذكر المحب الطبري في "الرياض النضرة" "قال أحمد بن حنبل والقاضي إسماعيل بن إسحاق لم يرد في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما رُوي في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه". وقد قرأت ما يشبه هذا القول عن النسائي أيضًا.

وبعض هذه الفضائل طعن فيها النواصب، وجرَّحوا في رواتها، وأكثر من طعن فيها كان ابن حزم، وهذا مفهوم فهو أموي الهوى عاش في ظل الدولة الأموية بالأندلس، وجده الأكبر من موالي يزيد بن أبي سفيان أخي معاوية، وأكثر من اضطرب فيها كان ابن تيمية، فكأنه عز عليه أن أقر بأفضلية علي، وبأن كل ما ورد في حق معاوية موضوعات وأكاذيب لم يصح منها شيئ –كما سننقل عنه-، فاجتهد ما أمكنه أن يقلل مما صححه من فضائل الإمام علي، رغم أنها في كتب السُنة وليس كتب الشيعة! وأسانيدها صحيحة وطرقها متشعبة!

في منهاج السُنة (ج7، ص 320) ينقل ابن تيمية عن ابن حزم في "الفِصل" قوله: "الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وقوله: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل، وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليًا "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق". وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم "لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر"أهـ.

ولا يعنينا انتقاص من انتقص لأن الأئمة الأثبات أقروا بصحة الكثير من الفضائل للإمام علي فوق ما قالوا، كما سنرى وننقل عنهم بعض مما صححوه ورووه، بل وأوذي بعضهم بسبب تصحيحها كما سيأتي ذكره. وأقول: بل إن ما تم تضعيف إسناده من بعض روايات فضائل الإمام في كتب أهل السُنة فأغلبها كان لانقطاع السند أو ضعف في الحفظ لدى أحد الرواة أو اختلاط أصابه في شيخوخته، وكل هذا لا يفضي إلى الشك في أي من فضائله عندهم لأن طرق رواياتها كثيرة، وما روي منها بإسناد صحيح أو حسن كافٍ لتصحيحها، فما رُوي من فضائل الإمام علي في كتب أهل السُنة ثابت وصحيح رغم أنف النواصب.

وفضائله الثابتة لا يسعني نقلها جميعًا، وإنما سأنتقي أهمها، وبعض ما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة، ومن أطول الأحاديث الجامعة التي تحكي أهم فضائل الإمام، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3062) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند، واعترض على من تكلم في أحد رجاله. ورواه أحمد في فضائل الصحابة (1168)، ورواه الحاكم في "المستدرك" (4652/250) وصححه الذهبي في التلخيص.

"حدثنا عمرو بن ميمون قال:‏ إني لجالس إلى ابن عباس: إذ أتاه تسعة رهط، فقالوا: يا أبا عباس، إما أن تقوم معنا وإما أن يخلونا هؤلاء، ‏قال: فقال ابن عباس: بل أقوم معكم، قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدؤا فتحدثوا، فلا ندري ‏ما قالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول: أف وتف! وقعوا في رجل له عشر، وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبعثن رجلًا لا يخزيه الله أبدًا يحب الله ورسوله"، قال: فاستشرف لها من استشرف، قال: "أين ‏علي؟" قالوا: هو في الرحل يطحن، قال: "وما كان أحدكم ليطحن؟!"، قال: فجاءه وهو أرمد لا يكاد يبصر، قال: ‏فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثًا فأعطاها إياه، فجاء بصفية بنت حيي، قال: ثم بعث فلانًا بسورة التوبة، ‏فبعث عليًا خلفه فأخذها منه، قال: "لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه"، قال: وقال لبني عمه: "أيكم يواليني ‏في الدنيا والآخرة؟"، قال: وعلي معه جالس، فأبوا، فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، قال: "أنت وليي في ‏الدنيا والآخرة"، قال: فتركه، ثم أقبل على رجل منهم فقال: "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟"، فأبوا، قال: فقال علي: ‏أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: "أنت وليي في الدنيا والآخرة"، قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد ‏خديجة، قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين فقال: ‏﴿‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏﴾‏ [الأحزاب: 33]. قال: وشرى علي نفسه، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، قال: ‏وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر وعلي نائم، قال: وأبو بكر يحسب أنه نبي الله، قال: ‏فقال: يا نبي الله، قال: فقال له علي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر ‏فدخل معه الغار، قال: وجعل علي يُرمى بالحجارة كما كان يُرمى نبي الله وهو يتضور، قد لف رأسه في ‏الثوب لا يخرجه، حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا: إنك للئيم! كان صاحبك نرميه فلا يتضور وأنت ‏تتضور، وقد استنكرنا ذلك! قال: وخرج بالناس في غزوة تبوك، قال: فقال له علي: أخرج معك؟ قال: فقال له ‏نبي الله: "لا" فبكى علي، فقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنك لست بنبي، إنه ‏لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي"، قال: وقال له رسول الله: "أنت وليي في كل مؤمن بعدي"، وقال: "سدوا ‏أبواب المسجد غير باب علي". فقال: فيدخل المسجد جنبًا وهو طريقه، ليس له طريق غيره، قال: وقال: "من ‏كنت مولاه فإن مولاه علي"، قال: وأخبرنا الله عز وجل في القرآن أنه قد رضي عنهم، عن أصحاب الشجرة، ‏فعلم ما في قلوبهم، هل حدثنا أنه سخط عليهم بعد؟! قال: وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال: ائذن لي ‏فلأضرب عنقه –يعني حاطب بن أبي بلتعة-، قال: "أو كنت فاعلًا؟! وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم"أهـ.‏

وفي سنن الترمذي (‏3724- 5/638)‏ عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:‏ أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما ‏يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، ‏لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حُمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول ‏الله تُخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني ‏بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي". وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، قال: فتطاولنا لها، ‏فقال: ادعوا لي عليًا، فأتاه وبه رمد، فبصق في عينه، فدفع الراية إليه ففتح الله عليه، وأُنزلت هذه الآية ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾‏ [آل عمران: 61] الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا ‏وحسينًا، فقال: "اللهم هؤلاء أهلي"أهـ. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.‏

‏والحديث بألفاظ مقاربة عن سعد بن أبي وقاص في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح (1608)، وفي "المستدرك على الصحيحين" (ج3، 4575/173). قال الإمام الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه الشيخان بهذه السياقة، وقد اتفقا جميعًا على إخراج حديث المؤاخاة وحديث الراية.

أول من آمن بعد السيدة خديجة

ذكر المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" (ج10، ص 209) "روى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين، ‏وقال ابن إسحاق: عشر سنين، وهذا أرجحهما".‏

فمن أهم فضائله رضي الله عنه وأرضاه أنه أول المؤمنين إيمانًا بعد السيدة خديجة. وقد روى الإمام ابن عبد البر في ترجمة الإمام في "الاستيعاب" أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول هذه الأمة ورودًا على الحوض أولها إسلامًا: علي بن أبي طالب".

وجاء في "الرياض النضرة في مناقب العشرة" (ص‏ 279) "عن عمر قال: كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكب علي فقال: يا علي أنت أول المؤمنين إيمانًا، وأول المسلمين إسلامًا، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى. خرجه ابن السمان. وعن زيد بن أرقم قال: كان أول من أسلم علي بن أبي طالب خرجه أحمد والترمذي وصححه. وعن ابن عباس قال: كان علي أول من أسلم بعد خديجة، قال ابن عمر: هذا حديث صحيح الإسناد لا مطعن في رواته لأحد، وهو يعارض ما تقدم عن ابن عباس في أبي بكر، والصحيح أن أبا بكر أول من أظهر الإسلام، وبه قال مجاهد ومن حكينا قوله من العلماء ثمة"أهـ.

ولا شك عندي ولا عند أي عاقل أن الأدلة متوفرة على أن أول من تلقّى نبينا وهو عائد من الغار بعد أن ‏نزل عليه الوحي كانت زوجه السيدة خديجة، وليس أي أحد غيرها، فهي أول من آمن به.‏ كما أنه يتضح من بعض الروايات أن سيدنا علي كان ثاني من آمن به، وهناك من الروايات ما يُفهم منها أنه أيضًا أظهر إسلامه قبل إسلام الصديق أبي بكر.

من ذلك ما جاء في ترجمة الإمام الذهبي للحبر والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في ‏‏"سير أعلام النبلاء" (ج1، ص 463) حيث يروي زيد بن وهب عن ابن مسعود أنه قال إن أول معرفته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عندما قدم مكة مع بعض عمومته وأناس من قومه وأرادوا شراء عطر، فأرشدوهم إلى العباس عم ‏النبي، فتوجهوا إليه وهو جالس إلى زمزم –وكانت للعباس السقاية في مكة منذ الجاهلية-، وأنهم رأوا أثناء ‏جلوسهم مع العباس رسول الله وأم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، وابن عمه علي بن أبي طالب –وكان ‏لا زال غلامًا- قد قدموا إلى الكعبة فاستلموا الحجر وطافوا بالبيت سبعًا ثم استقبلوا الركن، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏صلاة المسلمين بما فيها من تكبير وقيام ثم ركوع وسجود ثم قيام، فأنكر ابن مسعود ومن معه ما رأوه من ‏دينهم، فعرفهم العباس بمن يكون الثلاثة الذين رأوهم، ثم قال: "أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد ‏الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة"أهـ.‏

في المستدرك على الصحيحين (ج3، 4587/185) عن أنس رضي الله عنه قال: نبئ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء.

وفي خصائص النسائي (3) عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة رجل من الأنصار عن زيد بن أرقم قال: "أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب" والحديث صحيح وشائع في كثير من الكتب، ذكره الترمذي في سننه(3735- 5/642) وقال: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وكانت هناك إضافة أوردها بعض من روى الحديث كالترمذي (3735- 5/642)  أن عمرو بن مرة ذكر ما بلغه من قول زيد -بأن عليًا هو أول من أسلم- لإبراهيم النخعي، فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق.

والسفهاء في عصرنا ينكرون الروايات التي قالت إنه أسلم قبل أبي بكر كأنهم كانوا شاهدين! وهذا ‏لأن نفاقهم غالب وكراهيتهم لسيدنا علي ظاهرة طافحة، ولكنهم يدارونها بادعاء مناكفة الشيعة.‏

أول من صلى

وفي خصائص أمير المؤمنين للنسائي (2) عن زيد بن أرقم قال: "أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي". والحديث صحيح، ورجاله ثقات من رجال الشيخين. ومثله عن أبي حمزة في فضائل الصحابة (1040).

وفي سنن الترمذي (‏3734- 5/642)‏ عن ابن عباس قال:‏ "أول من صلى علي". قال هذا حديث غريب‏. صحيح.

وروى الإمام ابن عبد البر في "الاستيعاب" (ص 1096) "قال علي رضي الله عنه: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا لا يصلي معه غيري إلا خديجة".

تزوجه فاطمة وسكن المسجد مع رسول الله

ورد حديث فيه جملة فضائل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ‏"المستدرك على الصحيحين" (ج3، ‏4632/230) قال: لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطى حمر النعم. قيل: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكناه المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل له فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر.

والحديث بألفاظ شبيهة في مسند الإمام أحمد (4797) ولكن عن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وفي المستدرك أيضًا (ج3، 4601/199) ولكن في سياق آخر عن سعد بن أبي وقاص، وذكر فيه جملة فضائل، منها "أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس وغيره من المسجد، فقال له العباس: تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك، وتسكن عليًا فقال: "ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكن الله أخرجكم وأسكنه".

والحديث له شواهد كثيرة، ومن أفضل إسناد رواياته ما روي في الخصائص (42) عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسُدت إلا باب علي رضي الله عنه.

ورواية أخرى بإسناد حسن في الخصائص (43) عن ابن عباس وسد أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب، وهو طريقه ليس له طريق غيره.

وعن ابن عباس أيضًا بإسناد صحيح في سنن الترمذي (3732) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي.

ومثله في مسند الإمام أحمد (1511) عن سعد بن أبي وقاص قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي رضي الله عنه".

وفي المسند (19183) عن زيد بن أرقم عن رسول الله أنه قال: "أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي، وقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته، ولكني أُمرت بشيء فاتبعته".

وهذا الحديث كان مما تكلم فيه بعض العلماء وأشهرهم ابن الجوزي، وسأورد هنا من رد الإمام ابن حجر العسقلاني عنه في "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" قال ابن حجر: "فهذه الطرق المتظاهرة من روايات الثقات تدل على أن الحديث صحيح دلالة قوية، وهذه غاية نظر المُحدِّث، وأما كون المتن معارضًا للمتن الثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري فليس كذلك ولا معارضة بينهما، بل حديث سد الأبواب غير حديث سد الخوْخ؛ لأن بيت علي بن أبي طالب كان داخل المسجد مجاورًا لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم"أهـ.

لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق

في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح (731) و (1062) وفي فضائل الصحابة للإمام أحمد (948) وسنن الترمذي (‏3736- 5/643)‏ والخصائص للنسائي (102) عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي قال: لقد عهد إلى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

والحديث في الخصائص بإسنادين (100) و (101) "لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ "لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق". وبألفاظ مقاربة في المسند بإسناد صحيح (642) وفي فضائل الصحابة (961).

والحديث في كنز العمال (32884) عن أم سلمة بلفظ "لا يحب عليًا منافق، ولا يبغضه مؤمن".

وفي المسند (26387) وفضائل الصحابة (1169) عن مساور الحميري عن أمه قالت: سمعت أم سلمة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق".

وفي فضائل الصحابة بإسناد صحيح (979) عن أبي سعيد الخدري قال: "إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم عليًا". ومثله بإسناد حسن (1086) عن جابر بن عبد الله.

وفي الخصائص (107) حديث صحيح بإسناد حسن عن ابن عمر أنه جاءه رجل فسأله عن علي، فقال: لا تسأل عن علي، ولكن انظر إلى بيته من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فإني أبغضه. قال: أبغضك الله.

أنت مني وأنا منك، رجلٌ كنفسي

في صحيح البخاري (2699) عن البراء بن عازب رضي الله عنه –حاكيًا عن كتابة الإمام علي شروط صلح الحديبية للنبي، ثم اختصامهم في ضم أمامة بنت حمزة-، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن ‏أبي طالب: "أنت مني وأنا منك".

والحديث مجتزأ في سنن الترمذي (‏3716- 5/635) عن البراء بن عازب‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن ‏أبي طالب: "أنت مني وأنا منك" وفي الحديث قصة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

‏‏ والحديث أيضًا في "خصائص أمير المؤمنين علي" للنسائي بعدة روايات.

وفي سنن الترمذي (‏3719- 5/636) ‏ عن حُبشي بن جُنادة قال:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي مني وأنا من علي، ولا ‏يؤدي عني إلا أنا أو علي"أهـ. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.‏ والحديث في الخصائص للنسائي (74)، ورجاله ثقات.

وحديث خاصف النعل أيضًا من خصائصه رضوان الله عليه، رواه الإمام النسائي في "الخصائص" عن أبي ذر (72)، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلًا كنفسي........... قال: فمن يعني؟ قلت: خاصف النعل. قال: وعليّ يخصف نعلًا". والحديث صحيح، رجاله ثقات.

أخو  رسول الله

‏‏ذكر ابن هشام في "السيرة النبوية" (ص ص 272-273) "قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال –فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل-: "تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي"، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير، ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخوين"أهـ.

وفي سنن الترمذي (‏‏3720 – 5/636) عن ابن عمر قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم ‏تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وفيه عن زيد بن أبى أوفى.‏ قال المباركفوري في شرح الحديث في "تحفة الأحوذي" (ص222) "قوله: "وفيه عن زيد بن أبي أوفى" أي وفي الباب عن زيد بن أبي أوفى، وهو صحابي، ولم أقف على من أخرج حديثه". والمعنى أن زيد بن أبي أوفى كان يروى الحديث ولكن روايته مفقودة!

وفي فضائل الصحابة (1055) لأحمد بن حنبل عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الناس وترك عليًا حتى بقي آخرهم لا يُرى له أخًا فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني؟ قال: "ولِم تراني تركتك؟ تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذاكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يدعيها بعد إلا كذاب".

وفي فضائل الصحابة لأحمد أيضًا (1118) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "أنت أخي وأبو ولدي".

مولى كل مؤمن ومؤمنة

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "علي مولى كل مؤمن ومؤمنة" من الأقوال التي شنع النواصب عليها واستنكروها، وأوهموا العامة أنها من موضوعات الشيعة، مع أن هذا الحديث متواتر بروايات مختلفة عن كثير من الصحابة، وبدرجة لا تترك لعاقل فيه مطعن.

في سنن الترمذي (‏3712- 5/632) في حديث طويل عن عمران بن حصين قال: "................. فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يُعرف في وجهه، فقال: "ما تريدون من علي؟ ما ‏تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن عليًا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي"أهـ. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. صحيح.

والحديث عن عمران بن حصين في مستدرك الحاكم (ج3، 4579/177) بألفاظ "ما تريدون من علي، إن عليًا مني وأنا منه، وولي كل مؤمن". هذا حديث على شرط مسلم. وفي الخصائص للنسائي (89).

ومثله في المستدرك (ج3، 4578/176) عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عليًا فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير فقال: "يا بُريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قلت: بلى يا رسول الله، فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". هذا حديث صحيح على شرط مسلم. وورد في الخصائص برقم (81) و (82) وفي مناقب أحمد (1007).

وطرفه في الخصائص للنسائي (80) عن ابن بريدة عن أبيه، وفيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من كنت وليه، فعليّ وليه". و (83) عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه". ‏وكلها صحيحة الإسناد.

وفي سنن الترمذي (‏3713- 5/633) عن شعبة، عن سلمة بن كُهيل، قال: سمعت أبا ‏الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم -شك شعبة- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ‏"من كنت مولاه فعلي مولاه"أهـ. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو سريحة هو حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. ‏صحيح. والحديث بإسناده وألفاظه في فضائل الصحابة لأحمد (959).

والحديث في الخصائص للنسائي (79) عن زيد بن أرقم، ويروي ما حدث في غدير خُم، وفيه: "من كنت وليه، فهذا وليه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه". ورجاله ثقات، من رجال الشيخين.

وفي الخصائص (93) حديث بإسنادين حسنين عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: جمع علي الناس في الرحبة فقال: أنشد بالله كل امريء سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما سمع. فقام أناس فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" وهو قائم، ثم أخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه". قال أبو الطفيل: فخرجت وفي نفسي منه شيئ، فلقيت زيد بن أرقم، فأخبرته، فقال: أو ما تنكر؟ أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثله في الفضائل (1167)، وهو في المسند أيضًا (19198) وإسناده صحيح.

وللحديث طرق كثيرة عديدة في الخصائص بإسناد صحيح، وهو متواتر في مسند الإمام أحمد بطرق كثيرة، مع تحديد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم غدير خم، ولا اعتبار لمن حاول تضعيفه من النواصب. وإقرار أهل السُنة بوقوع ذلك لا يُستفاد منه ما يراه الشيعة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى للإمام بالخلافة من بعده، فهذا مما لا يُفهم من السياق.

ومن روايات الحديث في "المسند" (641)، عن زاذان بن عمر ‏قال:‏ سمعت عليًا في الرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال فقام ثلاثة ‏عشر رجلًا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه".‏ والحديث إسناده صحيح، ورواه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (991) بألفاظ "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من ‏عاداه".‏

وفي المسند (950) بإسناد صحيح عن أبي إسحق عن سعيد بن وهب وعن زيد بن ‏يثيع قالا: نشد على الناس في الرحبة من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام قال: فقام من قبل ‏سعيد ستة ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم:‏ "أليس الله أولى بالمؤمنين" قالوا: بلى قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من ‏عاداه".‏ والحديث طرفه في الخصائص (98) بإسناد آخر عن أبي إسحق عن سعيد بن وهب.

وفي الخصائص (86) عن سعيد بن وهب قال: لما ناشدهم علي قام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه، فعلي مولاه". والحديث صحيح ورجاله رجال الشيخين. وطرفه (87). وطرفه في فضائل الصحابة (1021).

وفي المسند بإسناد صحيح (670) عن زياد بن ‏أبي زياد سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينشد الناس فقال:‏ أنشد الله رجلًا مسلمًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال، فقام اثنا عشر بدريًا فشهدوا.‏

وفي فضائل الصحابة (1022) عن شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عمرو ذي مر وزاد فيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، وأحب من أحبه، قال شعبة: أو قال: أبغض من أبغضه".

وفي المسند بإسناد صحيح (951) ‏وحدثنا عبد الله حدثنا علي بن حكيم أنبأنا شريك عن أبي إسحق عن عمرو ذي مر بمثل حديث أبي ‏إسحق يعني عن سعيد وزيد وزاد فيه: "وانصر من نصره واخذل من خذله".‏ وفي المسند (952) ‏وحدثنا عبد الله حدثنا علي أنبأنا شريك عن الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد ‏بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.‏ وإسناده صحيح.

وفي المسند بإسناد صحيح (961) ‏وعن عبد ‏الرحمن بن أبي ليلى قال: شهدت عليًا رضي الله عنه في الرحبة ينشد الناس:‏ أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" لما قام فشهد قال عبد ‏الرحمن: فقام اثنا عشر بدريًا كأني أنظر إلى أحدهم فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير ‏خم: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم" فقلنا: بلى يا رسول الله قال: "فمن كنت مولاه فعلي ‏مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه".‏

وفي المسند (18391) عن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا: بلى قال: فأخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه" قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئًا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. (18391م) قال أبو عبد الرحمن: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وعندما أسمع هذا الحديث يخطر في بالي ما حدث في موسم الحج في السنة التاسعة للهجرة، فأمّر رسول الله أبا بكر على الحج، وهو استخلاف له للقيام بأمور الناس، وبعث عليًا بسورة براءة، وقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي"، وفيها نقض العهود بين رسول الله والمشركين، وأرى في هذا تعيين للأدوار؛ فأبو بكر خليفته وعلي وليه. والله ورسوله أعلم.

أنت مني بمنزلة هارون من موسى

في صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة (3706) عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟".

والحديث في صحيح مسلم (3404/ 32) عن إبراهيم بن سعد عن أبيه، و (2404/31) عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، بالألفاظ نفسها، وزاد فيه "غير أنه لا نبي بعدي".‏ ورواية مصعب عن أبيه في فضائل الصحابة (960).

وفي فضائل الصحابة بإسناد صحيح عن عائشة بنت سعد عن أبيها بألفاظ: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟".

وفي سنن الترمذي (‏3730- 5/640)‏‏ عن جابر بن ‏عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ‏لا نبي بعدي"أهـ. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. صحيح لغيره. والحديث في صحيح مسلم (2404/30) بالألفاظ نفسها، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه. والحديث في مسند أحمد بالألفاظ ذاتها (1600) بإسناد حسن.

وفي سنن الترمذي (‏3731- 5/641)‏ عن سعد بن أبي وقاص‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من ‏موسى إلا أنه لا نبي بعدي"أهـ. قال هذا حديث حسن صحيح.

والحديث شائع بأسانيد مختلفة عن سعد بن أبي وقاص. رواه الإمام أحمد بن حنبل في "المسند" عن سعد بست روايات مختلفة، وذكره الإمام النسائي في "الخصائص"، ويوجد ضمن رواية عمرو بن ميمون المطولة التي يروي فيها عن ابن عباس فضائل علي، والتي رواها أحمد في "المسند" والحاكم في "المستدرك".

رجل يحبه الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله

في صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة (3701) عن سهل بن سعد رضي الله عنه –حاكيًا عن فتح خيبر- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله. قال: "فأرسلوا إليه فأتوني به". فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية......".

والحديث في صحيح مسلم برواية سهل بن سعد (2406/34)‏ بألفاظ مقاربة "لأعطين هذه الراية رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". ورواية سهل بألفاظها في فضائل الصحابة (1037).

وفي صحيح البخاري (3702) عن سلمة قال: "كان علي قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان به رمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية –أو ليأخذن الراية- غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله –أو قال: يحب الله ورسوله- يفتح الله عليه"، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه. والحديث بألفاظه في صحيح مسلم برواية سلمة (2407/35).

وفي صحيح مسلم برواية أبي هريرة (2405/33) بألفاظ "لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه".

وفي خصائص النسائي (13) برواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن الراية غدًا إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ‏ورسوله، يفتح الله على يديه"‏ فاستشرف لها أصحابه فدفعها إلى علي. والحديث صحيح رجاله على شرط البخاري.

وفي الفضائل لأحمد (1030) بإسناد صحيح برواية أبي هريرة بألفاظ "لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله، يفتح الله عليه"‏.

وفي الخصائص (22) برواية عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله –أو قال: يحبه الله ورسوله-" فدعا عليًا، وهو أرمد، ففتح الله على يديه. والحديث صحيح على شرط مسلم ورجاله ثقات.

وفي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن (576) وفضائل الصحابة (1185) "عن علي بن حسين رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين رضي الله عنهما فقال: "من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة".

وفي المستدرك على الصحيحين (ج3، 4648/246) قال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب عليًا فقد أحبني، ومن أبغض عليًا فقد أبغضني". والحديث صحيح على شرط البخاري ومسلم.

وفي المستدرك أيضًا (ج3، 4651/249) ورد حديث الطير، وهو حديث شهير في فضائل الإمام علي، كثر التشغيب حوله، رغم أن ما يُستفاد منه هو حب الله ورسوله للإمام، وهذا الحب ثابت من خلال أحاديث كثيرة وبطرق مختلفة، أهمها حديث الراية يوم خيبر الذي صححه جميع الأئمة بلا استثناء، ومنهم البخاري ومسلم.

جاء في حديث "الطير" أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان شاكيًا، فأتاه ‏محمد بن الحجاج يعوده في أصحاب له فجرى الحديث حتى ذكروا عليًا رضي الله عنه، فتنقصه محمد بن الحجاج، فقال أنس: من هذا؟ أقعدوني فأقعدوه. فقال: يا ابن الحجاج ألا أراك تنقص علي بن أبي طالب، والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد كنت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وكان كل يوم يخدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام من أبناء الأنصار، فكان ذلك اليوم يومي، فجاءت أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بطير فوضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم جئني بأحب خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر" وضُرب الباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس انظر من على الباب". قلت: اللهم اجعله رجلًا من الأنصار، فذهبت فإذا عليّ بالباب. قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة، فجئت حتى قمت من مقامي، فلم ألبث أن ضُرب الباب، فقال: "يا أنس انظر من على الباب". فقلت: اللهم اجعله رجلًا من الأنصار، فذهبت فإذا عليّ بالباب. قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة، فجئت حتى قمت مقامي، فلم ألبث أن ضُرب الباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس اذهب فادخله فلست بأول رجل أحب قومه، ليس هو من الأنصار". فذهبت فأدخلته. فقال: يا أنس قرب إليه الطير. قال: فوضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلا جميعًا. قال محمد بن الحجاج: يا أنس كان هذا بمحضر منك قال: نعم قال: أعطي بالله عهدًا أن لا أنتقص عليًا بعد مقامي هذا، ولا أعلم أحدًا ينتقصه إلا أشنت له وجهه.

والحديث مختصرًا في سنن الترمذي (3721- 5/636) ‏حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا عبيد الله بن موسى عن عيسى بن عمر عن السدي عن ‏أنس بن مالك قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: "اللهم آئتني بأحب ‏خلقك إليك يأكل معي هذا الطير"، فجاء علي فأكل معه"أهـ. قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث السدي إلا من هذا الوجه. وقد روى من غير وجه عن أنس، وعيسى بن عمر هو كوفي والسدي إسماعيل بن عبد الرحمن، ‏وسمع من أنس بن مالك ورأى الحسين بن علي وثقه شعبة وسفيان الثوري و زائدة ووثقه يحيى ‏بن سعيد القطان.

وفي ترجمة الإمام علي في "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، روى ابن الأثير حديث الطير بعدة طرق، وقال في بعض رواياته: "وقد روي من غير وجه عن أنس، ورواه غير أنس من الصحابة".

ونقل المباركفوري في "تحفة الأحوذي" عن الذهبي في "تذكرة الحفاظ" في ترجمته للحاكم (ص 225) "وأما حديث الطير فله طرق كثيرة جدًا أفردتها بمصنف، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل، وأما حديث "من كنت مولاه" فله طرق جيدة، وقد أفردت ذلك أيضًا"أهـ.

وقد وقعت على كلام للذهبي في تأويل حديث الطير في "السير" (ج13، ص 232) يقول فيه: "اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد بقوله: "ايتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي" عددًا من الخيار، يصدق على مجموعهم أنهم أحب الناس إلى الله، كما يصح قولنا: أحب الخلق إلى الله الصالحون".

من المبشرين بالجنة بالاتفاق

والأحاديث التي رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي تدخل الإمام علي في عداد جماعة من كبار الصحابة من المبشرين بالجنة كثيرة ومتضافرة، وأشهرها حديث العشرة، وهو أشهر من أن يحتاج إلى سرد، ورواياته متعددة.

وهناك أحاديث أخرى ضمن جماعة أصغر، كذلك الحديث بإسناد حسن الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في "فضائل الصحابة" (233) عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند امرأة من الأنصار صنعت لنا طعامًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يدخل عليكم رجل من أهل الجنة، فدخل أبو بكر فهنيناه، ثم قال: يدخل عليكم رجل من أهل الجنة، فدخل عمر فهنيناه، ثم قال: يدخل عليكم رجل من أهل الجنة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل رأسه تحت الودي ويقول: اللهم إن شئت جعلته عليًا، فدخل علي فهنيناه.

باب مدينة العلم

في المستدرك على الصحيحين (ج3، 4637/235) روى الإمام الحاكم حديث صحيح الإسناد، عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب".

وللحديث طريق آخر إلى ابن عباس عن الفيدي (4638/236). وفي المستدرك على الصحيحين (ج3، 4639/237) ‏الحديث ذاته بألفاظه برواية جابر بن عبد الله. والحديثان تكلم الذهبي في رجالهما، رغم ما رواه الحاكم عن يحيى بن معين في تصحيحهما.

وفي "أسد الغابة" ذكر ابن الأثير في ترجمة الإمام كثيرًا من الشواهد على غزارة علمه وفقهه. ورواها أيضًا ابن عبد البر في "الاستبعاب"، من ذلك:

"قال سعيد بن المسيب: ما كان أحد من الناس يقول: "سلوني"، غير علي بن أبي طالب. والرواية في فضائل الصحابة (1098).‏

وروى يحيى بن معين، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سلمان قال: قلت لعطاء: أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟ قال: لا، والله لا أعلمه.

وقال ابن عباس: لقد أعطي عليّ تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شاركهم في العشر العاشر. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال: إذا ثبت لنا الشيء عن علي، لم نعدل عنه إلى غيره"أهـ.

أقضاهم؛ يدور مع الحق حيث دار

وكان رضي الله عنه أعلم الصحابة بالقضاء. في المستدرك على الصحيحين (ج3، 4629/227) أخرج الإمام الحاكم حديثًا صحيحًا على شرط مسلم، -وإن أسقط الذهبي رتبة أحد رجاله-. عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عليًا، اللهم أدر الحق معه حيث دار". والحديث في جامع الترمذي (3714) قال: أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

والحديث له شاهد آخر صحيح على شرط البخاري ومسلم، في المستدرك أيضًا (ج3، 4658/256) قال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال: فقلت: يا رسول الله إني رجل شاب وأنه يرد علي من القضاء ما لا علم لي به. قال: فوضع يده على صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه" فما شككت في القضاء أو في قضاء بعده.

والحديث بألفاظ مقاربة في "الخصائص" (32) قال: "إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك" فما شككت في قضاء بين اثنين.

ورواية أخرى في الخصائص (35) وفي فضائل الصحابة (1195) بزيادة قال: "يا علي: إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء". قال علي: فما أشكل علي قضاء بعد.

والحديث إسناده حسن بمجموع طرقه، وهو شائع في كتب أهل السُنة.

وذكر الإمام ابن عبد البر في "الاستيعاب" (ص 1102) "وقال صلى الله عليه وسلم في أصحابه: أقضاهم علي بن أبي طالب. وقال عمر بن الخطاب: عليّ أقضانا".

ونقل المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (ص 226) ورد في شأنه أنه "أقضاكم".

وفي "أسد الغابة" ذكر ابن الأثير في ترجمة الإمام ‏"وروى شعبة عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: ‏كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب".‎

وفي "أسد الغابة" عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. والرواية في فضائل الصحابة (1100). ورواها ابن عبد البر في "الاستيعاب" (ص 1103) ‏ وروى عن عمر بن الخطاب قوله: لولا عليّ لهلك عمر.

وفي "الاستيعاب" (ص 1105) ‏قال عبد الله –يعني ابن مسعود-: أعلم أهل المدينة بالفرائض علي.

وفي المستدرك على الصحيحين، حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين (ج3، 4628/226) عن أم المؤمنين أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يتفرقا حتى يردا على الحوض".

وفي فضائل الصحابة (1071) عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع شِسع نعله، فتناولها علي يصلحها، ثم مشى فقال: "إن منكم لمن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله"، قال أبو سعيد: فخرجت فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكبّر به فرحًا كأنه شيء قد سمعه. وطرفه (1083).

قاتله أشقى الآخرين

ومن فضائله أن قاتله هو أشقى الآخرين. ذكر الإمام عبد البر في "الاستيعاب" (ص ص 1125-1126) عن عثمان بن صهيب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: من أشقى الأولين؟ قال: الذي عقر الناقة –يعني ناقة صالح-. قال: صدقت، فمن أشقى الآخرين؟ قال: لا أدري. قال: الذي يضربك على هذا –يعني يافوخه، ويخضب هذه –يعني لحيته-. وذكره النسائي من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: أشقى الناس الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذا –ووضع يده على رأسه حتى يخضب هذه- يعني لحيته. وذكره الطبري وابن إسحاق وغيرهم.

فهذه بعض فضائله، وهناك المزيد مما لم نروه، فعلي بن أبي طالب هو أول من أسلم بعد السيدة خديجة، وأول من صلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم -وربما بعد السيدة خديجة-، وهو أول فدائي في الإسلام، ولا أراني بحاجة لقص ما حدث ليلة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يؤاخِ النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا بعد الهجرة انتظارًا للحوق علي به بعد هجرته، وزوجه ابنته سيدة نساء العالمين، وجعل الله ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلبه، وهو فاتح خيبر، الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأن من سيعطيه الراية رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وهو مولى كل مؤمن ومؤمنة، ومنزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، وهو باب مدينة العلم، يدور مع الحق حيثما دار، ولن يفترق عن القرآن حتى يردا على الحوض، ولكن صعلوكًا من طلقاء قريش لا يدانيه منزلة –بل ولا يداني أقل فرد من المهاجرين والأنصار- نازعه في خلافته، ثم أمر بسبه على المنابر لما استتب الأمر له!

استحداث معاوية سب الإمام علي على المنابر

في المستدرك على الصحيحين حديث بإسناد صحيح (ج3، 4615/213) عن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فقالت لي: أيُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم، فقلت: معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سب عليًا فقد سبني". والحديث في الخصائص (91) وفي فضائل الصحابة (1011).

ومثله في المستدرك (4616/214) عن أبي عبد الله الجدلي يقول: حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة وإذا الناس عنق واحد فأتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي، فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أُمتاه. قالت: يُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناديكم. قال: وأنى ذلك؟ قالت: فعلي بن أبي طالب. قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا. قالت: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سب عليًا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى".

وفي فضائل الصحابة (1078) بإسناد حسن عن مصعب بن سعد يحدث عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى عليًا فقد آذاني".

وحديث صحيح آخر في المستدرك (ج3، 4618/216) أن جاء رجل من أهل الشام فسب عليًا عند ابن عباس فحصبه ابن عباس، فقال: يا عدو الله آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذين يؤذون الله ورسوله، لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا، لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا لآذيته.

وملخص ما يُقال إنه بعد تنازل سيدنا الحسن لمعاوية، لم يقنع معاوية بالخلافة، وأمر بسبْ ‏سيدنا عليّ على منابر المسلمين، وأن يسبوه في نواديهم لينالوا حظوته. وهو أمر ثابت ومحقق، أورده مسلم في صحيحه، والترمذي ‏في سننه، وأحمد في المسند والفضائل، والحاكم في المستدرك، والطبري في تاريخه، وغيرهم.‏

وقال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (ج7، ص89) تعليقًا ‏على أحاديث مناقب سيدنا عليّ: "ثم اشتد الخطب فتنقصّوه واتخذوا لعنه على المنابر سُنّة، ‏ووافقهم الخوارج على بغضه، وزادوا حتى كفّروه".

وجاء في صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضل عليّ بن أبي طالب ‏‏(2409)، حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز –يعني ابن أبي حازم-، عن أبي حازم، عن ‏سهل بن سعد، قال: استُعمِل على المدينة رجل من آل مروان، قال فدعا سهل بن سعد، فأمره ‏أن يشتم عليًا، قال: فأبى سهل، فقال له: أمّا إذا أبيت فقُل: لعن الله أبا التراب، فقال: سهل: ما ‏كان لعليّ اسم أحب إليه من أبي التراب، وإن يكان ليفرح إذا دُعي بها........‏

وجاء في صحيح البخاري (3703)، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عليّ بن أبي ‏طالب، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه: أن رجلًا جاء إلى ‏سهل بن سعد فقال: هذا فلان، لأمير المدينة، يدعو عليًا عند المنبر، قال: فيقول: ماذا؟ قال: ‏يقول له أبو تراب، فضحك. قال: والله ما سمّاه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان له اسم ‏أحب إليه منه،...... قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (ج7، ‏ص90) "قوله ‏‏(يدعو عليًا عند المنبر، قال: فيقول: ماذا؟) في رواية الطبراني من وجه آخر عن عبد العزيز ‏بن أبي حازم "يدعوك لتسبْ عليًا".‏

وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (19184) عن زياد بن علاقة، قال: نال المغيرة بن شعبة ‏من عليّ، فقال زيد بن أرقم: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن سبْ الموتى، فلمَ تسبْ ‏عليًا وقد مات. والمغيرة كما هو معروف كان من عمّال بني أمية.‏ ومثله عن قطبة بن مالك عن زيد (19211) دون تعيين اسم الأمير.

وفي سنن الترمذي (3724- 5/638)، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا –‏يعني سعد بن أبي وقاص-، فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، ‏‏............. والحديث أيضًا في مسند أحمد، وفي المستدرك على الصحيحين على شرط مسلم، بسنده عن أحمد بن جعفر القطيعي عن عبد الله ‏بن أحمد بن حنبل عن أبيه (4575/173).‏

وذكر ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (ج3، ص191) عن أهل سِجِسْتَان "لعن ‏عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، على منابر الشرق والغرب، ولم يُلعن على منبرها إلا ‏مرة، وامتنعوا على بني أمية، حتى زادوا في عهدهم أن لا يُلعن على منبرهم أحد، وأي شرف ‏أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على منبرهم، وهو يُلعن على منابر الحرمين ‏مكة والمدينة"أهـ.‏

واستمر ذلك حتى أمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بمنع هذا اللعن، واستبدله في خطبة الجمعة بآية ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

ادعاء الصحبة لمعاوية بإسلامه يوم الحديبية!

منذ طلب معاوية ما لم يكن له أهلًا والنواصب يلعبون لعبة لا تنطلي سوى على السفهاء، فيربطون بين معاوية وبين أبي ‏بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة، ويجعلونه منهم، فكأن حكمه حكمهم، وكأن من ينكر ذلك متعدٍ ‏على حق الصحبة، وهذا الذي يفعلونه نسميه في علم النفس الحديث بالإشراط الكلاسيكي؛ عندما ينجح ‏المحتال في خلق ارتباط بين شيئين لا رابط بينهما، ليُعطى للثاني الاستجابة التي تُعطى للأول!‏

فلأن معاوية صعلوك بنص الحديث الشريف، ولم يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا بهذا الوصف سواه، والمثل يقول: "أيش جابك يا صعلوك بين الملوك" فإن الانتقاص من الإمام علي لم يكن كافيًا لرفع رتبته بإزائه، وأول ما كان ينبغي فعله لمن أرادوا رفع رتبته أن يجدوا طريقًا يحشروه بها بين الصحابة!

وقليل من العلماء من انطلت عليه كذبة عده في الصحابة، في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني (ج7، ص 128) عن معاوية "أسلم قبل الفتح، وأسلم أبواه بعده، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له"أهـ. ولا أدري أي فتح يقصده الإمام ابن حجر؛ الحديبية أم فتح مكة؟ فمعاوية وأبوه وأمه من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة!

وقد تفرقت محاولات ضم معاوية بن أبي سفيان للصحابة في جهتين؛ فمن جهة سعوا إلى توسيع مفهوم الصحبة بحيث تشمل كل من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما ذكر الإمام الذهبي مرارًا في "سير أعلام النبلاء" أن الرؤية صحبة مقيدة، ولا تعد صحبة تدخل صاحبها في مفهوم الصحابة. والذهبي من أعلم الأمة بالرجال والتراجم والتاريخ. وسبق أن تناولنا هذه النقطة بالشرح في مقال "الترضي في كتاب الله".

كما رووا روايات فيها ألفاظ بلسان معاوية أو عن ابن عباس أنه صحب رسول الله، وكأن الصحبة ستثبت له بكلمة تُروى! في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري أورد الإمام البخاري (3766) قول معاوية: "إِنكُم لَتُصَلونَ صَلاَةً، لَقَد صَحِبنَا النبِي صَلى اللهُ ‏عَلَيهِ وَسَلمَ فَمَا رَأَينَاهُ يُصَليهَا، وَلَقَد نَهَى عَنهُمَا"؛ يَعنِي: الركعَتَينِ بَعدَ العَصرِ. أي أنه يقول للناس إن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة الركعتين بعد العصر عامة، ولا أعلم ما قيمة هذه الرواية لتُذكر في كتاب الفضائل من صحيح البخاري، ولعل الجملة المرادة هنا هي "لقد صحبنا النبي"!‏ وإلا فلماذا لم يذكر أي من ‏الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا هذا للناس، وإنما النهي عن الصلاة إن قاربت المغيب، وفي مسند الإمام أحمد (610) صح حديث عن الإمام علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلى بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء مرتفعة"أهـ.

وفي الرواية (3764) من صحيح البخاري، حَدثَنَا الحَسَنُ بنُ بِشرٍ، حَدثَنَا المُعَافَى، عَن عُثمَانَ بنِ الأَسوَدِ، عَنِ ابنِ ‏أَبِي مُلَيكَةَ، قَالَ: أَوتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعدَ العِشَاءِ بِرَكعَةٍ، وَعِندَهُ مَولًى لِابنِ عَباسٍ، فَأَتَى ابنَ عَباسٍ فَقَالَ: "دَعهُ ‏فَإِنهُ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلمَ".‏ وكما نرى فالرواية لا يُستفاد منها إلا إثبات لفظ عن ابن عباس يدعم الصحبة المزعومة له، ‏وفي رواية أخرى جعلوا ابن عباس يشهد له فيها بالفقه، رغم أنه أوتر بواحدة، وهو ما لم يقل به الفقهاء!

ومن جهة أخرى حاول بعضهم الخروج من الخلاف حول حد الصحبة؛ بتقديم موعد إسلامه –دون إيراد دليل- فجعلوا إسلامه قبل الحديبية لما ثبت أنها حد الصحبة الصحيح، والثابت بنص القرآن أن من آمن بعد الحديبية ليس كالذي آمن بعدها. ولم يعتد أغلب العلماء بهذا الادعاء المزعوم.

ويقول ابن تيمية في منهاج السنة (ج4، ص 397)‏: "وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشيبة الحجبي وغيرهم. وأما سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وصفوان بن أمية، وغيرهم، فهؤلاء مُسلمة الفتح. ومن الناس من يقول: إن معاوية أسلم قبل أبيه، فيجعلونه من الصنف الأول"أهـ. وكما نرى فابن تيمية لم يذكر من هم هؤلاء الذين ادعوا لمعاوية الإسلام قبل فتح مكة. ولكن ابن تيمية وللحق لم يدّعِ أنه أسلم قبل الحديبية، بل قال إن هناك من يضمه إلى فريق خالد بن الوليد وصحبه ممن أسلموا بعد الحديبية، وهؤلاء لا يستوون بمن بايع تحت الشجرة من السابقين الأولين.

ثم زاد ابن تيمية (ج4، ص ص 397-398) ما يُفهم منه أنه لا يعتد بهذا الإدعاء، وأنه يعد معاوية من مُسلمة الفتح. قال: "وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خالد لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" فنهى خالدًا ونحوه، ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أن يتعرضوا للذين صحبوه قبل ذلك، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وبيّن أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه. فإذا كان هذا نهيه لخالد بن الوليد وأمثاله من مُسلمة الحديبية، فكيف مُسلمة الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة؟ مع أن أولئك كانوا مهاجرين؛ فإن خالدًا وعَمرًا –يعني عمرو بن العاص-ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية، وقبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، هو من المهاجرين. وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا هجرة لهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" رواه البخاري"أهـ.

وفي ترجمة معاوية في "سير أعلام النبلاء" (ج3، ص 122) " قال مصعب الزبيري: كان معاوية يقول: أسلمت عام القضية‎ .‎ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله العنسي، قال ‏معاوية: لما كان عام الحديبية، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم ‏القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيت إسلامي، فوالله ‏لقد رحل رسول الله من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم. وعلم أبو ‏سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: لكن أخاك خير منك وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيرًا، ‏وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت له‎ .‎ثم قال الواقدي: وشهد معه حنينًا، فأعطاه من الغنائم مائة من الإبل، وأربعين أوقية‎"أهـ.

وعلق الذهبي مستنكرًا، "قلت: الواقدي لا يعي ما يقول، فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام، فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولو كان أعطاه، لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس: أما معاوية فصعلوك لا مال له"أهـ.

وأقول: الذهبي هنا يشير لسهم المؤلفة قلوبهم الذي كان يُعطى منه معاوية وأبوه أبو سفيان. وقد رُوي في قسمة الغنائم بالجعرانة أن النبي قد أعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال أبو سفيان: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها. والذهبي نفسه لم يقتنع بفرية إسلامه يوم الحديبية، ووضع ترجمته في "السير" مع كبار التابعين فلم يلحقه بالصحابة. كما يشير من طرف إلى أن إضافة "لا مال له" غير صحيحة!

ووصف معاوية بالطليق ابن الطليق مما شاع في كتب التاريخ والتراجم، فمن ذلك نجد الأمير قيس بن سعد بن عبادة الصحابي بن الصحابي يخطب في الناس بعد أن تنازل الحسن ووليهم معاوية فيقول: "معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول رب العالمين وقد وليكم الطليق ابن الطليق". ومما رواه أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود؛ قلت لعائشة: ألا تعجبين ‏لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد في الخلافة؟ قالت: وما يُعجب؟ هو سلطان الله يؤتيه ‏البر والفاجر.‏ فهل يُعقل أن كل من وصفوه بالطليق لم يعلموا بأمر إسلامه المزعوم قبل صلح الحديبية! وبقي قِدم إسلامه خافيًا عليهم بعد فتح مكة!

وقد بحثت عن ندفة شهادة لأي من الصحابة أو رواية عن يوم الحديبية تدعم هذا الادعاء الواهي الذي ادعاه لنفسه أو ادعاه له مواليه الفسقة بأنه لقى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبايعه قبل الصلح، لكنه أخفى إسلامه، فلم أجد، بل وجدت أثرًا  صحيحًا لا مطعن فيه يحكي ما دار في الحديبية يثبت عكسه!

ذكر الإمام البخاري في صحيحه، باب: الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط" (2731/2732) في حديث طويل يحكي جملة ما حدث في الحديبية، حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، ‏عن المسور بن مخرمة ومروان، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا:‏ "..................ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ -‏حتى بلغ- وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾. فطلق عمر –ابن الخطاب- يومئذ امرأتين، كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي ‏سفيان، والأخرى صفوان بن أمية"أهـ.

ومما أورده الإمام الطبري في تفسير الآية "وقوله: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن، والكوافر: جمع كافرة، والعصم: جمع عصمة، وهى ما اعتصم به من العقد والسبب، وهذا نهي من الله للمؤمنين عن الإقدام على نكاح النساء المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن"أهـ.

وللعلم فإن المرأة التي طلقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتزوجها معاوية هي قريبة ابنة أبي أمية بن المغيرة المخزومي، ابنة عاتكة بنت عبد المطلب عمة الرسول، وهي أخت لأم المؤمنين أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وابنة عم خالد بن الوليد بن المغيرة، وكانت ذات جمال، وكان خالد أولى بالمسارعة إلى الزواج منها -والعرب في جاهليتهم لم يكن عندهم سقف للتعدد- ولكن لأن فكرة الإسلام كانت تدور في رأسه لم يفعل.

والقصة مكررة ولا خلاف بين من ذكروها على أن معاوية قد تزوج واحدة من المرأتين اللتين طلقهما عمر، كما أنه لا خلاف على شخصيتها. قال ابن هشام في "السيرة النبوية" (ج3، ص619) "تزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة".

فمعاوية الذي يدعي بعض النواصب أنه فارق الشرك يوم الحديبية عز عليه أن تُطلق امرأة مشركة في هذا اليوم فسارع إلى الزواج منها! علمًا بأن عمر بن الخطاب فارقها لأنها لم تعد تحل له، فلو كان معاوية قد أسلم يومها فكيف تزوجها؟! ثم يدعون أنه أسلم يوم الحديبية!

والرواية رغم أنها متواترة في كتب التفاسير والسير والتاريخ فلا أدري كيف غفل عنها علماؤنا كدليل يدحض فِرية سبق إسلامه؟!

هل كتب معاوية للرسول؟

من الثابت أن الإمام علي بن أبي طالب كان يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كاتب كتاب الصلح يوم الحديبية، وفقًا لرواية الإمام البخاري، ووفقًا لما شهد به من سُئل عن ذلك من الصحابة في روايات (1001) و (1002) في المناقب للإمام أحمد.

في صحيح البخاري (2698) حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله ‏عنهما قال:‏ لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله، فقال المشركون: ‏لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولًا لم نقاتلك، فقال لعلي: "امحه". فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، ‏فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجُلُبَّان ‏السلاح، فسألوه ما جلبان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه.‏

ولم يكفهم أنهم اصطنعوا فضيلة زائفة لأبي سفيان فجعلوه أول مضري تعلم الكتابة من أهل الحيرة! ففوق ذلك كان ولا زال أكثر ما يدعيه النواصب من فضيلة لمعاوية هي أنه كتب لرسول الله، وبعضهم يدعي أنه كتب له الوحي، فما حقيقة الأمر؟

في صحيح مسلم (2501) حدثنا أبو زميل حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال: "نعم". قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. قال: "نعم". قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك. قال: "نعم". قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: "نعم". قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك لأنه –يعني النبي- لم يكن يُسأل شيئًا إلا قال: "نعم".

وأقول: ومع ذلك فالرواية فيها علة واضحة، وهي أن أبا سفيان عرض فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه من السيدة أم حبيبة! ومعلوم وثابت في الصحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النجاشي يطلب منه أن يزوجه بها، وهي مهاجرة في أرض الحبشة، فزوجه بها، وبقيت في الحبشة حتى قدمت المدينة مع باقي مهاجري الحبشة بعد فتح خيبر، بينما أبوها لم يزل على الشرك حتى فتح مكة.

وموضع الحديث ذاته في صحيح مسلم غريب، فالأحاديث قبله وبعده تتحدث عن فضائل الأشعريين، وهو متفرد محشور بينها، والحديثان بعده أحدهما عن هجرة الأشعريين إلى الحبشة والثاني عن فضل المهاجرين إلى الحبشة بوجه عام، فإن كان لهذا الحديث أصل في الصحيح فقد كان عن مهاجري الحبشة أيضًا، وجاء فيه ذكر أم المؤمنين السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لأي سبب كان، وحرّفه الوراقون ليحشروا طلب أبي سفيان من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ معاوية كاتبًا له، ليكون من جملة ما يُستدل به على استكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم له، وإلا فالحديث لا يصح من حيث المتن وإن صح إسناده.

وفي ترجمة معاوية في "سير أعلام النبلاء" (ج3، ص ص 122-123)‏ روى الذهبي "ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي، قال: كان زيد بن ثابت كاتب الوحي، ‏وكان معاوية كاتبًا فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب‎". وأضاف: "عمرو بن مرة: عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان ‏معاوية يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم". ثم أضاف "أبو عوانة: عن أبي حمزة، عن ابن عباس، قال: كنت ألعب مع الغلمان، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع لي معاوية. وكان يكتب الوحي".‎

وكما يتضح فالأمر مختلف فيه وفقًا للروايات التي أوردها الإمام الذهبي، فرواية لا تزيد عن أنه كان يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم، ورواية تنص على أن زيد بن ثابت هو من كان يكتب الوحي، ويدعمها أن زيدًا هو من طُلب إليه جمع القرآن، ورواية ثالثة تدعي على ابن عباس –كعادتهم- أنه يشهد لمعاوية بأنه كان يكتب الوحي. وإن كانت الروايتان عن ابن عباس في صحيح مسلم لم تذكر أي منهما هذه الإضافة "وكان يكتب الوحي"!

روى الإمام مسلم في صحيحه (2604) عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب –قال- فجاء فحطأني حطأة وقال: "اذهب وادع لي معاوية". قال: فجئت فقلت: هو يأكل –قال- ثم قال لي: "اذهب وادع لي معاوية". قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: "لا أشبع الله بطنه"أهـ.

وفي ترجمة معاوية في "تاريخ دمشق" (ج59، ص ص 68- 69) هناك رواية غريبة موضوعة عن الإمام علي بن أبي طالب عن استكتاب معاوية، ولكنها قبل أن تحكي عن استكتابه تبدأ بفقرتين مطولتين عن استكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن خطل ليكتب الوحي وخيانته له فيما يكتب وارتداده مشركًا وعودته إلى مكة، ثم قصة ضرب عنقه مع آخرين يوم فتح مكة! ثم ورد سطرين في النهاية عن استكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية ليكتب إلى بعض الأعاجم وليس الوحي، ثم أنه سأل جبريل إن كان يتخوف من معاوية خيانة، فنفى له جبريل!

ونص الجزء الخاص باستكتاب معاوية الوحي، الموضوع المدعى على الإمام علي: "قال علي: فلمّا قدمنا المدينة طلب النبي صلى الله عليه وسلم كاتبًا يكتب له إلى بعض الأعاجم، وكان من حضر النبي صلى الله عليه وسلم يكتب، وكان معاوية قد أسلم، وكان حسن الخط، فاستكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا نزل عليه جبريل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، تخوف علي من معاوية خيانة كما فعل عبد الله بن خطل. قال: لا، هو أمين"أهـ.

والرواية مكذوبة تمامًا فعبد الله بن سعد بن أبي السرح الأموي هو من خان النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي، ولم يُقتل يوم فتح مكة، بل استجار بعثمان بن عفان رضي الله عنه وعُفي عنه وأسلم، أما عبد الله بن خطل فقد قتل رجلًا من الأنصار، فقُتل به، وليس علي بن أبي طالب من قتله يوم فتح مكة، والقصة كلها مختلقة لحشر اسم الإمام علي في قصة استكتاب معاوية وشهادة جبريل المدعاة له بالأمانة! وما شأن أمين الوحي جبريل إن كان معاوية سيكتب رسائلًا؟! ولعل مفبرك الحديث أراد أن يرد على من قالوا إن معاوية لم يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم سوى رسائل، فيوحي بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن طلبه لكتابة الرسائل اطمأن لأمانته من جبريل وأنه ليس مثل من سبقه من الخائنين، فجعله كاتبًا للوحي! ولكن الرواية من الموضوعات في باب استكتابه على كل حال، وهناك الكثير غيرها مما سيأتي لاحقًا.

ويمكن أن نستخلص من جمع الروايات الصحيحة في الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقال أبي سفيان للمدينة بعد فتح مكة، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ابنه كاتبًا عنده، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله كاتبًا له، وليس هناك دليل على أنه أراد أن يجعله كاتبًا للوحي هكذا من أولها، خاصة وقد سبق لعبد الله بن سعد بن أبي السرح من بني أمية أن كتب الوحي وارتد، ثم إن معاوية الذي كان معروفًا بشراهته للطعام لم يُجب النبي صلى الله عليه وسلم -عندما دعاه ليستكتبه- لأنه كان يأكل، وكرر النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة فقيل: إنه يأكل، فهل يُتوقع أن يستكتبه بعدها وقد كان كأنه يستجديه ليحضر! فإن قالوا: لعله كتب قبلها، قلنا: لا دليل على أنه كتب الوحي لا قبلها ولا بعدها، والأولى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد عزله ولم يفكر في استدعائه ليكتب بعد هذه الحادثة. ومما يوحي بذلك واحدة من الموضوعات التي دسوها له جاء فيها: "عن مُري الحوراني، عن رجل: نزل جبريل فقال: يا محمد ليس لك أن تعزل من اختاره الله لكتابة ‏وحيه، فأقره ‏إنه أمين".‏

وبعد فهناك حديثان صحيحان لا ثالث لهما دار الكلام فيهما عن معاوية، في الأول وصف النبي صلى الله عليه وسلم معاوية –لما تقدم لخطبة فاطمة بنت قيس- بأنه صعلوك، والرواية ملحق بها تعليل لهذا الوصف بأنه لا مال له! فكيف يتفق هذا التعليل وأبوه صاحب تجارة قريش ولدى أبيه من المال ما يجعل ابنه لا ينهض من أمام الطعام، ثم ما أعطي من سهم المؤلفة قلوبهم. علمًا بأن الصعلوك لغةً ليس مرادفًا للفقير، وإنما الصعلوك هو المتسكع المتشرد مع قلة ماله، وتُقال أيضًا في العربية لأراذل الناس واللصوص والمحتالين، وليست لفظة تُطلق في حق كل فقير! علمًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وباقي الصحابة كانوا ممن لا مال لهم، وعلي بن أبي طالب لم يكن ذا مال لما خطب السيدة فاطمة، ولم يصفه النبي صلى الله عليه وسلم أو يصف أيًا من الصحابة بأنه صعلوك، فقد تفرد بها معاوية.

ثم هذه الكلمة التي ثبت أنه قد قالها النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا عن معاوية: "لا أشبع الله بطنه". وعدّوها من مناقبه! وقال الذهبي في ترجمة معاوية في "السير" (ص ص 123-124) "فسره بعض المحبين قال: لا أشبع الله بطنه؛ حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة، لأن الخبر عنه أنه ‏قال: أطول الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة. قلت: هذا ما صح، ‏والتأويل ركيك، وأشبه منه قوله عليه السلام: اللهم من سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة ‏أو كما قال. وقد كان معاوية معدودًا من الأكلة"أهـ.

وإن كان عد الشراهة من مناقبه يُعجز الأفهام، وتأولهم سخيف وركيك، والحديث ذاته الذي تأولوا به عن مزية الجوع في الدنيا موضع شك، لكن المؤكد أن أيًا من أئمة الإسلام لم يصحح ما زعمه النواصب في موضوعاتهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتتبه بأمر من الله، وأنه تعالى أرسل له قلمًا مع جبريل!

بعض الروايات الموضوعة المدعاة كفضائل لمعاوية

أكثر من أسرف على نفسه في حشر الموضوعات التي لم يصح منها شيء في فضائل معاوية كان ابن عساكر في ترجمته له في "تاريخ دمشق" (ج59)، وهو –كسائر أهل الشام- يغالي في معاوية، ومثلهم في ذلك حنابلة بغداد، وخوارج عصرنا.

وهذه الموضوعات والأباطيل المختلقة التي وضعها النواصب والمنافقون لرفع شأنه، ودسوها كأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها تجرأت إلى حد التقول على رب العزة سبحانه وتعالى، ذكر بعضها الذهبي في ترجمته له في "السير"، وقال عنها: "فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع والله أعلم".

وقد زعموا في هذه الموضوعات عن معاوية مزاعم سافلة فبلغت الجرأة أن قالوا عن معاوية كاد أن يكون نبيًا! عن واثلة مرفوعًا: كاد معاوية أن يبعث نبيًا من حلمه وائتمانه على كلام ربي.

ويبدو أن أحدًا لم يصدق ما ادعوه من كتابته الوحي، فوضعوا الكثير من الموضوعات في محاولة لإثباته؛ وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتتبه بأمر من الله ليكتب له الوحي.

عن عثمان مرفوعًا: هنيئًا لك يا معاوية، لقد أصبحت أمينًا على خبر السماء.

عن أبي الزبير عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: اتخذ معاوية كاتبًا".

عن علي: أن جبريل نزل فقال: استكتب معاوية، فإنه أمين.‏

عن علي قال: لأخرجن ما في عنقي لمعاوية قد استكتبه نبي الله وأنا جالس، فعلمت أن ذلك لم يكن من ‏رسول الله ﷺ ولكن من الله.‏

عن أبي موسى: نزل عليه الوحي –يعني النبي-، فلمّا سُري عنه، طلب معاوية، فلما كتبها -يعني آية الكرسي- قال: ‏‏"غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة".

ومن الموضوعات التي يبدو أنها كُتبت للرد على ما كانت تتحاكى به الناس من أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يستكتبه لكتابة الرسائل ثم عزله بعد أن لم يجبه عندما دعاه لأنه يأكل! فعن مُري الحوراني، عن رجل: نزل جبريل فقال: "يا محمد ليس لك أن تعزل من اختاره الله لكتابة وحيه، فأقره ‏إنه أمين".‏ وهذا كعادة الأغبياء؛ فالغبي يريد أن ينفي الشيء فيثبته!

ومن أعظم وأجرأ الموضوعات ما افتروه على أنس بن مالك وعلى ابن عباس عن القلم من ذهب إبريز الذي ادعوا أنه هدية من الله أنزلها لمعاوية مع جبريل! ووردت بطرق مختلفة منها:

عن أنس هبط جبريل بقلم من ذهب فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقول: قد أهديت القلم من فوق عرشي ‏إلى معاوية، فمُره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه! فذكر خبرًا طويلًا.‏

وعن ابن عباس قال: لما أنزلت آية الكرسي، دعا معاوية، فلم يجد قلمًا، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ ‏الأقلام من دواته، فقام ليجيء بقلم، فقال النبي ﷺ: خذ القلم من أذنك، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا إله إلا ‏الله، هدية من الله إلى أمينه معاوية!

وعن جابر مرفوعًا: الأمناء عند الله سبعة؛ القلم وجبريل وأنا ومعاوية واللوح وإسرافيل وميكائيل!

وعن أبي هريرة مرفوعًا: الأمناء ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية! وعن واثلة: بنحوه.

وبلغ الفجور أن حكم النواصب بأن الله يحبه، وجبريل وميكائيل يحبانه، وأن حبه فرض على العباد، وحكموا بدخوله الجنة، وبلوغه روضة تحت العرش!

عن زيد بن ثابت دخل النبي عليه السلام على أم حبيبة، ومعاوية نائم على فخذها، فقال: أتحبينه؟ قالت: ‏نعم قال: لله أشد حبًا له منك له، كأني أراه على رفارف الجنة!

ورووه عن أبي الدرداء بصيغة: "يا أم حبيبة، فإني أحب معاوية، وأحب من يحب معاوية، وجبريل وميكائيل يحبان معاوية، والله أشد حبًا لمعاوية من جبريل وميكائيل"!

قلتُ: وما أدرى زيد وأبو الدرداء بما كان في حجرة أم حبيبة يا كذبة؟!

وعن بعضهم، منتهيًا إلى ابن عباس: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بورقة آس أخضر مكتوب عليها: لا إله إلا الله، حب معاوية بن أبي سفيان فرض مني على عبادي!

وعن سعد مرفوعًا: يُحشر معاوية وعليه حلة من نور!‏

وعن حذيفة مرفوعًا: يبعث معاوية يوم القيامة وعليه رداء من نور الإيمان!

وعن أبي سعيد مرفوعًا: يخرج معاوية من قبره عليه رداء من سندس مرصع بالدر والياقوت!

وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ ناول معاوية سهمًا، وقال: خذه حتى توافيني به في الجنة!

وعن ابن عمر مرفوعًا: يا معاوية أنت مني وأنا منك، لتزاحمنِّي على باب الجنة!

وعن عائشة مرفوعًا: كأني أنظر إلى سويقتي معاوية ترفلان في الجنة!

وعن جعفر أنه أهدى للنبي ﷺ سفرجل، فأعطى معاوية منه ثلاثًا، وقال: القني بهن في الجنة. قال ‏الذهبي معلقًا: وجعفر قد استشهد قبل قدوم معاوية مسلمًا!

وعن أنس: "لا أفتقد أحدًا من أصحابي غير معاوية، لا أراه سبعين عامًا؛ فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك الأذفر، حشوها من رحمة الله، قوائمها من الزبرجد، ‏فأقول: أين كنت؟ يقول: في روضة تحت عرش ربي يناجيني وأناجيه، ويحييني وأحييه، ويقول: هذا عوض لما كنت تُشتم في دار الدنيا"!

وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالخلافة "إن الله يقمصك قميصًا".

ولأنه ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت مني وأنا منك‏" افتروا في حديث منكر الإسناد والمتن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليلين بعض مدائن الشام رجل عزيز منيع هو مني وأنا منه". وأنه أشار إلى معاوية وقال: "هو هذا".

وبلغ الأمر حد تخويف الناس من الشك في الأكاذيب الموضوعة في فضله، على طريقة أمنا الغولة؛ فمما افتروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشاك في فضلك يا معاوية تنشق الأرض عنه يوم القيامة، وفي عنقه طوق من نار له ثلاثمائة شعبة، على كل شعبة شيطان يكلح في وجهه مقدار عمر الدنيا"!

والرواية الأخرى التي تقول: "يا أباهريرة، إن في جهنم كلابًا زرق الأعين على أعرافها شعر كأمثال أذناب الخيل، لو أذن الله تبارك وتعالى لكلب منها أن يبلع السموات السبع في لقمة واحدة لهان ذلك عليه، يُسلط يوم القيامة على من لعن معاوية بن أبي سفيان"!

وما ذكرت ليس أكثر من أمثلة مما افتراه المنافقون المستهزئون بالله ورسوله، ومن أراد أن يقرأ المزيد مما افتراه هؤلاء لإعلاء شأن معاوية كيدًا في الإمام علي، فليرجع إلى ترجمة معاوية عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ج59).

ولأنه أخو أم المؤمنين السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، استحدثوا له لقب "خال المؤمنين"، علمًا بأن لقب أم المؤمنين هو لقب يخص زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدى إلى أي من أقاربهن، وإلا لكان الصديق أبو بكر والفاروق عمر جدي المؤمنين، ولكان عبد الله بن عمر أولى من معاوية بأن يكون خال المؤمنين، وكذا الحال بالنسبة لجماعة كبيرة من أقارب أمهات المؤمنين من أكابر الصحابة، بل ولتعدت تلك القرابة المزعومة إلى بعض المشركين! ولو كان هذا اللقب يتعدى زوجات الرسول لحُرِّمت بناتهن على المسلمين، وما كانت ابنة أم سلمة تزوجت لأنها بهذا الزعم أخت المؤمنين!

وجزى الله عمر بن عبد العزيز عن الإسلام والمسلمين خيرًا، فبعد أمر الصديق بجمع القرآن، لم يكن قرار أنفع من الأمر بجمع الحديث. وأتساءل: ماذا كان سيحدث لو استمر الفرع السفياني في الحكم ولم يبتره الله، ولم يأمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث على رأس المئة الأولى، فلربما كنا سنسلم على معاوية في الصلاة بدلًا من آل محمد!

قول علماء السُنة في الروايات المدعاة كفضائل لمعاوية

جاء في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد بن حنبل بإسناد صحيح (952) عن أبي السوّار، قال: قال علي: "ليحبني قوم حتى يدخلوا النار في حبي، وليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي".

وفضائل الإمام علي الثابتة كثيرة وليست بحاجة لمزيد موضوعات من أي مغالٍ فيه، وبعضها كافٍ لبيان فضله، ولكن من أبغضوه احتاجوا إلى وضع الكثير لتقوية جانب عدوه، فحجزوا لأنفسهم مقاعد في النار، وفوق ذلك لم يفلحوا أن يصدق ما وضعوه سوى السفهاء!

وفي كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري أورد الإمام البخاري ثلاث روايات -وهي تلك التي ذكرناها آنفًا وفيها قوله في الركعتين بعد صلاة العصر ووتره بواحدة!-، وأوردها تحت باب "ذكر ‏معاوية رضي الله عنه"، فليست فضائل ومناقب، مع كون أي منها لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ثم فلم يصحح البخاري أي رواية من ‏الروايات الموضوعة في فضائله.‏

‎وقال العيني في "عمدة القاري في شرح صحيح ‏البخاري" (ج16، ص249‏): "‎فإن قلت: ورد في فضيلته –يعني معاوية- أحاديث كثيرة، قلت: نعم، ولكن ليس فيها حديث يصح من طريق الإسناد، نصّ عليه إسحاق بن راهويه والنسائي ‏وغيرهما، فلذلك قال –يعني البخاري-: باب ذكر معاوية، ولم يقل: فضيلة ولا منقبة".

وفي "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، قال الإمام ابن حجر العسقلاني (ج7، ص 129) عن معاوية: "وقد ‏صنف ابن أبي عاصم جزءًا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش، وأورد ابن الجوزي ‏في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في ‏فضائل معاوية شيء، .......... وأخرج ابن الجوزي أيضًا من طريق عبد الله بن أحمد بن ‏حنبل: سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: اعلم أن عليًا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه ‏له عيبًا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادًا منهم لعلي، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية ‏من الفضائل مما لا أصل له. وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق ‏الإسناد، وبذلك جزم إسحاق ابن راهويه والنسائي وغيرهما، والله أعلم"أهـ.‏

وقد فصَّل ابن الجوزي في بيان أوجه بطلان أحاديث فضائل معاوية إسنادًا ومتنًا في كتابه "الموضوعات". ثم روى (ج2، ص24) الحوار الذي دار بين الإمام أحمد وابنه عبد الله، والذي يظهر منه رأي الإمام أحمد في أن ما روي في فضائل معاوية هو من مختلقات أعداء عليّ.

والحوار الذي دار بين الإمام أحمد بن حنبل وابنه عبد الله رواه أيضًا الإمام السيوطي في "تاريخ الخلفاء" (ج1، ص 33).

ويقول ابن تيمية في منهاج السنة (ج4، ص 400): "وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب".

وروى ‏الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج14، ص132) قصة استشهاد النسائي سنة 303هـ عندما سُئل عن معاوية، وما جاء في ‏فضائله، فقال: "لا يرضى ‏رأسًا برأس حتى يُفضَّل؟!".

وفي "الوافي بالوفيات" ذكر الصفدي (ج6، ص 257) في قصة الإمام النسائي "وأنكر عليه قوم كتاب "الخصائص" لعلي ‏رضي الله عنه، وتركه تصنيفه "فضائل الشيخين"، فذُكر له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي ‏كثير فصنَّفت "الخصائص" رجاء أن يهديهم الله تعالى، ثم صنَّف بعد ذلك "فضائل الصحابة"، فقيل له: ألا ‏تخرِّج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء أخرِّج اللهم لا تُشبع بطنه؟ فسكت السائل"أهـ.‎ وللأمانة فقد نقل الصفدي بعدها عن الشيخ شمس الدين –ولعله يقصد الذهبي- قوله: "لعل هذا فضيلة له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة".

‎وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (ج2، ص420‏): "‎باب فضائل معاوية: ليس فيه حديث صحيح".

وقال الفيروزابادي في آخر "سفر السعادة": "فضائل معاوية ليس فيه حديث صحيح"‎.‎

والإمام أبو الفرج ابن الجوزي صاحب "الموضوعات" لا يترضى على معاوية في موضع من كتبه، فيما يقول: علي رضي الله عنه، وأحيانًا يقول: عليه السلام.‏

أذية الأئمة الذين رووا فضائل علي وامتنعوا عن رواية الموضوعات في فضل معاوية

ولم يكفهم ما وضعوه في فضائل معاوية حتى كاد أن يكون نبيًا بزعمهم، فجرّحوا في فضائل الإمام علي، وقالوا عن كبار الأئمة: فيهم تشيع وأغروا بهم سفهاءهم؛ لرفضهم رواية هذه المرويات الباطلة عن معاوية في كتبهم والتحديث ‏بها، وإصرارهم في المقابل على تصحيح فضائل الإمام علي.

ومن أشهر من طالهم أذى من الأئمة الطبري والنسائي والحاكم. وبعض الأئمة طاله أذى بسيط كالشافعي؛ فاتهموه بالرفض وشنعوا عليه.

وكان أول من تضرر ضررًا بالغًا من أئمة المسلمين هو الإمام الطبري؛ فقد جرت محنة ‏كبيرة للإمام ابن جرير الطبري، شيخ المفسرين والمؤرخين والعالم بالقراءات ‏والفقيه المجتهد ‏صاحب الكتب في أصول الفقه وفروعه، مع الحنابلة –أو بالأدق المنتسبين زورًا إلى الإمام أحمد بن حنبل-؛ لأسباب كثيرة من بينها تصحيحه لروايات حديث غدير ‏خُم، ‏حتى منعوا دفنه في مقابر المسلمين عندما مات سنة ‏‏310هـ.‏

ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج7، ص ص8-9)‏ عن الطبري قال: "وفي ‏هذه السنة –يقصد 310هـ- توفي محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة ‏أربع وعشرين ومائتين، ودُفِن ليلًا بداره لأن العامة –يعني الحنابلة- اجتمعت ومنعت من ‏دفنه ‏نهارًا وادّعوا عليه الرفض، ثم ادّعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى –الوزير- ‏يقول: ‏‏"والله لو سُئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه"أهـ.

وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14، ص849) في ترجمة الطبري، قال: ‏‏"ودُفن في داره؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهارًا، ونسبوه إلى ‏الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ‏هذا ومن ذاك أيضًا، بل كان أحد أئمة ‏الإسلام في العلم بكتاب الله وسُنة رسوله"‏‏أهـ.‏ كما ذكر الخبر ابن الجوزي في "المنتظم"، ‏وثابت بن سنان في "تاريخه"، ومسكويه في "تجارب الأمم"، والذهبي في "السير"، وغيرهم.‏

وقد آذوه حد أن قال فيهم: "لا عصابة في الإسلام كهذه ‏العصابة الخسيسة". وقد روى هذا عنه الإمام ابن الجوزي في "المنتظم" (ج13، ص217). وعلّق ابن ‏الجوزي –وهو حنبلي- بقوله: "وهذا قبيح منه، لأنه كان ينبغي أن يخاصم من خاصمه، وأما ‏أن يذم طائفته جميعًا، وهو يدري إلى من ينتسب فغاية في القبح"أهـ. وأقول: إن في تعليق ‏الإمام ابن الجوزي تغافلًا عما فعلته تلك العصابة بتمامها –وليس واحد منها- ضد الإمام ابن ‏جرير الطبري. ‏

وقد كانت هناك عداوة شخصية بين الإمام الطبري وأبي بكر عبد الله ابن الإمام أبي داود السجستاني، والذي كان ‏مشهورًا بالنصب وبغض الإمام علي؛ بسبب تصحيح الطبري لحديث غدير خُم؛ والذي كان ‏ابن أبي داود يُكذِّبه في مجالسه ببغداد نكاية في الشيعة، بل ويكتب الأشعار في ذلك، وفقًا ‏لرواية ياقوت في "معجم الأدباء" (ج6، ص2464).

وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ‏‏(ج14، ص274) في ترجمة الطبري نقلًا عن أبي محمد الفرغاني تلميذ الطبري "ولمّا بلغه –‏أي الطبري- أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خُم، عمل كتاب "الفضائل" فبدأ ‏بفضل أبي بكر، ثم عمر، وتكلم على تصحيح حديث غدير خُم، واحتجّ لتصحيحه، ولم يُتم ‏الكتاب". قال الذهبي (ج14، ص277)  "جمع –أي الطبري- طرق حديث غدير خُم في ‏أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وقيل لابن جرير: إن ‏أبا بكر بن أبي داود يُملي في مناقب علي. فقال: تكبيرة من حارس. قال الذهبي: وقد وقع بين ‏ابن جرير وبين ابن أبي داود، وكان كل منهما لا يُنصف الآخر، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر ‏بن أبي داود، فكثّروا وشغّبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى"أهـ.

وأقول: يكفي أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، الذي شنَّع على الإمام ‏الطبري، أن أباه الإمام أبا داود قال عنه إنه كذاب، وليس بعجيب أن ينتمي إلى هذه العصابة، ‏ويسيء إلى شيخ المفسرين وشيخ المؤرخين والفقيه المجتهد والعالم بالقراءات، الطبري. ‏روى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص ص227-228) في ترجمته "وقد ذكره أبو ‏أحمد بن عدي في "كامله" -الكامل في الجرح والتعديل-، وقال: لولا أنّا شرطنا أن كل من ‏تُكلم فيه ذكرناه لما ذكرت ابن أبي داود. قال: وقد تكلم فيه أبوه، وإبراهيم بن أورمة –وهو ‏صديق أبيه-، ويُنسب في الابتداء إلى شيء من النصب. ونفاه ابن الفرات –الوزير- من بغداد إلى واسط، ‏ثم ردّه الوزير علي بن عيسى، فحدّث، وأظهر فضائل علي رضي الله عنه، ثم تحنبل فصار ‏شيخًا فيهم، وهو مقبول عند أصحاب الحديث. وأما كلام أبيه فيه، فلا أدري أيش تبين له منه؟ ‏وسمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود يقول: من البلاء أن عبد الله يطلب القضاء. قال ابن ‏عدي: أنبأنا علي بن عبد الله الداهري، سمعت أحمد بن محمد بن عمرو كُركُرة، سمعت علي بن ‏الحسين بن الجُنيد، سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله كذاب. قال ابن صاعد: كفانا ما قال فيه ‏أبوه. قال ابن عدي: سمعت موسى بن القاسم الأشيب يقول: حدثني أبو بكر، سمعت إبراهيم ‏الأصبهاني -ابن أورمة- يقول: أبو بكر ابن أبي داود كذاب"أهـ.

ثم لا ننسى من أمر الكذاب ابن أبي داود البهتان الذي رمى به ‏سيدنا علي بن أبي طالب، وافترى نسبته إلى الزُهري، وكاد يقتله لأجله أمير أصبهان بعد أن ‏شهد عليه الشهود، ثم قولته الشهيرة الفاجرة: إن صحّ حديث الطير –وهو في فضائل علي- ‏فنبوة النبي صلى الله عليه وسلم باطل! ونبوة محمد صحيحة صحّ الحديث أو لم يصح. وقد روى القصتين الذهبي في ‏ترجمته في "السير" (ج13، ص ص229- 232).‏

وكذا اُستشهد الإمام النسائي سنة 303هـ على يد النواصب بالشام، وقيل فيه تشيع! وحكى ابن العديم في "بغية الطلب في تاريخ حلب" (ج2، ص 785) قال: "ومع ‏ما جمع ‏أبو عبد الرحمن من الفضائل رُزق الشهادة في آخر عمره، فحدثني محمد بن إسحق الأصبهاني قال: ‏سمعت ‏مشايخنا بمصر يذكرون أن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره –وكان قد استوطنها-، وخرج إلى دمشق، فسُئل بها ‏عن ‏معاوية بن أبي سفيان وما رُوي من فضائله فقال: لا يرضى منا معاوية رأسًا برأس حتى يُفضل، فما ‏زالوا ‏يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد، ثم حُمل إلى الرملة، فمات بها سنة ثلاث وثلاثمائة ‏وهو ‏مدفون بالرملة‎‏".

ثم زاد ابن العديم رواية تشرح قصة خروجه من مصر، نقلًا عن جماعة من العلماء عن أبي منصور تكين الأمير ‏قال: "قرأ عليّ ‏أبو عبد الرحمن النسائي كتاب الخصائص فقلت له: حدثني بفضائل معاوية، فجاءني بعد ‏جمعة بورقة ‏فيها حديثان، فقلت: أهذه بس؟ فقال: وليست بصحاح، هذه غرم معاوية عليها الدراهم، فقلت ‏له: أنت شيخ ‏سوء، لا تجاورني، فقال: ولا لي في جوارك حظ، وخرج".‎

وروى ‏الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج14، ص132) قصة استشهاده على لسان بعض الأئمة، ‏قال: "روى أبو عبد الله بن مَنْدة، عن حمزة العقبي المصري وغيره، أن النسائي خرج من ‏مصر في آخر عمره إلى دمشق فسُئل بها عن معاوية، وما جاء في ‏فضائله، فقال: لا يرضى رأسًا برأس حتى يُفضَّل؟ قال: فما زالوا يدفعون في حِضنيه حتى ‏أُخرج من المسجد، ثم حُمل إلى مكة فتوفي بها. كذا قال، وصوابه: إلى الرملة. قال ‏الدارقُطني: خرج حاجًا فامتُحِن بدمشق، وأدرك الشهادة فقال: احملوني إلى مكة......"أهـ.

وفي رواية ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14،ص ص 794- 795) "قالوا: ودخل إلى دمشق، فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسًا برأس حتى يُروى له فضائل؟ فقاموا إليه، فجعلوا يطعنون في حضنيه حتى أُخرج من المسجد الجامع، فسار من عندهم، فقصد مكة، فمات بها في هذه السنة، وقبره بها".

والقصة مكررة في كثير من الكتب، ومتفق عليها، ولكن مكان وفاته ودفنه مختلف فيه بين مكة والرملة وبيت المقدس.‏

وموقف مشابه حدث للإمام الحاكم النيسابوري صاحب "المستدرك على ‏الصحيحين" مع الكرامية المجسمة النواصب. روى ابن الجوزي في ترجمته في "المنتظم" ‏‏(ج15، ص110) "عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: دخلت على الحاكم أبي عبد الله، وهو ‏في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد، من جهة أصحاب أبي عبد الله بن كرام، وذلك أنهم ‏كسروا منبره، ومنعوه من الخروج، فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل –يعني ‏معاوية- لاسترحت من هذه المحنة، فقال: لا يجيء من قلبي، لا يجيء من قلبي، لا يجيء من ‏قلبي"أهـ.‏

وخلاصة ما يُقال في أمر هؤلاء النواصب أنهم يحملون الناس على مذهبهم في تفضيل معاوية والترضي عليه زورًا، وأن من لا يوافقهم يلقى تشنيعًا من جانبهم واتهامات باطلة، ثم إنهم يخوفون المؤمنين من رفض الإقرار بما يعتقدون فيه، والمؤمن ورع ويخشى أن يخسر دينه فيعف لسانه عن ذكر نقائصه ويترضى مرغمًا، وذلك على العكس من المنافقين منهم ومن أتباعهم ممن اشتروا عرض الدنيا فسبوا عليًا وتنقصوه ولا زالوا يتنقصوه إلى يومنا هذا.

 

د. منى أبو بكر زيتون

من مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

الأربعاء 19 يناير 2022

  

في المثقف اليوم